عبق الشهادة والحياة الخالدة ( آية الله قاسم )

عبق الشهادة والحياة الخالدة

قراءة في فكر آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم حفظه الله

 الشيخ غازي عبدالحسن إبراهيم

تمهيد

الشهادة مدرسة منطلقها القرآن الكريم، وقد رسخها شهيد كربلاء الإمام الحسين (عليه السلام) كمشروع  لإعلاء كلمة الله (عزّ وجلّ)، فدمه الطاهر الزكي أجج النفوس بعشق الشهادة وطلبها، ففي طلبها لأجل إعلاء كلمة الله (عزّ وجلّ) تحصيل لمرضاة الله (عزّ وجلّ) وسمو الروح وكمالها ورفعتها.

وفيما يلي نستلهم فكر الشهادة وفقهها من كلمات سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله)، وهو العالم الرباني العامل المجاهد الذي عشق الشهادة لإعلاء كلمة الله (عزّ وجلّ)، فأبى الله (عزّ وجلّ) إلا أن يجعله منار هداية للمؤمنين العاشقين للشهادة، ومنبع وعي يغذي العقل والقلب ويسمو بالروح نحو كمالها في طريق الله (عزّ وجلّ).

حقيقة الشهيد

الشهيد أما أن يكون بمعنى عظيم الشهادة ومقبول الشهادة وأمين الشهادة، وإما أن يكون بمعنى – كما يذهب إليه صاحب المصباح – “مشهود”، وهو مشهود بشدة وعناية والتفات كبير، وإذا كان مشهودا فهو مشهود من الملائكة في غسله، أو في نقله إلى الجنة. وإذا كان بمعنى المبالغة من فاعل بمعنى شديد الشهادة، فذلك لأن الشهيد وصل من درجة الأمانة والنزاهة والمقبولية عند الله (سبحانه وتعالى) أنَّ شهادته معتمدة، وأنه يشهد على جماعته وأمته، ويشهد على الأوضاع، ويشهد بما هو عدل في الناس وبما هو ظلم، وهذا يعني منزلة عظمى، وروحاً قد طهرت وحلق في سماء المجد، فالمقام مقام رفيع من حقه أن يغبط عليه صاحبه[1].

مقوم الشهادة

ما هو مقوم الشهادة؟ كل الآيات تتحدث عن القتل في سبيل الله، فالشهادة ليست قتلاً فحسب وأي قتل، وإنما هي قتل في سبيل الله. وكيف يكون السبيل سبيل الله؟ يكون ذلك بأن يكون الهدف إلهياً، دفع ظلم، طرد كفر، تصحيح وضع عالمي، أن يكون الهدف هو شيء مما توافق وتدعو إليه الشريعة من أهداف، وهو هدف طولي، والهدف الأول والأصل والمحرك بالذات هو طلب مرضاة الله (سبحانه وتعالى) لهذه النفس المضحية[2].

الشهادة موت اختياري واعي

معروف أن الأب حينما يقدم فلذة كبده، وأن المرء حينما يندفع بقوة إلى الموت ليس أمراً سهلاً، ولكنه مع ذلك يسهل على نفوس أحبّت الله وعشقته، وآمنت بقيمة دينه وصدق وعده، وأدركت بُعدَ الآية الكريمة {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}[3].

وفي هذا الصدد كانوا يتمنون القتال ويتمنون خوض المعركة – بنو إسرائيل – ولكن الآية تقول: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً}[4]، فلا بد أن يكون هناك رصيد عقلي، ورصيد نفسي، ورصيد روحي ضخم يسهل طريق الشهادة حتى لَيَصِلَ أصحاب الإيمان القمة، إلى حالة عشق صادقة وليس على مستوى الكلمة في قضية الشهادة. فكان أهل كربلاء من أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) يتهافتون على الموت تهافت الفراش، والظاهر أن صدق إيمانهم – حتى بلا أمر غيبي زائد – يكشف لهم عن مواقعهم في الجنة[5].

الشهادة لقاء مع الله (عزّ وجلّ)

عن الإمام علي (عليه السلام): “من رائح إلى الله كظمآن يرد الماء”[6]، من الذي يريد لقاء الله؟ من هذا الذي يفتش عن لقاء مع حبيب، مع الله؟ وهل ذهابه ذهاب عادي، أو بصورة خاصة؟ ومن هذا الذي يشتهي رحمة الله؟ ويود أن يقرب من عناية الله، ولطف الله، وأن يكون في حماه وأمنه ووقايته وبحبوة كرامته، أتعشق؟ أتحب؟ فيا طلاب الجنة فهي تحت أطراف العوالي، “اليوم تبلى الأخبار” وهي النفس التي هامت في حب الشهادة، واستولى حب الشهادة على كل أقطارها، نفس علي (عليه السلام) وأمثال علي (عليه السلام)، ويقسم – ولا يقسم إلا صادقاً – “والله لأنا إلى لقائهم أشوق منهم إلى ديارهم”[7] الآخرون وقد توعدهم الموت، ورأوا شبح المنية يشتد شوقهم إلى الديار، أما علي (عليه السلام) فهو أشوق إلى لقائهم ليشتدّ في سبيل الله من شوقهم إلى ديارهم.

 إن كل مصيبتنا في تلوّث ذواتنا، وأن نقص الشعور بالسعادة في أي نفس وراءه نقص في النفس، ولو طهرت النفس من كل أدرانها وأقذارها لما شاب شعورها بالسعادة شوق.

 إن غفران الله يعني تطهير الذات وغسلها من كل أقذارها، وإذا ما غسلت ذات إنسان من كل الأقذار كانت تلك اللحظة التي تشعر فيها، وبالمعنوية التامة، وبالسعادة التامة، بالخلو من أي مكدر من المكدرات، كيف لا وهي أذا خلت من الأكدار صارت ترى الله، تنشد إليه، وهل تشعر نفس بالخوف وقد أنشدت لله في رضا عنها، وهل تشعر بالفقر أو تشعر بما يهددها، هنا لا شعور بنقص في ظل الانشداد والارتباط بالله وفي ظل الشعور بمرضاته (سبحانه وتعالى).

عن الإمام الصادق (عليه السلام): “من قتل في سبيل الله لم يعرفه الله شيء من سيئاته”[8]، وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): “الشهادة تكفر كل شيء إلا الدَّين”، فإذا كفرت الذنوب وغسلت الذات من أقذارها تمت مواقعة السعادة[9].

الحياة الحقيقية الخالدة

حياتنا فيها فرح وحزن، ولا تمر لحظة فرح إلا وأعقبتها لحظة همّ وغمّ، ولحظة تطفح فيها ولحظة تركس، ومرة تكبر ومرة تصغر، و أسباب الفناء تتهدّدك، والآلام تأتيك من هنا وهناك، وأنت مسؤول من لحظة الصباح حتى تغفو العين تتحمّل مسؤوليات ضخمة، وكل لحظة محسوبة عليك.

إذا ذهبوا إلى رضوان الله، وإذا كانوا في حياة أخرى أرقى من هذه الحياة، والموت في الإسلام لا يعني نهاية الحياة، ولا يعني الفناء، يعني نشأة في طول نشأة، حياة بعد حياة، عالماً جديداً بعد عالم، كما كنت أبن بطن أمك، كما كنت في الإطار الضيّق من عالم الرحم، ثم انتقلت إلى نشأة أفسح مجالاً، وأكبر امتداداً، وأوسع أفقاً، أنت كذلك هنا في رحم ضيق من الحياة ستنتقل إلى فضاء أكبر وأوسع، فالروح محبوسة من حدود البدن ومؤثر عليها من المادة، ولكن هناك الروح طليقة، وأفق اطلاعك أوسع، وأنت هناك تشرف من أفق أعلى وأرفع، فالموت ليس نهاية الحياة، وإنما هو بداية حياة أكبر وأوسع. وعلينا أن نستعد لتلك الحياة، وشروط تلك الحياة وأوضاعها ولذائذها وآلامها غير ما نحن عليه الآن، وكما كان هناك تغيّر واسع بين حياة الرحم، وبين الحياة على الأرض في وجودنا، سنشاهد عالماً جديداً حين ننتقل من هذه الدنيا إلى عالم الآخرة[10].

أنماط الحياة وقيمتها

منّا من يستمسك بهذه الحياة لأنه لا يرى حياة بعدها، بجمالها لأنه لا يرى جمالاً وراء جمالها، بامتدادها لأنه لا يؤمن بامتداد في طولها، يراها كل شيء في وجوده ويرى أن لا وجود له إلا بها، وهو هنا لا بد أن يستمسك بها، ولا بد أن يتهالك عليها، ولا بد أن يضحّي بكل شيء لأجلها، منا من ينهزم في هذه الحياة بمغرياتها، بلذائذها، بمظاهرها، يخسر إرادته، يخسر إحساسه بقيمة نفسه، ويخسر شعوره بانتمائه لربّه، يخسر كل جمال في كيانه نزولاً عند رغبته في هذه الحياة فيقبل أن يذلّ، ويبقل أن يهان، ويقبل أن ينسحق من أجل يوم من أيام هذه الحياة.

منّا من يحب هذه الحياة ولكن ينهزم أمامها، لأنه لا يصبر على محنها فيحاول بكل محاولة واندفاعة مجنونة أن يضع حدّاً لحياته على الأرض، لا لأنه لا يحب الحياة، وإنما  لأنه لا يتحمل مشاكل الحياة فتكبر على نفسيته، وعلى إرادته، فيخسر إرادته أمام ضغط الحياة.

ومنّا من يقيم لهذه الحياة وزناً عالياً، لا لأنها أنفاس تذهب وتجيء، ولا لأنها أوقات على الأرض يتمتّع فيها بمأكل أو مشرب، ولا لأن زينة الحياة تغريه، وإنما لأنه يرى كل لحظة من الحياة ذات قيمة عالية في صناعة وجود جديد قافز في وجوده، يرى في كل لحظة فرصة بأن يتقدم من خلالها في مستواه، وأن يقرّب شيئاً ما من خالقه، أن يعظم شعوره بذاته في ظل شعوره بقيمة إيمانه، يرى في كل لحظة من لحظات الحياة فرصة لنمو وزكاة وعلو وسمو في ذاته، وهو يرى أن قيمة الحياة من قيمة ما يمثل أمام ناظريه من هدف الوصول إلى رضوان الله، وإلى جنة فيها يقظة الروح، وفيها سمو الروح، وحياة الروح، وفيها الصفاء والنقاء والخلو الكامل من الشوائب، لذلك والحياة عزيزة عليه يسهل عليه أن يضحّي بالحياة، الحياة عزيزة عليه لأنها مجال صناعة ذاته، ولأنها فرصة التقدم بمستواه، ولأن مستقبله من صناعة نفسه في هذه الحياة، وتسهل عليه هذه الحياة بكل ما لها من قيمة عالية إذا كان إنهاؤه لحياته مختاراً، متقدما للسيوف والرماح، فاتحاً صدره للرصاص إذا كان ذلك مقدمة لنيل الهدف الأكبر الأعظم، الذي منه تستمد منه الحياة قيمتها، ألا وهو رضوان الله، ألا وهو جنة الخلد التي هي عنوان مرضاة الله[11].

الشهيد والرجوع للحياة الدنيوية

تمني الرجوع إلى الدنيا، هناك نوع واحد فقط من الناس وهو نوع الشهيد، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): “ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما عليه على الأرض من شيء غير الشهيد”[12]، كل أصحاب الجنة لو عرض عليهم أن يعودوا إلى الدنيا وأن لهم كل ما في الدنيا فلا يحبون العودة إلى الدنيا، تسقط قيمة الدنيا بكل قصورها وحقولها وجمالها وتتلاشى وتذوب في النفس ولا تساوي شيئاً، لكن الشهيد يكون له شوق للعودة للدنيا، لِمَ؟ هل لأن الدنيا كبيرة في نظره وقد استشهد وهو هازئ بها؟ وهو مستعلٍ عليها وقد سقطت في نفسه حينما رأى الآخرة؟ ليس هذا هو الوجه الصحيح لتمنيه، فلماذا يتمنى العودة إلى الدنيا؟

“ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما عليه على الأرض من شيء غير الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة”، من كرامة الشهادة، فالشهادة أعطته كرامة خاصة، أعطته منزلة مقنعة، جاءت بنتيجة فوق ما يتصور، فحق له أن يعشق ما به تلك الكرامة، وأن يتكرر ما به تلك الكرامة، وأن يتكرر ما به ذلك الفوز العظيم عند الله (سبحانه وتعالى)[13].

الفرار من ميادين الشهادة

الشهيد حيّ غير ميت وكل خوفنا من الموت، القرآن الكريم يطمئن الشهيد بأنه ليس بميت، حيّ بحياة سعيدة، يشعر فيها بالشعور الكريم الآمن، ويرزق رزقاً حسناً من الله (سبحانه وتعالى)، وهي بداية حياة سعيدة كريمة، ومن هنا فليعشقها العاشقون.

قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[14]، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[15]. فالبر هو الخير، وقيمة الإنسان هو ما يأتيه من خير، وإذا كانت الشهادة هي البر الذي ليس فوقه برّه، فأنت يا شهيد من أحسن الناس عملاً، وكل اختبار الحياة وتحدياتها إنما هو من أجل أن تتجلّى الذات الأحسن عملاً من غيرها.

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): “فوق كل ذي بر بر حتى يقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه برّ”[16]، لا يوجد درجة أرقى من هذا البر، وقد تفرّ النفس من الشهادة مخطئة بتصوّر بأن فرارها من ساحات الشهادة أياماً تبقيها في هذه الحياة.

يأتي الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ليعالج جنبة الضعف النفسية في مثل هذه النفس: “أن الفار لغير مزيد في عمره ولا محجور بينه وبين يومه”[17]، فهنا تأكيد على أن الفرار من ساحات وميادين الشهادة لن يضيف للعمر ولا لحظة واحدة على الإطلاق، فلماذا الفرار؟ فهناك يوم ينتظرنا في ساحات الجهاد أو على الفراش ولنختر. هناك نفوس هامت في الشهادة وعشقتها كل العشق حتى صارت غاية مطلوبة لها تفتش عنها في كل المسالك والدروب[18].

الحياة الفانية والرحيل المحتوم

والناس أجناس، هناك من تقول عنهم الآية الكريمة {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}، يأسفون، ويعضّون يد الندم، وتكبر كارثتهم أن وجدوا أنفسهم في ساحة القتال في سبيل الله يتهددهم الموت!! تنتهبهم السيوف والرماح، الآية الكريمة تنبّه على أمر وهو قدر مقدور ذلك هو الأجل المحتوم الذي لا يؤخر ولا يقدم ولا تحول بين المرء وبينه كل الوسائل والتحولات.

هناك لحظة سهُل علينا أو صعب، ساغ لنا أم لم يسغ، حلت أو مرت في المذاق لا بدّ أن نواجهها، لحظة الرحيل من هذه الأرض، والمسألة ليست مسألة أن نرحل وإنما كيف نرحل؟ وإلى أين نرحل؟ وبأيّ خاتمة يكون رحيلنا من هذه الحياة؟

الفرار من القتل، والفرار من ساحات الجهاد، والنكوص إلى الخلف، والتقوقع والهروب والبحث عن الملاجئ، والبقاء وراء الجدر، والبحث عن الستور كل ذلك لا يستر عن الموت ولا يحمي منه، هي لحظة لا بد أن نواجهها ونعانقها، ولا بد أن تفرض نفسها علينا، ولحظة أن يأتي وقت الرحيل نبرز قهراً إلى القتل من المضاجع.

تقول الكلمة عن أمير المؤمنين (عليه السلام): “إنَّ الفار لغيرِ مزيد في عمره”، فهو يطلب بالفرار أن يزيد يوم واحد أو أكثر في عمره، إلا أن الحق أن فراره لن يزيد من عمره ولا لحظة.

فالكلمة عنه (عليه السلام) تقول: “إنَّ الفار لغير مزيد في عمره ولا محجوز بينه وبين يومه”. فلا قلاع، ولا قصور، ولا ترسانة أسلحة، ولا حرس، ولا جنود، ولا فرار، ولا جُبن يمكن أن يحمي من لحظة الموت. وعلينا أن نختار كيف نموت؟

فالإيمان يؤسس لشجاعة، ولجرأة، لإقدام، لعدم حسابٍ للموت الذي لا بد له من هجمة على الإنسان. النصوص الدينية تقول لك: لا تخسر قضيتك، ولا تخسر مستواك، وإيمانك، وعزّتك ، ولا تخسر إنسانيتك، ولا تخسر مستقبلك لخوف الموت. عقدة خوف الموت اطرحها عنك وتخلص منها، حين تعلم أنك لا بد أن تموت، ولا فرار من الموت، وأن يومك لا مؤجّل له أو معجّل، وحين تعلم أنه لا بد من نهاية، وأن الناس كل الناس لا يملكون بكل ما أوتوا من قوة وحيلة أن يمدوا في أجلك لحظة، أو يتقطعوا منه لحظة، فإنك هنا وأمام هذه القدر المحتوم لا بدّ أن تنطلق في هذه الحياة بقوة، إذا كنت قد علمت أنك لن تسطيع بتوقفك أن تمد في عمرك، وأن تقدمك إلى ساحات الجهاد لن يبتر من عمرك شيئاً.

إن قضية الايمان لتؤسس للشجاعة والجرأة الإقدام. والكلمة عن الإمام (عليه السلام) تقول: “أزمع ترحال عباد الله الأخيار“، فهم أصحاب تصميم، وهناك أناس يفرّون من الموت فيفاجئهم، أما هؤلاء فقد عزموا، وصمّموا، وقد أعملوا الاختيار على الرحيل من هذه الحياة، فراراً، وهروباً، وانهزاماً أمام ضغوطات الحياة؟ لا. وهم يستعظمون هذه الحياة، ويعتزّون بها، ويرون بأن الحظة من الحياة يمكن أن تتقدم بالإنسان مستويات، وهم يرون كل ذلك يعزمون على الترحال من هذه الحياة من أجل الهدف العظيم الذي خلقت الحياة من أجله ألا وهو كمال الذات، وتنوّر الذات، شفافية الذات، وسلامة الذات، وصحة الذات، ورقيّها وعلوّها وسموّها وذلك بالقرب من الله (سبحانه تعالى).

والكلمة عن الإمام (عليه السلام) تقول: “أزمع ترحال عباد الله الأخيار وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى”. فما في الدنيا يحمل صفتين، أنه قليل مهما كثر ، وهزيل وضئيل مهما عظم. فما الموجود في الدنيا؟ قصور؟ حقول؟ مواقع؟ جمال حسّي؟ شهرة؟ فقسه بالآخرة فهو قليل، قسه بنفعه فهو قليل، قسه بما له من أثر نفع وأثر ضرّ تجده قليلا، ثم أنه لا يبقى.

الدنيا تتخلّى عن أهلها وهم فيها، فتنحسر الشهرة، ينقلب رضا الجماهير إلى غضب – بحق أو من غير حق -، إذا كان يريد عبادة الدنيا وأهل الدنيا فهو خاسر، الدنيا تتخلّى عن أهلها وهم فيها، موائده فيها ما لذّ وطاب ولكنه عنها محروم لمرض ما، يستطيع أن يضع يده على صور ونماذج جمالية كبيرة إلا أنه لا جدوى في ذلك، فيحرم كثير من الأكل وهو موجود، وهو يجده، ويحرم الجنس وهو يجده، ويحرم حتى الشهرة واللذّة حين يبقى في المشفى لعشر سنوات مغمى عليه، فما تجدي الشهرة وإعجاب الجماهير؟

والكلمة عن الإمام (عليه السلام) تقول: “أزمع ترحال عباد الله الأخيار وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى من الآخرة بكثير لا يفنى”. إذا كان ملكً أقل من في الآخرة من أهل النعيم ملكاً بمقدار الدنيا، فهل يملك أحد في الدنيا، الدنيا بكاملها؟ وكم له من منازع فيها؟ وكم له من مشاغب في الملك، وكم يتهدّده في هذا الملك؟ وكم سيبقى لهذا الملك؟ وصفتان أخريان موجودة في الآخرة وهما البقاء والكثرة.

يقول عليه السلام: “ما ضرّ أخواننا الذين سفكت دماؤهم بصفين أن لا يكونوا أحياء؟”، وما ضرّ أخواننا الذين سفكت دمائهم في البحرين في سبيل الله أن لا يكونوا أحياء؟ ماذا ففقدوا؟! ماذا فقدوا؟ أكل؟ شراب؟ وهل بقي لنا؟ وماذا زدنا عليهم من ملذات الدنيا؟![19].

طلب العزّة ببذل الدم

ما من أمة تطلب عزّتها إلا وعليها أن تبذل من دمها، والأمة التي تبخل بالدم إنما تتخلّى عن عزّتها وكرامتها واستقلاليتها وتقبل بالذلّ والهوان، فالناس لا يرحمون. في الأرض كفر، وفي الأرض نفاق، وفي الأرض أهل تسافل ومطامع دنيوية وعدوانية شرسة، فالأمة التي تمتنع أن تضحّي وأن تبذل وأن تعطي من دمها فلتستعد لموقع الذلّ والهوان والتبيعة الخسيسة.

الأمة تسلب حقوقها، وتستباح أرضها، وتمتلك عليها ثروتها، ويذل أبنائها، إذا أرادت أن تستعيد الحق المسلوب فالثمن هو الدم المسفوح، وحيث لا تعطي هذا الدم تبقى حقوقها مضيّعة مسلوبة، ويبقى موقعها موقع الذلّ والخزي والهوان. والأمة الإسلامية لن تعود إلى موقعها ولن تتحرّر وتتوفّر على استقلاليتها وإرادة التصرّف الحرّ في ذاتها وثرواتها وتربية أبنائها إلا بأن تتعلّم العطاء والشهادة وتحصل حالة عشق واع لقضية الشهادة.

القتال مر، والإقدام على الموت ثقيل، وكلفة الجهاد عالية، وبهذا الصدد تقول الآية الكريمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}. طلب الشهادة والاستعداد للشهادة وتوطين النفس على الشهادة فيه كلفة، الإقدام على الموت في سوح الجهاد فيه ثقل ولكنه خير للأمة، وهو من الخير الذي ربما كرهته نفوس، ولكن لا قيمة لحياتها، ولا تتوفر على عزّتها، ولا تبلغ المجد، ولا تنال الحرية والاستقلال، ولا تكون عند مرضاة الله (سبحانه وتعالى) إلا بارتكاب هذا المكروه – أي الذي تكرهه بعض النفوس –[20].

الشهداء خسرتهم الدنيا وربحتهم الآخرة

ويقول الإمام (عليه السلام): “أين أخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟”[21]، يتأسف لهم لفراقهم، فقد خسرتهم الحياة، فمن استشهد في سبيل الله فليس أربح منه للحياة، ولكن الحياة خسرته، فلا بد أن نأسف لشهدائنا من هذا المنطلق، لأنهم نماذج تعلّمنا الإقدام في سبيل الله، والجرأة في سبيل الله، وأن نسترخص النفس في سبيل الله، وأن لا يكون لنا اعتزاز بشيء كما هو اعتزازنا بالدين وبالله (تبارك وتعالى).

“الذين تعاقدوا على المنية”، فمن الناس من يفرّ من الحياة هزيمة، ومنا من يفرّ من الحياة أسفاً عليها ، هؤلاء تعاقدوا على المنية من منطلق الوعي الذي لا تقف أمامه حدود زمن ولا حدود مكان ولا حدود من أي شيء، وعي يعانق الحق، ومن منطلق الوعي والإدراك الدقيق والتقييم الصائب والرؤية المنفتحة والهدى البيّن والرشد التام، ومن منطلق الإيمان اللاهب، من منطلق اليقين بالربح في التجارة مع الله، من منطلق اليقين بأن الحياة الدنيا لا تساوي جناح بعوضة من قيمة الآخرة، من منطلق هذا كله، ومن منطلق العشق الالهي، والهيام في حبّ الله، فقد تعاقدوا على المنية ويريدون الموت؛ لأنه ليس موتاً وليس نهاية وإنما هو مبدأ حياة، وأرقى، وأسمى، وأخلد، وأطهر حياة.

حياة تنقلهم إلى عالم يجدون فيه ملأهم الطيّب من غير خليط، ويجدون فيه صفوف الأنبياء والمرسلين والأئمة الهداة، كفى هذا لذّة، وكفى هذا نعيماً، وكفى هذا سعادة. ليس فيها من يعوي لأنه ذئب، وليس فيها من ينهق لأنه حمار، وليس فيها من يزأر لأنه أسد مفترس، وليس فيها من ظالم فالظالمون معزولون، والسفلة معزولون، والسقطة معزولون.

إن الروح الطيّبة لتنقل إلى ملأ طيّب، تجدهم حلقات – كما في بعض الخبر – في وادي السلام يتحادثون ويتعاطون الحديث الملذ حلقاً حلقاً وكأنهم الشموس، فتعاقدهم على المنية من هذا المنطلق، وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة.

 الأرواح صعدت إلى الله، والروؤس أين أبرد بها وأين أرسلت؟ إلى الفجرة، فرأس النبي يحيى (عليه السلام) أرسل إلى زانية، وهذا لا يضرّ فالروح صعدت إلى الله، والتقت بملأ الأطهار، وصارت في معشر الملائكة والأنبياء والمرسلين، تصابح وتماسي أطهر الأرواح والنفوس[22].

شهداء العزّة والكرامة

 يقول (عليه السلام): “ما ضرّ أخواننا الذين سفكت دماؤهم بصفين أن لا يكونوا أحياء؟”[23]، ونحن نقول: ما ضرّ أخواننا الذين سفكت دماؤهم في البحرين في سبيل الله أن لا يكونوا أحياء؟ إذا ذهبوا على طريق الله، من أجل الله، من أجل نصرة دين الله، من أجل العزّة بالله، من أجل كرامة الإيمان والإنسانية والانتماء إلى الله التي لا يأذن الله (عزّ وجلّ) بالتنازل عنها. من جهة هم ليسوا متضرّرين، وإنما هم في فوز ونجاح ورقيّ، ومن جهة أخرى يتألم علي (عليه السلام) لهم لفراقهم، يعزّ عليه أن فارقهم لأنهم أنوار في الحياة، وهداة في الحياة، ونماذج إنسانية رفيعة تعلم الحياة، وبهم تأنس  الحياة، وبهم ترقى وتشف وتتقدم الحياة[24].

فقه الشهادة

وحين نحب الشهادة حبّاً أعمى لا يقوم على بصيرة، حبّاً مفصولاً عن وعي الدين، وعن قيمة الدنيا وقيمة الآخرة، وعن حرمة الدم ومتى يسترخص الدم، ومتى يُتمسّك بقيمةِ الدم، متى يرخص الدم ومتى لا يرخص، ومتى يجوز سفح الدم الكثير ومتى لا يجوز سفح قطرة دم.. فما لم نمتلك فقه الشهادة، وقيمة الشهادة، وشروط الشهادة، وما لم نتعرّف الراية التي تصدقُ في ظلّها الشهادة، فما لم نتوفّر على كل ذلك ستكون الشهادة مذبحاً من مذابحِ الأمم، وباعث فوضى في داخل الشعوب والأمم.

بعنوان الشهادة يقتل أبرياء وأطفال، يحرق من يحرق، وينحر من ينحر، وتقوم تفجيرات في أسواق ومساجد وكله بعنوان الشهادة!! لا يكفي ان نقدّس شعار الشهادة، وأن نرفع شعار الشهادة، وأن نمكن لشعار الشهادة لعنوان عائم غامض ضبابي ومن غير خليفة فكرية واضحة، وبصيرة ورؤية دينة جليّة، وتعرَّف دقيق على قيمة وشروط الشهادة والراية التي تكون في ظلّها الشهادة، من غير ذلك ستكون الشهادة عامل تدمير وتحطيم، وستسيء للإسلام كثيراً.

علينا أن ننجب أجيالاً متوالية ممن يغنّي بحبّ الشهادة ويذوب فيها، ويعي قيمة الشهادة، ويحمل فقه الشهادة، ويميّز بين الراية التي تصدق في ظلّها الشهادة، والراية التي لا تصدق في ظلّها الشهادة[25].

وظيفتنا الإعداد لثقافة عشق الشهادة

الشهادة مطلب عظيم، وشروطها ثقيلة، وقضية سيلان الدم وخسارة الجسد دمه ليس هو أكبر ما في الشهادة، بل هو أقلّ ما فيها. الشهادة سموّ روح، وعي عقل، طهر قلب، سموّ إرادة، شوق حيّ طاهر عارم إلى الله، رؤية كونية ممتدة منفتحة تكسر كل الحواجز وتخترقها وتعبر كل الحدود.

فمسؤوليتنا أن نربّي أنفسنا، وأن نربّي أبناءنا وبناتنا على حبّ الشهادة، ولِدوا وأنجبوا شهداء، وإنجاب الشهداء يحتاج إلى عمل تربويّ جاهد، يحتاج إلى إمدادٍ علمي، ونضج عقائدي، وطهارة نفس، وسموّ قلب، ورشد.

 حبّ الشهادة لا يتم مع حبّ الدنيا، علينا أن نصحّح حبّنا للدنيا، بحيث نعطي حبّنا للدنيا صورته الصحيحة، فنلعش ونحبّ البقاء في الدنيا، والتمتع فيها وإعمارها، ولكن كل ذلك يجب أن يكون في ضوء الهدف، ومن أجل أن تسموَ الروح، وأن تكون كل ذلك في خدمة الروح وخدمة الهدف من أجل الوصول إلى الله (سبحانه وتعالى).

مطلوب منا أن تنمو الدنيا على يدنا، أن نزرع الدنيا ونبنيها، أن تشمخ الدنيا ببنائنا، وأن تكون دنيانا أعرض من دنيا الآخرين، وأقوى من دنيا الآخرين، وأسعد من دنيا الآخرين، ولكن من دون أن نخسر أنفسنا، من دون أن نكون عبيداً للدنيا، يجب أن نكون الأحرار الذين تتعاظم الدنيا على أيديهم ومن أجلهم وتحت أمرتهم، فيكونوا حكام الدنيا لا من تحكمهم الدنيا بجبروتها.

حبّ الشهادة لا بدّ منه، وإلا فإن الشعب أو الأمة التي لا تعشق الشهادة، ولا يسهل عليها ركوب طريق الشهادة، ولا تعرف المراسَ الذي تتطلبهُ ميادينُ الشهادة، أمة لا بدّ أن تكون مهزومة أمام الأمم الأخرى، يكون شعب لا بدّ أن يخسر نفسه وحرّيته وكرامته وحياته، فلا بدّ من حبّ الشهادة[26].

حظ ّالجريح في سبيل الله

وما حظّ الجريح؟ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): “من جرح في سبيل الله جاء يوم القيامة ريحة كريح المسك، ولونه كلون الزعفران عليه طابع الشهداء”[27].

ختاماً

“ومن سأل الله الشهادة مخلصاً أعطاه الله أجر شهيد وإن مات على فراشه”[28]، فليكن الموت على الفراش ولكن النفس إذا كانت متعلّقة حقّاً وصدقاً وحقّاً بالشهادة، وقد توجّهت لله (سبحانه وتعالى) تسأله الشهادة في سبيله فإنها توفّها أجرها الكريم بأن يعطي الله (عزّ وجلّ) الشهادة صادقاً أجر شهيد وإن مات على فراشه.

—————————————————————

[1]  محاضرة تحت عنوان في رحاب الشهداء – 4 جمادى الأول 1431هـ الموافق 16/4/2010م – مأتم سار بالبحرين.

[2] المصدر السابق.

[3] سورة البقرة الآية 216.

[4] سورة البقرة الآية 246.

[5] محاضرة تحت عنوان في رحاب الشهداء – 4 جمادى الأول 1431هـ الموافق 16/4/2010م – مأتم سار بالبحرين.

[6] وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج15، ص61، نص الحديث (…. وإن الفار غير مزيد في عمره، ولا محجوب بينه وبين يومه، من رائح إلى الله كالظمآن يرد الماء الجنة تحت أطراف العوالي، اليوم تبلى الاخبار…).

[7] المصدر السابق.

[8] الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص54.

[9] لقاء مع عوائل الشهداء – 12 شهر رمضان 1432هـ الموافق 13/8/2011 – مأتم سار بالبحرين.

[10] لقاء الوفاق الرمضاني – 9 شهر رمضان 1434هـ الموافق 17/7/2013م – مأتم سار بالبحرين.

[11] المصدر السابق.

[12] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج2، ص1515.

[13] لقاء مع عوائل الشهداء – 12 شهر رمضان 1432هـ الموافق 13/8/2011 – مأتم سار بالبحرين.

[14] سورة آل عمران، الآية: 169.

[15] سورة الملك، الآية: 2.

[16] الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص348.

[17] وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج15، ص61.

[18] لقاء مع عوائل الشهداء – 12 شهر رمضان 1432هـ الموافق 13/8/2011 – مأتم سار بالبحرين.

[19] لقاء الوفاق الرمضاني – 9 شهر رمضان 1434هـ الموافق 17/7/2013م – مأتم سار بالبحرين.

[20] محاضرة  تحت عنوان في رحاب الشهداء –  4 جمادى الأول 1431هـ الموافق 16/4/2010م – مأتم سار بالبحرين.

[21] نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، ج2، ص109.

[22] لقاء الوفاق الرمضاني – 9 شهر رمضان 1434هـ الموافق 17/7/2013م – مأتم سار بالبحرين.

[23] نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، ج2، ص109.

[24] لقاء الوفاق الرمضاني – 9 شهر رمضان 1434هـ الموافق 17/7/2013م – مأتم سار بالبحرين.

[25] المصدر السابق.

[26] المصدر السابق.

[27] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج2، ص1518.

[28] المصدر السابق.

زر الذهاب إلى الأعلى