خطبة الجمعة (468) 10 شوال 1432هـ – 9 سبتمبر 2011م

مواضيع الخطبة:

الخطبة الأولى: اذكر الآخرة

الخطبة الثانية: إذا حصل السبب حصل المسبب – تحية للأطباء

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أقام من كلِّ ما خلق – وخلقُه لا يعدُّه العادّون – شواهد على علمه، عدله، وحكمته، وجميل إبداعه، وعظمته، وكلُّ الأشياء منقادة لإرادته، مستجيبة بمشيئته، ولا ظهور لها إلاَّ من ظهوره، وهو وحده الظاهر بنفسه لا بغيره، والملك الحقُّ، ولا يملك أحدٌ شيئاً من أمره، ولا ملك لأحد مع ملكه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسّوء بتقوى الله؛ فتقوى الله خالصة النفع، منزَّهة عن الضرر؛ لا تضر بأمر دنيا ولا دين، ولا حفظ لهما إلاّ بها.
وما الدّين كلّه إلا الأخذ بالحقّ، وبالطيّب من الأشياء والأمور، والمجافاة للباطل وكلّ ما خبُث.
وما من خير للإنسان إلا ويتكفّل له به أخذه بالحقّ، وبما طاب من الأمور والأشياء في نفسه ، وما من شرٍّ إلا في اتّباع الباطل، والرضى بالخبيث.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اهد قلوبنا فلا تستوحش من حقّ، ولا تأنس بباطل، وطهّر نفوسنا فلا تستبدل عن طيّب بخبيث، وزكّنا، وبرّئنا من الأرجاس، وأدخلنا في الصالحين.
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات الكرام فالحديث في:

ذكر الآخرة:

الدنيا حاضرة عندنا، والآخرة غائبة عنّا. الدّنيا تملأ علينا حِسَّنا، والآخرة لا يصل إلينا منها حسّ. الدّنيا تحيط بنا في خارجنا كلّه، وفي كلّ لحظة من لحظاتنا، والآخرة لها واقعها الذي لا نراه، وعالمها المقطوع عنّا.
فالدنيا بما هي عليه مما تقدّم لا تحتاج إلى من يذكّرنا بها، وإنما هي بحضورها القوي، وضغطها الدائم، ومشاهدها المكثّفة تذكّرنا بنفسها، ولا تسمح لنا أن ننساها.
والآخرة بما هي عليه من عالم غيبي هي التي تحتاج إلى التذكير. على أن الآخرة بما هي المصير، وحياة الأبد، لا خسارة أكبر من نسيان الله سبحانه ونسيانها. ومن فاته ذكرها، فاته ذكر نفسه، وكان سعيه في حياته لنهاية الشقاء.
لذلك ركّز الدين بما لا مزيد عليه على قضية الآخرة، والموت، والبعث، والنشور، والحساب، والجزاء بالثواب والعقاب.
والتذكير بالآخرة ليس للانصراف عن الدنيا وخيرها، وإنما هو لإصلاحها، وإصلاح أهلها، ومن أجل أن تؤدي وظيفتها في إعداد الإنسان، وتأهيله بتكميله لحياة الآخرة.
وليس من أحد أكبر تعلّقاً بالآخرة من رسول الله صلّى الله عليه وآله ثمّ ليس من أحد صلُحت به الدّنيا وعمُرت وكثُر خيرها على يده كما كان منه صلّى الله عليه وآله.وليس من أحد أكبر تعلّقاً بالآخرة من رسول الله صلّى الله عليه وآله ثمّ ليس من أحد صلُحت به الدّنيا وعمُرت وكثُر خيرها على يده كما كان منه صلّى الله عليه وآله.
وما انفصل ذكر الدّنيا عن ذكر الآخرة إلا أفسدها، وخاصم بين أهلها، وساءت به أيَّ سوء عظيم شامل، واستلبت من الإنسان غايته، وانتهت به إلى شرّ شقاء، وآلم عذاب.
وفي التذكير بالآخرة نستحضر هذه النصوص الكريمة:
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}(1).
{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ…}(2).
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(3).
تذكير بأنّه لا أمل في البقاء في هذه الدنيا، وأن ساعة المغادرة ليست بيدنا، وقد تداهمنا في أي لحظة.
وتذكير بأنّه لا احتماء من الأجل المحتوم، وكلّ الاحتياطات دون الموت فاشلة في نهايتها.
وتذكير بالقيمة الدونية للحياة الدنيا بالنسبة للحياة الآخرة التي تمثّل الحياة الحقيقية المركّزة، وأنّه لو قيس خير الدنيا لما عليه قيمة خير الآخرة لسقطت قيمته.
وكلّ هذه التذكيرات، والتذكيرات الأخرى المكثّفة من أجل أن يلتفت الإنسان إلى دار القرار ويعطيها الأهمية الكبرى التي تستحقها.
وهذا حديث يستوقف الإنسان في مراحل مختلفة من عمره، وتستثير عقله ووجدانه، ويشدّ مشاعره ليوم رحلته المصيرية الكبرى، وما يستقبله من عالم جديد ينأى به عن كلّ مواضعات هذه الحياة وما أنسه فيها من مادة، وما تعرَّفه من طرق المعاش فيها، وما كان له من لذائذ ، ومسرات من طبيعتها.
في الحديث:”إن الله تعالى يرسل ملكا ينزل في كل ليلة ينادي: يا أبناء العشرين جدوا واجتهدوا، ويا أبناء الثلاثين لا تغرنكم الحياة الدُّنيا، ويا أبناء الأربعين ما أعددتم للقاء ربّكم، ويا أبناء الخمسين أتاكم النذير، ويا أبناء الستين زرع آن حصاده، ويا أبناء السبعين نودي لكم فأجيبوا، ويا أبناء الثمانين أتتكم الساعة وأنتم غافلون”(4).
وإذا كان العمر مجموعة خطوات، واحدتها عشر سنوات، فإن الحديث وبدايةً من سنِّ العشرين يُذكر الإنسان بآخرته على رأس كل خُطوة، ملفتاً نظره بأنّه قد صار أشدّ اقتراباً من يوم أجله، ودنّواً من قبره، وعليه أن ينتزع نفسه بقوّة من الانشداد للدنيا، وأن يكون أمضى إرادة، وأقوى حزما في التهيؤ للآخرة، حتى لا يستبقي جهدا من نفسه إلا وبذله في هذا السبيل.
يا ابن العشرين دع لهوك، ودّع لعبك، جدّ جدّك، واجهَد جَهْدك؛ فإنّك قد قطعت شوطاً على طريق الآخرة، ولا تدري متى يأتي الأجل، والموت لا يستثني عمراً من الأعمار، ولم تُعط الضمان من مالك أمرك أن تبقى إلى مزيد.
عشرون سنة خطوتان من عمر محدود، إذا امتدّ به المدى إلى عشر خطوات بهذا الحساب فهو كثير. ونادراً ما يزيد.
وكلما أعقبت الأربعين سنة خطوة قلّت لذائذ هذه الحياة، وكثرت عللها، هذا إن لم تبكِّر العلل، وتستبق المنغّصات.
ويا ابن الثلاثين كفى غروراً وكان عليك أن تتخلص من غرور الدنيا قبل هذا الأوان، وينبغي أن تدقّ أجراس الآخرة في أذنك قبل أن يباغتك مقضيّ الأجل، واليوم المحتوم. لو لملمت أوراقك، لو شددت أمتعتك لكان في هذا الحزم، وكان في هذا العقل، وكان في هذا التدبير الصحيح(5).
ويا ابن الأربعين كن الشديد على نفسك، الموبّخ لها، الغليظ عليها، المحاسب لها بدقّة واستقصاء.
سلها أين زاد الآخرة؟! أين المؤنس؟! أين الصاحب في الرحيل؟! ماذا أعطيت للدنيا؟! وماذا أعطيت للآخرة؟! ألست الجهولة حين تغفلين، وحين تهملين؟! ألا تدرين أنك إلى سفر بعيد، شاق، صعب شديد؟!
ويا ابن الخمسين أتاك النذير في نفسك، وبدأت التهاوي، وبدأت تخسر من صحتك ونشاطك ومتعتك، وبدأ يخمد فوران غرائز من غرائزك، وكثيرون هم المودّعون للحياة من سنّك، ولم يبق لك من العمر لو أجّل لك فيه إلا قليل من الخطوات، ولا خير فيمن أُنذر ممن لا يقول إلا الحقّ والصدق فلم يُنذر(6).
ويا ابن الستين آنك آنُ الحصاد، وأنت على باب دار أخرى، وكن في كل لحظة ممن يرتقب الحصاد، وينتظر الرحيل. ومن كان هذا شأنه ليس له همّ في الدنيا، وإنّما كلّ همّه في الآخرة. ولا يبني بناء في الدنيا من أي نوع إلا بنظر الآخرة وهمّها، ومن أجل أن يلحق بالصالحين.سلها أين زاد الآخرة؟! أين المؤنس؟! أين الصاحب في الرحيل؟! ماذا أعطيت للدنيا؟! وماذا أعطيت للآخرة؟! ألست الجهولة حين تغفلين، وحين تهملين؟! ألا تدرين أنك إلى سفر بعيد، شاق، صعب شديد؟!
ويا ابن الخمسين أتاك النذير في نفسك، وبدأت التهاوي، وبدأت تخسر من صحتك ونشاطك ومتعتك، وبدأ يخمد فوران غرائز من غرائزك، وكثيرون هم المودّعون للحياة من سنّك، ولم يبق لك من العمر لو أجّل لك فيه إلا قليل من الخطوات، ولا خير فيمن أُنذر ممن لا يقول إلا الحقّ والصدق فلم يُنذر(6).
ويا ابن الستين آنك آنُ الحصاد، وأنت على باب دار أخرى، فكن في كل لحظة ممن يرتقب الحصاد، وينتظر الرحيل. ومن كان هذا شأنه ليس له همّ في الدنيا، وإنّما كلّ همّه في الآخرة، ولا يبني بناء في الدنيا من أي نوع إلا بنظر الآخرة وهمّها، ومن أجل أن يلحق بالصالحين.
ويا ابن السبعين نودي بك، والطارق يطرق عليك الباب فماذا بقي بعد ذلك(7). عجّل عجّل. تدارك تدارك، لا ركون لحظة للدنيا، ولا نظر لها، سارع لما ينجيك في الآخرة. علّق كلّ أملك عليها، أدر بظهرك للدنيا، وأقبل بكلّك على التي بعدها، فإن الآخرة قد آن أوانها، وحان منها الحين، ودنا منك الرحيل.
ويا ابن الثمانين قد لفَّتك الغفلة، وأخذتك السكرة، والآن آنُ فراق ليس بعده مع الدنيا تلاق، وقد فوَّت وقت العمل، وهدرت الفرص. قد ضيَّعت العمر إن لم تكن قد قدّمت لآخرتك، وادخرت لنفسك ما ينقذك، واكتسبت ما ينجيك، وعملت ما تقرَّ به عينك يوم القيام.
يريد لنا الإسلام أن نكون على ذكر من الآخرة لتكون حياتنا هادفة جادّة مثمرة؛ لا يضيع منها شيء في غمرة اللهو واللعب، ولا يهدر الخمول والكسل منها شيئا، ولنكون أعزّ من الدنيا التي نعيشها، فلا نذلّ من أجلها ونخسأ.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا وأزواجنا ومن علّمنا علما نافعا في دين أو دنيا من المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ومن أحسن إلينا منهم، وجميع من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر، وتب علينا ربنا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا ذكر ما في ذكره خيرنا، وأنسنا ما فيه ذكره شرّنا، ولا تنسنا اللهم ذكرك وشكرك، واجعل ذكر الآخرة دائما عندنا.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(8).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يشركه أحد في جلاله، وجماله، وكماله، ولا يشبهه أحد في عزّه وجبروته وعلوّه وكبريائه، وهو المتفرّد في أزليّته، وسرمديته، وبقائه، وفي صمديّته وغناه وكرمه وإفضاله.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله؛ فإن من مات بلا تقوى مات بلا زاد لدار المعاد. وإنما يطلب الزاد للآخرة في الدنيا، وما الآخرة إلا دار حساب، وثواب، وعقاب. فمن طلب الجنة سعى لها في مهلة هذه الحياة. وبالموت ينقطع السعي، ويتوقف العمل، ولا يلقى الإنسان إلا ما قدّم. فمن قدّم صالحا لقي أجر ما قدّم، ومن قدّم سيّئاً لقي ما كسبت يداه من سوء.
فلنرحم أنفسنا، ولا نُعرِّضها لسخط من لا تقوم السماوات والأرض لسخطه، وتنهدُّ الجبال الراسيات هدّاً لغضبه.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا ممن اصطفيتهم لطاعتك، ومنحتهم حبّ عبادتك، وفرّغت قلوبهم لذكرك، ووجَّهت وجوههم لك، وأعددت لهم جنَّتك، وكتبت لهم المنزلة الرفيعة عندك يا حنّان، يا منّان، يا أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين، حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.< br> اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً، وأيّدهم بتأييدكً.
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات الأعزّاء فإلى هذا العنوان:

إذا حصل السبب حصل المُسبب:

فلسفياً وخارجياً إذا حصل السبب حصل المسبَّب.
وهو قانون سارٍ في عالم الطبيعة والاجتماع، والسياسة والاقتصاد ومختلف جنبات الحياة والوجود.
والمجتمع الذي ينقسم إلى ظالمٍ ومظلوم، ناهبٍ ومنهوب، سالبٍ ومسلوب، قاهرٍ ومقهور، آمنٍ وخائف، مترفٍ ومحروم، لابد أن يكون منشأً للصراع واحتدامه.
ومجتمعات الأرض اليوم ـ إلا ما ندر منها ـ تعيش هذا الانقسام المنتج للصراع، المؤجج له. وحالة الانقسام المَرَضيِ هذه لابد منها في غياب الدين الحق، والقيم الخلقية الأصيلة عن عالم السياسة والاجتماع.
وتعاني المجتمعات العربية بصورة فظيعة من هذا الواقع السيئ من الانقسام، وتتقدم على مجتمعات كثيرة في العالم في هذا المضمار.
وتكرّس هذا الواقع حكومات مستبدة لا تقيم لشعوبها وزناً بمقدار مثقال، ترى أن الأرض لها، ترى الثروة مختصة بها، وإنسان الأرض رقاً تحت يدها، لها التصرف فيه كيف تشاء، وليس له في قبالها شيءٌ من حقوق.
طعامه، شرابه، ملبسه، مسكنه، تعلُّمه، بقاؤه حيّاً دون تصفية جسدية مِنّةٌ منها. إن قَصَّر في شُكر هذه المنّة، فلم ينحنِ، ولم يُسبِّح باسم الحكومة المنعمة عليه بها حقّ عليه العذاب.
والظاهرة ليست بنت اليوم، وإنما قد ترسّخت طويلا، ومكثها في الأرض عامة، وفي الأرض العربية بالخصوص طويلٌ مقيم.
لكن لماذا اليوم لا أمس يرتفع صوت الشعوب، وتكثر التحركات والثورات، ويعلو لهب النار، ويحتدم الصراع؟
السرّ أن من عناصر العلة انتفاء المانع، فحتى مع وجود المقتضي لا يولد المُسبَّب في ظل ما يعطل فاعليته. فالظلم، والنهب، والقهر، والإساءة، وازدراء الشعوب، والاستخفاف بكرامتها، واستعبادها، وتجهيلها، واستحمارها من قبل الحكومات هو ما اعتادته الساحة العربية منذ قديم، ومنذ تنكّرت هذه الحكومات لإسلام الأمة وإنسانيتها.
والتخلُّف الفكري، والهزيمة النفسية، وسحق الثقة في النفس، ومحق إرادة التغيير عند الشعوب بفعل سياسة التجهيل والقمع والإذلال، وتحريف الدين، وتحويله إلى أداة تخديرٍ وتدجينٍ واستسلامٍ لإرادة الظالم، كان دائماً هو المعطِّل لحركة الشعوب من أجل استرداد حقها وكرامتها.
كان هذا هو المانع من أن يدفع واقع الظلم والاستبداد والأثرة والقهر الذي تمارسه الحكومات شعوب الأمة للتحرك، وقبول ما يتطلبه من ثمنٍ باهظ، وقد شاء الله عز وجل أن يرتفع هذا المانع بحدوث درجةٍ من الصحوة الإسلامية التي عمت الأمة، فكان لها منها بعثٌ قوي، وحياة فكر وإرادة ومضاء وروح تضحية من جديد.
وبهذا المستجدِّ في حياة الشعوب كان لابد من نهضة، ولابد من إصلاح وتغيير وإن كلّف الكثير. وهذا الذي كان حين هبّ صاحب الحق للمطالبة بحقّه، وأصرّ المأسور على استرداد حريته، وأبى المظلوم أن يقرّ للظلم في أرضه قرار. فتداعت التحركات والاحتجاجات والمسيرات والثورات في مختلف البلاد العربية، وتنادت صيحات الإصلاح والتغيير هنا وهناك، وجنّ جنون الحكومات فلجأت إلى كل سلاحٍ فتّاك من أجل إسكات صوت الشعوب(9).
وإلى أين تتجه الأمور، وترسو السفينة، ويصير الواقع؟.
عناد حكومات وإصرار شعوب؛ حكومات لا تريد أن تتنازل عن شيء من استبدادها، وظلمها، ونهبها، واستعلائها واستكبارها، أو تعترف بشيء من قيمة الشعوب، وحقها في رسم مسار حياتها، وتقرير مصيرها، وتمتعها بحريتها وكرامتها، والاعتزاز بإرادتها. وشعوبٌ لم يعد يثنيها عن استرداد هذا الحق، صعوبة من الصعوبات، ولا تحدٍ من التحديات، ولا أي آلامٍ تلقاها على الطريق، أو سبب منيةٍ يعترضها.
عود الأمور إلى ما كان ليس في الإمكان، وليس له أيّ مكان. والتنازل السهل من الحكومات غير واردٍ في الكثير.
والواقع المشهود، وما يُسجّله من استماتة الشعوب رغم كل التضحيات، وتصاعد الروح الثورية في إنسان هذا الجيل يوماً بعد يوم حتى لا يزيده ارتفاع مستوى التضحيات إلا إصراراً وصموداً ينفي تماماً إمكان أن يحصل تراجعٌ في حركة المقاومة لظلم الحكومات واستبدادها، وما تصر عليه من استعباد الشعوب(10).
والمظلوم إذا استردّ إرادته أقوى من الظالم، والموجَع أشدّ اندفاعة للتخلص من آلامه من مترفٍ يهمُّه أن يحافظ على ترفه.
فالنتيجة للصراع حسب المقدّمات الموضوعية هو الإصلاح والتغيير، والتراجع لصالح إرادة المظلومين وحقّهم، وهو التراجع الذي يدعو إليه العقل والدين والضمير، وهو التراجع الذي يحفظ إنسانية الطرفين ومصلحتهما.

تحية للأطباء:
أثاب الله الأطباء الذين غادروا السجن على ما أحسنوا، وعلى ما ابتلوا به وصبروا.
وتحيةٌ لهم وهم يخرجون من امتحانهم الطويل، وتجربتهم القاسية التي لم يكن يخفّفها إلا أنها بعين الله وفي سبيله.
يخرجون وهم على وفائهم لدينهم ووطنهم حيث الإصرارُ على العدل والإنصاف، وتفعيل الإصلاح، والرجوع إلى الشعب في أمر نفسه، واحترام إرادته، والاعتراف بكرامته. وهذا حقٌ ثابتٌ له لا جدال فيه.
وتحيةٌ لكل الصابرين الصامدين في السجون من الشرفاء من أبناء وبنات هذا الشعب، ولكل الأوفياء والمخلصين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (11).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ميزان الحكمة ج4 ص3285 ط1.
2- 90/ النحل.
3- نهج البلاغة ج4 ص51 ط1.
4- لك أن تتجاوز حقّك، وليس لك أن تتجاوز حق الآخرين باسم الإحسان إلى أي طرف آخر.
5- بحار الأنوار ج75 ص165 ط2 المصححة.
6- ميزان الحكمة ج3 ص2433 ط1.
7- المصدر السابق ج4 ص3284 ط1.
8- أو معيناً على ظلم الظلمة.
9- نهج البلاغة ج3 ص80 ط1.
10- هكذا تقول الكلمة عنه عليه السلام.
11- الإمام عليه السلام لا يعدُّ المال هنا مالاً له، إنه مال الأمة.
12- سورة الجحد.
13- 96/ الأعراف.
14- 61/ الزمر.
15- 73/ الزمر.
16- شرقيّة كانت أو غربيّة، وفي أي بقعة من العالم.
17 – وبذلك يأتي كثيراً أن ولاء النظام يعني الكفر بمصلحة الوطن ومواجهتها.
18 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).
19 – وما أشدّ الأسف لذلك.
20 – سورة النصر.
21 – 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى