خطبة الجمعة (474) 22 ذو القعدة 1432هـ – 21 أكتوبر 2011م

مواضيع الخطبة:

 

الخطبة الأولى: كيف نصبح؟ – عمّا لانملك

الخطبة الثانية: من مشكلات الأوطان – النزاعات فرصة البعض – أسئلة بسيطة – سجوننا وسجون إسرائيل – غياب الخيار الصحيح

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أنعم على عباده بنعمة الوجود والحياة، ورَزَقَهم من فضله ما يحتاجون إليه، ويستوفون به مُدّتهم، وأمدَّهم بما يبلُغون به كمالهم، ويصلون به إلى أقصى غايتِهم، ويخلدون به في أعلى درجات سعادتهم، وما ترك لهم عذراً في ذلك، ولا حجّة يحتجّون بها، وهداهم الصِّراط، وأوضح لهم السبل، ودعاهم إلى واسع جنّته، والمزيد من كرامته. له المِنّة الدّائمة، والحمدُ الذي لا ينتهي، والشّكر الذي لا يُبلَغ.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أُوصيكم عباد الله ونفسي الجهولة بتقوى الله، والاشتغال بحمده، ودوام شكره، واقتفاء أثر دينه، والاهتداء بأنوار وحيه، والاستغناء بهداه. فمن ضيَّع دين الله لم يهتد، ومن سَلَكَ طريقاً إلى غير الله لم يجدْ نوراً، ومن اتّخذَ ديناً غير دينه فإنما طَلَبَ لنفسه الضلال والعمى والتيه والضياع، ومشقّة الحياة، وسوء المنقلب.
وما فارقت نفس هدى ربّها الكريم، وانحرفت عن دينه إلاّ انسلخت عن إنسانيتها، واستوطنها الشرّ المقيم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وكل من أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعل قلوبنا وكراً للشيطان، ولا تجعل له مَطمعاً فينا، واجعلنا من أصدق حامديك، وأبلغ شاكريك، وأقرب من تقرَّب إليك، وأربح من فاز بقَبولك ورضاك يا ذا المنّ العظيم، والفضل العميم، والإحسان القديم، يا رحمان يا رحيم.
بعد أيها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث تحت عنوان:

كيف نُصبح؟ :

من الصبح إلى المساء عمرٌ جديد في حياة الإنسان على الأرض، ورصيد ضخم في وجوده، ويُمكن له أن يُعبّئ هذه المسافة من الزمن بالشرّ، وبالإساءة لنفسه والناس والحياة، وأن يَعمُرَها بالخير والهدى النور والصلاح.
يُمكن له أن يتحوّل فيها من هدىً إلى ضلال، ومن ضلالٍ إلى هدى، ومن نورٍ إلى ظلمة، ومن ظلمةٍ إلى نور، وأن يَهدِمَ بناءً، ويقيم بناءً، ويعدل عن طريق الجنّة إلى النّار، وعن طريق النَّار إلى الجنّة(1).
نحن نملك من صُبحنا الجديد أمراً، ولا نملك آخر، فنحن مُسيّرون من جهة، ومُخيّرون من جهة أخرى.

عمَّا لا نملك:

“قيل لعيسى بن مريم(2):كيف أصبحت؟ قال: لا أملك ما أرجو، ولا أستطيع ما أحاذر، مأموراً بالطاعة، منهيّاً عن الخطيئة، فلا أرى فقيراً أفقر منّي”(3).
كلٌّ منّا يُصبح وهو عبدٌ لا يمكن له أن يخرج من عبوديته، فقير حقّاً في ذاته ليس له حيلة للانسلاخ من فقره، ولا يملك وجوده ولا حياته، ولا نفعاً ولا ضرّاً لنفسه، ولا يأتيه خير، ولا يندفع عنه شر إلا بإذن ربه.
“قال عبد الله بن جعفر الطيَّار: دخلت على عمّي علي بن أبي طالب عليهما السلام صباحاً وكان مريضاً، فقلت: كيف أصبحت يا أمير المؤمنين؟ قال: يا بني كيف أصبح من يفنى ببقائه(4)، ويسقم بدوائه، ويؤتى من مأمنه؟”(5).
الإنسان يُصبح مملوكاً لله، تجري عليه سُننه، لا يملك لأي سنّة من سنن ربّه تبديلاً ولا تحويلاً. والطريق إلى نهايته مرسوم محتوم، ويومه الأخير مكتوب مقدَّر.
وهو وإنْ ملك بمقدارٍ أن يدفع الأسباب بالأسباب(6)، وأن يُغالب العلل بمثلها، وكلّها من صنع الله، إلاّ أنه لا يملك أبداً أن يتصرّف في الأقدار المحتومة، وأن يدفع عن نفسه ما قدَّر الله له أن يجري عليه، وحتَّم أن يُصيبه(7).
“قيل له – للحسن – عليه السلام: كيف أصبحت يا ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله؟ قال: أصبحت ولي ربٌّ فوقي، والنار أمامي، والموت يطلبني، والحساب محدق بي، وأنا مرتهن بعملي، لا أجد ما أحب ولا أدفع ما أكره، والأمور بيد غيري، فإن شاء عذّبني، وإن شاء عفا عنِّي، فأي فقير أفقر منّي؟!”(8).
قوله عليه السلام:”ولي ربّ فوقي” فوقي وجوداً وحياة وقدرة وعزّاً وشأناً وعلماً، ولا شيءَ لي إلا منه، ولا خير لي إلاّ به، ولا دافع لقدره إلا هو. فوقي حيث إنّي العبد المملوك، وهو الرب المالك، وأنا الفقير وهو الغني، وأنا لولا هو لكنتُ صرف عدم، وهو تعالى حق الوجود ومحض الوجود، والوجود الكامل المطلق(9).
ليس يوماً دون يوم ونحن نصبح ونمسي عبيداً مملوكين، فقراء مُستَعطِين، ضعفاء مستقوين لا يجد أحدٌ منّا من يُبقي له لحظة وجود، نبضةَ حياة، قوّةً على شيء، خيراً، دفعَ شرّ إلاّ الله مالك كلّ أمر، مدبِّر كلّ شيء، المتصرّف في كلّ شيء.
ومن كان هذا فقره كان لابدَّ أن يذُلَّ لمن كان ذلك غِناه، وأن يستجيب لإرادته، ويستسلم لأمره ونهيه.
والشّموخ بالأنْف هنا سَفَه، والاستكبار جنون، والتنكُّر لواجب الشُّكْر رذيلة، وقَطْع العلاقة أشدّ أنواع الانتحار.
وإذا كانت كلُّ الممكنات، وما خلق الله من شيء لا شيء في نفسه، وكان الفقر الذاتي هو حظّ الجميع، والكلّ مغمور في الذلّ والمسكنة الذّاتية -كما هو الحقّ – حق ألا يَعبُدَ شيء منها شيئاً آخر، ولا يُخاف شيء ويُرجى، ويُؤمّل. فلا رجاء ولا أمل ولا خوف في الحقّ إلا من الله وحده، وحقّ أن لا يحمل قلبٌ حبّاً كحبِّه، ولا يُحبَّ أحداً على خلاف رضاه.
هذا حديث عن الجهة التي نحن مُسيّرون فيها، ويأتي الحديث إن شاء الله عن الجهة التي نحن مُخيّرون فيها، وما أُقْدِرنا عليه، ونُسأل عنه.
اللهم صلّ وسلّم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربنا اجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك. {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}(10).
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(11).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي هدانا ولم يَدَعْنا ضُلاّلاً، وبصَّرنا ولم يتركنا عمياناً، ورزقنا من جليل نِعَمِهِ ما لا نملك له عدّاً، ومن عظيم مواهبه ما لا نبلغ له شُكْراً، ودَفَعَ النّقم، وكلَّف يسيراً، وأثاب جزيلاً، وستر منّا القبيح، وأظهر الجميل، ولم يؤاخذ بالجريرة، ولم يُعاجل بالعقوبة.
الحمد لله كما هو أهله حمداً دائماً متّصلاً لا انقطاع له ولا أمد، ولا مُنتهى له ولا حدّ.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله علينا بتقوى الله، فتقواه أمرٌ يحكم به العقل، وتستجيب له الفطرة، وتدعو له الخَلْقَة، وتضطرُّ إليه حياة الناس، ويتوقّف عليه بلوغُ الغاية، ويَحفظ من تردِّي النفس، ويقي من سوء المآل، ويضمن السّعادة.
فأيُّ عاقل، وأيُّ إنسان سويِّ النفس، سليمِ الفطرة، يغضّ طرفه عن كل ذلك، ويستسلم لهواه، وينقادُ انقياد السّفيه التّافه وراء شهواته، وإغراءات الدّنيا فينسى الله، ويركبُ رأسَه، ويختطُّ لحياته خطّ العناد والمكابرة لربّه وهو العبد الذليل الذي لا يملك من أمر وجوده، وحياته، ورزقه شيئاً؟!.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا صِدْق التّقوى، وأدِمْ علينا نِعمته، حتى ننال رضاك، ونكون من أهل كرامتك، ومن كَتَبْتَ لهم المنزلة الرّفيعة في جنتك، وفتحت عليهم أبواب رحمتك، وسهَّلت لهم من الأسواء مخرجاً، ورزقتهم من حيث لا يحتسبون.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ أئمة الحقّ: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً مقيماً.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات في الله فإلى عدد من العناوين:

من مشكلات الأوطان:

هناك حكوماتٌ مستقلّة تأتي قراراتُها من إراداتها بلا أن تكون هذه الإرادة مُهَيمَناً عليها ومملوكة لإرادة حكومة أخرى.
هذه الحكومات قد تتوافق في سياستها مع شعوبها، وقد تختلف. لكن حتّى على فرض الاختلاف لو اقتنعت أنَّ مصلحتها الدائمة أو المؤقّتة في التوافق مع إرادة الشعب، والسَّماع إلى مطالبه فإنه لا يبقى أمامها مانع من إعمال إرادتها في هذا الاتجاه، وحلّ المشكل، وإنهاء الأزمة.
وهناك حكومات لا تتمتّع بالاستقلال الكافي، وتكون إرادتها مقيّدة بإرادةٍ مُهيمِنة لحكومة أخرى.
وهذه الهيمنة تؤزِّم في العادة العلاقة مع الشعب، وتزيد من تعقيد حالات الاختلاف، وتخلق مانعاً من الوصول إلى التوافق في موارد النزاع، وخاصَّة عندما يكون استمرار النزاع مطلوباً للطرف المهيمِن، ويرى فيه فرصة للتمكين لهيمنته وترسيخها، والمدِّ في بقائها، وفرض شروط أكبر على الطرف الواقع تحت هيمنته.
ويزيد التعقيدُ تعقيداً حينما تكون أي حكومةٍ عبداً مملوكاً لأكثر من جهة خارجية تفرض عليها هيمنتها، وتعيش هي الحاجة إليها، وتعتمد على حمايتها أو عطائها وإمدادها.
فالعبد المملوك لأكثر من جهة سيادية يكون نهباً في مشاعره ومواقفه لهذه الجهات، ولا يستطيع أن يتّخذ قراره بنفسه، فإن أرضى جهة بما يريد اتخاذه من قرار يُنهي مشكلته ربما لم ترضَ عنه جهة أخرى، وقد تتصادم إرادات مالكيه إلى الحدّ الذي يحيّره ويمزّقه، ويمنع عليه اتخاذ قرار واضح وافق مصلحته أو خالفها إلا ّ أن تتفاوت قوة مالكيه فتكسر إرادة الأقوى منهم إرادة الأضعف.
ثم إنَّ هذه الحكومة أو تلك قد لا يأتي دورُ إرادتها إلا في المرتبة الثالثة من إراداتٍ سيادية يكون متوسطها مملوكاً لأعلاها، وهي مملوكة لكلِّ ما فوقها من إرادات.
وعندئذ تشتدُّ مصيبة شعب حكومته بهذه المنزلة من الضّعف والذّل في حين أنها تعدُّ نفسها سيداً للشعب.
وما أكثر الحكومات الإسلاميَّة والعربيّة التي تعيش حالة تبعيّةٍ واضحة في إرادتها وسياستها وعلاقاتها وتعاملها مع شعوبها لإرادة حكومة أخرى أو أكثر.

النزاعات فرصة البعض:

هناك محبّو ظهور، باحثون عن مال، باحثون عن مناصب، أصحاب أحقاد، أصحاب عُقَد، لا يجدون فرصةً أفضل من جوِّ النّزاع والصّراع وتضارب المصالح بين شعب وحكومة.
والحكومات تبحث في كلِّ الظروف عن عُملاء، عن ألْسُنٍ، عن أيدي، عن عيون تستعين بهم لتنفيذ خططها، وتثبيت وجودها بأيّ ثمنٍ مستطاع، ولا تجد أفضل من باعة الدين والضمير من كلّ الفئات والشرائح والمِلل والمذاهب والتخصّصات ممن يبحثون عن مشترٍ لهم كما تبحث تلك الحكومات عمن تشتريه لأغراضها السّيئة.
وأعظم ما تشتدّ حاجة الحكومات لهذه السّلعة ويكثر طلبها عليها، فيكبر ثمنها في حال أزماتها مع شعوبها، وإصرارها على كسر إرادة الشعب، وإذلاله وعدم التنازل له في أيّ من حقوقه الثابتة.
وهذه هي الفرصة الذهبية لمن كان يبحث عن الدنيا في أي بُعد من أبعادها، وأي مغرٍ من مغرياتها، أو تفاهة من تفاهاتها، وكان مستعِدّاً أن لا يُبقيَ لنفسه ذمّةً ولا ديناً، ولا إنسانية ولا شرفاً في قبال ما يطمح إليه من مال أو منصب أو تزلُّف.
وفي هذا مصيبة كبرى للدِّين، والشعوب، والأمم، وضياع للحق، ومحق للعدل، والله المستعان.

أسئلة بسيطة:

رائع جدّاً، ومفرح جدّاً أن تتّجه الإرادة في النظام العربي الحاكم إلى إنكار الظلم من أي دولة من دوله للشعب الذي تحمَّلت أمانةَ حكمه بصورة وأخرى، وأن تردّها عن ظلمه، وتفرض عليها الاحترام لإرادة الشّعب الذي همَّشت إرادته، وإرجاعَ حقوقه المسلوبةِ منه، وحرّيته المصادرة عليه، وثروته المتلاعب بها.
هذا رائع، ومحلُّ تثمين كبير إذا كان من العودة إلى الحقّ، والأخذ بالصّحيح، واحترام الشعوب، والنظر إلى الإسلام وأحكامه وقيمه.
فهل هذا هو المنطلق لإدانة هنا، ولخطوة عملية هناك يمارسها النظام العربي في مساحة منه ضدّ إحدى دوله ظاهرها أنها من أجل تصحيح وضع تلك الدولة أو تغييره انتصاراً للشعب هناك؟
إذا كان هذا هو المنطلق فالشّعوب العربية كلّها مضطهدة، ومهمّشة، ومنهوبة، ومسروقة، ومستخفٌّ بها، وحريّتها مصادرة، وكلمتها مقهورة، وحقوقها مضيّعة، ودينها مُغيَّب، وإرادتها مسحوقة. وكل الحكومات العربية تمارس هذا بدرجة عالية وصورة فاضحة في حق شعوبها(12).
وإذا كان كذلك فعلى كل هذه الحكومات أن تنتفض ضدّ نفسها، وتُدين ظلمها ضد شعوبها، وتتخذ قراراً جماعياً شُجاعاً يُنهي تسلّطها على هذه الشعوب وإنهاء مأساتها، والرجوع إلى إرادة الأمة في حكم نفسها.
كيف يصحّ للنظام الرسمي العربي أن يكون منه مطالِبٌ بالإصلاح والتغيير ومطالَب؛ بينما كله يعيش الحاجة إلى الإصلاح والتغيير، وكلّه غارق في الظلم والخطأ والتخلّف والاستبداد واضطهاد الشعوب؟!
وما تفسير أن الصوت المطالب من داخل النظام الرسمي العربي بالإصلاح والتغيير والمحشِّدَ لهما والمستنصر بالغرب أحياناً لتنفيذهما هو نفسه المدافع عن ظلم حكومات داخل هذا النظام(13)، ويُثبِّت أركانه، ويُدين ويُخوّن أيّ تحرك د اخلي ضدّ تلك الحكومات، وأي حركة إصلاحية تريد أن تغير من الواقع المأساوي التي تعيشه الشعوب، ولا يكفيه إلاّ أن يُحشِّد الجيوش لإجهاض أي لون من الحراك يُقاوم تلك الأوضاع؟
وما تفسير هذا التوافق بين كلمة هذا الصوت وموقفه مع الكلمة الأمريكية والموقف الأمريكي في إدانة من تدين أمريكا، وحرب من تحارب، ومقاطعة من تُقاطع، والسكوت عمَّن تسكت، وتأييد من تؤيد، ومناصرة من تُناصر؟!
وما تفسير الموقف الأمريكي المتباين من حكومات تتساوى ظلماً وتسلّطاً وديكتاتورية واستبداداً، ونهباً وسرقة وعبثاً بمصير الشعوب، ومن شعوب تشترك في المعاناة والمأساة من هذه الحكومات، وتُصادَر حرّيتها، وتوأد إرادتها، وتُحارَب وتُجَهّل وتمزّق بثرواتها على يد الساسة المتسلطين عليها؟!
حكومةٌ من هذه الحكومات تُدان علناً وتُناصر خفاءاً حتى يتمّ اليأس منها، ويُعثر على بديل مناسب لها. وحكومة أخرى يُتدخّل ضدّها بالسلاح، وبالصورة المكشوفة. وثالثة تُغازَل وتُذلّل وتُكرّم لقمع شعبها.
وشعب تُؤجّج مشاعره ويُلهب حماسه ضد حكومته، وربما مُدَّ بالمال والسلاح. وآخر يُغرّر بكلمة، ويلام بكلمة، وثالث يُغرى بالوعود الزائفة، ورابع يُيأس من أجل أن يركع.
ما السِرّ في ذلك؟
السِرُّ تعرفه كل الشعوب، وكل الدنيا، وكل الحكومات. السِّرُّ أن أمريكا لها ميزان واحد، ومقدّس واحد ليس هو إلا مصلحتها المادية، وقبل ذلك المصلحة الماديَّة لكبار ساستها، والطامعين في رئاستها، والمراكز السياسية العليا فيها.

سجوننا وسجون إسرائيل:

لقد فُرِّغت السجون الإسرائيلية من عدد من أحرار فلسطين، وبقي منهم الكثير في ظلماتها، وفُرّغت أو كادت أن تُفرّغ من الحرائر الفلسطينيات المجاهدات. وهذا خير والحمد لله. ونسأل الله عزّ وجلّ أن تُفرّغ سجون الظالمين من كل المظلومين في كل مكان.
وما حصل للإخوة الفلسطينيين والفلسطينيات من استعادة للحرية إنما كان على رغم أنف إسرائيل، وتحت ضغط الجهاد والمقاومة التي تتحمّل أتعابها الساحة الفلسطينية مجاهدوها وأهلها الأحرار.
وإذا جئت لسجوننا فإنّ نُزّالها يزيدون يوماً بعد يوم، والتدفّق عليها من أبناء الشعب في استمرار، وهي لا تشبع منهم ولا تكتفي.
والجديد في سجوننا التي لم ترَ المرأة المؤمنة لها ظلاً من قبل أنها صارت تُغيّب الحرائر المسلمات ويُحكم عليهن بالخلود فيها، وكلّ الذنب إبداء الرأي السياسي، والمطالبة بالحقّ، والاعتزاز بالحرية والكرامة.
يحدث هذا التغييب، وهذه الأحكام في تجاوز واضح للحقّ والعدل، وقيم الدين وأحكامه، وما عليه حرمة الإنسان، وخصوصية المرأة، والأعراف الحميدة للمجتمع المسلم، وما تعلنه المنظمات النسوية شبه الرسمية من الاعتزاز بالمرأة، ووجوب رعايتها.
هذه المراعاة التي تجلّت بكل وضوح على يد قوات الأمن في حادثة مركز العاصمة التجاري (سيتي سنتر) التي أبكت العيون، وفي الهجوم المباغت بقوة أمنية مكثّفة على بيت الأستاذة السلمان قبل الفجر، وبصورة مفزعة وكأنه هجوم على قلعة محصّنة وجيش مدجّج بالسلاح، وعلى أكبر قائد عسكري يُهدِّد أمن الدولة وليس لطلب حضور امرأة عزلاء لمركز رسمي لتنفيذ الحكم المدّعى الذي لم يُفرغ من الاستئناف منه.
كل الغيارى وكل الأحرار يُقدمون الشكر لمثل هذه الإجراءات والسياسة المحترمة، وعلى المرأة أن تعترف بالجميل الكبير لتعامل السياسة معها بهذا اللون من التعامل وتحتفظ بذلك في ذاكرتها حتى تكون دائمة الشكر لهذا الصنيع الكريم الفذِّ(14)، وعليها أن تُصدِّق دائماً أن الحكومة تنتصر لها في أي قانون تتقدّم به وتسنّه باسم الحفاظ على حقوقها وإنقاذها من هيمنة زوجها وأخيها وأبيها وأحبتها(15).

غياب الخيار الصحيح:

ما أكثر ما يُغيَّب الخيار الصحيح عند الإنسان في هذه الحياة في ظلّ جهالة النفس التي تغمر العقل، وتُضلّل رؤيته، أو تعزلها عن التأثير فيما يتجه إليه خياره، وهذا سارٍ في شأن القويّ والضعيف، والغني والفقير، والحاكم والمحكوم، وفي كلِّ الطبقات.
الخيار الصحيح أن يعترف الإنسان بعبوديته للواحد الأحد، ويظل كلّ حياته ثابتاً على طريق هذه العبودية المشرّفة.
ومن أشدِّ ما يُفقد الإنسان رشدَه، وهذا الخيارَ الصحيح أُبّهة الحكم، وغرور السلطان، وبذخ الملك.
وضحايا هذا الغرور يملأون ساحة الحياة.
كان يسع الذين أطاحت بهم ثورات هذه الآونة أن يعترفوا بعبوديتهم لله سبحانه، ولا يخسروا شيئاً من اللذّة الحلال في الحياة، وأن يخرجوا منها كراماً أماجد لا يلعنهم اللاعنون.
وخيار العدل لو كان لرفع لهم شأناً في الدنيا ما بقيت، وجعل الملايين تودعهم بالدموع، والأجيالَ تذكرهم في الخالدين.
فلماذا الظلم والبطش والنهب والتعالي يا ذوي السلطان؟!
إنَّ في مقتل القذافي درساً واعظاً يُضاف إلى دروس كلّها عظة غَنِيَت بها الساحة العربية في زمن قصير.
عِظة للطغاة: بأن لا تَطْغَوا فلستم آلهة، إنما أنتم عبيد، ولكم يوم محتوم.
وعِظة للحكومات البديلة: بأن كونوا أذكياء فلا تخرجوا من هذه الدُّنيا ملعونين كما ودَّعت مَنْ قبلكم لعنات الملايين.
وعظة لعَبَدَة السلاطين: بأن هذا هو مصير آلهتكم المكذوبة فلا تأووا إلى ركن ضعيف.
وعظة للمستضعفين في الأرض: بأن لا تنسوا أن الإله الحقَّ هو الله، وأنه الرب الذي لا ربّ غيره، وأنه مهلك الظالمين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، ربنا اغفر لنا وتب علينا وعلى المؤمنين والمؤمنات أجمعين، إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اهدنا سبيلك القويم، واسلك بنا إليك، وانتهِ بنا في ما نأتي به من قول وعمل وفكر وشعور ونية إلى رضوانك. اللهم ارحم شهداءنا، واشف مرضانا وجرحانا، وفكّ أسرى سجنائنا وأسرانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (16).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- إنّه يوم واحد، ولكن يمكن لك من خلال هذا اليوم أن تنقلب من ضفّة النّار إلى الجنّة، وينقلب آخر من ضفّة الجنّة إلى النّار.
2- عليه السلام.
3- بحار الأنوار ج71 ص307 ط2 المصححة.
4- كل لحظة نبقاها تمثّل فناءا في العمر، نقصا في العمر.
5- بحار الأنوار ج73 ص18 ط2 المصححة.
قد أرى مأمني في هذا الطريق، في هذه العلاقة، في الأخذ بالشيء الفلاني، بينما فيه مدفني.
6- نحن لا نملك حولا ولا طولا خارج الأسباب التي هي ملك الله سبحانه وتعالى.
7- الأسباب لها فاعليّة معطاة لها من الله وذلك إلى حد.
8- بحار الأنوار ج75 ص113 ط2 المصححة.
9- فهو فوقي.
10- 286/ البقرة.
11- سورة التوحيد.
12- ولذلك يتساوى الجميع.
13- من جهة هناك دفاع عن الشعوب، ومن جهة أخرى هناك دفاع عن حكومات، وحماية لها، بينما الحكومات على حد واحد، والشعوب على حد واحد.
14- هتاف جماهير المصلين بـ(نطالب بالإفراج عن المساجين).
15- هتاف جماهير المصلين بـ(نساؤنا أمانة).
16- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى