خطبة الجمعة (490) 17 ربيع الأول 1433هـ ـ 10 فبراير 2012م

مواضيع الخطبة:

 

الخطبة الأولى: متابعة للحديث حول: نعمة العقل

الخطبة الثانية: يوم الهدى والنور – ستبقى المطالبة – لابد أن يستجيب القدر

الخطبة الأولى

الحمد لله الظاهر لخلقه بصنعه لهم، وتدبيره لوجودهم وحياتهم، وهو الغنيُّ عن ظهوره لهم، وعن تقرُّبِهم إليه، ولولا إظهاره لهم لما كان لهم ظهور، ولولا تقرّبهم إليه لما كان لهم حظّ من كمال. وأنّى لشيء أن يَظهرَ من عدمه بلا مُظهر؟! وأنّى لفاقد الكمال أن يجد كمالاً إلاّ من مكمِّل؟! وكل من عدا الله سبحانه، وما عداه غارق في العدم في ذاته، لا سبيل له إلى نور الوجود إلاّ بإرادة المفيض الأوّل الغنيّ بذاته، والذي لا يجوز عليه عدم سابق ولا لاحق، ولا نقصً.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله، ومجاهدة النفس على الاستقامة على دينه الحقّ، ومعالجة نواقصها؛ فما ترك أحدنا لنفسه أمرها إلاّ رَكِبَتْه، وأظهرت منه جهلاً كثيراً، وسرفاً من سوء القول والفعل، وما أهمل ترويضها إلاّ واستعصت عليه، وقادته للمهالك.
علينا بمجاهدة النفس فإنّ جهادها أولُّ الجهاد، والنجاح فيه سرّ النجاح في كل ما تحتاجه ساحة الحياة من جهاد، وفي غيابه لا جدوى حقيقيّةً في أيّ جهاد.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا ممن جاهد نفسه فَغَلَبَها، وقادها ولم تَقُدْه، واختار لها في ضوء عقله وهدى دينه، وتوفيقٍ من عندك ولم تختر له بهواها، ولم يترك لها أن تكون مع الشيطان عليه، ومنفذاً لكل مضلّ لإضلاله، ولكل غويّ لأغوائه، واجعلها مذعنة للحقِّ، مستجيبة للهدى، راضية بالصلاح.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فقد كان الحديث في نعمة العقل، وهذه متابعة له، والكلام هنا في بعض حكم تتعلق بهذه الموهبة العظيمة عند الإنسان من ربّه الكريم:

من هو العاقل؟

عن الإمام علي عليه السلام:”اَلعاقِلُ مَنْ لايُضيعُ لَهُ نَفَساً فيما لايَنْفَعُهُ”(1).
لصرف الوقت ثلاثة أوجه: في الفراغ، أو في ما يضرّ، أو في ما ينفع؛ ودليل العقل هو الأخير من بين الثلاثة، ولا يكفي تجنّب ما يضرّ، وإن زاد قُبْح ما يضرّ على ما لا ينفع.
ولا يتمّ عقل العاقل حتى ينفق كلَّ نفس من أنفاسه في ما فيه نفعه. وما النفع الحقّ إلاّ في ما كان للآخرة، أو ما يُعين على طلبها، وكلُّ ما عدا ذلك ضياع.
وخروجُ نَفَسٍ واحد في غير ما ينفع يعني جَرْحَاً في عقلية العاقل(2)، فأيننا من هذه الدقّة، وهذا الالتفات؟!
عن الإمام الكاظم عليه السلام:”إنَّ العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب، وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض”(3).
هناك حاجات دنيوية لا بد منها، وهناك توسع فيه راحة نفس بلا مشغلة، ولا تبذّخ، وفيه عون على طاعة الله، وهناك توسُّع خارج عن هذا الحدِّ وإن لم يبلغ حدّ السّرف، ولم يدخل في الحرمة.
وهذا الأخير لا يمكن أن يأخذ به ذوو العقول الراجحة، وذوو الألباب، وإنما يقتصرون على ما كان في نفعهم من أمر يحتاجونه، أو أمر يُعينهم على الكمال، ويقرّبهم إلى الله سبحانه وتعالى.
ومن ترك فضول الدنيا، والزيادة فيها استعلاءً، وطلباً لما هو أعلى فهو أنزه وأسمى من أن ينزل بِقَدْره إلى مستوى الذنب، وأن تستهويه المعصية(4).
وفي المقابل تقول الكلمة عن الإمام علي عليه السلام:”إذا قلّت العقول كثر الفضول”(5) الفضول من القول، والفضول من طلب الدُّنيا، والممارسة للذائذها، وكل ما لا يؤدّي إلى نفع، أو كان خارجاً عن هدف إنسانية الإنسان، وتكميل ذاته(6).
“قدم المدينة رجل نَصْراني من أهل نجران كان فيه بيان(7)، وله وقار وهيبة، فقيل: يا رسول الله ما أعقل هذا النَّصْراني؟!(8) فزجر القائل، وقال: مه. إنّ العاقل من وحَّد الله، وعَمِل بطاعته”(9).
“قيل للصادق عليه السلام: ما العقل؟ قال: ما عُبِد به الرحمان، واكتُسب به الجنان.
قال: قلت: فالّذي كان في معاوية؟(10) فقال: تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل”(11).
إذا كان العقل قوّةً تعقِل عن الخطأ(12)، وتحبس عما فيه الخسارة، وتُنقذ من الضلال كان كل مظهر من مظاهر الذكاء، وحدّة الفهم، والقدرة على التحايل، وتخريج المواقف، والتبرير للقضايا، وتحليل الأحداث في غياب التّوحيد لله عزّ وجلّ، والعمل بطاعته ليس عقلاً وإنما هو شيء آخر.
وقد سمّى الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام ما عليه معاوية من دهاء سياسي، وقدرة على شراء المواقف، وخلخلة صفوف الأمّة نكراء – وهي المنكر – وشيطنة.
وجاء عن حكيم الأمّة بعد رسولها العظيم صلَّى الله عليه وآله وهو أمير المؤمنين:”ليس العاقل من يعرف الخير من الشر، ولكن العاقل من يعرف خير الشرّين”(13).
معرفة الخير من الشر عقل، والحديث لا يريد إنكار ذلك، ولكن الأدقّ في معرفة عقل العاقل أن يُميّز بين الشرّين فيقدِّمَ أخفهما، وبين الخيرين فيقدِّم أشدّهما.
وهناك ثلاثة مواطن يُمتحن فيها العقل لِيُرى مدى قوّته، وحضوره، وفاعليته، وفيها تحدٍّ كبيرٌ له، وكثيراً ما تُظهِر هذه المواطن خلاف ما عليه الظنُّ بعقل من يمرُّ بها، إذ تكشف عن سقوطه أمام ضراوتها، ولذلك كان في نجاح العقل فيها برهان قوته التي تجعله الحاكم للموقف فيها، غير مغلوب لما هي عليه من قوّة في التحدّي.
تقول الكلمة عن الإمام علي عليه السلام:”العاقِلُ مَنْ يَمْلِكُ نَفْسَهُ إذا غَضِبَ، وَإذا رَغِبَ وَإذا رَهِبَ”(14).
فمن لم تخرجه هذه المواطن عن دينه وحكمته، وما يتطلبه الموقف الصحيح فهو عاقل حقّاً.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل لنا من عقلنا دليلاً فعلاً على الهدى، قائداً إلى الرشاد، ذائداً عن الضلال، آخذاً بنا إلى طاعتك، ولزوم الجادَّة إليك، والثبات على صراطك، والاشتغال بطلب مرضاتك يا مجيب السائلين، يا رحمان، يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(15).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يدركه العارفون، ولا يصفه الواصفون، ولا يبلغ مدحتَه المادحون، ولا يفي بحمده الحامدون، ولا يُحصي آلاءه العادّون، ولا تناله الأوهام والظنون.
جلَّ أن يكون له مبتدأ أو منتهى، وعن أن تقع عليه رؤية العيون، أو تجوزَ عليه الحدود تبارك الله ربّنا وهو أحسن الخالقين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله ألا فلنتّق الله، ولا ننسى ذكره، ولا نغفل عن عظيم قدرته، وجليل نعمته، وإحاطة علمه، وجميل صنْعهِ، وواسع رحمته، وشديد أخذه، وأليم عذابه؛ فمن نسي الله نسي نفسه، ولم يكن له نورٌ يستضيء به في حياته، ولا هدى يخرجه من ظلماته إلاّ أن تنتشله رحمة من ربّه من غيّه وعماه.
ومن ذَكَرَ الله حجزه خوفُه من معصيته، وحماه رجاؤه من اليأس، وثقته به من الضعف، واطمئنانُه إليه من الهلع، وذكره له من الوحشة، وكان في حصن منيع من وساوس النفس والشيطان.
وذكر الله يحمي من ذَكَرَهُ من خوف من عداه، ويغنيه عن رجاء من سواه، والتعويل على من دونه، ولا يحتاج معه لأنسه إلى أنيس، ولشعوره بأمنه إلى نصير، وبخيره إلى ظهير.
اللهم صلّ وسلّ وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم، واغفر لأرحامنا، وقراباتنا، وأرحامنا، وأزواجنا، وكل من أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، واجزِ عنّا من أفادنا علماً نافعاً في دين أو دنيا خير الجزاء برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم فرِّغ قلوبنا لذكرك، واملأها بمحبّتك، وصُنْها بخشيتك، وطمئنها برجائك، وارزقها الاستقامة على طريقك، ولا تصرفها عنك، ولا تمنعها هداك، ولا تحرمها من لطفك وعنايتك، وارحمنا برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً قائما دائما.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات في الله فإلى حديث في أكثر من أمر:

يوم الهدى والنّور:

في مثل هذا اليوم أشرقت الأرض بنورين من أنوار الفيض الإلهي لا يخبوان ليظلا هاديين للسائرين إلى الله عز وجل ما دام في الأرض إنسان يعشق الهدى ويتجه إليه فهنيئاً للمهتدين بهما. إنهما نور الرسول الخاتم صلّى الله عليه وآله، وحفيده الإمام جعفر الصادق عليهما السلام.
والكلمة في يوم المولد الشريف:
يومُ الهدى، والنور، والوحدة الإيمانية الكبرى، يومُ مولد النبي المصطفى الخاتم محمد بن عبد الله صلَّى الله عليه وآله زادهم الله مع كل شرف شرفاً، ومع كلّ زلفة زلفة، ورفعهم مع كل منزلة منزلة.
يوم كان لموت الجاهلية وحياة الإسلام، وبعث الإنسان، وكلمة الإيمان.
يوم لانعطافة هائلة في تاريخ البشرية من خطّ انحرافٍ طال في الأرض، وكاد يأتي على ميراث الأنبياء، ويطمس نور الفطرة إلى خطّ الاستقامة على صراط الله.
يوم لإنقاذ الإنسان من قطيعته مع السماء؛ القطيعة التي لم تكد تُبْقِ له من نور، ولا قابلية لخير، إلى صلة حميمة تعود عليه بالرَّواء والضّياء، وتمدّه بالهدى، والحياة، وتُغيّر ما به من سوء.
ترفع نظرته، وتُزكّي روحه، وتُحيي قلبه، وتُصحِّح إرادته، وتنير عقله، وتنشّط تفكيره، وتستثير نبيل مكنونه، وتصنعه الخليفة الصالح في الأرض؛ يعمرها ولا يُخرِّبها، ويسودها بفكره وإيمانه وهداه، ورشده، وطُهْره، ولا تسوده، ويتحرّكُ بها في اتجاه الغاية السامية، ولا تتجمد به عند هموم الطّين ومشكلاته.
في هذا اليوم نحن أمام شخصية لا ينطفئ نورها، ولا تنقطع، ولا تُسبق، ولا تُلحق في عظمة ومجد، ولا غنى للأرض عنها، وسيظل هداها وشريعتها وكلُّ دينها، ومنهجها محل حاجة الإنسان وإن طالت القرون وامتدّت بالإنسان على الأرض الحياة.
أمام نور سماوي متألّق ما ضيّعه مضيّع، أو أعرض عنه معرض من فرد أو جماعة أو أمة إلا وضلَّ طريق السماء، وانحرف به السبيل، ووقع في المأساة، وشطّ عن الغاية.
أمام منهج لإعمار الحياة، وبناء الإنسان، وكسب الآخرة لا تمتلك الأرض بديلاً عنه أو ما يَحُلّ مَحَلَّه.
وفي إهماله وإغفاله، والتمرّد عليه، والإعراض عنه، والتباطؤ عن الأخذ به شقاء هذا العالم.
أمام أخلاق هي أخلاق القوّة الصّالحة المهتدية الشّاملة التي لا تترك ثغرة لضعف الإنسان يأتيه منها الشرّ والسوء والشّقاء، والذل والعبودية والضجر والسأم، أو يأتي منه بها غيرَه بغيٌ وظلم.
أمام مسؤولية عظمى تفرض علينا العودة الجادّة الشّاملة القوية لهدى رسول الله صلّى الله عليه وآله، والإسلام الذي أوحاه الله إليه بلا تسويف، ولا تراجع ولا تردُّد ولا فتور.
وأن نُصرَّ على رفض أيّ بديل حضاري عن الإسلام، وأيَّ تغرُّب أو هجرة كليّة أو جزئية عن دين الله، ورسالته الخاتمة.
وأنتم يا حكّام الشّعوب الإسلاميّة ممن تنطقون بالشّهادتين وتُعلنها إذاعاتكم وقنواتكم التلفازية ووسائل إعلامكم، وتبنون المساجد، وتبثّون برامج دينية ألا قستم سياستكم وممارساتكم إلى ما يراه رسول الله صلّى الله عليه وآله، وما لا يراه، إلى ما يرضاه وما لا يرضاه، إلى ما تُوافق عليه شريعته وما تأباه، إلى ما يسره وما يؤذيه؟!
ألا استفتيتموه عن الاستبدال عن أحكام دينه بأحكام ملتقطة تستوردونها من وضع الإنسان، وعن أخلاقه بأخلاق جاهلية؟ عن الكيد بالشعوب الإسلامية ووحدة الأمّة وتماسكها وأُخوّتها تعاوناً مع أعدى أعدائها من مثل الصهاينة؟! وعن بيع أرض الأمة وثروتها على أعدائها تثبيتاً لكراسي الحكم، والاطمئنان عليها؟ عن حفلات الرقص والخمر والفحشاء مما تضجُّ به الفنادق التي تشيدونها لفساد الأمة وسرقة ثرواتها، وإرضاء من يريد لهذه الأمة أن تُخدع عن دينها؟
وعن الطاغوتية التي تُمارسونها على الأمة حتى لا تبقوا لها صوتاً ولا رأياً ولا إرادة في شأن من شؤونها؟ وعن سفك الدّم الحرام، والإسراف في القتل، والتعذيب، وملأ السجون والأقبية المظلمة من أحرار وحرائر هذه الأمة؟ وعن التعدّي على أعراض المسلمين بألوان من التعديات القذرة المحرَّمة في السجون وخارجها ومما يتم تحت علمكم وأنتم تشهدون؟
أترضى شريعة الله، أيرضى رسول الله صلّى الله عليه وآله ببقاء حرّة مسلمة في السجن ليوم واحد وما هو أقلّ من ذلك لأنها أنكرت منكراً، وأمرت بمعروف، وطالبت بحق؟! وبالزجّ بالمئات والألوف ومئات الألوف في السّجون والطوامير ، واضطهادهم تحت العذاب إسكاتاً لصوت الحق، وإجهاضاً للمطالبة بالحرية، وانسياقاً وراء شهوة الحكم؟
إنكم لتعرفون رأي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وشريعته، وتعرفون أنكم على غضب من الله مما تفعلون، ولكنّها الدُّنيا التي تعبدون، ولا ينفع مع حبّ الدُّنيا وعبادتها فهم ولا علم ولا آيات، ولا بيّنات.

ستبقى المطالبة:

للرابع عشر من فبراير للعام 2011م خصوصية في الحراك الشعبي السياسي في البحرين، ولكن تاريخ هذا الحراك له ماضيه الطويل، وتجدّداته المتكرّرة، والفاصل بينه هذه المرّة وبين سابقتها لم يطل بل قد لا يصدق وجودُ فاصل بينهما كما هو واضح(17).
وستبقى المطالبة بالحقوق المشروعة لهذا الشعب، وستتواصل، ولن تقف عند يوم أو موعد معيّن، وستزيد وتيرتها وتتصاعد كلما أبطأت الاستجابة لها. توقُّفها مستحيل، تراجعها مستحيل، إغماض الطرف عنها مستحيل، هبوط سقفها مستحيل، التحايل والالتفاف عليها مستحيل(18).
الإعلام المضادُّ الذي يستهدف ثني عزم الشعب عنها فاشل، السياسة الإرهابية لتعطيلها فاشلة، المراوغة السياسية بقصد تضييعها فاشلة، كلّ الوسائل الأخرى للصرف عنها فاشلة.
من يختار لهذه المطالب أن تتعطَّل فهو يختارُ للوضع الفاسد أن يبقى وأن يمتدَّ، ويختار لهذا البلد أن يكون بلد طوارئ، وعدم استقرار(19).
من أحب هذا الوطن، وأخلص له، وأراد به خيراً، وبهذا المجتمع الصلاح، وله الرِّفعة والتقدّم فليعمل جاهداً على تحقيق مطالب الشعب، والاستجابة السّريعة لها من غير تباطؤ وتسويف.
والمظاهرات والمسيرات والاعتصامات وكلُّ الأساليب الاحتجاجية ليست هواية، ولا مسألة ترفيهية خاصة مع ثمنها المكلف، وضريبتها الثقيلة على مستوى الأمن الشخصي للمواطن، وماله، وحياته.
كلّ هذه الأساليب الاحتجاجية السلميّة التي تُواجَه بعنف بالغ من السلطة إنما دفعت لها الضرورة، وستبقى الاحتجاجات السلمية وإن كلّفت أضعاف ما كلّفت ما دامت تفرضها الضرورة، والضرورة قائمة ما دام الظلم، والفساد، والمصادرة لحريّة المواطن، وامتهانُ كرامته، والاستخفاف بقيمته، والإصرارُ على سلبِه حقوقه، وتهميشه، والتنكُّر لإرادته(20).

لابد أن يستجيب القدر(21):

إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر(22)
الشعب الذي يريد الحياةَ حياةَ العدل والعزّ والكرامة والفعل المجيد، والدّور التاريخي الرائد، ويريد صناعة حاضره ومستقبله صناعة يرضاها له عقله وضميره ودينه وشرفه لابدَّ أن يسعى لذلك سعيه، ويبذل في سعيه هذا كلّ دنياه، وما عزّ عليه من حياته(23).
أما استجابة القدر فليس لأن قدر الله يكتبه غيره، أو يجبره عليه أحد، أو يشاركه فيه مشارك وإنما(24) لما تدل عليه آيات الكتاب الحكيم من أنه تبارك وتعالى يهدي أهل الجهاد إلى سبيله، وأنه ينصر من نصره، وأنه لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(25) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(26).
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى…}(27).
وهذا الشعب أراد الحياة، وتحرّك على خطّ هذه الإرادة، وقد بذل في سبيلها ما بذل، وهو ماضٍ على خطِّها، وموَفٍّ بما يقتضيه مضيّه من بذل وصبر فلابد أن يستجيب القدر(28).
أيها الشعب المجاهد الصابر:
مواصلةٌ، وصبر، وحسن نيّة، وسلامة قصد، واجتماع صفوف ووحدة كلمة، والتزام أحكام الشريعة، وعدم مغادرتها، وسلميَّة وعقلانية، ووفاء للوطن وأهله، وصدق مع الله وعبودية خالصة له. ولن يُعقِبُ ذلك إلا نصراً مبيناً، وعزّاً رفيعاً، وسلاماً وبركة ومحبَّة.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم وحّد كلمة المسلمين على التقوى، وقوّ شوكتهم في سبيلك، وسدّ عنهم أبواب الفُرقة والخلاف، واكفهم شرّ من يبتغي بهم شرّاً، وأبطل كيد الأعداء بهم، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا وشهداء الإسلام وموتى المسلمين جميعاً، واشفِ مرضانا وجرحانا، وفكّ قيد أسرانا وسجنائنا، واشف كلّ جريح ومريض، وفك كل أسير وسجين مظلوم من المرضى والجرحى والأسرى والسجناء المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (29).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – هداية العلم في تنظيم غرر الحكم ص412.
2 – فما وزن عقلي، وكم نضيّع؟! وفوق ما نضيّع كم نضرّ بأنفسنا في هذه الحياة؟!.
3 – بحار الأنوار ج75 ص 301 ط2 المصححة.
4 – تارك الفضول استعلاء على ما لا يجد فيه حاجة، وعلى ما لا يدخل في إصلاحه هو أنزه وأبعد من أن يقارف سيئة، وينزل بمستواه إلى ذنب.
5- ميزان الحكمة ج3 ص2045 ط1.
6 – كل ذلك يكثر عندما تقلّ العقول، عندما تضعف العقول، ضعف العقل يستتبع هذا الشيء وهو طلب الفضول، طلب ما لا يبني، طلب ما لا يكمّل، طلب ما لا يدخل في وظيفة الإنسان، ولا يخدمه.
7 – قدرة بيانية، قادر بلاغيا، قادر بيانيا.
8 – أُعجبوا بعقليّته وعقلانيته.
9 – تحف العقول ص55 ط2.
10 – معاوية كان له ذكاء سياسي، دهاء سياسي، قدرة على اللفّ والدوران، على شراء الشخصيات الكبيرة، إلخ.
11 – الكافي ج1 ص11 ط5.
12 – سُمّي العقل عقلاً لأنه قوة تعقل عن الخطأ.
13 – مطالب السؤول في مناقب آل الرسول (ع) ص250.
14 – هداية العلم في تنظيم غرر الحكم ص412.
15 – سورة التوحيد.
16 – أنا أتكلم عن أكثر من بلد، عن الأمّة.
17 – هتاف جموع المصلين بـ(الله أكبر)، (لن نركع إلا لله).
18 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات من الذلة).
19 – وهذه خيانة.
20 – هتاف جموع المصلين بـ(فلتسقط الحكومة).
21 – مضمون بيت شاعر.
22 – ملاحظة: ورد بيت الشعر في الخطبة المكتوبة ولم يذكرها سماحة الشيخ في الخطبة الكلامية لكراهة إنشاد الشعر في يوم الجمعة.
23 – هتاف جموع المصلين بـ(بالروح بالدم نفديك يا بحرين).
24- استجابة القدر.
25 – 69/ العنكبوت.
26- 7/ محمد.
27 – 195/ آل عمران.
28 – هتاف جموع المصلين بـ(الله أكبر).
29 – 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى