خطبة الجمعة (560) 11 شعبان 1434 هـ ـ 21 يونيو 2013م

مواضيع الخطبة:

 

الخطبة الأولى: البغض

الخطبة الثانية: حوار جادٌّ أو ملهاة؟ – انقلاب على الدّين

 

الخطبة الأولى

الحمد لله ذي الجلالِ والإكرام، والفضلِ والإحسان لا ينقضي تفضُّله، ولا ينقطع إحسانُه، ولا يضيق امتنانُه.
الخيرُ في معرفته، والفوزُ في طاعته، والهلاكُ في معصيته، والآمالُ الصَّادقة معلّقة ومعقودة بعفوه ومغفرته، والسَّعادة كلُّ السَّعادة لأهل رضوانه وجنّته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله إذا كان ما مِنْ خيرٍِ في الكون إلَّا وهو مِنْ خلق الله وتحت سلطانه، ولا مخرجَ له من قهره فكيف يُطلب الخير من غيره؟!.
وإذا كان لا يجري في الكون شيءٌ مِنْ غير إذنه ولا تحوُّل ولا تبدُّل إلّا بعلمه وقَدَره فكيف يُتّقى الشرّ باللجأ إلى من سواه؟!.
فهل طَلَبُ الخير من عداه، واستدفاع الشرّ بمن سواه إلّا تشبُّثٌ بالعدم، وطلب للمحال، واستعطاءٌ من فاقد، واستغاثةٌ من مستغيث؟!.
فلنوحِّد الله، ولنُخلِصْ لجأنا إليه، ونقصر الاستغاثة به، ولا يكُنْ لنا معبودٌ غيرُه، ولا مُطاعٌ على خلاف طاعته، ولا نُفرِّطْ في تقواه إلّا أن تجدَ نفسٌ من غيره سبحانه غِنى لها عنه، وانتصارًا بذلك الغير، وأمنًا في اللجأ إليه، وأنّى لأحدٍ بذلك، وكيف يكون، ومن أين يأتي إمكانه؟!.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرّحيم.
اللهم أنعِمْ علينا بالذِّكر الدائم لعظمتك، والمشاهدة التي لا تخلُّف لها لمُقام مجدك وعزَّتك، والرؤية التي لا تنقطع لجلالك وجمالك، والخشية الثّابتة من علمك وقدرتك، وارفع عنّا حُجُب الأسباب التي تعمي القلوب والأبصار عن نفاذ سلطانك وإرادتك، ورجوع أمر التدبير كلِّه إليك حتى لا نتوهّم قدرةً تزاحم قدرتك، ولا إرادةً تضادّ إرادتك، ولا فعلًا يتمّ من غير إذنك فتكون كلُّ هيبتنا منك، وكلُّ خوفنا من منعك وسطوتك، وكلُّ رجائنا فيك وأملنا في رحمتك يا أكرم من سُئِل، وأرحم من استُرحِم، وأجود من أعطى.
أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فهذه متابعة للحديث في موضوع:

البغض:

والبغض ليس من الشعور المريح لصاحبه، وإنما هو من نوع الشعور الثقيل الذي يؤذي القلب ويزعجه.
ومع ذلك قد يُنقذ صاحبه من التردّي والسقوط وشرّ عظيم. وذلك أن يكون بغضًا للقبائح، ولأشرار النّاس وسفهائهم لما هم عليه من شرٍّ وسَفَهٍ وسوء خلق ذميم.
وقد يكون أكبر مصيبةِ صاحبه فيه بأنْ يكون بغضًا لمصدر خيره وهداه وسُموّه وإنقاذه.
لأنَّ ما أحببت من شيء طلبته وسعيت إليه، ومن أحببته استرضيته، وتقرّبت إليه. وما أبغضتَ من شيء إلّا وتباعدت عنه، ومن أبغضته فارقتَه، وأغضبته ما تأتَّى إليك أن تغضبه. والحبّ والبغض ضدّان لا يجتمعان.
وما أبغض أحد الله عزّ وجلّ ورسلَه وأولياءَه إلّا وفتح على نفسه كلَّ أبواب الشر، وأغلق عنها أبواب الخير، وسلك بها طريق الشقاء.
فمن لنفس تباعدت عن الله عز وجل ورحمته، ودخلت في بغضه وعداوته؟!
إنَّ نفسًا أبغضت الله سبحانه وحادَّته ورسوله لا ينتظرها إلّا الذُّل والهوان، وعليها أن ترتقب العذاب المهين {.. الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(1).
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ}(2).
{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}(3).
والمبغض لأولياء الله مبغضٌ لله سبحانه، والداخل في عداوتهم داخل في عداوته؛ فبُغضهم من بغضه، وحبُّهم من حبّه، وأهل البيت من أولى أولياء الله، ولذلك عَظُم جرم بغضهم، وكان في عداوتهم الهلاك.
عنه صلّى الله عليه وآله:”ألا ومَن ماتَ عَلى بُغضِ آلِ مُحَمَّدٍ ماتَ كافِرا، ألا ومَن ماتَ عَلى بُغضِ آلِ مُحَمَّدٍ لَم يَشُمَّ رائِحَةَ الجَنَّةِ”(4).
وعنه صلّى الله عليه وآله:”فَلَو أنَّ رَجُلاً صَفَنَ(5) بَينَ الرُّكنِ وَالمَقامِ، وصَلّى وصامَ، ثُمَّ لَقِيَ اللّهَ وهُوَ مُبغِضٌ لِأَهلِ بَيتِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله، دَخَلَ النّارَ”(6).
وعن الإمام عليّ عليه السلام:”لِمُبغِضينا أفواجٌ مِن غَضَبِ اللّهِ” (7).
وبشأن المؤمن نقرأ قوله سبحانه:
{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(8).
وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”أشرارُ النّاسِ مَن يُبغِضُ المُؤمِنينَ وتُبغِضُهُ قُلوبُهُم، المَشّاؤونَ بِالنَّميمَةِ، المُفَرِّقونَ بَينَ الأَحِبَّةِ” (9).
وبما أنَّ البغض مما تضيق به النفس، ويسلبها الرَّاحة فهي تطلب أنْ تخرج من ضيقها بحقٍّ أو باطل لشدّة ما تشعر به من ثِقْل فلا تتوقّف عن ارتكاب أيّ ظلم، وأن تأتي أيّ عدوان فيه أذى من تُبغض من دون مراجعة دين أو ضمير إلّا أن تكون من النفوس التقية.
عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:”ألا إنَّ فِي التَّباغُضِ الحالِقَةَ، لا أعني حالِقَةَ الشَّعرِ ولكِن حالِقَةَ الدّينِ” (10).
وعن الإمام عليّ عليه السلام:”لا تَباغَضوا؛ فَإِنَّهَا الحالِقَةُ”(11).
والبغض دواءٌ ولكل داء دواء ومما جاء في علاجه ما يأتي:
1. راية الهدى: عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”يا عَلِيُّ، إنَّ بِنا خَتَمَ اللّهُ الدّينَ، كَما بِنا فَتَحَهُ، وبِنا يُؤَلِّفُ اللّهُ بَينَ قُلوبِكُم بَعدَ العَداوَةِ وَالبَغضاءِ “(12).
لا شكّ أنَّ الأخذ بالحقّ، واتّباع أهل الهدى يُؤلِّف بين قلوب أهل الحقّ، ويزرع فيها الحبّ والودّ، ويخلق بينها حالةً قويّةً من التواصل.
2. الدعاء وهو مفتاح لكلِّ خير، وبابٌ لكل هدى وصلاح وفلاح، وفيه لجأ من كلّ سوء.
عن الإمام عليّ عليه السلام:”اللّهُمَّ وأَستَغفِرُكَ لِكُلِّ ذَنبٍ يُبَغِّضُني إلى عِبادِكَ، ويُنَفِّرُ عَنّي أولِياءَكَ، أو يوحِشُ مِنّي أهلَ طاعَتِكَ، لِوَحشَةِ المعاصي ورُكوبِ الحَوبِ(14)، وكَآبَةِ الذُّنوبِ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ وَاغفِرهُ لي يا خَيرَ الغافِرينَ”(15).
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام:”اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وأَبدِلني مِن بِغضَةِ أهلِ الشَّنَآنِ المَحَبَّةَ”(16).
وعنه عليه السلام:”اللّهُمَّ لَكَ قَلبي ولِساني، وبِكَ نَجاتي وأَماني، وأَنتَ العالِمُ بِسِرّي وإعلاني؛ فَأَمِت قَلبي عَنِ البَغضاءِ، وأَصمِت لِساني عَنِ الفَحشاءِ”(17).
النفسُ حيث تسكنها الآثام تقبُح فلا تلتقيها نفوس المؤمنين، وتنفر منها لنزاهتها، ولا تجد إلّا أن تُبغض هذه النفس.
والقلبُ يبعد عن الله سبحانه، ويجد الشيطان إليه سبيلا، فيَقبَلُ منه سوءه ووسوسته ينفصل عن مودّة المؤمنين، وتدخله البغضاء لهم، ويَفسد ما بينه وبين أهل الحقّ.
3. لين الكلام وبذل السلام:”عَوِّد لِسانَكَ لينَ الكَلامِ، وبَذلَ السَّلامِ؛ يَكثُر مُحِبّوكَ، ويَقِلَّ مُبغِضوكَ”(18).
4. الهديّة: عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”الهَدِيَّةُ تورِثُ المَوَدَّةَ، وتُجَدِّدُ الاُخُوَّةَ، وتُذهِبُ الضَّغينَةَ”(19).
وعنه صلّى الله عليه وآله:”تَهادَوا تَحابّوا، تَهادَوا؛ فَإِنَّها تَذهَبُ بِالضَّغائِنِ”(20).
وعنه صلّى الله عليه وآله:”تَهادَوا؛ فَإِنَّ الهَدِيَّةَ تُذهِبُ وَحرَ الصَّدرِ( )”(21).
وإنّ رابطة الإيمان لتُنتج المحبَّة، وتُزيل البغضاء ولكي لا تتخلّف نتيجتها تحتاج إلى دعم هو من وحيها وجنسها، ومما به صدقها.
عن الصادق عليه السلام:”تَحتاجُ الأخوَةُ فيما بَينَهُم إلى ثَلاثَةِ أشياءَ، فَإِنِ استَعمَلوها وإلّا تَبايَنوا وتَباغَضوا، وهِيَ: التَّناصُفُ، وَالتَّراحُمُ، ونَفيُ الحَسَدِ”(22).
ورابطةُ النسب في ذلك كرابطة الإيمان يقوّيها الأخذُ بمقتضيات الإيمان، ويُضعف تأثيرها البنّاءَ الأخذ بمنافياته، وتعطيلُ موجباته.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أضئ قلوبنا بنور معرفتك، وأحيها بذكرك، واعمرها بحبك، وزكّها بتقواك، وبلّغها رضاك يا حنّان، يا منّان، يا محسن، يا متفضّل، يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(23).

الخطبة الثانية

الحمد لله القادر الذي لا يمتنع على قدرته ممكن، العالم الذي لا يغيب عن علمه شيء، الغنيّ الذي لا تُنقِصُ كثرةُ العطاء غِناه، الحيّ الذي لا يموت، القيّوم الذي لا يسهو، من لا شريك له في خلق، ولا رزق، ولا تدبير، ولا تشريع، ولا تقديم ولا تأخير ولا عبادة.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه و آله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله للنجاة والفوز طريق، وللعَطَب والفشل طريق. وهل يظنّ ظانٌّ أن النجاة والفوز في طريق الشيطان، وأنَّ الطريق إلى الله سبحانه نتيجته الهلاك والخسارة؟!!
وهل لأحد طريق ثالث غير هذين الطريقين؟!! وهل من فريق ثالث يُصار إليه غير أهل طاعة الله، وأهل معصيته؟
فأين يذهب بعاقل عقله عن طاعة الله سبحانه؟! وأين تصير به الشفقة على نفسه؟! وإلى أيّ حدٍّ يتمادى به التغافل؟! وماذا يُغريه بالإهمال، ويحمله على التسويف؟! وممن يرتقب النُّصرة من غير الله؟! وعلى من يعوّل في إنقاذه من غضبه؟! وعلى من يعتمد في عِتْق رقبته من النّار؟! وما الذي يجعله يأنس للدّنيا كلّ الأنس، ويطمئنّ إليها بلا شيء من قَلَقٍ ولا وَجَل؟! وما هو فاعلٌ لحظةَ تصل منيّته، ويفاجئه موعد الرحيل؟!
أيها المؤمنون والمؤمنات فلنحذر؛ فإنَّ من استنام للذيذ الشهوة غمره عميقُ السكرة، ومن أهمل التفكُّر في محتوم الأجل غرّه كاذب الأمل.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم فرّغ قلوبنا من شواغل الدّنيا إلى شاغل طاعتك، واجعل همّها في نيل قربك والفوز برضوانك، ومنتهاها المقام الكريم في جنتك وجوار منازل أنبيائك ورسلك وأوليائك، ولا تجعلها فزعة ولا مذعورة من فعل الشيطان الرّجيم، وطهِّرها من الشكّ والشبهة، وارزقنا تمام الإيمان ودرجة اليقين يا جواد، يا متفضّل، يا محسن، يا كريم، يا رؤوف، يا رحمان، يا رحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصَّادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم. اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا.
أما بعد أيّها الأحبّة في الله فإلى هذه الكلمات:

حوار جادٌّ أو ملهاة؟

تكرارًا نقول بأنَّ الإصلاح وأوّله الإصلاح السياسيّ ضرورة لابدّ منها ولا غنى في دين، ولا قضيّة أمنٍ، ومصلحة وطن، واستقرار أوضاع، والتئام مجتمع، ورضى شعب، ومقتضى ميثاق، ولغة دستور، وعُرْف سياسيّ عالمي معروف زاحف بسرعة ربما غطّى العالم، وعمَّ كل ربوعه.
وربما لأكثر من مرة نُؤكّد أنَّ الإصلاح بما فيه الإصلاح السياسيّ لا يحتاج الحكم فيه إلى مقدّمات وإلى انتظار، وأنَّ كل ما يحتاجه نيّة صادقة، وميل للعدل، وأخذ بالإنصاف، وإرادة سياسية جادّة.
وإذا كان لابد من حوار كما يُدّعى فالحوار الذي يمكن أن يُفضي مع صدق النية وإخلاص القصد إلى حلّ مقبول هو حوار جادّ وعادل، لا حوار مَلهاةٍ ولا تسلية للإسكات وصرف النظر والتماس الأعذار(24).
وكلُّ يوم تُعقد فيه جلسة من جلسات الحوار الجاري يدل على عدم الجديّة، ويؤكد أنّه لا لغرض الحلّ، ثم إنه لا يؤدي وظيفته الأخرى إذا كان قد أُريد أن يكون من أجلها( ) فلا يحدث تسلية ولا يُلهي عن المطلب الضرورة وهو الإصلاح الذي آمن به الشعب كلّ الإيمان، ولا تنازل له عنه، وبَذَلَ في سبيله كلَّ ما بذل مما لا يصحّ له الرجوع بعده بلا مقابل إلى وضعٍ وجد أنه لا يصحّ الصبر عليه قبل أن يبذل شيئًا في سبيل إصلاحه.
إنّه حوار لحدِّ الآن للتعقيد لا للحلّ، وللتازيم لا للتخفيف، وللإثارة لا للتسلية والتلهية، والتسليةُ والتلهية لأيّ شعب من شعوب الأرض اليوم أصبحت صعبة جدًّا وأمَّا بالنسبة لمستوى شعب البحرين فهي مستحيلة(25).
والمعوَّل في الحلّ أولًا وأخيرًا على الله سبحانه، ثم على إصرار الشعب على المطلب الإصلاحي الجادّ القادر على إنقاذ الوضع، ووضعه على السكّة الصحيحة الواصلة، وصبره على هذه التضحيات المتصاعِدة المستمرّة، ومواصلة الجهد العقلائي في المطالبة ضمن الأخلاقية الشرعيّة وبالأسلوب السّلميّ. والحكم هو الذي يتحمّل المسؤولية، وبيده فُرَص الإصلاح، ولا تحتاج عنده إلى بحث، ولا إلى انتظار، ولو أراد السّاعة الإصلاح فإنه يملك أن يُفعِّله.
وكلُّ مراوغة، وكل تسويف، وكل تعلُّل على خلاف ذلك إنما يكشف عن عدم جديّة، وإرادة تعطيل، وقصد استمرار وتمادٍ في الخطأ.
والخير كلُّ الخير لهذا الوطن، وإنقاذ وضعه، ومصلحة كلّ مكوِّناته، وانتشاله من المأزق الذي صارت إليه به السياسة الظالمة المتعسّفة التي أنهكته وخلخلت بنيانه إنما هو في الإصلاح وجدّيته، وكفايته، وتسريعه، وأخذه النظر لمستوى الشعب من الوعي والنُّضج والتطلّع والبذل الذي بذله.
أمّا ما هو على مستوى الأرض، والواقع الخارجي داخل الحوار، وفي الساحة السياسية والأمنية والإعلامية والأبعاد الأخرى التي تُدير حركتها السلطة فالاتجاه إنما هو لمزيد من التّصعيد والتعقيد والتأزيم، وتراكم المشاكل، وسدّ المنافذ التي يمكن أن تفضي إلى حلّ يُخرج الوطن من المأزق وعنق الزجاجة الذي يضيق بمرور الوقت.
وبلا استعراضٍ لما عليه قضية التأزيم والتعقيد ومضاعفة المشاكل من جهة السُّلطة فإنه يكفي لتعميق هذه القضية هذه الدعاوى التي لا تتوقّف ولا تجدُ لها نهاية باستمرار اكتشاف خلايا ومنظّمات إرهابية ومسلسل من المؤامرات المتوالية التي لا تكاد تترك رمزًا من رموز المعارضة، ولا فصيلًا من فصائلها، ولا صوتًا حقوقيًّا جريئًا إلا وواجهته بتُهمَةٍ من هذه التُّهم، وانتهت في التحقيق معه إلى إدانته، وإصدار العقوبة القاسية في حقّه لتشمل العقوبة المشدّدة العشرات بعد العشرات، والفوج بعد الفوج، والجماعة بعد الجماعة، ويزجّ بهم في ظلمة السجون لمددٍ طويلة تستوعب عمر الكثيرين. ولو أخذنا بروايات السلطة بشأن ما تدّعيه من اكتشاف العديد من المؤامرات والمنظمات والخلايا الإرهابية والتخطيط للتفجيرات الخطيرة لصارت النتيجة أنَّ البحرين من أكبر مطابخ الإرهاب في العالم، وأنَّ شعبها من أكثر الشعوب تخطيطًا للمؤامرات الأكبر والأخطر.
ولحسن الحظّ كما يُصوّر الإعلام السياسي الأمر أنَّ المحاولات الإرهابية الضخمة والمؤامرات الظلامية الخطيرة تُكتشف بصورة مبكَّرة ليُنزع فتيلها بكل أمن وسلامة ويودع القائمون عليها غياهب السجون ليُكفى الوطن ما وراهم من كيد وشرّ وعداوة بالغة.
وإذا بحثت عن الدليل وجدته يتكرّر في كلّ مرة فيما تنتهي إليه التحقيقات العادلة النزيهة في الأجواء الآمنة المريحة، وفي فُسحةٍ واسعة كافية من حيث حريّة التعبير عن الرَّأي، والإعلان الصادق عن الإرادة.
وهذا شيء يتميز به المتآمرون والإرهابيون من أبناء شعب البحرين كما يُصوّره الإعلام الرّسمي في أنهم رغم خيانتهم المدّعاة إلّا أنَّ لهم صدقًا من رقم قياسي يمنعهم من التخلُّف عن قول الحقيقة فيما جنت أيديهم على الوطن وفيما أرادوه به من شرّ، ويجعلهم يُسرعون في الاعتراف بكلّ دقّة وأمانة بجنايتهم التي تُطابق مُدّعى السلطة، وطريقة تخريجها للحدث المزعوم وإن كلّفهم هذا الاعتراف الاختياري الحرّ كما يعلمون سلب حريتهم، وفقدهم الحياة.
ولذلك فهم لا يحتاجون لنزع الاعترافات المطلوبة منهم إلى تعذيب، ولا مَسِّ أذى.
مسلسل من دعاوى عمليات التخطيط للإرهاب والمؤامرات لا نهاية له حتى ينال آخر معارض عقوبتَه الصارمة، وحتى يهلك في السجن من يهلك، ويذوق الجميع العذاب.
قد يوجد تفكير آخر على مستوى السلطة يُباين هذا التفكير ويرى في الإصلاح الحلَّ وراحة الجميع، ولكن لا برهان من ناحية عملية عليه لحدِّ الآن، ولا بوادر جدّية على طريقه، ولا يرى الناس له بصيص أمل.
وعناد السلطة مُقابَلٌ بإصرار الشعب على مواصلة الطريق حتّى تحقيق المطالب الثابتة العادلة. كتب الله لهذا البلد الأمن والسلام وأخرجه من الظلمات إلى النور إنه سميع مجيب.

انقلاب على الدّين:
أرض البلاد الإسلاميَّة تصبغها الدّماء عامًا بعد عام، ويومًا بعد يوم. والدماء التي تسيل على هذه الأرض وتزداد سيلانًا دماء مسلمة على أيدٍ مسلمة. ولا أعني بذلك دماء جبهتين متقابلتين في قتال – بغضّ النظر عن الظالم والمظلوم، والمعتدي والمعتدى عليه منهما – وإنما المعنيّ هنا دماء اطفال وشيوخ ونساء وصبية وشباب ورجال لا يخوضون حربًا، ولا علاقة لهم بقتال، ولا يشتغلون بالسّياسة، ولا علاقة لهم بها. هؤلاء تُهدر دماؤهم، تُزهق أرواحهم، يُمثّل بهم وهم في طلب الرّزق، وفي صلاتهم… في السوق، في المسجد، في الحسينية، في منازلهم، في أيّ طريق، في أيّ ساعة من ساعات الليل والنّهار، ذاهبين إلى الصّلاة، خارجين منها، في حفلة زفاف، في حفلة من حفلات الفرح الأخرى، في مأتم من مآتم الموتى، في تشييع جنازة، في مطعم، في مقهى، في أي مكان، في أي مناسبة بلا قيد ولا شرط، ومن غير موقف مضادّ من الضحايا، ولا حتى كلمة مؤذية.
هذا والعلماء المسلمون في مشهدٍ من كلّ ما يجري ومرأى، والموقف هو السكوت إلّا أن يكون الدم دم من يتَّفِق معك أو معي في المذهب(27). وما يصدر من كثير منهم ومن رؤوس كبيرة ما هو صريح في إباحة هذا المنكر الفظيع والفساد في الأرض، وكذبٌ على الله ورسوله صلَّى الله عليه وآله بوعد الثواب الجميل الجليل لمن أقدم عليه وازداد منه، أو كلماتٌ تُوقِد الفتنة، ولا تُبقي عند جهلة النّاس شكًّا في مشروعية هذا الفعل.
فهل توجد انتكاسة في الفهم للإسلام أكبر من هذه الانتكاسة إنْ كان ذلك عن نوع من الفهم للإسلام؟!
وهل يُوجد انقلاب عمليّ عن الإسلام عن عَمْدٍ وإصرار إنْ لم يكن وراءَ هذه المواقف خطأٌ في الفهم، وإنما كانت مضادّة لله ولرسوله صلّى الله عليه وآله؟!
وهل لأمّة تتخذ من دينها الحقّ هذا الموقف المشوِّهَ له، المسقِطَ لكرامته في النفوس أن ترتقبَ من الله سبحانه الرَّحمة؟!(28) وهل تتوقع أن تقوم لها قائمة بين الأمم وهي تُقيم على هذا المنكر الشنيع وعلى مستوى علمائها؟!
أليس هذا من العداء لله قبل أن يكون عداءً للإنسان، ومن الاستخفاف بحرمة الدين، واستهدافه بالإضرار قبل أن يكون استخفافًا بدم النّاس واستهدافًا محرَّمًا لهم؟!
على كلِّ عالم ومتعلّم من المسلمين، وعلى كلِّ مَنْ للإسلام حرمة في نفسه، وله خشية من الله سبحانه أن يصرخ في وجه هذا المنكر والانقلاب على الإسلام: المسلم حرامٌ كلُّه على المسلم عِرضه وماله ودمه. إنَّ نداءات الوحدة الإسلامية يجب أن تتعالى على لسان كلِّ مخلص من أبناء هذه الأمة الواحدة كما أراد لها ربُّها سبحانه وتعالى، ونبيُّها الكريم صلّى الله عليه وآله، وأئمتها الهداة، وفي كلّ بقعة من بقاع الأرض حتّى تندحر أصوات الفُرقة، ويعِزَّ الحقّ وتتوحّد صفوف الأمّة، ويُقهر أعداؤها(29).
وإنّكم لتجدون أنَّ الأصوات الوحدوية المخلِصة التي تحرص على تماسُك بناء الأمّة وسلامة كيانها تُواجَه بالغضب والحَنَق والتشكيك والدعوة المضادّة(30) من السلطات الدنيوية الراجفة من صحوة الأمّة ووحدتها وتلاحُمها، ومن إعلامها الفاجر، وأقلامها المأجورة، وإذاعاتها وفضائياتها المتآمرة.
لتنطلق الكلمة المخلصة المكثّفة، والفعلُ الجادّ المستمرّ، والمشاريع المدروسة المصمِّمة على ترميم وحدة الأمّة، وحمايتها، واستكمال بِنائها، والدّفع بها إلى الأمام والترسُّخ والثبات من غير التفاتٍ إلى الأصوات الهدّامة النّشاز الجاهلية والمتآمرة على وحدة الأمّة وعزّتها وسلامتها، وعلى دينها القويم وكيانها الذي فيه عِزُّ الأرض وإنقاذها وخيرها ورفعتها.
وإنّ وثيقة الوحدة الإسلامية الصادرة عن المجلس الإسلامي العلمائي في البحرين وما تُمثِّله من التزام من جانب المجلس بواجب وحدة الأمة لهي من صميم واجب المجلس ومن صُلْبِ خطّه، وأعظم اهتماماته، وثوابت خطّته.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وارحم محمدًا وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد كأفضل ما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرّحيم. اللهم أنقذ هذه الأمّة من هذه الغُمّة، واجمع كلمتها على التقوى.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفكّ أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وأمن وكرامة.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (31).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 5/ المجادلة.
2 – 20/ المجادلة.
3 – 63/ التوبة.
4 – بحار الأنوار ج23 ص233 ط2 المصححة.
5 – الصَّافن: الذي يصفّ قدميه.
6 – المستدرك للحاكم النيسابوري ج3 ص149.
7 – الخصال للشيخ الصدوق ص627.
8 – 10/ الحشر.
9 – الأمالي للشيخ الطوسي ص462 ط1.
10 – الكافي ج2 ص346 ط4.
11 – نهج البلاغة ج1 ص151 ط1.
12 – الأمالي للشيخ المفيد ص251 ط2.
13 – وهو الإثم.
14 – موسوعة معارف الكتاب والسنة ج8 ص443-444 ط1.
15 – الصحيفة السجادية الكاملة 102.
16 – الصحيفة السجادية (أبطحي) ص440 ط1.
17 – عيون الحكم والمواعظ ص340 ط1.
18 – بحار الأنوار ج74 ص166 ط3 المصححة.
19 – الكافي ج5 ص144 ط3.
20 – وهو غيظه وحقده.
21 – موسوعة معارف الكتاب والسنة ج8 ص442 ط1.
22 – تحف العقول ص322 ط2.
23 – سورة التوحيد.
24 – حوار قد يُسمّى بالعامية (مصماصة).
25 – وهي وظيفة التسلية والتلهية.
26 – هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
27 – حينئذ أثور، حينئذ أنكر، حينئذ تُنكر.
28 – إنّه خوفٌ على الأمّة كلّ الأمّة من عذاب قريب في ظل هذه الأخلاقية المنفلتة عن دين الله.
29 – هتاف سماحة الشيخ وجموع المصلين (وحدة وحدة إسلامية).
30 – راجعوا الصحافة، راجعوا الإعلام.
31 – 90/ النحل.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى