خطبة الجمعة (467) 3 شوال 1432هـ – 2 سبتمبر 2011م

مواضيع الخطبة:

 

الخطبة الأولى: التفويض

الخطبة الثانية: ظاهرة طافحة – المعالجة الحقوقية – فوق اللون البرتقالي

الخطبة الأولى

الحمد لله صاحبِ كُلِّ نِعمة، مصدر كلِّ خير، مُفيض الوجود على كلّ موجود، واهب الحياة لكلّ حيّ، مُنتهى كلِّ حسنة، ومرجعِ كلِّ هدى، ومنوِّرِ كلّ نور.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أُوصيكم عباد الله الذي بيده وجودُكم وعدمُكم، وحياتكم ومماتكم، وخيركم وشرّكم بتقواه؛ ومن أحقُّ بالتقوى من مالك كلِّ ذلك؟! عبادَ الله اتقوا الله، واطلبوا عفوَه ومغفرتَه، وقدِّموا طاعتَه على كلّ طاعة، واركبوا كلَّ معصية تُجنِّب من معصيته؛ فإنّه يُجير، ولا يُجار منه، ويكفي، ولا يكفي عنه أحد، واتخذوا إلى رضوانه سبيلاً، فلا غِنى عن رضاه برضى غيره، وكيف يُغني رضى المخلوقين عن رضى الخالق، والمملوكين عن رضى المالك؟! اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أعذنا من أن نُخطئ الغاية؛ والغايةُ رِضاك، أو نميلَ عن القصد؛ والقصدُ قربُنا إليك، أو تزيغَ منّا الأبصار، وتعمى القلوب، ونُكرَثَ بحياتنا، والحياةُ في معصيتك إنما هي كارثة.
ربّنا ثبِّت لنا قدم صدق في الإيمان، واجعلنا صالحين.
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات فإلى هذا العنوان:

التفويض:

لكُلِّ نفس قدرة محدودة، وعلمٌ محدود، وتصرّفٌ محدود. وما من نَفْسٍ إلا وهي محدودة في كلّ بُعدٍ من أبعادها، وحيثيّة من حيثيّاتها. وأيُّ شيء، وأيُّ أحد تتجه إليه النفس من دون الله تراه محدوداً، لا يملكُ التصرُّفَ الحرّ، والإرادة النافذة بلا قيدٍ على الإطلاق.
وإذا كان كذلك فمهما كانت الثِّقةُ بالنّفس، ومهما كان لها من قُدرة، وعزم، وصبر وتحمّل ومقاومة واستئساد، وحَنَكَةٍ وحكمة، وحُسْن تصرّف وتدبير فإنّ ذلك له حدّ يقف عنده، ونهايةٌ تُنهيه؛ فالاعتماد على النفس وهذا شأنها لا يُمكّن أن يوفّر اطمئناناً كاملاً، وسكينة مستقرة على مستوى الشعور، ولا يضمن الحماية، وبلوغ الأمنية، وتحقيق الغاية في الخارج.
وإذا كان كلّ شيء من خارج النفس من خَلْق الله سبحانه يشاركها المحدودية، ويقف به حدُّه عن الإطلاق في القدرة والعلم، وسائر صفات الكمال لم يكن الاعتماد عليه، والرّكون إليه، والدّعم والتأييد منه كافياً للحماية التامّة، والكفاية الشّاملة.
أمّا لو اعتمدت النفسُ على الكامل سبحانه وقدرته المطلقة، وعلمِه الذي لا تَناهي له، وحياته التي ليس لها حدّ، ومُلكه الذي ليس له نهاية، وإرادتِه التي لا مانع لها، ورحمتِه الواسعة الشّاملة، وفوَّضت أمرها إليه، وصيَّرت التصرُّف فيها لإرادته من غير اقتراح عليه، ولا خيار لها قِبال خياره، واطمأنَّت لقبوله هذا التفويض كانت في مأمنٍ من كُلّ شرّ، وحِرزٍ من كلّ سوء، ولم يَفُتْها خير، ولم ينقُصْها نفع، ولم يمسسْها تخلّفٌ عن الغاية، ولم تقصُر عن السعادة. ذلك لأنّه لا تُحدّ قدرته، ولا يتناهى علمه، ولا معطّل لإرادته، ولا خلف في وعده، ولا ضيق في رحمته، ولا اتّهام لرأفته ورحمته.
حقَّ للنّفسِ المفوِّضة أمرها إلى الله الذي أحبَّ تفويضَ الأمر إليه ألا تفقِد السَّكينة، ولا تُفارِقها الطمأنينة، وأن تكون أغنى النفوس خيراً تَجِده عند الله.
ومنطلقُ التفويض معرفةٌ شديدةٌ بالله، وثِقةٌ قوية به، ونَفْسٌ خَلَت من حالة الغياب عن مشاهدة عظمته، واليقين بجلاله، وجماله، وكماله(1).
ولنقف عند ما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام من هذا القول الرائع:
“عجبت لمن فزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع؟!
عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله عزّ وجلّ {حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(2)؟! فإني سمعت الله جلّ جلاله يقول بعقبها {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}(3).
وعجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله عزّ وجلّ {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}(4)؟! فإني سمعت الله عزّ وجلّ يقول بعقبها {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}(5).
وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}( )؟! فإني سمعت الله جلّ وتقدّس يقول بعقبها {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا}(7).
وعجبت لمن أراد الدّنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قوله تبارك وتعالى {مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}(8)؟! فإني سمعت الله عزّ اسمه يقول بعقبها {إِن ترَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً، فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ}(9)”(10).
معنى فزع منه خاف منه، أمَّا فزع إليه فمعناها لجأ إليه، وطلب منه أن ينقذه(11).
والفزع للآيات الكريمة التي ذكرها الحديث تصديقٌ عميقٌ بها، واستراحة من النفس إليها، وبناء للشعور في ضوئها، وصوغٌ للوضع النفسي في هُداها(12)، والأخذُ بالتفويض الذي ترشد إليه، ثِقةً ويقينا بقدرة الله، وعلمه، وحكمته، ورحمته، ورأفته، وأنَّه لا يختار لعبده الذي سلَّم الاختيار إليه إلا ما فيه خيره، ورُشده، وهداه، وسعادته.
والنفسُ التي لا تثق في اختيار الله لها، ولطفه بها، وحكمته فيما يفعل بها، ورأفته بحالها وعلمه بما يُصلحها ويُفسدها أكثر من ثقةِ صبيٍّ في الصحراء يضع يده في يد أبيه مطمئناً ليأخذ به إلى مأمنه، والمنتهى الذي يُريحه ويسعد به نفس غير مؤمنة حقاً(13).
أمّا التي(14) آمنت بربها حقَّ الإيمان فهي أشدُّ اطمئناناً لربِّها(15)، وما يختار لها، وأتم يقيناً بحكمته ولطفه ورحمته، وأسرع خروجاً مِنْ حولها وقوتها مما آتاها تعويلاً على حوله وقوّته؛ تقديماً للثابت على الزّائل، والمطلقِ على المحدود(16).
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وأزواجنا وقراباتنا وأصدقائنا وأساتذتنا ومشايخنا ممن علمنا علما نافعاً، ولكل من أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا جميعا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا المعرفة الصِّدق بك، وحسن التوكل عليك، وتفويض الأمر إليك، والتسليم لما حكمت، والرضى بما قضيت يا أكرم من سئل، وأجود من أعطى، يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(17).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يَردُّ سائله، ولا يَخِيْب آمله، ويأمن من فزع إليه، ويفوز من توكّل عليه، ويُضاعف أجر المحسنين، ولا يظلمُ أحداً من المسيئين. ولا غالبَ لمن نَصَرَه، ولا ناصر لمن خذله، ولا يكون إلاّ ما أراد، ولا يحدث إلاّ ما قدّر.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
علينا عباد الله الذين لا حول لنا ولا قوّة إلاّ به، ولا وجود لنا لحظةً إلا بفيضه بتقواه، وأنْ لا نعدِل بطاعته طاعةَ أحد، ولا يُلْهِيَنا مُلْهٍ عن طلب رضاه، ولا يصرفنا صارف عن الاشتغال بعبادته، والاستجابة لما كَلَّفَ به.
ولنحمل النفس على العدل في المعاملة مع القريب والبعيد، والصَّديق والعدوّ، والمؤمن والكافر فإنه لا استثناء لأحد من العدل، ولا ترخيص في خلافه في حال من الأحوال.
وأوَّلُ العدل وضع النفس في موضعها من العبوديّة التّامة الخالصة لله سبحانه، والخضوع الكامل لما أمر ونهى، ودعا وزجر، وتقديمُه على كُلِّ من سواه خوفاً ورجاء، وحُبّاً وشكراً، وإجلالاً وتوقيراً وتقديساً وتعظيماً.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أكرمنا بطاعتك، ونزِّهنا عن معصيتك، وادفع عنا محذور قضائك، وزِدنا من جميل لطفك، وواسع رحمتك، وبلغنا رضاك، وقرّبنا إليك، وارفع درجتنا عندك، يا واسع الجود والكرم والعفو والرحمة، يا حميد يا مجيد.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ أئمة الهدى، حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً قائماً دائماً.
أما بعد أيها الأحبة في الله فإلى بعض عناوين:

ظاهرة طافحة:

تكوّنت في الساحة العربية في البُعد السياسي والأمني في العلاقة بين أنظمة الحكم والشعوب؛ ظاهرة واضحة طافحة تتكرر بمشاهدها الثابت والتي قد تختلف في بعض التفاصيل التي لا تضر بوحدتها النوعية في كل مَواطن التحرك الحقوقي والثوري من البلاد العربية.
تبدأ هذه الظاهرة تحت ظروف الابتزاز الرسمي للشعوب، وسلب حقوقها، وقهر إرادتها، والتلاعب بمصيرها باحتجاجات، وتجمُّعات، ومسيرات، واعتصامات للمطالبة الحقوقية، وتحسين الأوضاع.
تُقابل هذه البداية بالاستهزاء، والتزوير، والعنف المفرط، والاتهامات الظالمة، والتلفيقات الكاذبة العارية.
وتأتي الضحايا من أبناء وبنات الشعوب الأبرياء متوالية، ويتعاظم عدد الشهداء ليكون الصاعق المفجِّر للأوضاع بصورة مُرعبة، وليدخل الساحة في صراع مصيري لا هوادة فيه.
القليل من الأنظمة من يتغلّب على غرور السلطة، ويستجيب جزئياً لإرادة الإصلاح قبل تفجُّر الأوضاع، وصعوبة أو استحالة تداركها لكسر حِدّة التوتّر الشديد، وتراجع حالة الغليان ليستريح الوطن بعض وقتٍ في ظل هدوءٍ نسبي للأوضاع.
والكثير من الأنظمة لا يملك نفسه أمام غرور السلطة، ولا يسمع لنصح عقل، ولا يُصغي لتقدير مصلحة، وإنما يلجأ للإفراط في استعمال القوّة لينتصر للمعارضة على نفسه، ويرفع من مستوى رصيدها الشعبي، ويزيد من أعذارها، ويُجرِّئ عليه قوى جديدة واسعة كان يأمل أن تُحيِّدها فاعلية السلاح، إن لم تكن طوع يده في ضرب المعارضة.
في ظلِّ هذا النوع من ردِّ الفعل الرسمي ينتقل الوضع إلى حالة المفاصلة العملية التامة، والثورة الشّاملة، التي منها ما لا يغادر حالة الأسلوب السلمي، وهو قليل، ومنها ما يقابل العدوان بعدوان مثله ما وجد إلى ذلك سبيلاً.
ولحدّ الآن بالنسبة للسَّاحات التي بدأت تحرُّكاً جدّياً في المواجهة مع ظلم الأنظمة لم نجد شعباً قد تراجع، وقد وُجِد تراجعٌ بدرجة وأخرى في أكثر من نظام، وإن كان ذلك في عدد من التجارب بعد فوات الأوان حتى كانت أخسَّ نهاية يحاذر منها النظام، وأسوأ ما كان يَفِرُّ منه، وهو السُّقوط، والهروب بالجِلْد، والظهور في قفص الاتهام.
والعقلُ، والمصلحة، وراحة الأوطان، وما يتمنّاه أهل الحكمة والإخلاص هو خيار الإصلاح الشامل لا السلاح الفتّاك، والمبادرة بالإصلاح المُرضي للشعوب، لا الاستمرار في إلهاب مشاعر الناس بزيادة القتل والفتك حتى تَفْلت كلّ الأمور، ويُقضى على جميع فرص التفاهم، وتغلقَ كل أبواب العودة، وتُسدّ الطرق أمام أيّ حلّ يجمع بين إرادة الطرفين.
وأوضح ما تُجمِعُ عليه تجارب الساحة العربية منذ بداية الربيع العربي هو أن تراجع الشعوب إلى الوراء صار شيئاً ميؤساً منه على الإطلاق، وذلك لعدد من الظروف والمتغيّرات في مستوى الشعوب، وما ذاقت على يد الأنظمة الحاكمة من ويلات وكوارث ومذلّة.
والتركيز على الإصلاح الجدّي لا المازح، والشّامل لا الجزئي، والجذري لا السّطحي إنّما هو لكونه حقّاً أولاً، ولأنَّ من يريد لأيِّ وطن أن يستريح طويلاً، ويجعل أجواءَه قابلة للتفاهم عند الخلاف لا يجد من هذا النوع من الإصلاح بُداً، ولا عثور له على بديل له يحُلُّ محلّه.

المعالجة الحقوقية:
المعالجة لأيّ مشكل من مشاكل الشعوب التي أوقعتها فيها السياسات الخاطئة، ورفع أي ظلم عنها مما يَلحق بوجودها من هذه السياسات أمرٌ مطلوب، وحقٌّ لابدّ منه، وهو الصَّحيح الذي يجب ألا يتأخّر.
ومن أوضح ما يُطلب في باب الحقوق ألاَّ يبقى أبناء الشعب الذين طالبوا بحقوقهم وحريتهم وراء القُضبان، وفي غياهب السجون، ومن بينهم الشَّباب الأخيار، والناشئة الطاهرة، والأساتذة والمربّون المحترمون، والأطبّاء المخلصون، وذوي الاختصاصات المختلِفة، ونساء أبيَّات كريمات.
وكلُّ توجيه حقوقي قائم، وأي خطوة في الاتجاه الصحيح على مستوى التوجيه إنما تأخذ قيمتها من تحققها العملي، وتجسيدها في أرض الواقع. وهذا أمرٌ عارٍ من الغموض.
أما العلاج الحقيقي لسوء الأوضاع، ودرأ الخطر عن البلاد ففي الحلّ السّياسي الجدّي الجذري العادل الذي ينال موافقة الشارع، ويضمن حالة الاستقرار.
وإنّما تتركّز دعوتنا عليه، ويتكثّف نداؤنا به لأنه، لا ما دونه، الحلّ وليس في غيره حلّ على الإطلاق، ويأتي تركيزنا عليه إخلاصاً للبلاد والعباد.

فوق اللون البرتقالي:
وصلت درجة الإنذار لسماحة الشيخ علي سلمان من خلال التعدّي المباشر على منزله، وسيارته المحفوظة في مكانها منه إلى ما فوق اللون الرتقالي لشخصه الكريم، وفي ذلك أبلغ الخطورة، والسّوء الذي يرتبص بهذا البلد من مثل هذه التهوّرات، واللعب بالنار.
وإذا كان استهداف سماحة الشّيخ على ما عُرِف به من إصرار شديد على الأسلوب السلمي في المعارضة، ودرجة كبيرة من التعقُّل، واستعداد للحوار قد وصل إلى هذه الدرجة فمن سيكون مُستثنىً من مثل هذا الاستهداف؟!(18) ومن سيكون خارج دائرة التهديد الجدّي من غير حقّ، ولا تقيُّدٍ بدين أو عرف أو قانون؟!
إنها لغة لا أمن لمن لم يسكت، لا أمن لمن نطق بكلمة حق، ولكنّها لغة أفْشَلَتها الشعوب فلم تعد قادرة على إسكاتها(19). وهذه اللغة لا يأخذ بها إلا من أراد بأوطان المسلمين أن تحترق، وبالمجتمعات المسلمة أن يأتي عليها الهلاك.
وتطبيقاً لهذه اللغة المدمرة يأتي سقوط الشهيد الفتى السعيد، يوم العيد ليكون شاهد إرهاب رسمي تكررت حوادثه وشواهده في أقبية السّجون، وفي الميادين العامّة، والسّاحات المكشوفة وفي وضح النهار.
إرهابٌ من مفرداته القتل العمد، وإتلاف الممتلكات الخاصّة، والتعدّي على الأموال، وتسميم البيئة، وتعمُّد خنق الناس في بيوتهم وغرف نومهم بالغازات السَّامة. وعليك أن تُسمّي كلّ هذا أمناً وسلاماً وحرصاً على مصلحة الوطن والمواطن، وتقديراً لسلامته وكرامته وإلاّ كُنت العدو اللدود، والخائن والمارق الذي ليس له إلا العقاب(20).
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أصلح ما فسد من أمور المسلمين، واجمع كلمتهم على الحقّ والتقوى، واحمِ مجتمعاتهم من إفساد المفسدين، وظلم الظالمين، وبغي الباغين، وكيد الكائدين.
اللهم ارحم شهداءنا وشهداء الحقّ والدين أجمعين، وفكّ قيد السجناء والمأسورين، واشف المرضى والمعلولين، وردّ الغرباء سالمين غانمين يا أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (21).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- نفسٌ جلال الله، وجمال الله، وكمال الله حاضرٌ عندها أبداً دائماً، هذه نفس لابد أن تفوّض أمرها إلى الله.
2- 173/ آل عمران.
3- 174/ آل عمران.
تأمين كامل مما يخاف لمن قال حسبنا الله ونعم الوكيل.
4- 87/ الأنبياء.
5- 88/ الأنبياء.
6- 44/ غافر.
7- 45/ غافر.
8- 39/ الكهف.
9- 39، 40/ الكهف.
10- الخصال للشيخ الصدوق، ص218. و”عسى” موجبة، ليست للتوقّع، هنا للجزم بالوقوع. جاء في آخر الحديث كلمة “وعسى موجبة” وقد جاء في المصدر المذكور: يعني كلمة “عسى” في الآية للإيجاب والإثبات لا للترجّي أو الإشفاق. والظاهر أنه من كلام المصنف. انتهى.
11- في هذه المواقع الحرجة، في المآزق حيث تضيق الأمور وتتأزّم تبحث النفس وهي ضعيفة مهما قويت عن لجأ، تفزع إلى من ينقذها من المأزق والضيق. هنا النصيحة أن يكون رجوع للجأ إلى الله، للاتكاء عليه، لتفويض الأمر إليه بصدق.
12- القضية ليست قضية كلام: توكّلت على الله، فوّضت أمري إلى الله، حسبنا الله ونعم الوكيل، هي ليست قراءة آيات فقط.
13- النفس التي لا تستسلم لثقتها العالية جدّا في الله عز وجل أكثر من استسلام الطفل في الصحراء الشاسعة يضع يده في يد أبيه ليأخذ به إلى مأمنه هذه نفس ليست مؤمنة حقّاً.
وغريب منّا أن يثق أحدنا في قوة أرضية فيشعر بالغنى، في خبرة أرضية فيشعر بالوصول إلى النتيجة أكثر من ثقته في الله تبارك وتعالى، لأننا نرى منّا من لا يستريح إلى وعد الله، ومن لا تقنع نفسه بالأسباب التي هدى الله عز وجل إليها من التمسّك به وتفويض الأمر إليه .
14- أي النفس.
15- كيف لو كنت محميّاً من أكبر جيش في الأرض، وكيف لو كنت مدعوماً بأغنى قوّة في الأرض، هل تشعر باطمئنان؟ هل تسكن نفسك؟ إذا كان كذلك ولم أشعر مثل هذا الشعور من وعد الله، ومن اللجأ إلى الله فإذن لست أملك الإيمان الثابت الراسخ بالله عز وجل وصدق وعده.
16- على القوى الممنوحة لي من ربّي، أو القوى الممنوحة لغيري من ربّي لأن ذلك الغير يقف معي اعتماد على المحدود، اعتماد على الزائل، واعتمادي على الله اعتماد على الثابت، على المطلق، وفرق بين هذا الاعتماد وذاك الاعتماد.
17- سورة الإخلاص.
18- الرجل نموذج في التعقُّل، نموذج في الأخذ بالأسلوب السلمي، إذا نال التهديد مثل هذا الشخص على ما هو عليه من هذه الصفات فكيف لا ينال كلّ الساحة؟!.
19- هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).
20- هتاف جموع المصلين بـ(لن نركع إلا لله).
21- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى