خطبة الجمعة (554) 29 جمادى الثاني 1434 هـ ـ 10 مايو 2013م

مواضيع الخطبة:

الخطبة الأولى: البصيرة

الخطبة الثانية: معركة مع أجساد الموتى – أسلوبن وهدف واحد معدّل

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي جَعَلَ النَّهار مُضيئًا، والنّور دليلًا، والعقول مُبصِرة، والقلوب مُهيّئة للهداية، والنفوسَ معدّة للاستقامة، وجَعَلَ آياتٍ بيّنات، ورسلًا مبشّرين ومنذرين، وأولياءَ هادين ومصلحين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله اطلبوا الهدى لتبيُّن الطريق، والعلمَ للعمل، وابنوا أمر حياتكم على الجدّ، ولا تعدِلوا عن قَصْد الغاية، واخشوا الله في ما كبُر، وما صغُر، واسترشدوا بأحكام دينه للتعرُّف على ما يرضيه فخذوا به، وعلى ما يُغضبه، فاجتنبوه فإنّه لا ملجأَ منه إلّا إليه، ولا واجدَ لخيرٍ إلّا من عنده وبإذنه، وكلٌّ مُلاقٍ جزاءه الذي لابد منه.
وإن وَجَدَ أحدٌ في الطاعة ما يصعب عليه فإنما ذلك الضّعف من نفسه، وبسببٍ من إهمالها، على أنَّ مغبَّة المعصية أصعب، وأجرَ ما يتحمّله من كُلفة الطاعة أعظم وأبقى مما كان له من معاناتها.
وإنَّ سعادة الأبد لا يتخلَّى عنها لعناء ساعة.
اللهم صلّ وسلّ وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتُب علينا إنّك أنت التوّاب الرّحيم.
اللهم اجعل لنا من أمرنا رَشَدًا، واهدِنا للتي هي أقوم، ولا تُسلِمنا لضلالةٍ أبدًا برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فهذا حديث في موضوع:

البصيرة:

البصيرةُ علمٌ محيط، ورؤيةٌ قلبيّة نافذة، ووزنٌ دقيقٌ للأمور، صاحِبُها يرى من وراء الظَواهر حقائقَها، ومن المستقبل وغوامضِه ما لا يراه غيرُه.
وللبصيرة جذرُها في النّفس، وما يُنمِّيها ويُوسِّعُها ويزيد في حضورها وحمايتها من العوامل المضادّة، وما يعيق حركتها من الموانع، وما يحيط بها ويضعفها من الأمراض.
ومن خَسِرَ بصيرته لم يكن له علم نافع، ولا معرفة مُنقِذة، ولا نور يهتدي به الطريق، ويستعين به في قطعه للغاية، وكان دربُه كلُّه كبوات.
في النفس الإنسانية قوّةُ إدراك فطرية من صنع بارئها يتميّز لها بها في القضايا الأساس العريضة التي تتصل بكمالها وانحدارها ما هو حقٌّ عمَّا هو باطل، وما هو خيرٌ عمّا هو شرّ، وما هو تقوى عمّا هو فجور {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}(1).
وعن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير ذلك:”أي عرّفها وألهمها ثمَّ خيَّرها فاختارت”(2) وفي تفسير آخر له عليه السلام كذلك:”عرّفه الحقَّ من الباطل”(3).
وهذا التمييز إمّا أن يكونَ معه اختيارُ الحقّ على الباطل، والخير على الشرّ، وفي هذا تمامُ الرّشد والبصيرة والنُّضج وهو طريق الازدياد والتوسُّع والتمكّن والتبلور والامتداد لِمَلَكَةِ البصيرة.
وإمّا أن يكن معه اختيارُ الباطل على الحقّ والشرّ على الخير وفي هذا سفاهة وعمى وفجاجة وهو طريق الهبوط والغياب والخسارة للبصيرة.
وتزداد مساحةُ عملِ البصيرة، وتقوى فاعليّتُها، ويمتدّ تأثيرها بتقديم الهداية، ومنفعةِ الرُّشد إلى كثيرٍ من مسائل الدّنيا والآخرة في ظلّ الرِّعاية الدائمة لها على ضوء منهج الله سبحانه في تكميل الإنسان.
كما يمكن أن يخسرها الإنسان على المستوى الفعليّ، ويلفّها الغياب إذا تبدَّلت هذه الرّعاية إلى إهمال، وقُدِّم عليها متابعةُ الهوى.
والآن يأتي دور الحديث عن محاور في الموضوع في ضوء النصوص:
مناشئ البصيرة:
1. الإلهام الفطري الممنوح للنفس الإنسانية من قبل الله عزَّ وجلّ ابتداءً والذي يُوقِفنا عليه قوله سبحانه:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}(4).
كما يذكره لنا قوله سبحانه:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}(5) فاهتداء النفس إلى أصل طريق الحقّ وطريق الباطل، ومعرفتُها بذلك هو إلهام فطريٌّ منَّ الله به عليها، والإنسان محاسب على هذه المِنَّة والنعمة الإلهية الكبيرة.
الإسلام والقرآن:
الإسلام والقرآن بتعاليمهما الربانيَّة يحفظان البصيرةَ ويتكفَّلان بتثبيتها، وتنميتها، وتوسُّعها، وازدهارها، ويمُدّانها بنماذج عالية من دروسٍ تزيد في إلهامها وتفتح لها أبوابًا جديدةً تنفذ منها لتُعطي الكثير. {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَـذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(6).
{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ}(7).
وعن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:”القرآن هدى من الضلالة، وتبيان من العمى”(8).
وعن علي عليه السلام:”ما جالس هذا القرآنَ أحدٌ إلَّا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى أو نقصان من عمى”(9).
ومجالسةُ القرآن ليست مجرّد تلاوة لحروفه وألفاظه المُفردة والمركّبة. لكأنّها الدخول معه في محاوة جاهل مع عالم يطرح عليه أسئلتَه ويُصغي إلى إجاباته ويتعلّم منها، ويعرض عليه تصورّاته ليأخذ منه تصحيحها، ويستقبل منه توضيح الغوامض التي لا يملك فيها شيئًا من رأي.
وعنه عليه السلام:”إنَّ الله تبارك وتعالى شرع الإسلام، وسهَّل شرائعه لمن وَرَدَه، وأعزّ أركانه لمن حَارَبَه، وجعله عِزًّا لمن تولَّاه…. وبصيرةً لمن عزم”(10).
الإفاضة المستجِدّة:
يأتي مع الإلهام الفطريّ والبصيرة الممنوحة من الله الكريم لعباده ابتداءً في أصل الخَلقة إفاضةٌ منه لمزيد من البصيرة، وكثير من الهداية رحمةً بمن أطاع، وثمرةً طيّبةً للاستجابة إلى المنهج الحقِّ في التربية، والأخذ بتعاليم الدّين.
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”الحمد لله الذي… هدى من الضلالة، وبصّر من العمى”(11).
وعن عليّ عليه السلام:”إنّما أنا وأنتم عبيد مملوكون لربٍّ لا ربّ غيره، يملك منّا ما لا نملك من أنفُسنا، وأخرجنا مما كُنّا فيه إلى ما صَلَحْنا عليه؛ فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى، وأعطانا البصيرة بعد العمى”(12).
عن الإمام الصادق عليه السلام:”إذا أراد الله بعبد خيرًا زهّده في الدّنيا، وفقّهه في الدّين، وبصّره عيوبها، ومن أوتيهن فقد أوتي خير الدّنيا والآخرة”(13).
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهري، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل لنا نورًا نسعى به إليك، وهُدًى نصيب به دينك، ورُشْدًا لا نفارق به رضاك، واكتب لنا عاقبة حميدة نُغبَطُ بها، وننال بها سعادة الأبد من فضلك وكرمك يا أجود الأجودين.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(14). 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي خَلَقَ العبادَ ومَلَكَهُم، وأقدرهم وحكمهم، وقضى بينهم بالعدل، وأمَرَهم بالقِسْط، وكلّفهم يسيرًا، وأثابهم كثيرًا، ونهاهم عن العدوان، ودعاهم إلى البرّ والإحسان.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله من يتّق الله يرفع الله مقامَه، ويُعلي درجته، ويضاعف له الحسنات، ويمحُ عنه السيئات، ويزده من هدايته، ويُنزل عليه من بركاته، ويكُنْ له نصيرًا في الشِّدّة، وأنيسًا في الوحشة، ومنقذًا من الكُربة، ويُوفِّه الأجر، ويُعظِم له المثوبة.
ومن عصى الله عزّ وجلّ فلا ناصر له، ولا مأوى له من عذابه، ولا مفرّ له في أرضٍ أو سماء.
فلا تُسوِّل لأحدنا نفسه بأن يعصيَ الله، وإنْ سقط في معصية فلا يقم عليها إلّا أن يريد شقاء نفسِه.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم نوِّر قلوبَنا بمعرفتك، وأنعِشها بذكرك، وآنِسها بمناجاتك، واجعل لها زادًا هنيئًا من تقواك، وبصِّرها بأحكام دينك، واستقِمْ بها على سننك، ولا تحرمها من هداك يا كريم يا رحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصّديقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم(15).
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرنا نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيّها الأحبّة في الله فإلى أكثر من عنوان:

معركة مع أجساد الموتى:

نَبْشُ قبر حجر بن عدي رضي الله عنه نوعُ معركة مع أجساد الموتى، مع العِظام، مع الرّفات.
كما هي معركةٌ مع حرمة المؤمن، والحكم الشرعيّ، وتاريخِ الأمّة والرّسالة، ومع حِسٍّ إنسانيٍّ متأصّل يتعفّفُ عن الدّخول في معركة من هذا النوع… معركة مع أجساد الموتى، ومع العظام والرِّفات.
وحجر بن عدي صحابيّ، ورجلٌ مهمّ من رجالات الإسلام، وشخصية بارزة من شخصيّات الإيمان. كان المجاهد الصَّابر، والجريء في ذات الله، والقائد الناجح، والمضحي في سبيل ربّه، والثابت على دينه، والملازم لهداه.
وشنُّ معركةٍ ضاريةٍ على قبور الأولياء والصّالحين، ومعالِمَ التاريخ الإسلاميّ، ورموز جهاده، وما يمتُّ إلى حريات الأديان والمذاهب(16)، وفي داخل الدّين الواحد، والتاريخ الواحد وبهذه الصّورة المنفلتة تُمثّل خطورة بالغة جدًّا تؤدّي إلى فوضى عارمة، وتُقوّض أمن المجتمعات والأمم، وتفتح أبوابًا واسعة لِسَفْك الدّم الحرام جهلًا وعدوانًا.
إنّه لا يُتصوّر أن يأتي يومٌ يكون أبناء الأمَّة الإسلاميَّة فيه على رأيٍ واحد، وفهمٍ متّحِدٍ للإسلام بكلّ دقائقه وتفاصيله، وعلى مستوى الاستيعاب للعقيدة وعُمقِها، ولا على درجة واحدة من وضوح الإيمان ونقائه وخلوصه من العوالق، وسلامة التصوّرات الواردة في هذا الباب(17).
ذلك أنَّ الناس أفهام متعددة، وليسوا على مستوى واحد من الفهم، ونفوس تختلف صفاء ونقاء وليست من درجة واحدة. إنهم ليختلفون في قُدرة التفكير، ودقّة النظر، ومدى استقبال النفس، وقدرتها على احتضان الحقائق البعيدة.
ولو جاز للمسلم أن يُكفّر الآخر، ويستبيح دمَه، ويهدر حرمتَه لاختلافه معه في حكم شرعيٍّ كجواز زيارة القبور وعدمه، وبناء أضرحة بعض الصّالحين حتى زيارة ضريح الرَّسول صلَّى الله عليه وآله وبنائه، أو في دقيقةٍ من دقائق العقيدة، وما يُمكن أن يُقال بأنه داخل في التوحيد أو الشرك أو تصوُّر من التصورات الواردة على الأذهان في هذا المجال، وخَطْرَةٍ من الخطرات التي قد تنشب فيها لحَقَّ لمن هم في القِمَّة من أهل الإيمان أن يُكفِّرَ بعضهم بعضًا لما قد يحصل عندهم من اختلاف في شيء من دقائقه البعيدة عن مُتناول الأفهام في مستوياتها العامة(18).
ولانفتح الباب لأن يُسفك كل واحد دم الآخر في إطار الدين الواحد، والمذهب الواحد لاختلاف دقّة الفهم عندهما.
ولو كان هذا الاختلاف مُوجِبًا للتكفير لكفَّر المنزِّه من يقول بالتجسيم، ومن لا يقول بالتعدُّد بين الذّات والصفات من يقول به، ولحقَّ للجبريّة أن تُكفِّر المفوّضة، وكذا العكس في الجميع.
وعندئذٍ يكون على الأمّة أن تخوض معارك دائمة ضارية بين أبنائها حتى يُفرض فهمٌ واحد لا اختلاف في أيّ شيء من دقائق متعلّقاته العقيدية على الجميع، على أنّه فرضٌ لا يتعدى حالة الظاهر، والعقيدة في لبّها أمرٌ باطني، لا كلمة على اللسان.
وإذا كان نبش قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي من المعروف عند فاعليه فإنَّ أكثر أبناء الأمة وعلمائها تراه منكرًا وتستبشعه من منطلق الدّين نفسه، ويأتي السؤال هنا أين إنكارُ هذه الأكثرية، وما مستوى الإنكار الحاصل فعلًا من حجمها؟ ولماذا يتركّز الإنكار على ما يتنافى دينًا عند الأكثر من عموم المسلمين على طائفة معيّنة؟
وهذه بليّة من بلايا الأمَّة اليوم التي تضرّ بالمعروف، وتفتح الباب للمنكر.

أسلوبان وهدف واحد مُعدّل:
كان الهدف عند السُّلطة دائمًا ومنذ البداية في تعاملها مع الحراك الشعبيّ السياسيّ المطلبيّ هو إجهاضه وإفشاله وأن يتمّ الصمت ويطول به الزمن، وتُنسى المطالب.
وكان الأسلوب في تحقيق هذا الهدف يتمثَّل في لُغة السِّجن والأحكام العقابيّة المشدّدة، والعقوبة الجماعيّة الرّادعة، وسُحُب الموت من الغازات السَّامة والخانقة، والفصل من الوظائف، والحرمان من الدراسة، وإسقاط الجنسيّة، والتُّهم المضخّمة، وإسقاط الشخصية، وإثارة رأي عام ضد مستهدَفين بعينهم لأكثر من غرض سيّء، والإعلام المضلِّل، ومفردات أخرى داخلة في أسلوب القمع. وقد طالع هذا الأسبوع شعبَنا بحكم يقضي بالسجن لمدّة خمسة عشر عامًا لكلِّ واحدٍ من واحد وثلاثين من أبنائه، والشعب يعرف عددًا من شهدائه قُتِلوا تحت التعذيب والقاتل لم يمسسه سوء، ويعرف أكثر من واحد من أبريائه الذين نالتهم التصفية الجسدية من غير مشاركة في مسيرة ولا اعتصام ثمّ لا خبر عن القاتل فضلًا عن أن يناله عقاب. والقوانين في حركة تشريعيّة نَشِطة تُكمِل الناقصَ من هذه الوسائل، وتُبرِّر لها، وتجعلها عَدْلًا لا تجوز مناقشتُه، ولا تُمسُّ قُدسيّته. ومن الأسلوب الذي استمرَّ الأخذُ به التضييقُ بعد التضييق، والمصادرةُ بعد المصادرة لحقِّ التعبير، وسدُّ الأبواب أمام حريّة الكلمة السياسية والدينية الهادفة المصلحة الملتزمة.
ولقد وصلنا اليوم إلى أن تخرج المؤسّسة التشريعية المعتمدة عند السّلطة، والمسخّرة لخدمة سياستها باقتراح متقدِّم جدًّا في التزامه الديني، وتطبيقه للديموقراطية بفرض ثمن جديد مضاف إلى الأثمان الباهظة التي مرّ ذكر عدد منها للتعبير عن الرأي، ولأنْ يُؤذَن لك في الكلمة مع توقُع أشد العقوبات لكلمةِ حقٍّ تقولها لا تنال إعجاب السلطة.
اليوم يُضيف هذا الاقتراح عشرين ألف دينار ثمنًا يدفعُه الرَّاغبون في مسيرة سياسية تخضع بالتالي لشبكة معقّدة من القوانين.
هذا عن الأسلوب الدّائم الذي رافق الحراك من أوله لإجهاضه وإسقاطه وإسكاته، وذاك هو هدفُه. ويبقى الهدف هو الهدفَ بتعديلٍ يزيده سوءًا يحمله أسلوبُ الحوار الذي دعت إليه السّلطة كما يبدو منه لحدّ الآن حسبما عليه تركيبة الطّرفين، وسيره العمليّ والمقاومة العنيفة من الجانب الرّسميّ وفي مرحلة المقدّمات والمبادئ لأيّ مقدّمة ومبدأ يُمثّل ضمانة لتحقيق نتائج تخدم مطالبَ الشعب.
وكأنَّ المراد هو حوار يشترك مع أسلوب العنف الذي تعاملت به السُّلطة مع الحراك بهدف إجهاضه وإفشاله لكن مع جديد مُخزٍ هو أن يُوقِّع جانب المعارضة في الحوار على إسقاط مطالب الحراك الرئيسة من ذات الوزن عن الاعتبار والتنازل عنها بصورة موثّقة ومن منطلق ظاهره الاختيار(19).
وهل يُمكن التماس رغبة جديَّة عند الجانب الرَّسمي في الحوار العادل الذي يُمكن أن يُفضي إلى نتائج مرضية للشعب في ما يؤدّي إليه اجتماع المتحاورين في نهاية المطاف من نتائج، في ظل إصراره على أن يكون تمثيل المعارضة ثمانية في حين أن تمثيله في تسعة عشر عضوًا من أعضاء الحوار.
وهل يمكن التماس رغبة جدية في العدول عن سياسة العنف إلى لغة التفاهم الحقيقيّ في ظلّ منع السلطة لزيارة المقرِّر الخاص بالتعذيب في الأمم المتّحدة خوان منديز للاطلاع على ما يجري في هذا البلد هذا بعد الاتفاق على الزيارة وتحديد موعدها؟
أليس في هذا دليل ناطق بسياسة التعذيب الممنهج، والذي تخشى السُّلطة أن تصدر به شهادة رسميّة بهذا المستوى؟
يتمنّى كلُّ الخيرين من داخل البلد وخارجه لهذا الوطن حِوارًا وراءه نيّة صادقة، ويقوم على تخطيط ناجح يعتمد العدل في خطّته، ويخرج بنتائج عادلة قادرة على نيل موافقة الشّعب، ويُنهي أزمة الوطن، ويُفضي إلى اندثار محنته وتلافي خسائره.
هذه هي الأمنية، أمَّا الواقع فمِما لا يخدمها مع الأسف الشديد، ولا يصبُّ في صالح النتيجة المرجوّة. اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارأف بهذا البلد وأهله ممن يريد بها خيرًا، ويدفع عنها شرًّا، وأنقذه من الفتن المغرقة، وشدائد البلاء المخيف، اللهم وآمن كل بلاد المسلمين من كل سوء برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، واشف جرحانا ومرضانا، وفك أسرانا وسجناءنا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (20).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 7، 8/ الشمس.
2 – موسوعة معارف الكتاب والسنّة ج8 ص347 ط1.
3 – المصدر السابق ص348.
4 – 7، 8/ الشمس.
5 – 10/ البلد.
6 – 203/ الأعراف.
7 – 20/ الجاثية.
8 – موسوعة معارف الكتاب والسنة ج8 ص348 ط1.
9 – المصدر نفسه ص349.
10 – المصدر السابق.
11 – المصدر السابق.
يكون أحدنا في ضلالة، في درجة وأخرى من الضلالة، في ظلمة من نوع وظلمة من نوع آخر، ثم يعزم على الجدّ في طاعة الله عز وجل فيأتيه توفيق جديد وهداية جديدة وتنكشف الظلمة وتزول الضلالة.
12 – المصدر السابق ص350.
العمى يزداد، والعمى ينكشف؛ يزداد مع إهمال الحق والتهاون بدين الله، وينكشف مع حالة الالتزام.
إذا كان عليّ عليه السلام في حديثه يريد شمول نفسه بشيء من الضلالة فهي ليست من أفق ولا مستوى ولا تقرب مما نحن عليه من ضلالة. عنده علم فسيح، عنده حكمة، عنده هدايات، ولكن يبقى الطريق إلى الله عزّ وجلّ لا يقطعه بكامله عبدٌ من عباد الله، تبقى أسرار الله، وتبقى هداياته، وتقبى أنواره، العبد محتاج إلى المزيد منها، والطريق أمامه طويل حتى يسترفد ما يسترفد.
13 – المصدر السابق.
هذه هدايات تنصبُّ على العبد وتترادف على العبد من كرم ربه سبحانه وتعالى جزاء عمل صالح.
14 – سورة التوحيد.
15 – عجّل الله فرجه وسهّل مخرجه.
16 – تلك الحريّات التي يقرّها الإسلام.
17 – أين متوغّلٍ في الفهم، ممن يقف على ساحل الفهم الإسلامي بعقلية عاديّة ومتردّية؟ أين فهم إنسان يملك قابليّات ذهنية عالية، ونفس خالصة، ويُعطي عمره لفهم دين الله ودقائق وغوامض العقيدة؟ أين فهم هذا من فهم ذاك؟! وأين إيمان وصدق إيمان هذا من إيمان ذاك؟!
18 – أنت لا تستطيع أن تجزم بمساواة إيمان سلمان بإيمان أبي ذر، ولا بمساواة فهم سلمان في مسألة التوحيد لفهم أبي ذر، وقد قيل بأن سلمان المحمدي هو في الدرجة العاشرة من الإيمان. هناك مؤمنون كثيرون غير سلمان ويختلفون في إيمانهم عمقا وصفاء.
وأين إيمان سلمان، عمقه، دقته، صفاء توحيده من إيمان علي عليه السلام؟!
19 – هتاف جموع المصلين (هيهات من الذلة).
20 – 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى