خطبة الجمعة (538) 6 ربيع الأول 1434 هـ ـ 18 يناير 2013م

مواضيع الخطبة:

 

الخطبة الأولى: تتمة أخيرة لموضوع: الأمانة

الخطبة الثانية: موقف مشكور – وضع شاذ – الشأن العراقي

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا انقطاع لإحسانه، ولا حدَّ لامتنانه، ولا قصور في حكمته، ولا ساحل لعظمته، ولا منتهى لحمده، ولا سماء لمجده. أحمده حمدًا دائمًا متصلًا، لا انقطاع له أبدا؛ حمدًا يُقرِّبني إليه، ويشفع لي عنده، وأستحقّ به رحمته، والعفو بمنّه وإحسانه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله إنّ الله سبحانه لغنيٌّ عن العباد، ولكنّه أعدّ لهم جنّة فيها نعيم الرّوح والبدن، وهم فيها خالدون، لا يعرفون فيها شقاء ولا تعبًا ولا نصبًا، وجعل طريقهم إليها تقواه تصنعهم أسوياء، وتبلغ بهم كمالهم، وتعدّهم لذلك المكان الرفيع، والحياة الكريمة، والمستقبل السعيد.
أما من خالف التقوى فإنسانيته إلى انحدار، وطريقه إلى السقوط، ونهايته إلى الخزي، ومصيره إلى النار وبئس القرار.
فحذارِ عباد الله من معصية الله، وخزي المنقلب، وسوء المصير.
والجدّ الجدّ في طاعة الله، والرغبة فيما وعد به أولياءه، وأعدّ من نعيم الخلد لأحبّائه.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أعذنا ربَّنا مما استعاذ منه عبادك المخلصون، وأجرنا مما استجار منه أولياؤك المقرّبون، وأسعد منقلبنا من هذه الحياة، وأكرمنا في أُولانا وآخرتنا، واجعلنا من أهل الحظوة عندك يا كريم، يا رحمن، يا رحيم.
أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فهذه تتمّة أخيرة للحديث عن موضوع الأمانة:

الأمناء:

الأمناء أصناف، وهم على درجات، وليس كالله سبحانه من أمين قادر على حفظ الأمانة، صائن لها، مانع عنها أي نقص وأي سوء، فهو الغني بالغنى المطلق، العليم الذي لا شيء إلا وأحاط به علمه، القدير الذي لا يخرج شيء عن قدرته، الحافظ الذي لا يغيب شيء عن حفظه، المانع الذي لا مقاوِمَ لمنعه، فكيف تضيع عنده الأمانات؟!
ولا حفظ لشيء إلا بحفظ الله، ولا أداء لأمانة إلا بإذنه {هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَا إِلَهَ إِلَا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ}(1).
مجمع البيان عن ابن عبّاس والضحّاك والجبائي ( – في قوله تعالى {الْمُهَيْمِنُ}):”أيِ الأَمينُ ، حَتّى لا يَضيعَ لِأَحَدٍ عِندَهُ حَقٌّ”(2).
عن النبي صلّى الله عليه وآله في دعاء السفر:”اللّهُمَّ إنّي أستَودِعُكَ نَفسي وأهلي ومالي، وديني ودُنياي وآخِرَتي، وأمانَتي وخَواتيمَ عَمَلي”(3).
وعنه صلّى الله عليه وآله:”اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وَاحفَظني وَاحفَظ عَلَيَّ، وَاحرُسني وَاحرُس عَلَيَّ، وَاكنُفني وَاكفِني، وَاجعَلني وأهلي ووُلدي ومَن يَعنيني أمرُهُ ويَخُصُّني في وَدائِعِكَ المَحفوظَةِ، وصِيانَتِكَ المَكلوءَةِ”(4).
الإمام الصادق عليه السلام ( – في بيان بعض مناسك الحج -):”وأكثِر مِن أن تَستَودِعَ رَبَّكَ دينَكَ ونَفسَكَ وأهلَكَ، ثُمَّ تَقولُ: أستَودِعُ اللّهَ الرَّحمنَ الرَّحيمَ ـ الَّذي لا يُضَيِّعُ وَدائِعَهُ ـ نَفسي وديني وأهلي”(5).
بلى إن خير من استودعه المرء دينه ودنياه وكل من عزّ عليه هو الله الغني العليم العلي الحفيظ القدير، وكل مؤتمن يمكن أن يغلبه غالب على ما اؤتمن عليه إلا الله الذي لا غالب له.
وما من ناقص يمكن أن يجد حظّا من كمال إلا بتعلّقه بالكامل.
وإن اكتساب الأمانة وهي صفة من صفات الكمال يحتاج إلى التعلّق والشوق الصادق لله، وكلما كان العبد أحرص على طلب مرضاة ربّه الحقّ تبارك وتعالى كان أصدق وأكبر أمانة.
لذا كان ملائكة الله ورسله وأنبياؤه وأئمة الهدى الذين اصطفاهم لحراسة دينه في أرضه هم المقدّمة من الأماء الذين لا يسبقهم سابق، ولا يلحقهم لاحق في الخلق.

الملائكة:
{وَ إِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}(6).
وعن الإمام علي عليه السلام ( – في صفة الملائكة – ):”جَعَلَهُمُ اللّهُ فيما هُنالِكَ أهلَ الأَمانَةِ عَلى وَحيِهِ، وحَمَّلَهُم إلَى المُرسَلينَ وَدائِعَ أمرِهِ ونَهيِهِ”(7).

الأنبياء عليهم السلام:
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّى وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}(8).
عن الإمام عليّ عليه السلام ( – في صفة الأرض – ):”فَلَمّا مَهَدَ أرضَهُ، وأنفَذَ أمرَهُ، اختارَ آدَمَ عليه السلام… فَأَهبَطَهُ بَعدَ التَّوبَةِ لِيَعمُرَ أرضَهُ بِنَسلِهِ، ولِيُقيمَ الحُجَّةَ بِهِ عَلى عِبادِهِ.
ولَم يُخلِهِم ـ بَعدَ أن قَبَضَهُ ـ مِمّا يُؤَكِّدُ عَلَيهِم حُجَّةَ رُبوبِيَّتِهِ، ويَصِلُ بَينَهُم وبَينَ مَعرِفَتِهِ، بَل تَعاهَدَهُم بِالحُجَجِ عَلى ألسُنِ الخِيَرَةِ مِن أنبِيائِهِ، ومُتَحَمِّلي وَدائِعِ رِسالاتِهِ، قَرنا فَقَرنا، حَتّى تَمَّت بِنَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله حُجَّتُهُ”(9).
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”أمَ وَاللّهِ، إنّي لَأَمينٌ فِي السَّماءِ، أمينٌ فِي الأَرضِ”(10).
السيرة لابن هشام النبوية:”كانَت قُرَيشٌ تُسَمّي رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه وآله قَبلَ أن يَنزِلَ عَلَيهِ الوَحيُ: الأَمينَ”(11).

الأئمة عليهم السلام:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله:”مَعاشِرَ النّاسِ، اُوصيكُم(12) في عِترَتي وأهلِ بَيتي خَيرا، فَإِنَّهُم مَعَ الحَقِّ وَالحَقُّ مَعَهُم، وهُمُ الأَئِمَّةُ الرّاشِدونَ بَعدي وَالاُمَناءُ المَعصومونَ”(13).
وعن الإمام عليّ عليه السلام:”إنّا أهلُ بَيتٍ خَصَّنَا اللّهُ بِالرَّحمَةِ وَالحِكمَةِ، وَالنُّبُوَّةِ وَالعِصمَةِ… وَائتَمَنَنا عَلى وَحيِهِ، فَنَحنُ الهُداةُ المَهدِيّونَ”(14).
وحفظ كل أمانة من أمانات الإنسان، والوفاء بها أو تضييعها يرجع إلى حفظه أو تضييعه للأمانة الكبرى التي هُيّء لها من فضل ربّه، ومنحه الاستعداد إليها وهي: أن يطلب لنفسه الكمال الذي تُطيقه ذاته على طريق العبودية الصادقة لله سبحانه، والمنهج الذي أنزله لهداية الإنسان، والأخذ به إلى سعادته، ساعيًا بعقله وإرادته وكلّ جهده وجهاده لنيل رضا ربّه، والاستضاءة بنور جلاله وجماله، وصوغ ذاته في ضوء أسمائه الحسنى، وعطاءات دينه القويم.
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَـلُومًا جَهُولًا}(15).

من نأتمن؟
من نأتمن في القضايا الشخصية والأسرية والاجتماعية العامّة؟
من نأتمن في مسألة الأموال والأسرار والسياسة والإدارة وكل الأمور الأخرى؟
حفظ الأمانة يحتاج إلى كفاءة، وحسن عقل وتدبير، وعفّة نفس، وبُعد عن الطمع.
عفّة النفس وتنزّهها عنصر واحد من عناصر امتلاك الكفاءة على الاحتفاظ بالأمانات، ينضمّ إلى ذلك حسن عقل، وقدرة، وحسن تدبير.
وأقوى ما تحرز بها عفّة النفس تقوى الله وقوّة الدين، فمن عُلِم منه أنه على تقوى من ربّه الحق تبارك وتعالى لا يُرتاب في عفّته وأمانته من هذه الجهة.
وحُسن الدين، وخشية الله، والصفات الأخرى التي تُعطي الاطمئنان لأمانة المرء يُطلب العلم به عن طريق العشرة والتجربة وملاحظة القرائن، وانتصار شخص في تجربة أمانة من أنواع الأمانات لا يعني انتصاره في كل أنواع الأمانة ومستوياتها.
كذلك الكفاءة المطلوبة متفاوتة بتفاوت الأمانات نوعا ومستوى وظرفا ودرجة خطورة.
عن الإمام الصادق عليه السلام:”كانَ أبي عليه السلام يَقولُ: قُم بِالحَقِّ… وَاحذَر صديقَكَ مِنَ الأَقوامِ، إلَا الأَمينَ الَّذي خَشِيَ اللّهَ”(16).
وعنه عليه السلام:”لا يَكونُ الأَمينُ أمينا حَتّى يُؤتَمَنَ عَلى ثَلاثَةٍ فَيُؤَدِّيَها: عَلَى الأَموالِ، وَالأَسرارِ، وَالفُروجِ، وإن حَفِظَ اثنَينِ وضَيَّعَ واحِدَةً فَلَيسَ بِأَمينٍ”(17).
وأما الذين يختارون لملئ موقع من مواقع الشأن العام وتولّي المناصب المؤثّرة في مصالح المجتمع والأمّة، وما يتصل بأمر السلطة فما أثقل الشروط في اختيارهم، وما أصعب العثور عليهم، وما أشدّ الحيطة في اختيارهم، وما أكثر التجارب التي ينبغي أن تلاحَظ في حياتهم قبل أن يقع عليهم النظر، ويتعلّق بهم الاختيار.
وما أشدّ محنة المجتمعات والأوطان، وأبأس أوضاعها إذا كان الاختيار لشغل هذه المواقع لا يُراعى فيه إلا الولاء لذوي السلطان بلا نظر إلى دين ولا خلق ولا كفاءة ولا أمانة، وإذا كان من أسباب الاستبعاد أن يكون الشخص على دين وتقوى وأمانة.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا ومن علّمنا علمًا نافعًا من مؤمن ومؤمنة، ومن مسلم ومسلمة، وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات.
اللهم إنا نعوذ بك أن يستزلّنا الشيطان عن دينك، ويصرفنا عن طلب رضاك، وأن نخون أمانة من أماناتك، ونتخلّف عن طاعة من طاعاتك، ونُقدِم على معصية من معاصيك، وأن نتساهل في شيء من أمر دينك الذي لا خير لنا إلا به، ولا نجاة إلا بالأخذ به، ولا أمن بالحق إلا في المصير إليه، أعذنا ربنا من كل هذا، ومن كل سوء برحمتك يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(18). 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يفتقر من أغناه، ولا يغنى من أفقره، ولا يضل من هداه، ولا يهتدي من أضلّه، ولا يذل من أعزّه، ولا يعزّ من أذلّه، لا يكون إلا ما يريد، ولا يُقدَّم إلا ما قدَّم، ولا يؤخَّر إلا ما أخَّر، وهو على كل شيء قدير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلامًا.
عباد الله إنا الدنيا ليست دار بقاء للأخيار ولا الأشرار، فكلٌّ مرغم على الرحيل عنها، والكل مفضية به إلى الآخرة، وما عمر الإنسان فيها بطويل، ولا سعادة فيها ولا شقاء بباق، والشأن كلّ الشأن لحياة بعد هذه الحياة، فهناك الخلود، وهناك السعادة الأبدية، وهناك الشقاء المقيم.
والقيمة الكبرى لحياتنا التي نحياها على الأرض في التمهيد لسعادة تلك الحياة فإن لم يكن التمهيد في هذه لتلك فالحياتين معًا خاسرتان.
ألا من اتّقى الله عز وجل في حياته الدنيا وقي نفسه من شرّ الآخرة وعذاب النار، وفاز بالجنّة والرضوان، ومن اختار طريق معصية الله فقد ظلم نفسه، واختار لها أشدّ العذاب وسوء المصير.
فليرحم عبد نفسه، ولا يبخسها ثمنها، ويعرّضها لأشد عذاب، وأسوأ مصير.
اللهم إنا نعوذ بك من أن يعدل بنا شيء عن هدى دينك، أو يميل بنا شيء عن صراطك، وأن نصرف عن طاعتك وعبادتك، وطلب مرضاتك.
اللهم اجعل حياتنا بذلة في سبيلك، ودلّنا على مواقع رضاك، وألزمناها، وعلى مواطن غضبك وجنّبناها يا رؤوف يا رحيم يا علي يا قدير.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله نبيّك المصطفى، ربنا اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين إن أنت التواب الرحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على الصادق الأمين محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا مقيمًا.
أما بعد أيها الأحبّة في الله فهذه بعض كلمات:

موقف مشكور:

عمدت السياسة في البحرين على تأجيج الروح الطائفية، وإحداث الانقسام الطائفي، والاصطدام الطائفي، خاصة منذ انطلق الحراك المطلبي الإصلاحي الأخير لنقل الخلاف من صبغته السياسية إلى صبغة طائفية، ومن كونه خلافًا بين الشعب والحكومة في ذات المسألة إلى كونه خلافًا شعبيًّا بين طائفتين، واستجداءًا لنصرة السلطة من طرف على حساب طرف.
وَوُجِدت أصوات منتفعة تُسند هذا التوجّه عند السلطة، وتنطلق بما يلهب المشاعر، ويثير مخاوف طرف من طرف، ويعتمد في ذلك التصورات والأوهام الخيالية، وما لا يحتمله الواقع بحال من الأحوال، ويخلق الأضغان، ويثير الحفائظ، ويتوسّل باللغة المستفزّة من سبّ وشتم وتهديد، ويشعل نار الفتنة الطائفية، ويوقدها ما استطاع.
ويخدم هذا التوجّه الانقسام الطائفي في أكثر من بلد إسلامي وعربي، ويساعد على إنجاحه بما يهدد هذا الوطن المسكين بالدمار.
وكانت المعارضة هنا ذكية، ولا زالت كذلك، وكان موقفها مشكورًا ومشرّفًا وحائزًا على التوفيق ولا زال كذلك.
حيث وقفت موقفًا عنيدًا ضدّ هذا التوجّه، ومبدئيا من ناحية الحفاظ على هدف الوحدة الإسلامية والوطنية ولم تستجب لأي من استفزازات السلطة، ولا مَن جاراها في ما كانوا يستهدفونه من إشعال نار الفتنة، وتحويل مسار الأحداث من المسار السياسي إلى المسار الطائفي، وتفجير الوضع على هذا المسار.
وعرّت المعارضة كلّ ما يخدم هذا الهدف الهدّام، وحاولت أن تصبّ ماءًا باردًا على كل بادرة وشرارة تكاد تنطلق لحرق هذا الوطن الحبيب.
ومن جهة أخرى كان الشارع الذي استهدفت كل تلك المحاولات من السلطة وأتباعها استفزازه ضد المعارضة، ونيل تعاطفها مع سياستها، ودخوله في معركة مع مسيرات واعتصامات الحراك، ومواقع تواجده كان ذلك الشارع أذكى من كل جهد بُذل في هذا السبيل، وأورع مع الدخول مع إخوة الدين والوطن في معركة يخسر فيها الطرفان لمصلحة طرف ثالث يستهدف الإضرار بهما معًا وهو يدرك أن دين الله لا يقبل هذا الانقسام، ولا يقبل هذا الاحتراب.
إن موقف الشارع الذي أُريد استثارته ليواجه إخوته في الدين والوطن هذا الموقف موقف مبارك موفّق مشكور يستحقّ التقدير من كل مراقب منصف.
وانسجامًا مع موقف المعارضة الرافض للدخول في نفق الطائفية البغيض المظلوم حافظت على النأي بهذا الوطن عن التدخل في الصراع الطائفي الذي تثيره الجاهلية وألاعيب السياسة في هذا البلد المسلم والعربي أو ذاك لتعيش على صراعات الأمّة وآلامها ودمائها، وتقدّم خدماتها المخلصة لأعداء الأمّة، والمتربّصين بها الدوائر.
فلم تأتِ من المعارضة هنا كلمة واحدة يمكن أن تصب في صالح هدف الفرقة بين المسلمين، أو تزج بهذا الوطن في نار فتنة عامّة، بل دأبت المعارضة هنا على شجب الانقسام الطائفي في أي بلد من بلاد المسلمين، والمطالبة بسد باب الفتنة.
نسأل الله سبحانه أن يُجنّب كل بقعة من بقاع المسلمين شر الانقسامات الجاهلية، وحالة الفرقة والتمزّق والتشرذم، وأن يصون وحدة الإسلام والمسلمين، ويقطع كل يد سياسية خائنة تكيد بمصلحتهم، وتزرع في صفوف الأمة بذور الفتنة الطائفية، وتشعل نارها خدمة لمصالحها الدنيوية، ومصالح أعداء الأمّة.
وعلى هذا الشعب الكريم بكلّ مكوِّناته المحبّة لخير هذا الوطن وسلامه، المحترمة للوحدة الإسلامية والوطنية، المقدّرة لإنسانية الإنسان أن يأخذ العبرة من أي بلد ابتُلي بالفتنة الطائفية لكيد الجهلة والأعداء والسياسة القذرة، فعمّه الخوف والوهن والشقاء، ونالت نار الفتنة من كل أطرافه ومكوّناته، وأن لا يستجيب لأصوات الغربان الانتهازية المضحية بمصالح الآخرين وحياتهم، وبكل المقدسات والحرمات من أجل بذخها الدنيوي، وترفها المادي، وما تتطلع إليه من المناصب، وما ترنو إليه من المكاسب التي لا تعني إلا لذة وقتية عابرة.
دعوة هذه الأصوات إنما هي للفرقة، للشتات، للاحتراب بين أهل الدين الواحد، والوطن الواحد، والمصلحة المشتركة، والمصير الواحد.
أيها الشعب الكريم بكل فئاته وشرائحه ومكوّناته: قابل هذه الأصوات البائسة المشؤومة بوعي وقّاد، ورفض قوي، وصوت وحدوي، وموقف واحد يُجمع على الأمر بالمعروف، ويدعو إلى الإصلاح، وينكر المنكر، ويرفض سياسة الفساد والإفساد(19).

وضع شاذ:

واسع هو الحراك الإصلاحي، والتغيير الثوري الذي شاهدته الساحة العربية في السنتين الأخيرتين، ولا زال قائما. وكل الأنظمة العربية التي حصل هذا الحراك في أرضها استجابت لمطالبه وأمانيه بدرجة وأخرى، بعضها لأول بادرة له تخفيفًا للخسائر، وتوقّيًا من المجهول، وبعضها من بعد حين، وبعضها عاند كثيرًا ثم أعطى لينًا ولكن بعد فوات الأوان، حتى انتهى به الأمر إلى السقوط، وبعضها لا زال يعيش معركة مصيرية ضارية.
وحتى الأنظمة الجديدة التي أفرزها ما اصطُلح عليه بالربيع العربي واجهت معارضة ويظهر منها كلّها أو بعضها أنّها لا تريد أن تُكرّر تجربة الأنظمة التي جاءت هي بديلا لها لفعل ثورات الشعوب في الأخذ بطريق القوة الباطشة التي تفجّر الأوضاع أمامها بما تحذر منه كل الحذر.
وبذلك صارت هذه الأنظمة الجديدة تميل إلى التفاهم والحوار، وتقدم من التنازلات ما ترى أنه يمكن لها أن تقدّمه.
أما البحرين ففريدة من بين كل بلدان الحراك العربي، والسلطة هنا موقفها شاذ كل الشذوذ، خارج عن كل السياق الذي سلكته الأنظمة المتعقّلة التي شهدت هذا الحراك بمستوياته وسقوفه المختلفة.
هنا مطلب إصلاحي ولا شيء يُذكر من الإصلاح، هنا مطالبة سلمية تُواجه ببطش القوة، هنا شجب للعنف يقابله عنف عملي ودعوة للعنف.
سنتان من عمر الحراك ثانيتهما مشارفة على الانتهاء ولا جنوح من السلطة إلى سماع نُصحٍ، ولا خطوة منها في اتجاه الإصلاح.

الشأن العراقي:

وبالنسبة للواقع القائم في العراق فإن المرجعية الدينية الرشيدة بوعيها الديني، وبصيرتها العملية، ورشدها وحكمتها، وحسها الإيماني العميق، وشعورها بمسؤوليتها الشرعية الثقيلة، وتقديرها لمصلحة الوطن طرحت الرأي الإصلاحي الناضج الذي يقوم على رؤية إسلامية ووطنية، وكل ما يستهدف هذا الطرح هو نزع فتيل الفتنة التي تُهدّد العراق، ومن أجل أن يتوحّد العراق بكل مكوّناته في الاتجاه الصحيح، وعلى الطريق الذي يُعطي لكل العراقيين الأمن والاستقرار والتمتع بالحرية، والتمتع بكامل الحقوق، وهذا هو دائمًا موقف المرجعية الرشيدة، وموقف العلماء الأحرار.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تؤاخذنا بما كسبت أيدينا، واعف عنا، وعاملنا بكرمك، وانصرنا بنصرك، وأعزّنا بعزّك، وادمر عنا همزات الشيطان الرجيم.
اللهم ارحم الحاج حبيب ابن إبراهيم آخر صريع من صرعى الغاز المسيل للدموع ظلمًا، واجعل روحه في السعداء الأخيار، والشهداء الأبرار، وارزق كل ذويه وجماهير الشعب الصبر والسلوان، وحقق أمل الجميع في النصر والعزة والكرامة واسترداد الحقوق.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا في عزٍّ وكرامة وأمن وسلام.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (20).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 23/ الحشر.
2 – تفسير مجمع البيان ج9 ص441 ط1.
3 – الكافي ج3 ص480 ط3.
4 – جمال الأسبوع للسيد ابن طاووس ص200 ط1.
5 – الكافي ج4 ص432 ط3.
6 – 192، 193/ الشعراء.
7 – موسوعة معارف الكتاب والسنة ج5 ص72 ط1. 8 – 68/ الأعراف.
9 – نهج البلاغة ج1 ص177 ط1.
10 – موسوعة معارف الكتاب والسنة ج5 ص74 ط1.
11 – السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص127.
12 – في المصدر:”أوصيكم الله”، والتصويب من بحار الأنوار.
13 – بحار الأنوار ج36 ص321 ط3 المصححة.
14 – بحار الأنوار ج26 ص260 ط2 المصححة.
15 – 72/ الأحزاب.
16 – الاختصاص للشيخ المفيد ص230 ط2.
لا تكفي الصداقة.
17 – تحف العقول ص316 ط2.
إحراز أن فلانًا أمين، وأمين على نحو الإطلاق يحتاج إلى تجارب عديدة، في موارد عديدة، ولأنواع مختلفة حتى تتبين ملكة الأمانة عنده وسعتها.
فقد يكون إنسان يمتلك النزاهة والعفّة في مورد المال، ولكنّه لا يمتلكها في مورد آخر.
وقد يمتلك الكفاءة والقدرة على حماية أمانة من الأمانات لا يمتلكها بالنسبة لأمانة من مستوى أكبر.
18 – سورة التوحيد.
– هتاف جموع المصلين (إخوان سنّة وشيعة، هذا الوطن ما نبيعه). – 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى