خطبة الجمعة (507) 18 رجب 1433هـ ـ 8 يونيو 2012م

مواضيع الخطبة:

الخطبة الأولى: الإسلام دين الحياة

الخطبة الثانية: أريدكم لله وتريدونني لأنفسكم – قانون الطوارئ المصري – لا كلمة إلا للسلطة 

الخطبة الأولى

الحمد لله الوجود الحقِّ الذي لا ينقصُه شيءٌ من الكمال ليطلُبَ الاستكمال، ولا وجودَ من غير فيض وجوده ليزداد به أو يعارض ذلك الوجودُ وجودَه، ولا مُلْكَ لاحد يضادّ ملكه، ولا سلطان يهدِّد سلطانه، ولا إرادة تقاوم إرادته، ولا حكم ينقض حكمه. كلُّ شيء طوع أمره، وداخل في مشيئته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله التَّقوى التَّقوى، والطاعة الصّادقة للمولى، فذلك هو السبيل القويم لنجاة كل طالب للنجاة، وفوز كلِّ راغب في الفوز، ومتطلّع للسعادة والنجاح، وأنْ يحيى حياة طيّبة في الدّارين. يقول سبحانه:{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}(1).
إنما تصدر أوامر الله عزَّ وجلّ ونواهيه لعباده عن علم لا يُحدّ، وحكمة لا تتناهى، ولطفٍ فوق كلّ لطف، ورحمة واسعة، وتقدير لا خلل فيه، وأنّى لآمرٍ أو ناهٍ يكون له ما لله تبارك وتعالى من ذلك؟! وهل لعبدٍ من خير أو علم أو هدى أو صواب إلا من عند ربّه الغنيّ العليّ العظيم؟!
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولّنا فيمن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شرّ ما قضيت، وهب لنا الثبات على دينك، واليقين بوعدك ووعيدك، وأسعدنا بطاعتك، ولا تُشقِنا بمعصيتك يا رحمان، يا رحيم، يا كريم.
أمّا بعد أيها الأخوة المؤمنون والمؤمنات فإلى هذا العنوان:

الإسلام دين الحياة:

حياة الإنسان ليست واحدةً من حيث المستوى، وإنما هي على درجات ومستويات. حياة الإنسان تهبط أيّما هبوط، وترتفع أيّما ارتفاع، ترقى الرّقيّ الهائل حتّى تسجد له الملائكة بأمر الله، وتنحدر الانحدار الذّريع حتى يزيد ضلالاً على الأنعام.
نقرأ:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}(2).
ونقرأ:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}(3).
وللإنسان حياةُ دنيا وحياة آخرة، ولا مكان للأولى من الثانية {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(4).
ويظهر سقوط الرّأي، وخفّة العقل، والغرق في الضلال القاتم البعيد بتقديم الحياة الدّنيا على الآخرة {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ}(5).
ولأن الحياة الدّنيا لا تعدل شيئاً من الآخرة عند من اهتدى، ورأى الأمور بعين البصيرة تراه لا يتردّد في تقديم الآخرة على الدّنيا، ولا يكترث للبقاء فيها أمام موعود ربّه الكريم {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}(6).
والإسلام يحترم الحياة، ويحافظ عليها، ولا يهدر حياة أحد إلا بتعدِّيه على حقّ الحياة، وإفساده للحياة {…مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ، إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(7).
الإسلام دين الحياة لا حفاظ عليها أشدَّ حفاظٍ إلاّ في ظلّه، ولا نماء لها كالنماء في ضوء منهجه، ولا ترقى ولا تتسامى تساميَها تحت رعايته، ولا تبلغ غاية سعادتها إلاّ بالاستجابة إليه.
كلّ ما في الإسلام دعوة للقوَّة، للنهضة، للنماء الصالح، للحياة. الإسلام لا يترك عقلاً في الإنسان، ولا قلباً، ولا بُعد روح، ولا نفس، ولا جسد إلا ويعمل على إحيائه خير حياة، وأكمل حياة، وأنقى، وأطهر وأرقى حياة، ولا يسابق منهجَ الله تبارك وتعالى في شيء من ذلك منهجٌ آخر، ولا يقاربُه.
والحياة التي يرعاها منهج الله، ويبلغ بها أقصى درجات النُّضج والكمال تشمل حياة الدنيا والآخرة. ولا يترك قوّة من قوى النفس القابلة للنهوض والتقدُّم، ولا استعداداً من استعداداتها إلا وأخذ به إلى أقصى مداه، وخرج به من القوّة إلى الفعل، ومن القابليّة إلى التحقّق.
وتتحمَّل إرادة الإنسان بعد ذلك مسؤوليتها في الاستجابة لنداءات المنهج الإلهي وتكاليفه لما يُحيي الإنسان أصدق حياة، وأشمل حياة، وأدوم حياة، وأكمل حياة، أو التخلُّف عن ذلك ليخسر حياة الأبعاد الثرّة الكبيرة العليا في وجوده من عقل وقلب وروح طاهرة، ويتجمّد عند مستوى حياة بدنية قلقة مضطربة محفوفة بالأزمات.
وفي الدين الحياة، وفي الكفر ومخالفة الله سبحانه الموت. تقول الكلمة عن الإمام عليٍّ عليه السلام:”لا حياة إلاّ بالدّين، ولا موت إلا بجحود اليقين( )، فاشربوا من العذب الفرات ينبهكم من نومة السبات، وإياكم والسمائم المهلكات”(9).
الدّين الماء العذب الفرات الصافي المنبت للحياة، المعطي لها النماء والزكاة(10)، كل شربة منه محيية، كل جرعة منه منعشة. أمَّا ما قابل الدين من كفر، وفجور، وفسوق ومعصية فرياح حارّة محرقة لحياة العقول والقلوب والأرواح، وعاصفة بكل جنبات الحياة.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم خلِّص قلوبنا مما غشاها من العمى، وألمّ بها من الرّين، وغلّفها من الظلمة، وأوحشها من سوء الذنب، وأفقدها رؤية الحق، ولذّة الطاعة، والشوق إلى المعرفة، وافتح أبوابها على هداك، وتولّها برعايتك وعنايتك يا لطيف يا رحمان، يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}(11).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يجري عليه وصفٌ فيه شائبة من نقص، ولا حدٌّ من حدود الممكنات، ولا مثيل له ولا شبيه، ولا يدرك كنهه عقل، ولا يحيط بحقيقته قلب، ولا يرقى إليه ظنٌّ، ولا يقرب منه خاطر، ولا يراه ناظر، ولا ينكره إلا مكابر، ولا يجحده إلا كافر، بطونه أبعد من كل باطن، وظهوره أظهر من كل ظاهر.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
ألا إنّه لا استغناء لأحد عن الله، ولا غائبة من أحد عنه، ولا طاقة له على عذابه، ولا منقذ له مما أراد به من عقابه فلنتّق الله، ونطلبْ مغفرته على ما فَرَط منا، ونرجع إليه بالتوبة الخالصة النصوح، ونُصدقْ طاعته فيما بقي من العمر، ونفرَّ من معصية شرعه فيما نستقبل من أيام.
علينا عباد الله أن نخشى الله وألاّ تعدل بنا عن خشيته خشية، وأن نخلص طاعته ولا تميل بنا عن طاعته طاعة، ولا نعطيَ لأحد طاعة إلاَّ من طاعته، ولا نتوقّف عن معصية آمرٍ بمعصيته.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين.
اللهم إنّا نعوذ بك من أن ينال شيء من حبّنا على خلاف حبّك، ومن تعظيمنا على خلاف تعظيمك، ومن طاعتنا بما فيه معصيتك، ومن رضانا بما فيه غضبك.
اللهم إنا نعوذ بك من أن تغيب عن معرفة قلوبنا أُلوهيتك وربوبيتك، وذلك بسوء ما اجترحنا من ذنب قبيح فندخلَ في ضلال بعيد، ونكون أخسر الخاسرين. اللهم اهدنا ولا تُضلّنا يا أرحم الراحمين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الطاهرة الصديقة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزّكي، والحسين بن علي الشّهيد، وعليّ بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصّادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعليّ بن موسى الرّضا، ومحمد بن علي الجواد، وعليّ بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً قريباً دائماً قائماً.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات في الله فإلى بعض عناوين:

(أريدكم لله وتريدونني لأنفسكم)(12):

تقول الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السلام في أمر البيعة له “لم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحداً؛ إني أريدكم لله، وأنتم تريدونني لأنفسكم”(13).
1. رجلٌ لم يرضَ لنفسه، لكلِّ أفكاره، لكلِّ خواطره، لكلّ مشاعره، لكل نيّاته، لكل حركاته، وسكناته، لكل حياته إلا السموُّ، والرّفعة، والتحليق في البعيد البعيد من الآفاق التي يمكن أن تصل إليها الإمكانات الضخمة، والجهود المضنية، ولم يجد سبيلاً لما يُرضيه إلاّ السبيل إلى الله، وأن يكون وحده سبحانه قصدَه.
ولتخلّقه بأخلاق ربّه العظيم بمقدار ما تسعُه إنسانيته المتميّزة، وحبّه الخيرَ لكل إنسان لا يرضى للآخرين إلاَّ ما رضيه لنفسه، ولا يختار لهم إلاّ أن يستقطبهم ما استقطبه من هدف القرب إلى الله ورضاه.
وحياة عليّ عليه السلام، وسيرته الطاهرة كلُّها شاهدة بذلك.
2. والصعوبة في حياة الإمام السّياسية أن أمره في ذلك وأمرَ من وَلِيَهم ليس واحداً. كان يريدهم لله، وأكثرهم يريدونه لأنفسهم؛ لهواهم، لقصورهم، لتقصيرهم، لماديّتهم الهابطة، لمصالحهم الضيّقة، لعصبياتهم المتشنّجة، لمطامعهم السلطوية الجاهلية، لمبتغياتهم وحساباتهم، ونظراتهم الدنيوية، والفئوية، والقبليّة المحدودة(14).
ولابد أن تتصادم الإرادتان:
الإرادة التابعة لإرادة الله المنزَّهةِ عن الجهل، والظلم، والضلال، والخطأ، وكل نقص.
والإرادة المنشدَّة للأرض بهواها، وجهلها، وسفهها، ووضاعتها، ومحدودياتها، وتأثيراتها المضرّة بالعقل والحكمة والدين، ومقتضيات المصلحة الحقيقية في مداها الخاصّ والعام معاً.
ما أعظم الفرق بين علي عليه السلام ومن عناهم بكلمته!!
فرقٌ لا يمكن أن نقترب من صورته بتصوّر بُعْدِ ما بين السماء والأرض(15). يريدهم لله، وفي ذلك أقصى درجات الرفعة والسعادة الدنيوية والأخروية التي يمكن أن يصل إليها إنسان، ولا يُخطئ الطريق إلى تلك الغاية. ويريدونه لأنفسهم حين تخفى عليهم مصلحة أنفسهم، ولا يهتدون الطريق إليها.
كان على عليّ عليه السلام أن يتنازل عن عقله القويم، قلبه السليم، فطرته النقيّة، عن معرفته بربّه، خشيته منه، توحيده، حبّه، عشقه له حتّى يلتقي برغبة محكوميه بدل أن يستنيروا بمعرفة علي عليه السلام بهداه، ويحاولوا الصبر جاهدين على طريقه فيرتفع بهم إلى ما شاء الله، ويبنيهم أمّة قويَّة صلبة مهتدية هادية؛ تعيش القسط في حياتها، وتقيم القسطَ في الأرض كل الأرض وعالم الإنسان.
وإذا كان علي عليه السلام قد استطاع أن يدفع بوجود الأمَّة ما كان منه قابلاً لمستويات متقدِّمة، ولم يستطع أن يأخذ بكلِّ الأمة لانشدادها للأرض إلى الأفق الذي يريد، ويسلك بقلوبها وجوارحها مسلكه، فإنَّ الأمة كان يستحيل عليها من صلابة إيمان، ووعي، وإرادة، وعزيمة، وهدى علي عليه السلام أن تميل به عن خطّه، وتفرض عليه أي تراجع عن مقتضى عصمته وتوحيده الصادق، وعبوديته الخالصة لربّه العظيم، وعن أخذه بالحقّ والعدل والتزامه بالاستقامة على الصراط مهما كان من إغراء، وضغط، وأهوال وتحديات.
3. كان علي عليه السلام يريد الأمة لله لا لنفسه، ولا يتركهم لأنْ يريدوه لأنفسهم، أو تكون أنفسهم قبلتَهم في الحياة منفصلين عن الله عزّ وجلّ فينفصلوا عن خط الحياة، والقوّة، والعزّ، والمجد، والكرامة، والتقدّم، والازدهار، وحياة الأمن والاستقرار والهدى والنور في الدّنيا، وسعادة الأبد في الآخرة(16).
وكم جاء من بعد علي عليه السلام من خلفاء وملوك وأمراء إنّما يريدون للأمة أن تكون لا لله، ولا لنفسها، ولكن تكون لهم؛ لهواهم، مشتاههم، خدمتهم، سلطتهم، مصالح دنياهم. أن تكفر بطاعة الله، وتقبل طاعتهم، أن تنسى عبوديتها لله، وتعترف بالعبودية لهم، أن تقبل بقطيعتها لله إرضاء لهم.
وعلى الأمة أن تتنزَّل عن أي مستوى سماوي لها، وعن وعيها وإنسانيتها، وعزّتها، وإحساسها بذاتها، وملاحظة مصالحها، لتكون كما يريد لها الحاكم(17)، وتتوافق إرادتها مع إرادته.
في هذا الحال يحكم الجهلُ العلمَ، والضلالُ الهدى، والفجورُ الدينَ، والهوى شرعَ الله، ويتحوّل كلّ ما في الأمّة من عوالي إلى أسافل بالأرض لصيقة بالأرض، وضيعة وضاعة التراب.

قانون الطوارئ المصري:

حَكَمَ هذا القانون مصر ثلاثين عاماً متيحاً لكل أنواع الجرائم التي ترى السلطة فيها خدمتها، وثراءها المادي، وتأمين وجودها، والإفساد الذي تستعين به على إرعاب المجتمع، والإيقاع بمن تريد الإيقاع به من أبنائه أن تتحرك بكل حريَّة لتؤدي أغراضها الخبيثة، ولكل أنواع الاغتيال والقتل المستهدِفة لها أن تُنفَّذ بيسر.
وبهذا القانون امتلأت السجون المصرية من السّجناء السياسيين المعارضين للسلطة، وأُزهقت أرواح، ونُفِّذت أحكام بالإعدام الظالم ليأمن السلطان هناك وينام قرير العين مطمئناً على ملكه وإن اشتكى من ملكه الملايين، وبه عُذِّب من عذّب، ونكّل بالأبرياء تنكيلاً.
وربّى هذا القانون أفواجاً من المجرمين في خدمة السلطة صار الإجرام جلدهم الذي لا ينسلخون منه، وتُنفِّذ هذه الأفواج الجرائم المخطّط لها من السلطة لتدخل السجون على يدها بزعم العدل وضبط الأمر والسيطرة على الأوضاع مما أنتج الخوف اليوم عند البعض حتّى من الحياديين بأن تتفشّى الجريمة وينتشر الرعب في مصر بسبب هذه الأفواج بعد أن أُلغي قانون الطوارئ.
هذا ما تعطيه قوانين الطوارئ، وقوانين ما يُسمّى بالسلامة الوطنية، وهذا ما تعطيه السياسات الظالمة، وما يعطيه عداء الحكومات للشعوب.
إنه الإفساد بكل ما للإفساد من معنى قاس، وبكل ما له من شمول وانتشار وقذارة.
وهل أنقذ قانون الطوارئ والسجن والسيف والرصاص والتعذيب والتنكيل بكل حرّ مطالب بالحقّ، وإرعابُ الشعب، وإفساد علاقاته، وإشغاله بالمشكلات الحكمَ البائد في مصر من السقوط، وغضبة الشعب العارمة التي أتت عليه، وجعلت أكابر رموزه في قفص الاتهام يتهددهم القصاص؟!
الساحة العربية من يوم صدام إلى اليوم في السنتين الأخيرتين بالخصوص غنيّة بالدروس القاسية للأنظمة المتسلّطة التي تعتمد لغة البطش والإرهاب وتعامل شعوبها معاملة السادة القساة للعبيد.
لتعلم الحكومات كلها أن الله هو القهّار، وأنه من فوقها رقيب، وأن الشعوب باتت لا صبر لها على ضيم الحاكمين، وأنّ العدل والعزّة والكرامة مطالب لابد منها عندها. (18)

لا كلمة إلا للسلطة:

في بلد يندثر فيه العدل، تغيب فيه الديموقراطية لا سلطة إلا السلطة التنفيذية، ولا كلمة إلاّ لها، ولا رأي إلا رأيها، ولا إرادة تزاحم إرادتها، والدين ما تفتي به، والحقّ ما تراه، وهي المعقّبة على حكم غيرها، ولا معقّب على حكمها.
وعلى كل المساجد التي لا توافق هواها أن تسكت، وعلى كل الجمعيات الحرّة أن تخرس، وعلى كل الأصوات الجاهرة بالحقّ أن تتوارى، وإلاّ فالإلغاء والغلق والمحاكمة والعقوبة المشدّدة.
وفي مثل هذا البلد، وهذا الجوّ، وهذه البيئة تهدم مساجد، وتُهدد مساجد أخرى بالغلق، وتجرجر جمعيات سياسيَّة للمحاكمة وسحب الترخيص.
ومحاكمة جمعية العمل الإسلامي بداية طريق لمحاكمة جمعيات أخرى مماثلة أخذت على نفسها الدفاع الصُّلب عن حقوق الشعب. والمطلوب أن لا توجد كلمة (لا) واحدة لسياسة إذلال الشعب وسلب الحقوق، وأن يقول الجميع (نعم) للعبودية(19).
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم ارحمنا وقنا عذابك. اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وتزرقنا بها كرامة الدنيا والآخرة.
اللهم ارحم شهداءنا، وموتانا، وفك أسراءنا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، وردَّ كل غريب من المؤمنين والمؤمنات، والسملمين والمسلمات إلى وطنه في خير وسلامة، والحمد لله رب العالمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (20).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 18/ الرعد.
2 – 179/ الأعراف.
هذا مستوى من حياة الإنسان.
3 – 29/ الحجر، 72/ ص.
4 – 64/ العنكبوت.
5 – 3/ إبراهيم.
6 – 72/ طه.
يقولونها بلا اكتراث.
7 – 32، 33/ المائدة.
8 – لا تنظر إلى حياة البدن فحسب؛ انظر إلى حياتك الحقيقية؛ قلبك، عقلك، روحك.
9 – الإرشاد للشيخ المفيد ج1 ص296 ط2.
10 – ولا ماء غيره يسقي حياة الروح، حياة العقل، حياة القلب، ويصلح حياة البدن.
11 – سورة الكوثر.
12 – شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج9 ص32.
13 – نهج البلاغة ج2 ص19 ط1.
يوجد اختلاف بسيط بين عنوان الخطبة الذي اعتُمد فيه على كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد خالياً من ذكر الكلمتين التاليتين:(إني) وكذلك (وأنتم)، بخلاف ما هو موجود في المصدر الثاني وهو نهج البلاغة الذي جاء ذكرهما، وهو الحديث الذي ذكره سماحة الشيخ داخل الخطبة. للتوضيح فقط.
14 – كانوا يريدونه للأرض، وكان يريدهم للسماء.
15 – إذا قلتَ أن بينهما بُعد ما بين السماوات والأرض فأنت لم تنل من مواقع بُعد ذلك إلا الشيء المحدود اليسير اليسير. إرادة تنشد إلى إرادة الله، وإرادة تنشد إلى إرادة الشيطان والأرض لايقاس مابينهما.
16 – لقد كان إشفاق عليّ عليه السلام على محكوميه كبيرا غزيرا.
17 – من أولئك الحكّام.
18 – فهل تقولون؟!
هتاف جموع المصلين (لن نركع إلا لله).
ستبقى كلمة (لا) على لسان هذا الشعب لكل ما هو باطل، ولن تأتي كلمة (نعم) للعبودية.
هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
20 – 90/ النحل. 

 

زر الذهاب إلى الأعلى