خطبة الجمعة (417) 10 شعبان 1431هـ – 23 يوليو 2010م

موضوع الخطبة:

*الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
*يوم القائم (عجل الله فرجه) *المبدئية والانفتاح

 

هناك من يحرّف فهم الإسلام فيصير به إلى صورة عدوانية قاتمة كالحة منفِّرة، ويجعله
بتحريفه دين مجازرَ ومحارقَ، وسفكٍ للدَّم الحرام بلا ضوابط ولا حساب.

 

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي خَلَقَ العقولَ والقلوبَ وهداها إليه، وألزمها الحجَّة على عظمته، ووجوبِ عبادتِه، ونصَبَ أعلاماً للنّاس للهداية، وأدِلاّء على الطّاعة، وقادةً للنّجاة، ووصول الغاية، ودعا إلى الصِّراط، وأكَّدَ على السّبيل، وحذّر من التِّيه والضّلال والغواية، وأنزل الدّين الحقّ الذي لا يأمر إلا بمعروف، ولا ينهى إلا عن منكر، ولا يدعو إلاّ إلى خير، ولا يذودُ إلاّ عن شرّ.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون. اللهم صلّ على محمد وآل محمد.
عباد الله علينا بتقوى الله لنأمنَ من العثار، ونتجنّب الخسار. والتّقوى لا تنفصل عن البصيرة، ولا تأخذ بغير طريق العِلم، ولا تستقيم مع الجهل، وعدم الوقوف على ما أراد الله لهذا الإنسان من غاية، وما رضيَه له من منهج، ودلّ عليه من قادة، وشرّع من أحكام. ولا تقوى لمن قارفَ مُحرَّماً مما حرَّم الله، أو تساهل في واجب مما أوجب، أو اختطّ لنفسه طريق طاعةٍ لم يقمْ عليه دليل، أوأقام على جهله بالدّين وأحكامه مما يحتاجها في عمله، أو أظهر منه ما تصبو إليهِ نفسُه، وأخفى ما ليس له هوىً فيه(1).
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنَّك أنت التوّاب الرّحيم.
اللهمَّ أعذنا من التّعامل مع دينك من منطلق الهوى، وتحكيم الرَّأي، وتقديم مشتهى النّفس، وما يشتهيه قويٌّ أو ضعيفٌ على ما تريد، واجعل أخذنا به جادّاً، والتزامنا مخلِصاً، ودعوتنا إليه صادقة، ونُصرتنا له محقَّقَّة وأنت المنّان الحنّان الرؤوف الرّحيم.
أما بعد أيها المؤمنون فلنبدأ حديثاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
المعروف فكرٌ، وقولٌ، وفعلٌ يلتقي والحقَّ، ومصلحة الإنسان الحقيقيَّة، وغاية الحياة، وتكشف عنه مدركات العقل الفطري، والوجدانُ الإنسانيُّ الأصل، وشرائع السماء الصافية في ما لم يمسسه تحريف، ولم يصل إليه تزوير. والمنكر ما كان على خلاف ذلك.
أما أعراف المجتمعات البشريَّة على اختلافها فقد تلتقي مع معروفِ الدين، وقد تفارقه، ويكون معروف من معروفها منكراً في حكمه، ومنكر من منكراتها من المعروف عنده. وقد تتّسع فاصلة هذه المفارقة، وقد تضيق حسب تفاوت المجتمعات وقُرْبها أو بعدها من الحقّ والاستقامة والخلق الكريم.
والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان من فرائض الإسلام الثّابتة التي لا تتأثّر بزمان ولا مكان ولا أي حال من الأحوال مع مراعاة ضوابطهما وشرائطهما وأحكامهما في الشريعة. وقد شدَّد عليهما الإسلامُ في كتابه وسنّته، وما خلت منهما حياة المسلمين في يومٍ من الأيَّام.
وهما ضرورة من ضرورات بقاء الإسلام، وسلامة المجتمعات، واستمرار الحياة، وعدم انقلاب الموازين الذي لو تمَّ لحقَّ العذاب، ووقع الهلاك.
وكلُّ معروفٍ حَسَن مصلحٌ للإنسان، وكل منكر قبيح مفسد له في علم الله، ولكن أكثر النّاس لا يعلمون.
وهذه بعض عناوين يجري الحديث في الموضوع تحتها:
أولاً: وظيفة الأنبياء:
{الذين يتبعون الرسول الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيّبات، ويحرّم عليهم الخبائث…}(2).
والدّين لا يختلط عنده معروف بمنكر، ولا يسمح بتعطيل المعروف، ولا بقيام المنكر. ومن مهمَّات الرّسول الكبرى أن يسود المعروف، ويختفيَ المنكر، وأن تتثبّتَ دعائم الحقّ في حياة الناس، وتُجتثَّ بنيةُ الباطل. ولقد جهد رسولُ الله صلّى الله عليه وآله، وبذل قصارى الجهد في إيجاد مجتمع المعروف والفضيلة بعيداً عن كلِّ منكر ورذيلة.
وبعد أنْ كان الأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر وظيفةً كبرى من وظائف الرُّسل، ودوراً بارزاً من أدوارهم، وتكليفاً إلاهياً ثابتاً صار هذا الأمر والنهي مشرِّفَين لكل من التزم بوظيفتهما، وأدّى حقَّهما بتفانٍ وإخلاص(3).
ثانياً: أمَّة الأمر بالمعروف:
{ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}(4).
الآية فيها احتمالان مِنْ جهة (من) في لفظ (منكم) وأنها بيانيَّةٌ أو للتبعيض، وبغضّ النظر عن ترجيح أحد الوجهين تثبت الآية الكريمة سمة لازمة من سمات هذه الأمّة وتكليفا من تكاليفها، ودوراً من أدوارها الصَّالحة الفاعلة في الأرض على مستوى داخل الأمَّة وخارجها(5) وهو دور الدّعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إقامةً للحق، وإماتةً للباطل.
ومسؤولية هذا الأمر والنهي مسؤوليةٌ تتحمّلها الأمَّة، وإذا كان من جماعةٍ معيّنة تعدُّ بصورة متميّزة للقيام بهذه الوظيفة بدرجة مركَّزة فإعدادها، وإمدادها، وحمايتها، وتكميل نقصها، وتدارك قصورها مسؤولية عامّة مشتركة، ودورها المتميّز لا يُلغي مسؤوليةَ أيّ قادر في سدّ الثغرات المتبقيّة، وملأ الفراغات المتروكة، وتدارك التّقصير أو القصور الذي قد تقع فيه تلك الجماعة(6).
ويوم أن تتخلّى أمّة الإسلام عن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكون قد تخلَّت عن سمة أصيلة من سماتها وواجبٍ حتميّ من واجباتها، وانسلخت من الهُويّة، وضيَّعت الانتماء، ونسيت دينها القويم.
ولابدَّ لقارئ الآية الكريمة المتقدِّمة من الالتفات إلى ربطها بين التزام الأمَّة الدعوةَ إلى الخير والأمرَ بالمعروف، والنهي عن المنكر وبين تحقيق الفلاح والنَّجاح في أولاها وأخراها. وعند التخلّف عن هذا الدور الكريم والضروري لبقاء الأمم، واستقامة الحياة، والنَّأي بها عن الأزمات القاتلة والفوضى المهلِكة، والعبثيّة والضّياع فإنّما هو الفشل والسّقوط، وتضعضع الأمّة، وتحطّم المجتمعات، وفساد وخراب الحياة(7).
اللهم صلّ على محمد وآ محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرّحيم.
اللهم شرِّفنا بما شرّفت به أنبياءك ورسلك، وأوصياءهم المرضيين من القيام بالأمر بالمعروف، واجعلنا من أوّل من يأخذ به، والنهي عن المنكر واجعلنا من أبعد من يبتعد عنه، ومن الدّاعين إلى الخير، والدّالّين عليه، وأسبق من يسبق إلى فعله، وأعنّا على ذلك يا كريم يا رحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
{والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أكمل دينَه بالدّلالة على أوليائه، وخُزَّان علمِ وحيه، والهُداة إليه، والقادة إلى رضوانه، وجَعَلَ طاعة نبيِّه وأوصياء نبيّه من طاعته، والأخذَ منهم أخذاً منه، والانقياد إليهم انقياداً إليه، وذلك بعدما أَوْدَعَهم علم من سبقهم من أنبياء ومرسلين، وعَصَمَهُم من الزَّلل، وجعلهم في أمن ومنأى من الخلل إبقاءً لدينه، وإتماماً لِحُجّته، ورحمة بعباده، وهو أرحم الرّاحمين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون. اللهم على محمد وآل محمد، وارحمنا بمحمد وآل محمد.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله المطَّلِع على خفايا الصدور، وأسرار القلوب، وما أَتَتْ به نفس وما كسبته جارحةٌ في ليل أو نهار، وظلمة أو نور، وهو الذي لا يفوته فائت، ولا يهرُب منه هارب، ولا يُعجزه معاجِز، والنعم كلّها نعمه، ولا شيء من الآلاء إلاّ من عنده، ولا رجاءَ إلا رجاؤه، وكلُّ ذي أملٍ خائبٌ إلا من أمَّل فيه، وصَدَقَ أملُه، وكلُّ سعيٍ فاشل إلاّ سعياً أخلص إليه، وكان فيه رضاه.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم. اللهم اغفر لوالدينا، وأولادنا، وأزواجنا، وأرحامنا، وقراباتنا، وجيراننا، ومن عاشرنا وعاشرناه من المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة. اللهم ارزقنا ولايتك وولاية أوليائك، وطاعتك وطاعة من أمرت بطاعتهم، وجعلت من دينك متابعتهم، وألزمت بالأخذ منهم، والاقتداء بهم، ولم ترضَ لدينك دليلا يُغايرهم، ولم تقبل عملاً ممن يبغضهم. اللهم ثبِّتنا على دينك يا كريم يا رحيم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، اللهم صلّ على حبيبك المصطفى الصادق الأمين محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرِّضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحُفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا مقيما.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الأعزاء فإلى هذا الحديث:
يوم القائم (عجل الله فرجه):
هو يوم من أيام الله الكبرى الذي ينتصر فيه لدينه، ويُظهر في حُكم الأرض عدله، ويُعزّ أولياءه، ويُذلّ أعداءه، ويُقرّ عين المستضعفين من عباده، ويُري الجبابرةَ من عظيم قدرته، وظاهر قهره وسلطانه، ويَنشرُ من رحمته وهداه وأمانِه، وبركات رزقه، وعطاءات دينه ما تطمئنُّ إليه النّفوس، وتأنس القلوب، وتهدأ الخواطر، وينصرف النّاس عن التّنافس على الدّنيا وحقاراتها، والاقتتال ظُلما، أو من أجل لقمة عيش شحيح سُلِبَت، وكرامة منقوصة هُدِرَت، وأمنٍ غير آمن ضُيّع، وحياةٍ لا يفارقها الشّقاء، ويخرجون من عبادةٍ للطواغيت والشّهوات تُغيِّبُ العقل(8)، وتقتل الضَّمير، وتسلب العزّة، وتُميت الكرامة، وتُجفِّف منابع الخير في النّفس، وتطفئ النور فيها، وتستأصل منها الهدى، وتجتثُّ الأمل، وتَذوي بمشاعر الرّوح، وتغلق عليها آفاقَها؛ يخرجون من عبادةٍ تأتي عليهم(9)، وتنفصل بهم عن غاية الحياة، وتجعلهم أسارى مُستنقعِ الأرض، وبمستوى حشراتها وديدانها، وتقطع عليهم النظر إلى الآخر، وإلى أنفسهم وبارئهم(10)، وتوصد دونهم طرق السعادة إلى عبادة الله الواحد الأحد التي ترتفع بأُفُقِ النفس، وتُحيي العقل، وتوقظ الضّمير، وتبعث الرّوح، وتفجّر منابع الخير في القلوب، وتطمئنُّ لها النفوس، وتربح الحياة، وتسعد الآخرة. عبادةٌ ينال بها الإنسان هُداه وراحته، وكرامته، ومستواه الرفيع، وهناءةَ الحياة، ونعيمَ الآخرة، وتعِزُّ نفسه، ويعظُم منها القدر، وتعلو القيمة، وتنفتح البصيرة، وتتّضح السُّبُل، وتتحقق الغاية(11).
ويوم القائم عليه السلام يحتاج إلى تحضير قويّ، واستعداد كبير على مستوى بناء الفرد يمختلف أبعاده، وبناء الجماعة كذلك، وإيجاد صحوة عامة في الناس يلتفتون ببركتها إلى عظمة ربّهم، وقيمة أنفسهم، وسموِّ غاية الحياة، وتجعلهم يبحثون بجدٍّ عن المنهج الحقّ الذي يُخرجهم من الظّلمات إلى النور، ومن الكمِّ الهائل الحادِّ من المشكلات التي تُؤرِّقهم، وتُقلق كلّ الحياة إلى شاطئ الأمان، وعن القيادة الكفؤوة الأمينة التي تُنقذهم من المأساة بعيداً عن التّطلّع لما في أيدي النّاس، ولا تطلب أجرَها إلا من الله الغني الحميد. ولو جدّوا وأخلصوا في البحث(12) فلن يدلّهم عقل ولا وجدان ولا طلب مصلحة حقيقية على غير الإسلام منهجاً، والقائم عليه السلام ومن يقوم مقامه في كل غيبته قائدا وهاديا وأمينا ودليلا.
المبدئيّة والانفتاح:
هذا عنوان تقدّم، وأعود إليه مرة أخرى.
المبدئية ليست واحدة، والانفتاح هو كذلك. هناك مبدئية منشؤها مبدؤٌ ناقصٌ، أو منغلقٌ على فئة خاصّة من النّاس، وتجمّع بشري محدود لا يرى في غيره كفاءة التّكامل، وإمكانَ الصّعود، والمكانةَ الإنسانيَّة اللائقة، ويحكم على ذلك الغير بالدّونية التي لا مخرج له منها كما في اليهوديّة المحرَّفة على يدِ بني إسرائيل، وكما في النّظرة النازية وغيرهما من أديان محرّفة ونظرات أرضية ضيّقة.
وهناك مبدأٌ رحمةٌ واسِعُ الانفتاح على صالح كلِّ إنسان وكل جماعة وكلّ أمة، وينظر للإنسان في نفسه نظرة احترام، ولا يعادي الحقّ في أحد، ولا يبخل بالخير والهُدى على أحد، ولا يضمر لإنسان شرّاً، ولا يعادي في النّاس إلا ما كان جهلاً وضلالاً، وزيغاً عن الحقِّ، وانحرافاً، وظُلماً وباطلاً، ولا يُقرِّب إنساناً إلا لحُسن عمل وسريرة، ولا يُبعِّد آخر إلا لقُبح ظاهر وباطن؛ ظاهر من فعلٍ، وباطن من ضمير.
مبدأٌ قد يقسو ولكن لا يقسو إلا على شرّ، أمّا الخير فيُرحِّب به في كل إنسان، ويشيد به على أي يد كان، ومن أين جاء وهو مبدأ يطلب العدل مع الصديق والعدو، والقريب والبعيد، ويُنافح عن المظلوم أيِّ مظلوم، ويعمل على ردّ الحقّ ممن سُلِب منه وإن كان العدوَّ المبين(13). وهناك مذهب كذلك.
والإسلام، ومذهب أهل البيت عليهم السلام مثال صادق كلَّ الصدق لهذا المبدأ والمذهب والدّين الذي وصفنا.
ولو انحرف فهمٌ بأيّ مبدأ حق(14)، ودين قويم، ومذهب صدق، ومال به عن خطّ المحبَّة والانفتاح الهادف الصالح البنَّاء والعدل القويم انقلبت صورته وصار إلى العصبيَّة العمياء، والجهل الأهوج، والعدوانية الشرسة التي تدفع إلى هدر الحقّ، واستباحة الآخر، وسفكِ الدماء، وإعمال القتل والتجزير للأبرياء، وإخافة الآمنين، وترويع الحياة، وتبرير الظُّلم، والتنظير لوحشيّة السلوك، وإشاعة الفساد(15).
وهناك من يحرّف فهم الإسلام فيصير به إلى صورة عدوانية قاتمة كالحة منفِّرة، ويجعله بتحريفه دين مجازرَ ومحارقَ، وسفكٍ للدَّم الحرام بلا ضوابط ولا حساب.
وهذا من أكبر الظُّلم للإسلام، ومن أكبر الظلم لمذاهبه على تفاوتها لأنْ ليس من مذهب تصحُّ نسبته للإسلام بشيء من الصِّدْق يمكن أن يقوم على مبدأ الظلم والوحشية والتنكّر للحقوق، وانفلات المشاعر، والكراهية البهيمية السوداء، والحقد الجاهلي الدّفين.
وكفى بانفتاح الإسلام الحقّ الذي نؤمن به قوله تعالى {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ(16) وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(17) فالأمر والنهي في الآية الكريمة يسُدّان باب كلّ شر، ويفتحان باب كلّ خير في تعامل الإنسان مع الإنسان وغير الإنسان، ويأخذان بيد المسلم إلى أقوم السّلوك، وأنظف التّعامل، وأنفع العلاقات التي تعمرُ بها الحياة، وتأمن المجتمعات، وتنتهي أسبابُ التوتّر، ويسحبان كلّ مبرر للعدوانية والظلم، والكراهية الجاهلية السّوداء، والاستهانة بالحقوق، والتّسرّع في الدّماء، وارتكاب الهتك والفتك بغير ما أنزل الله، وشرَّع دينه العدل، ووحيُه الحقّ الصِّدق.
وأمّا التشيّع فنأخذ فهمنا له في التعامل مع كلّ الناس من مثل هذه النصوص:
عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام:”شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا المتزاورون في إحياء أمرنا، الذين إذا غضبوا لم يظلموا(18)، وإن رضوا لم يسرفوا(19)، بركةٌ على من جاوروا(20)، سلم لمن خالطوا”(21).
والحديث يتكلم عن العلاقات الداخلية وهي علاقات أخوّة إيمانية لا تمسُّ أحداً بسوء على الإطلاق(22). ثم عن العلاقة مع الآخر، وهي علاقة تخلو من الظلم، وتلتزم خط العدل، وتغنى بالخير والبركة(23)، وتنأى عن العدوانية والمكر السيء، والنيّة السوداء، والمخالطة بالسوء.
وعن الصّادق عليه السلام:”يا شيعة آل محمد إنه ليس منا من لم يملك نفسه عند الغضب، ولم يُحسِن صحبة من صحبه(24)، ومرافقة من رافقه، ومصالحة من صالحه، ومخالفة من خالفه”(25).
والحديث يقرّر حسن الصحبة مع الآخر، ورفقته بحيث لا تخرج عن العدل والإحسان، كما يُقرّر مصالحة الآخر المصالح فلا مكر به ولا ختل ولا خديعة، وحتى من خالف وخاصم لا يطاله الشّيعي في تقرير الحديث بظلم، ولا يتعدّى في التعامل معه حدود الله، وكلُّ حدوده سبحانه حدودُ عدلٍ وحقٍّ. الشيعي الحقّ لا يسيء المخالفة مع من يخالفه فلا يظلم ولا يفجر، ولا يستبيح ما حرّم الله، وخالف دينه.
وعن الصادق عليه السلام كذلك:”ليس من شيعتنا من يكون في مصر يكون فيه آلاف ويكون في المصر أورع منه”(26).
فالشيعي الصادق التشيُّع لابد أن يكون المثل الأعلى من بين الألوف في المصر في الورع والتقوى وكف الأذى عن النّاس، والنموذج الأروع في حسن التعامل، والتعاون على الخير، وبرّ الآخر.
وفي ضوء هذا الإسلام والتشيّع في الفهم الصحيح لهما لا يسعنا أن نخذل مظلوماً ونقف مع ظالم، ولا أن نساعد على ارتكاب منكر، أو نهادنَ رذيلة، أو ننطوي على حقدٍ جاهلي أسود لأحد من النّاس أي كان، أو أن نعادي الإنسان وإن عادينا ظلمه وبغيه وفحشه وسوءه، أو أن نسعى في النّاس بفتنة، وفي الأرض بفساد، أو نرضى بحرب نهبٍ وتشفٍّ واستكبار، أو نكفّ عن دعوة الخير، ونداء الإًلاح، أو نقف على محنة مستضعف فلا نفيثه ونحن قادرون، أو ندعو دعوة جاهليّة للفُرقة، أو لا ندرأ ظلماً لأمة أو شعب أو فئة من النّاس ونحن نملك أن ندرأه.
نحن نفهم أن الإسلام دعوة للمحبة والإخاء والعدل والإحسان والمعروف، ودفع الأذى، ورفع الظلم، وتطهير العقول والصدور، وفتح الألباب والأرواح على الخير والصلاح، ونحاول دائما الانسجام عملاً مع هذا الفهم؛ ولا عاصم إلا الله، وبالله المستعان.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنّك الغفور الرَّحيم، التوّاب الكريم.
اللهم أصلح شأننا كلّه وشأن المسلمين والمسلمات جميعاً في كل مكان، وآمن أوطاننا من شرّ الفتن، وسلّم لنا ديننا ودنيانا، واجعلنا ممن تنتصر به لدينك، والمظلومين من عبادك، ولقِّنا منك مغفرة ورضوانا يا حنّان، يا منّان، يا جواد، يا كريم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(27).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- وقد نفعل ذلك، قد نُظهر من الدين ما يلتقي وهوى النفس، ونُخفي منه ما يخالفها.
2- 157/ الأعراف.
3- وحقّ للمؤمنين أن يتسابقوا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4- 104/ آل عمران.
5- وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تمتد إلى خارج الأمة، هناك معروف فطري، والأمة تعمل على تثبيته في الأرض كل الأرض حتى في مجتمعات الكفر.
6- أن يكون على الأمة أن تخرج طائفة من الفقهاء والعلماء يتصدّرون مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا لا يعفي الأمة عن مسؤوليتها.
7- لولا بقية معروف وأمر بمعروف في أي مجتمع من مجتمعات الأرض لانتهى ذلك المجتمع، لا يمكن أن يبقى مجتمع بلا قدر من معروف، وبلا الأمر بالمعروف، حتى المجتمعات الكافرة فيها درجة من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. لا يستباح القتل المفتوح في أي مجتمع من المجتمعات، والقتل المفتوح منكر من المنكرات، وهناك عديد من القضايا التي تتفق كل المجتمعات على مواجهتها أو الحد منها وإنكارها.
8- نحن مُبتلون بها، الدنيا كلّها مبتلاة بهذا.
9- عقلا وروحا وإرادة خير في النفوس.
10- كل من في الدنيا يعبد، ولكن العبادة عبادتان: عبادة ترتقي بصاحبها وتصلحه، وعبادة تحط مستوى صاحبها وتفسده، عبادة غير الله مفسدة، تحط بالقدر، وتجفف إنسانية الإنسان، وعبادة الله هي وحدها التي تصلح وتُعلي.
وأكبر مصيبة أن ينقطع نظر الإنسان عن بارئه.
11- يوم القائم عليه السلام يوم بعث الإنسان، المسألة ليست مسألة لقمة، بطن جائع يشبعه الإمام عليه السلام، هذه المسألة مسألة ثانوية، اللقمة تتوفر في أكبر صورة في تاريخ البشرية، وخيرات الدنيا تتوفر في عهد الإمام عليه السلام، وتكون الحالة المادية أوسع حالة، ولكن المهمة الكبرى للإمام عليه السلام هي أن يصنعني ويصنعك، يعود بي إلى رشدي، ويعود بك إلى رشدك، يضع يده على رؤوس الناس، نحن الآن بلا عقول في تعاملنا مع أنفسنا، مع أهلنا، مع الآخرين، مع الأشياء.
12- عن المبدأ المنقذ، عن القيادة المنقذة.
13- التفت! الإسلام يتحمل رد الحق إلى من سُلب عنه وإن كان العدوّ المبين.
14- قد يكون مذهب حق، ولكن الأفهام قد تنحرف عن خطّه.
15- الفهم السقيم قد يقلب كل موازين الدين فيحوّله من دين عدل إلى دين ظلم، ومن دين محبّة إلى دين بغضاء.
16- مع المؤمنين فقط؟! أم الآية فيها إطلاق؟ إطلاق الآية واضح.
17 – 90/ النحل.
18- غضبهم لا يحملهم على ظلم حيوان فضلا عن الإنسان.
19- الرِّضى عن الصديق، عن الحبيب لا يجعلني أُسرف، وكل خروج عن حدّ الله فيه إسراف.
20- أيّاٍ كان من الذي جاورك. المجاوَر مسلما كان أو كافراً.
21- الكافي للشيخ الكليني، ج2، ص 237، ط4.
22- صحيح أن علاقة الشيعي بالشيعي علاقة إيمانية أخوية، ولكن مأخوذ في هذه العلاقة أن لا تمسّ أحدا بظلم أو سوء على الإطلاق.
23- لا يكفي أن تعدل مع الآخر، إنما تكون بركة عليه ومحسنا إليه.
24- أيّاً صحبت، إذا لم أحسن صحبة من صحبته فأنا لست من مذهب أهل البيت عليهم السلام بالكامل، بالدّقة، وكما ينبغي، صحيح أكون من مذهبهم بنحو الإجمال، ولكن على نقص ومخالفة ومغايرة لهم عليهم السلام.
25- تحف العقول لابن شعبة الحراني ص380، ط 2.
26- بحار الأنوار للمجلسي ج65، ص164، ط 2 المصححة.
27 – 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى