خطبة الجمعة (489) 10 ربيع الأول 1433هـ ـ 3 فبراير 2012م

مواضيع الخطبة:

 

الخطبة الأولى: نعمة العقل

الخطبة الثانية: وماذا للشعب مع هذا الذي لقوات الأمن؟ – مشروع الفتنة الكبرى

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا أمد لكرمه، ولا توقّف لجوده، ولا حدَّ لقدرته، ولا انقطاع لفيضه، ولا يأس من فرجه، ولا سبيل لرضاه إلاّ بطاعته، ولا يُنال عفوه إلاَّ برحمته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الجاهلة بتقوى الله، وطلب المزيد من معرفته بالتفكر في الخلق، وتنقية القلب، وصدق الطاعة، وإخلاص العبادة؛ فما فاز عبد بمثل ما فاز بمعرفة ربّه. والراحةُ، الاستقامة، والسعادة كلّها في معرفة الله، وتفاوتُ درجاتها بالتفاوت في معرفته، فما عَظُمَ منها شيء إلا بعظم المعرفة، وما صدق مها شيء إلاّ بصِدقها.
ومن طلب أن يكون من خير البريَّة فلا سبيل له إلا أن يؤمن بالله، ويتحلّى بمعرفته، ويسلك السبيل إليه.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}(1).
وما أعظمه من جزاءٍ أعدّه الله لعباده من خير برّيته، وأهل خشيته {جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}(2).
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا وأزواجنا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نعوذ بك من مقاربة الأشرار والفجّار، وأهل النار، ونطمع إليك أن تجعلنا من الأتقياء الأبرار، وتسلك بنا طريق أهل جنتك، والفائزين برضوانك وكرامتك يا أرحم الراحمين. يا أعظم من تعلّق به أمل، وامتدّ إليه رجاء، يا من هو فوق كلّ أمل كريم، ورجاء عظيم، وخير محسوب، وعطاء محدود.
أما بعد أيها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث في:

نعمة العقل:

الإنسان بعد العقل حيوان، فمن سقط عقله لم تبق منه إلاّ حيوانيته، وتعطيل العقل عن التفكير فقدٌ له؛ فواقع ما لا عقل له، وصاحبُ عقلٍ لا يفكّر به واحد. وما قيمة مصباح لا يُستنار به، ونورٍ مخبوء تحت الستور؟!
إنّ الاهتداء، وبلوغ الحقائق يحتاج إلى عقل لبيب، وإعمال لهذا العقل، وتفعيل جيّد لطاقته.
والكون المليء بالهدايات والأنوار، وآيات القدرة، والحكمة، والشدّة والرحمة، واللطف والعقوبة لا يصل إلى شيء من هداياته وآياته وما ترمي إليه، وما تكشف عنه أنواره إلا عقلٌ وتعقّل وتدبّر وتفكير.
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ}(3).
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(4).
وحياة اللهو والمجون والشهوات، والاشتغال بأكبر المسائل من منطلق التعلّق بالدّنيا ومن أجلها، وعبادة لها يُعطِّل التفكير في الأهم من مسائل الكون والحياة والمصير(5)، ويحول بين العقل ورؤية الحقّ، وبين القلب والانفتاح عليه {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(6).
ومن كان له عقل وفهم لم يترك الحقَّ إلى الباطل، ولم يقدّم السيء على الحسن، ولم يكتفِ بالحسن عن الأحسن، ولم يمرّ بالآيات أعمى وأصمّ، ولم يشغله الهزل عن الجدِّ، ولم يُسلِّم للشيطان أمره، ولم يدخل أمراً من غير تبصّر، ولم يقضِ فيه من غير تفكّر.
وأدلّ دليل على فقدان الرشد، وضلال الرأي أن يختار الإنسان أسوأ المصير، وأشرّ العواقب، وصحبة أهل النّار(7).
يقول سبحانه في كتابه العزيز {… فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}(8).
ويقول تبارك وتعالى {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(9).
نعم يكتشف من صار من النّاس إلى النار ممن كان يرى نفسه ذكيّاً، وله عقل وألمعيَّة، وفطنة وخبرة، وحصافة رأي، وحكمة أنه كان بلا سمع واع، ولا عقل مدرك، وأنه كان أغبى الأغبياء باختياره طريق النّار، وتقديمه للشقاء الطويل على السعادة.
ولما كان وزن الرجل في عقله كان تكليفه بقدره، ومؤاخذته لا تزيد عليه(10)، وجزاؤه على حد معرفته(11).
عن الإمام الباقر عليه السلام:”مما أوحى الله إلى موسى عليه السلام: أنا أؤاخذ عبادي على قدر ما أعطيتهم من العقل”(12)، “إنما يُداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدّنيا”(13).
وعن الرسول صلَّى الله عليه وآله:”إذا بلغكم عن رجل حسن حال(14) فانظروا في حسن عقله، فإنما يجازى بعقله”(15).
وعنه عليه وآله أفضل الصلاة والسلام:”إن الرّجل ليكون من أهل الجهاد، ومن أهل الصلاة، والصيام، وممن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وما يجزى يوم القيامة إلاّ على قدر عقله”(16).
وماذا تساوي كثرة العبادة ممن يعبد مُتصوَّراً محدوداً، أو ممن يرى أنّه يُسدي لله جميلاً، ويقدّم نفعاً، ويدفع ضرّاً، أو يُقوّي سلطاناً، أو يزيد عزّاً؟!
والعقل وسيلة للنجاح في الدّنيا، والتغلب على مشاكلها، ووسيلة للفوز في الآخرة، وتجنُّب ويلاتها، ولا يُصيب امرؤ التعامل مع أيٍّ منهما إلاّ بالعقل والتفكير، ولا إعمار لهما إلاّ بذلك.
عن الإمام الحسن عليه السلام:”بالعقل تُدرك الدّاران جميعاً، ومن حُرِم العقل حُرِمَهما جميعاً”(17).
ومن حرمانهما جميعاً أن يبنيَ المرءُ دنيا غيره بهدم آخرته، ويحتطبَ على نفسه وقودَ نار خالدة لشهوة من سواه(18).
وكلّ من لم يربح الآخرة بدنياه كان خاسراً لهما معاً، لأنَّ الوظيفة الحقّ للدّنيا أن نربح بها الآخرة، وإذا لم نفعل أفقدناها وظيفتها، وجعلناها طريقاً للعذاب والشقاء، وفي ذلك الخسران المبين.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أعذنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين من شقاء الدّنيا، وخسارة الآخرة، ومن كلِّ أسوائهما، وارزقنا سعادة الدارين، وعزّهما، ولا تستبدل عنّا في خدمة دينك والجهاد في سبيلك، وقرّبنا إليك يا علي يا عظيم، يا عزيز، يا جليل يا جميل، وأخلص عبوديتنا لوجهك الكريم يا ربّنا يا رحمن يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(19).

الخطبة الثانية

الحمد لله منتهى أمل الآملين، وغاية رجاء الرّاجين، لا ينفد خيرُه، ولا ينتهي نواله، ولا تُعدّ آلاؤه، ليس منه إلاّ الخير، ولا يفعل إلاّ الجميل، وهو المبتدئ بالإحسان، وجزاؤه تفضُّل، ومنّه قديم، وثوابه عظيم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله ألا فلنتّق الله، ولنطلب وسيلةَ القصد الصّالح، والنيَّة السّليمة، والقول الصِّدق، والعمل الزكيّ لرضوانه؛ فما رضاه إلاّ في خير العبد وصلاحه وتكميله، وليس من طريق آخر غير هذا الطريق يُعطي للعبد صلاحَه، وكماله، ونجاحه، وفلاحه.
ولا صلاح لقصد، ولا سلامة لنيَّة، ولا صدقَ لقول، ولا زكاةَ لعمل إلاَّ ما وافق إرادة الله، واستنار بمنهجه، واستضاء بهداه، واتّجه إليه، وكان من أجله.
ربّنا بك نلوذ، وبك نعوذ فقنا شرّ ما نحذر وما لا نحذر، واكفنا كلّ سوء، واقطع عنّا دابر الشيطان الرَّجيم، واقض حاجاتنا للدين والدنيا والآخرة، وأصلح لنا شأن الدِّين والدنيا، وآمنّا فيهما برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك، أئمة الهدى: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً قائما دائما.
أما بعد أيها الأحبّة في الله فإلى هذا الحديث:

وماذا للشعب؟

الحماية الجسديَّة، والحماية القانونية، والحماية القضائية، والحماية المالية، الحماية الإعلاميّة، وكلّ حماية ممكنة أخرى لقوات الأمن، بل للسياسة المرسومة لإسكات الشعب، وإلغاء إرادته، وإخضاعه وإذلاله بإمكاناته وثروته.
ولا كلام لنا في حماية قوات الأمن، واستيفائهم كلَّ حقوقهم، واحترامهم وإكرامهم إذا كانت هذه القوات من أجل حفظ الأمن للوطن والمواطن، وحماية سياسة عادلة، وقوانين منصفة وعقلائية وتصبُّ في مصلحة البحرين وأهلها جميعاً. ولكنّ الكلام في ما تُوظَّف من أجله هذه القوات، وما تمارسه على الأرض.
والإعلان عن كلّ هذه الحمايات الحكومية واعتمادها من الواضح جدّاً أنه إعلان لهذه القوّات(20) بأن تنطلق في تعاملها مع كل المقدّرات للناس كيفما تشتهي وترى آمنةً مطمئنةً من كلّ محاسبة وعقوبة من الجانب الرّسمي، وهو إذنٌ صريح لها بأن تحمل همّ ما تفتك، وتنتهك، وتفسد فلا رقيب، ولا حسيب، ولا تَوقُّع إلاّ للجوائز والمكافآت والترقيات.

وماذا للشعب مع هذا الذي لقوات الأمن؟

غازات سامّة، شوزن، رصاص مطاطي، هراوات، دوس بالسيارات، رصاص حي، ركل، صفع، قتل، إماتة(21)… مع هذه القائمة قوانين تعسفية قائمة على الانفعال وروح الانتقام والقهر والإذلال، حرمانٌ حتّى من لقمة العيش، هجومٌ إعلامي شرس لا اعتبار فيه لحرمة دينية، ولا كرامة إنسانية، وحق وطنيّ، قضاءٌ الأصل فيه أن المواطن المستهدف جانٍ، ولا يُثبت براءته الدليل.
هذه لغةُ من يقول: هذا فراقٌ بيني وبينك، ولا تلاق. لغة لا حقوق، ولا إصلاح، لغة ناب وغاب.
وهي لغة سجَّلت فشلها بصورة متكررة في أكثر من ساحة عربية في العام المنصرم، ودفعت بالأوضاع إلى درجات عالية من التأزُّم بين الحكومات والشعوب، وأوصلتها إلى حد الانفجار(22).
هذه اللغة تزيد في قناعة الشعب بضرورة الإصلاح، وتجعل مسألة السّكوت على الفساد المتوسع، والتدهور في الحقوق، والحالة الأمنية المخيفة للمواطن من الأمر المستحيل.
لكلِّ قصد مقدِّماته(23)، ولكل هدف استعداداته، وكثيراً ما كشفت الظواهر النيّات. الحكومة التي تهدف للإصلاح، وتنوي العدل، واحترامَ حقوق المواطنين، والاعترافَ بقيمتهم، ودورهم في رسم مستقبلهم، واختيار خطِّ حياتهم لا تحتاج إلى أن تُخيف وتُرعب، وأن تزيد من قسوة التعامل مع الشعب، وتطلقَ لقوّات أمنها اليدَ الحرَّة في التصرّف في مصير النّاس وحياتهم، وتطمئنَها بأنه لا عقوبة، ولا حساب، وتضاعف من أسباب حمايتها إعداداً لخوضها معارك شرسة باغية ضد الشعب.
كلُّ ذلك إنما هو من مقدِّماتٍ يتخذها من يختار الظلم على العدل، والاستمرار في الفساد بدل الإصلاح، ويقدّم الحرب على السِّلم، والتصفية على الإبقاء(24).
نيّة العدل، والإصلاح، والتراجع عن الخطأ، والاعتراف بالحقِّ مقدّماتها، ظواهرها، أماراتها تختلف كل الاختلاف عما يسمعه الشعب من الإعلام الرسمي من وعيد، وتهديد، واستعدادات، وما يُمارَس من إجراءات على الأرض من السلطات.
وما نتيجة الاستمرار في الخطأ، والتنكُّر لحقّ الشعب، ومعاداته، والاستعانة على ذلك بسياسة الحصار، والإضعاف، والبطش والقمع، وتخريب البنية الاجتماعية، وإثارة الفوضى، وإشعال الفتن؟
النتيجة: احتراق الوطن، رعب عام، خصام دائم، شقاء للجميع، نهايات كارثية لا يخرج من نارها خارج، ولا تستثني أحداً.
خيارُ من هذا: خيار العقلاء؟ خيار المجانين؟ الجواب ليس بالشيء الصعب، أو الذي يُتردّد فيه.
الإصلاح لا غيره هو الحل. ومن طلب الحلّ في البطش بالشعب فقد طلب ما يستحيل معه الحل.
نعرف أنَّ إنتاج القوانين المتجاهلة لحقوق الإنسان، شديدة القسوة على المواطن، المستجيبة لرغبة الانتقام، المتجاوزة لقيم الدّين، وأحكام الشريعة، الشاذّة عن كل القوانين هي من أسهل الأمور اليوم في ظلِّ الوضع القائم وغياب المعارضة، ونعلم أن إمكانات استعمال القوّة المفرطة ضدّ الشعب متوفرة، وأن الدعم الإعلامي الآثم متيسّر، وأنَّ أموراً أخرى مساعدةً قائمة بقوّة.

لكن لابد أن يعلم الجميع إلى جنب ذلك أموراً أخرى:
أنَّ قمع الشعوب، والإسراف في القتل، والتنكيل بالنّاس محاولة فاشلة إذا أُريد منها إسكات الشعوب عن المطالبة بالحق، وأنَّ ردّة الفعل لهذه المحاولة عكسيَّة، ومن شأن هذه المحاولة أن تزيد من درجة الصمود، والإصرار على المطالبة بالحقّ، وتَوسُّع المطالب كما أثبتت كل تجارب السَّاحة العربية من قريب، ولا زالت تؤكد على ذلك. والبحرين ساحة من هذه الساحات التي لم يرتدَّ بها القمع لحظة عن المطالبة بالحقّ.
هذا أمر، والآخر أنَّ سياسة القمع والتوحُّش في التعامل مع مطالب الشعوب أسلوب لا يمكن أن يثبت مع الزمن(25) لأنه أسلوب استثنائي شاذّ غاشم لا يمكن أن تقبله بيئة مجتمع إنساني يشعر بإنسانيته.
وآخر(26) أنَّ الآثار المدمِّرة لأسلوب العنف، وبما يولِّد بطبيعته من ردّات فعل مجانسة تطال المجتمع كلّه، وتُمثّل كارثة للجميع(27).
إنه لابد من التفتيش عن حل آخر. ولو فتشتم عن حلّ في كلّ مكان، ولو قلّبتم كلَّ الأمور فلن تجدوا حلاًّ غير القبول بالإصلاح الجدّي الحقيقي المطلوب الذي شدّد عليه الشعب.
وأين نيّة الإصلاح ورجال هذا الوطن الأوفياء، وعلماؤه الأجلاّء المجاهدون، ونساؤه الشريفات الصابرات، وشبابه الغيارى قابعون في السجون يدفعون ضريبة ثقيلة لمطالبتهم بالحقّ، وحميّتهم الدينية والوطنية، وتقديرهم لإنسانية الإنسان.
وهم اليوم يعيشون معركة المَعِدة الخاوية من أجل استرداد حقوقهم، وحرية هذا الشعب، ويستصرخون الضمير العالمي من أجل ذلك.
الشعب الذي يُصرّ على الحرية رغم الآلام العنيفة التي يعانيها صابراً من أجلها لا تملك أي سياسة أن تتجاوز مطلبه في الحرية، ولا أن تدوس إرادته.
السجناء من أبناء هذا الشّعب وهم في العذاب يقفون المواقف البطولية من أجل الحرية، أهالي الشُّهداء وقد فقدوا أحبّتهم مُستعدون لتقديم المزيد من أجل الحريّة، المفصولون من أعمالهم ووظائفهم، وقد ضُيّقت عليهم معيشتهم يرفضون أن يكون ثمن العودة لأيِّ وظيفة وأي منصب فيه خدش الحرية، الأطبّاء والمربّون الخاضعون للمحاكمات لا يرضَون بديلاً عن الحرية، ويرفعون عقيرتهم بالمطالبة بها، المُهدّدون(28) لا يلويهم التهديد والوعيد عن الإصرار على المطالبة بالحرية، صغير هذا الشعب وكبيره، ذكره وأنثاه الكلُّ ينادي بالحرية(29).
شعبٌ بهذا الحسّ، وبهذه الإرادة، وبهذا التصميم والإصرار، والبذل والتضحية لابُدّ أن ينال حريته، ولابد أن يهزم سياسة القوّة الغاشمة، ومنطق الغاب.

مشروع الفتنة الكبرى:

مشروع الفتنة الذي يُحرّك ضدّ الأمة هذه الأيّام، وتُجرّ إليه بقوّة وعنف ومكر ودهاء، ليس مشروع فتنة عادية، وإنما هو مشروع فتنة كبرى طاحنة مستأصلة، تبدأ ولا تكاد تنتهي، تهدم ولا تبني، تدمّر وتنسف، وتجرف ولا تستثني قطرا من أقطار الأمة من لهب وشر ومأساة،ولا تبقي للمسلمين صدق دين، وإنسانية وحضارة.
فتنة طائفية مجنونة، جارفة، حارقة، مهلكة، مستبيحة لكل ما حرّم الله على المسلم من أخيه في الدين(30).
(31)وإنما اختير لهذه الفتنة أن تكون طائفية انتقاما من توجّه الأمة لإسلامها، وحنينها للعودة إليه، وبداية هذه العودة وتفعيلها.
أضف إلى ذلك أنها(32) الأنسب للاستغلال السيء الخبيث للروح الدينية التي أخذت تسري بقوّة وحيوية في عروق الأمة ودمها.
ولو كان التوجُّه قوميّاً عند مكوّنات أمّتنا لاختير للفتنة أن تكون قومية للإجهاز على وحدتها.
وهناك أطراف تتلاقى على تحريك الصراع وإثارته وتغذيته مستخدمة التعددية المذهبية في الأمّة أداة لإشعال الصراع الذي ليس مثله في القوة التدميريّة، والقدرة على الاستقطاب لون آخر من الصراع إلا ما كان بين أهل ديانتين متباينتين خُطِّطَ لهم أن يتخلّوا عن قيم الدين، ويرفعوه شعاراً للصراع(33).
هناك طرف خارجي أرعبه تحرُّك الوعي الإسلامي عند الأمّة وشوقُها للإسلام، وبداية التحرُّك على خط اللحاق بأفقه البعيد.
وهناك حكّامٌ من حكّام الأمّة ممن لا يهمهم من أمر الإسلام شيء إلا خوفهم من عودة الأمة إليه(34).
وطرف ثالث هم أصحاب النظرة المذهبية الضيّقة، وممن لا يملكون نظرة صحيحة للإسلام من أيّ مذهب كانوا.
هذه الفتنة أوّلُ ما تقضي عليه موقعُ الأمّة في واقع الحياة، وأوّلُ ما تفعله تحويلها إلى سلعة رخيصة بيد الأعداء، وجعلها قِسْمَة بين الأمم(35). وفيها قضاء على أصالة الإسلام وصدقيته في الأجيال الوارثة.
أما خسائرها فأكبر مما يُتصوّر، على كل المستويات، وبصورة شاملة.
مسؤولية كلِّ مسلم يهمه أمر الإسلام، وأمر الأمّة، ولم تسلب عقله العصبيّة العمياء، ولم يُذهب جهلُه حكمته، ويعرف ما عليه الإسلام كلُّه من أنّ للمسلم حقوقاً لا يُسقطها خلاف المذاهب، وأن حرماته مصونة في دين الله أن يعمل جاهداً على درء هذه الفتنة الكبرى، وإحداث أيّ عرقلة ممكنة في طريقها، وأن يحول بينها وبين أن تبدأ، وتنطلق من أيّ بلد من بلدان المسلمين ما أمكن، ومن بلده بالخصوص.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اهدنا ربَّنا سواء السبيل، واجعلنا من المرحومين، ولا تجعلنا من المحرومين، وكن لنا بعونك ناصراً، وعن المخازي والعيوب، والكروب واقياً، ومن كل سوء وشرّ كافيا. واجعلنا مخلصين لدينك، ناصحين لعبادك، عاملين بطاعتك، ساعين لرضاك يا حنّان، يامنّان، يا جواد، يا كريم.
اللهم ارحم شهداءنا، وشهداء الإسلام في كل مكان، وفك أسرانا، واشف مرضانا ومرضى المؤمنين، وارحم موتانا وموتى المؤمنين والمؤمنات أجمعين إنك غفور رحيم، تواب كريم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (36).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 7/ البيّنة.
2 – 8/ البينة.
3- 190/ آل عمران.
4 – 190، 191/ آل عمران.
لبٌّ وتفكير، تشغيل لهذا العقل. 5 – ما اشتغل عقل بأمر الدنيا وانصرف إليه إلا انصرف عن التفكير في الحقائق الكبرى والآخرة.
6 – 24/ محمد.
وأيّ قفل أشد على القلب، وأي عمى أسطى عليه من عمى هوى الدنيا؟!
7 – ابنِ دنياً عريضة مستطيلة، وكن أذكى ذكيّ في بناء هذه الدنيا لتعبر بها النار لا سمح الله، فهذا الشخص هو أغبى غبي.
8 – 17، 18/ الزمر.
والآخرون؟! لا اهتداء ولا لب. 9 – 10/ الملك.
كانوا أصحاب قصور، وأصحاب حقول، وأصحاب دنيا عريضة، اكتشفوا أنهم مع كل ذلك لم يكونوا أصحاب ألباب ولا عقول، وما كانوا يعقلون. 10 – لا يؤاخذ الله عزّ وجل الإنسان إلا بقدر ما آتاه من عقل.
11 – من ضيّع المعرفة بعد أن أُعطي العقل كان جزاؤه ضئيلاً، ومن اشتدّت معرفته بالله، وطلب المعرفة، فوصل إلى درجة عالية من المعرفة عظم جزاؤه.
12 – ميزان الحكمة ج3 ص2035 ط1.
13 – الحديث عن أبي جعفر عليه السلام. بحار الأنوار ج1 ص106 ط2 المصححة.
14 – عبادة، مظهر تقوى، إلخ.
15 – الكافي للشيخ الكليني ج1 ص12 ط5.
لا دين حقّ بلا فهم. 16 – تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج10 ص72 ط1.
بأي عقلية كان يعبد الله؟ 17 – ميزان الحكمة ج3 ص2036 ط1.
18 – وهناك أناس يُجهدون أنفسهم ليلا ونهارا ليبنوا ملك أمريكا أو ملك بريطانيا أو غيرهما.
19 – سورة التوحيد.
20 – وفي هذه الظروف بالخصوص.
21 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).
22 – وهل يُراد لهذا البلد هذا المصير؟!.
23- مقدمات تدل على ما يستهدفه.
24- فهل تتجه السياسة هذا الاتجاه، وتؤكّد على ذلك بصورة عملية مشدّدة؟.
25 – إلى كم سيعيش هذا الأسلوب؟!.
26- أي أمر آخر.
27 – فهل يُخطّط لأن يقع الجميع في الكارثة؟ إنها ليست معاداة لفئة من الشعب وإنما هي المعاداة لكل الشعب.
28 – من منتسبي الجمعيات السياسية.
29 – هتاف جموع المصلين بـ(لن نركع إلا لله).
30 – التنفيذ لهذه الفتنة قائم على قدم وساق.
31 – لماذا اختير لها أن تكون طائفية لا قومية مثلاً؟
32 – أي الفتنة الطائفية.
33- هتاف سماحة الشيخ وجموع المصلين بـ(إخوان سنّة وشيعة، هذا الوطن ما نبيعه).
34- هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا إسلام).
35- الفتنة الطائفية ستؤدّي إلى أن تكون هذه الأمة مائدة تقتسمها الأمم.
36- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى