خطبة الجمعة (481) 13 محرم 1433هـ ـ 9 ديسمبر 2011م

مواضيع الخطبة:

الخطبة الأولى: الجنة

الخطبة الثانية: بين الحق والقانون – هل البحرين خارج السياق؟

الخطبة الأولى

الحمدلله الذي أكرمنا بمعرفته، وهدانا لطاعته، وتفضل علينا بمثوبته، وبشّرنا بجنّته، وحذّرنا من ناره وعقوبته، وضاعف لنا النعم، ودفع عنا النقم، لا عظيم كإحسانه، ولا جميل كامتنانه، ولا موجب للشّكر كتفضّلِه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله، والرِّضا بما قسم، والأخذ بما شرّع؛ فإنه العليم الحكيم، العدل الرحمان الرَّحيم، وأين قسمة العبد الناقص من قسمة الرب الكامل؟! وأين تشريع العبد الجاهل من تشريع الربِّ العالم؟! ومن أين يُطلب الهدى إن لم يُطلب من الله؟! وبأي دين يُستدلّ على الحقّ إن لم يُستدل بدين الله؟!.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. أعذنا ربَّنا جميعاً من الشكِّ في دينك وما حكمت، وعدم الرضا بما قسمت، والسُخْطِ بما قضيت وقدّرت، ومن الاستخفاف بنعمك، واستساغة معاصيك، واستثقال طاعتك. ربّنا افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات الأعزاء فهذا حديث موضوعه:
الجنّة:

الجنّة مَحَل وعدِ الله لأهل طاعته، والنَّارُ مَحلُّ وعيده لأهل معصيته. ووعد الله غير مكذوب، ووعيده غير مردود.
وتجربتنا الدنيوية لا تُقدِّم لنا صورةً كاملةً عن الجنّةِ والنار ولا مُقاربة، وليس في وسعها ذلك، لكونها من عالَم، والجنّة والنّار من عالَم آخر. وليس من مجال العقل ما هو من تفاصيل الآخرة، ولا كلمة له فيها.
لكنّ في الدنيا تجاربَ تُعرّفنا ألواناً من اللَّذة، وأخرى من الألم، وأنواعاً من النعيم، وأخرى من العذاب.
وهذا ما يجعلنا ونحن في الدنيا ندرك إجمالاً معنىً لما نتوعّد به من لذة ونعيم في الآخرة، وما تُوعّد به من ألم وعذاب دون أن ندرك تمام ما هما عليه من حجمٍ واتّصاف.
والجنّة والنّار عالم غيب بالنسبة لنا في هذه الحياة. وما كان كذلك إنما يؤخذ وصفهُ من الدّين.
وقد رغّب العظيم سبحانه وتعالى في الجنّة بما يكشف عن عظيم شأنها ونعيمها عنده، وحذّر من النّار بما يزيح السِتار عن عظيم خطرها وعذابها في علمه.
وتعظيم الله عز وجل لأمر، أو شيء يقطع كلَّ شكٍّ في صدق عظمة ذلك الشيء، وجليل قدره أو عظيم خطره. يقول سبحانه عن الجنّة:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}(1).
الأمر الذي ينصح الله سبحانه وتعالى عباده ويأمرهم بالمسارعة إليه ما أهميته؟ إنه لذو أهمية كبرى.
{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(2).
وفي شأن الجنة والنار نقرأ ما عن علي عليه السلام:”ما خير بخير بعده النّار، ولا شر بشر بعده الجنّة، وكل نعيم دون الجنّة محقور، وكل بلاء دون النّار عافيةً”(3).
فالجنّة تكبر كل ثمن وإن كان أشق مشقة في هذه الحياة، وتهِنُ كلُّ كلفة في سبيلها وإن كانت الموت تحت العذاب.
وهذا ما تفيده الكلمة عن الحسين عليه السلام في غمار المعاناة الضخمة المرة، وتحت ضغط ألوان من رزايا تخرُّ لها وتتساقط لها الجبال:”هوّن علي ما نزل بي أنه بعين الله”(4) فما دام كل ذلك تحت نظر الله، وفيه نيل رضوانه كان سهلاً تحمُّله بما هو وصلة إلى الفوز بالرضوان، وهو أكبر نعم الجنّة.
ولو وُضِع نعيم الدنيا المادّي بجنب نعيم الآخرة لسقطت قيمته ولو كان أعظم نعيم فيها، ولما حَفلت به عين ترى نعيم الآخرة، وما نظرت إليه.
أجمل شيء وقعت عليه عينك في تجربتك الحياتية، ونظرك منشدٌّ إليه كل الانشداد، حين تأتي صورة أكبر جمالاً بأضعاف مضاعفة، تنسى الصورة الأولى، وتنصرف بنظرك عنها.
كل جمال الدنيا، وكل خير الدنيا، وكل نعم الدنيا، وكل فتنتها تسقط قيمتها لِنَظَرِ ما في الآخرة، وأقل ما في الآخرة من جمال يُسقط أكبر ما في الدنيا وقيمته.
كل معلوماتنا قاصرة، وكل امتداد لتصورنا عاجز عن أن يدرك ما تغنى به الجنّة من نعم، وما تثرى به من لذائذ، ومن خير أعدّه الله عز وجل جزاءاً لأوليائه، وليس من نفسٍ على الإطلاق تملك العلم بما أعد للمؤمنين من كلِّ ذلك:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ…}(5).
وعن الرسول صلَّى الله عليه وآله:”قال الله تعالى: أعددْتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُن سمعت ولا خَطَرَ على قلب بشر”(6).
هذا ومن العيون ما يرى في الدنيا من الجمال ما لا يتحمّلهُ قلب رائيه، وقد تسمع الأذُن من صور الغنى ما كأنهُ خيال، وما يستفزُّ النفوس.
هنا صور من الجمال لا يتحملها الكثيرون، مستويات من الغنى تضطرب أمامها أنفسُ الكثيرين، لكنَّ كل ذلك لا يُعطيك قدرة على تخيّل ما في الآخرة من جمال، ومن خير، ومن غنى، ولا يمكن لأي صورة تخطر بقلبك على ضوء ما أعطتك تجارب الدنيا أن تُحاكي جمال الآخرة وخيرها وغناها.
والقلب يتسع في خيالهِ لصور من الجمال وصور من الغنى أكثر ممّا يحتمله واقع الدُّنيا، ولكنَّ أوسَع خيال، وأكبر قدرة على التصور عند الإنسان لا تبلغُ أن تُلمَّ بصورة جمال أو غنى مما هو في الآخرة.
والخير والغنى واللذّة والرّضا والجمال الذي لا يبلغُ أوسعُ خيال في الدنيا أن يصله، واقعٌ في الآخرة، ويُنال بالعمل الصالح، وسيغنى به عباد الله الصالحون، ولا يفقدون أنفسهم، ولا يخسرونها كما يخسر الكثيرون في الدّنيا أنفسهم أمام متع صغيرة ولذات قصيرة (7).
ويرى الإسلام أنّ النفس الإنسانية قد أهَّلها الله باستعدادات كافية لما هو أكبر من الدُّنيا لذاذةً ونعمة وكرامة، وما هو أبقى، وهو نعيم الآخرة الذي لا ضيق فيه، ولا نفاذ له، ولا نهاية، في حياة دائمة لا أمد لها ولا انقضاء.
ولذلك كان من الظلم للنفس في الدّين أن تتجمّد نفس عند لذة الدنيا، وتُستهلك من أجلها، وتتخلَّى عن هدف الآخرة، والتركيز عليها.
ولا يقع شيءٌ في نظر الدين ثمناً للنفس الإنسانية الكريمة إلاّ الجنّة، والجنّة تعني نعيم بدن، ونعيم عقل، ونعيم قلب وروح.
يقول عزَّ من قائل:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ..}(8).
هذا هو الثمن، وليس الثمن قصرا في الدنيا، جاهاً كاذباً في الدنيا، موقعا رسمياً فيها.
وعن الإمام علي عليه السلام:”إنّه ليس لأنفسكم ثمنٌ إلا الجنّة فلا تبيعوها إلا بها”(9).
(*) ألف قصر، ألف حقل، غنى باذخ، حياة مترفة، دنيا عريضة، شهرة واسعة، سلطة نافذة، لذائذ مغرقة، جمال فتّان، كلّ الأمنيات الدنيوية الكبيرة لا تقع ثمناً للإنسان، ولا تساوي شيئا من كرامته، وهي ثمن بخسٌ لو باع به ذاته.
وقد ظلم نفسه أي ظلم، واسترخصها أيَّ استرخاص، واستخف بها أي استخفاف من رأى لها ثمناً دون الجنّة الكريمة الجليلة العظيمة بما تعنيه من رضا الله على عبده، ولطفه به.
تقول الكلمة عن علي عليه السلام:”مَنْ باعَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَعِيمِ الجَنَّةِ فَقَدْ ظَلَمَها”(10).
ولو كانت الجنّة لذائذ مادية وشهوات عارمة في غضب من الله لما كانت ثمناً لنفس الإنسان، وما مثّلت هناءاً لمؤمن عارف بالله، منفتح القلب على جلاله وجماله. وما كانت الجنة جنَّة عند المؤمن الحقِّ إلا لما تعنيه من رضى الله ورحمته ولطفه وإكرامه لعبده الذي أسكنه جنّته.
ويقول عليُّ عليه السلام في ما هو عنه:”إنَّ مَنْ باعَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ الْجَنَّةِ، فَقَدْ عَظُمَتْ عَلَيْهِ الْمِحْنَةُ”(11).
وكيف لا تعظم عليه المحنة، وتشتد عليه المصيبة، وتُذيبه الكارثة وقد أدّى به خطؤه(12) إلى النّار، ووجد نفسه مطروداً من رحمة الله، وقد انكشف له الغطاء ورأى بحق أن لا ملجأ له من الله مما سواه ومن سواه، ولا مأمن من غير رحمته، ولا شأن لمخلوق إلا بقربه ورضاه؟!
بعد أن ينكشف الغطاء ويرى هذه الرؤية كيف لا يشقى عبدٌ وقع في غضب الله؟! كيف يفارقه الهم والغم لحظة وقد تحوّل الثمن الذي باع به نفسه إلى عذاب مقيم يعاني منه، وشقاء دائم يغرق فيه، ولا فرصة أخرى أمامه للتدارك، ولا قدرة له على الفِرار؟!
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تتركنا لمشورة الشيطان، وما تختاره لنا النفس الأمارة بالسوء، وما يقود له الهوى، وأعذنا من الانصراف للدنيا عن الآخرة، والاشتغال بعاجلها عن الآجل من أمر تلك الدار، واصرف همّنا إليك، واجعل مطلبنا رضوانك، وسعينا في سبيلك، وطريقنا إلى الجنة التي وعدت بها أهل طاعتك، وهيأتها لإكرام أوليائك يا رحمان يا رحيم يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(13).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي قامت الأشياء بقدرته، وانتظم الكون بتدبيره، والأمور بحكمته، وعمّ السماوات والأرض عدلُه، ووسعت كلَّ شيء رحمتُه، ونفذ في كل شيء حكمه، وقهر كل شيء بسلطانه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا كثيرا.
أوصيكم عباد الله ونفسي التي يخادعها الشيطان بتقوى الله، والاستعانة به، والتوكّلِ عليه، والاعتصام به، فلا عاصم من دون الله، ولا كافي سواه.
ولئن كان الشيطان غويّاً شديد المكر، بالغ الحيلة إلاّ أنَّ رحمة الله بمن اعتصم به كافية، وحمايته واقية، وقدرته محيطة، ولا أثر لشيء إلاّ بإذنه، ولا نفاذ لأمر إلا بإرادته.
ومن طلب خير نفسه فطريقه طاعة الله، ومن أراد بنفسه سوءاً فليسلك طريق معصيته.
اللهم اجعل لنا في قلوبنا ذكراً لك تعمر به، ويطرد عنها الشيطان، ويبطل كيده ومكره، ولا تجعل لنا للنفس الأمّارة بالسوء إصغاء، ولا منا بالمضلِّين اغتراراً، وأَخْلِصْ حياتنا لطاعتك، وهمّنا في طلب رضوانك يا حنّان، يا منّان، يا كريم.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولاخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا، وأرحامنا، وقراباتنا، وجيراننا، ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا جميعا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، والحسن بن محمد المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وعجل فرّج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقربين، وأيّده بروح القدس يا رب العالمين. اللهم اجعلنا من أنصاره وأعوانه في غيبته وحضوره برحمتك يا أرحم الراحمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفّقهم لمراضيك، وسدّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً دائماً قائماً.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الأعزاء فإلى هذا الحديث:

بين الحق والقانون:

لا حياة على المستوى الاجتماعي بلا قانون، ولا قيمة لقانونٍ بلا تطبيق، ووجود القانون اسميٌ لا غير إذا كان تطبيقه على بعضٍ دون بعضٍ في المجتمع الذي شُرِّع له، ولا قيمة لقانونٍ لا تكون قاعدته الحق وقصده العدل، وإنما دعت الحاجة إلى القانون لدعوة الحاجة إلى الأخذ بالحقّ وإقامة العدل، ومن أراد الظلم فلا حاجة له إلى قانون لأنّ منطلق الظلم الهوى، والهوى لا ثبات له على شيء، ولا يخضع للضوابط.
وإذا نادى ظالمٌ بالقانون، فإنما ليتّخذه أداة طيعةً في مقام التطبيق يتصرّف فيه هواه، ويستعين به على تحقيق ما تشتهيه نفسه، ويُفعّل منه ما اقتضى ذلك تفعيله، ويُعطّل منه ما استوجب ذلك تعطيله.
والقوانين التي تولد ظالمة هي قوّة تشريعية تًضاف إلى قوة الناب والظفر التي بيد الظالم تثبيتاً لظلمه وترسيخاً له، وتبريراً يزيد من سوئه ومأساته، ومن أظلم الظلم تشريع القوانين الظالمة التي تعطي تأصيلاً للظلم، وتظهره كذباً وزوراً بمظهر العدل وتبرّره.
وتقبُح الصورة بدرجة أشد ويتفاحش الظلم عندما يكون الدستور الذي يُعدّ أصلا للقوانين الفرعية ظالماً، وصوتاً لاهباً لظهور المستضعفين، وما استقلَّ فردٌ بوضع دستور أو قانون لشعبٍ أو أمة، إلا وكان نظره فيه إلى ما يراه مصلحة له، ولمن هو أقرب من هواه وميل نفسه، وكذلك هو شأن أيّ هيئةٍ تتولّى مهمة وضع دستور أو قانون، فالدستور الذي يخلو من مسّ الجهل والهوى والقصور مطلقاً إنما هو الدستور المُتنزّل من السماء لا غير.
وإذا أراد مجتمعٌ أن يدير ظهره لشريعة السماء، أو اضطرته الأوضاع أن يعتمد على التجربة الأرضية وخبرتها، فإنه لتجنّب الحالة الأسوء لابد من دستور تُعتمدُ الطريقة الديمقراطية في وضعه بعيداً عن تحكم فردٍ أو جماعة.
واستقلال أيّ حكومة ظالمة بطبيعتها مخالفة للحق والعدل، ملغية النظر للدين والضمير وكل أصل إنساني وخلقي وكرامة الإنسان، ولا ترى إلا ما تتصوره من مصلحتها، ولا تلتفت إلا إلى مشتهاها، ولا تستهدف إلاّ بقاءها والتأكيد على تميّزها.
استقلالها بوضع الدستور من أكبر ما يبتلي به الشعب أو أمة، ومن أشد أسرٍ لهما وأقصى إلغاء لإنسانيتهما.
وواضح أنه كلما زاد التمسك بالقانون الظالم وبُولِغ في تطبيقه، كلما ازداد الظلم واشتدت ضراوته، وضاق الأبرياء بالحياة درعاً، وكانت حياتهم شقاء.
وأي قانون ظالم يطالب الناس بالالتزام به، فإنما هي مطالبة بالاستسلام للظلم وإقراره ومباركته.
الحقُّ أساس القانون، والقانون الذي لا يُراعي الحق ولا يتخذه قاعدة له، في حكم العدم، ولا قيمة له في دين ولا عقل ولا ضمير ولا ميزان المصلحة الحقيقية، حتى المستفيد من هذا القانون الظالم ما يراه استفادة له منه هادمٌ لمصلحته، يُعطيه مالاً حراماً، كرسياً ظالما، قوةً مختلسة إلا أن ذلك يهدم من ذاته ويأكل من إنسانيته.
القانون لا يخلق الحق وإنما يتبعه، وصدق قانونيته من صدق حقّانيته.
الحرمة والقداسة والاحترام لا لبنود ومواد صيغت بطريقة قانونية(14)، وإنما كل ذلك لما تنطق به من الحق وتثبته من العدل إن كانت كذلك، وإلا فهي حبرٌ على ورق، بل باطلٌ لا يصح التسليم به والسكوت عليه ما أمكن الإنكار.

هل البحرين خارج السياق؟

تحركت الساحة العربية بصورة واسعة لتصحيح وضع العلاقة الظالم بينها وبين حكوماتها، أو التخلص منها نهائياً بإلغاء النظام أو الحكومة كما في بعض هذه التحركات، وقد أُسقط عدد من الأنظمة وطويت صفحته من الواقع تحت ضغط الشعوب.
وكل الحكومات والأنظمة التي واجهتها موجة الاحتجاجات والانتفاضات والثورات في الساحة العربية أبدت درجةً من اللّين والمرونة والاستجابة لمطالب شعوبها وذلك على مستوياتٍ سياسيةٍ متفاوتة، ولازالت الشعوب تطالب بالمزيد لإيمانها بأن الاستقرار الحقيقي لا تحقّقه الحلول الشكلية والمعالجات الهزيلة.
وحتى الجزائر التي لم تتصاعد فيها حركة الاحتجاجات ولم تتسع رُقعتها، يعلن النظام فيها عن تبنّي نوعٍ من الإصلاح للدستور تحسُّباً لما ينتظره الوضع هناك من تفجُّرات، وإن كان بعض دعاوى الإصلاح تخديرية وليست ذات مضمونٍ جدّي مما يُمثّل حلاً حقيقياً. وفي الكويت الخليجية تحضير عملي وخطواتٌ على الأرض لنوعٍ من الإصلاح السياسي المطلوب.
فهل البحرين التي عاشت المطالبة بالإصلاح السياسي لسنوات وسنوات، واشتدَّ الحراك الشعبي فيها لهذا الهدف بدايةً من الرابع عشر من فبراير، وبذل الشعب في سبيل ذلك ما بذل من أثمان باهظة، والحكومة على تصلّبها، هل البحرين والحال هذا تعتبرها الحكومة خارج السياق العربي كله، وأنها المستثنى الوحيد الذي لن يكون فيه إصلاحٌ لوضعه السياسي، ولن يَمسَّ وضعه السياسي تغييرٌ أو تعديل؟
استمرار الاستثناء مستحيل، والمماطلة بالإصلاح فيها تصعيد، وتأخيره لا يضاعف الكلفة المدفوعة من الشعب وحده ولا يخفّض من سقف المطالب، فحسب كل تجارب الحراك العربي وحسب الحراك المحلي، كلما مضى الوقت تعقّدت الأمور، وكلما دفعت الشعوب تضحيات أكثر كلّما ارتفع سقف مطالبها حتى استحال الالتقاء في عدد من النقاط من الساحات العربية على نقطة مشتركة، وحسب عدد من هذه التجارب.
البحرين كأنها خارج السياق في نظر الحكومة المحلية، في نظر المحيط الخليجي، في نظر الجامعة العربية، في نظر المجتمع الدولي، فهل سيعطي الشعب موافقةً على أنه خارج السياق العربي والثورات العربية، بحيث يخرج الكل بنتيجة ويرجع الشعب البحريني بخفي حنين؟(15).
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (16).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- 133/ آل عمران.
2- 21/ الحديد.
3- البلاغة ج4 ص92 ط1.
4 – بحار الأنوار ج45 ص47 ط2 المصححة.
5 – 17/ السجدة. 6 – كنز العمال ج15 ص778 ط.
7 – نحن هنا وأمام الجمال المحدود، وأمام الغنى المحدود، وأمام القوة المحدودة نخسر أنفسنا، وتسقط قيمتنا أمام جمال استعظمناه كبعد في نظرنا، أو أمام قوة دخلت منها الهيبة في نفوسنا. لنا تحمّل خاص، للأنفس تحمّل خاص من رؤية الجمال، من رؤية القوة ثم تخسأ أن تقف أمام درجة أعلى من الجمال ومن القوة، تندكّ النفس. هناك، والجمال فوق ما نتصور، النفوس كبيرة، ولو جاء جمال الآخرة في الدنيا، لخسرنا أنفسنا حيث مستوانا.
8 – 111/ التوبة.
9 – نهج البلاغة ج4 ص105 ط1.
(*) عرض عشرين مليون على نفسك ازهده، عرض موقع رئيس جمهورية تبيع به ذاتك ازهده، أنت تظلم ذاتك حينما تبيع هذه النفس بمركز رئيس جمهورية. ونحن نخطأ ونبيع أنفسنا بخمسين قدم في خمسين قدم من الأرض، لكلمة، لابتسامة زائلة.
10 – هداية العلم في تنظيم غرر الحكم ص613.
11 – هداية العلم في تنظيم غرر الحكم ص602.
12 – حين باع نفسه بغير الجنة.
13 – سورة التوحيد.
14 – تصوغ لي مواد وبنودا بصيغة قانونية، فتقدمه قانوناً! هذا ليس بقانون. السؤال هذه المواد وهذه البنود قاعدتها حقٌ أو باطل، عدلٌ أو ظلم؟ سمِّه قانون، ولكنه الفوضى، وهو الظلم، هو التعسف مادامت قاعدته الظلم.
15 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).
16 – 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى