خطبة الجمعة (401) 16 ربيع الثاني – 2 أبريل 2010م

مواضيع الخطبة:

*البخل *الخمر والأحوال الشخصية *أملاك الدولة ومتهمو كرزكان

المؤمنون الذين اختاروا أن يعيشوا حياتهم للإسلام وعزّته وقوّته وانتصاره لا يملكون إلاّ أن يثبتوا في هذه المعركة طويلة المدى ويصمدوا، ويكونوا حماة صادقين مخلصين لهذا الدّين الحقّ الذي لا بديل عنه لإنقاذ الإنسانية المعذّبة في ظلّ الطّرح الآخر الجاهلي الذي لا يُقيم وزناً للإنسان، ولا يراه إلاّ سُلعة تجارية رخيصة، ولا يتعامل معه إلا من هذا المنطلق إلا أن يكون له ناب حاد أو ظفر قوي، ويد باطشة.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي جعل عبادته وهو غنيٌّ عنها معراجاً لرضاه، وطاعتَه وكلُّ أسبابها من عنده ثمناً لجنّته، وجزى العملَ القليلَ بالثوابِ الكثير، وأكرمَ من توجّه إليه بالإقبال عليه، وكفايتِه، ورفع منزلته، والدرء عنه وحمايته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أُوصيكم عباد الله ونفسي الغافلةَ بتقوى الله، والاتّعاظِ بما اتّعظ به عباده الصالحون، واتّخاذ الدّنيا ممراً لا تُهمل أيامُه ولياليه، ولا تُضيّع فُرصُه، ولا تُهدر وسائلُه، والآخرةِ مقرّاً يُعمل له، ويُشادُ للحياة فيه، ويُحترز مِن شرِّه، ويُطلب نعيمُه وخيرُه، ولا يُضحّى به، وإنما يُضحّى من أجله.
وهكذا كان دأبُ الواعين من أهل الحنكة والحكمة والنظر البعيد، والرأي الصائب من أنبياء ومرسلين وأولياء ومن شايعهم من أهل البصائر.
وليس للتقوى بديلٌ للعبيد المملوكين المقهورين الذين لا مفرَّ لهم من قَدَرِ الله، ولا مهربَ لهم خارج ملكه الشّامل الذي لا حدَّ له. فليعرِفْ الإنسان قدْرَه، وليخشَ ربّه؛ وإلاّ فليواجه جبار السماوات والأرض، ومالك الموت والحياة، وأمر الخير والشر، والنعيم والعذاب، وأنّى له ذلك؟!!
أعذنا ربّنا من خطل الرَّأي، وزيغ القلب، وزلّة القدم، وقُبْح الفعل، وخطأ الخيار، وسوء المنقلب.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم، واغفر لوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وأزواجنا وجيراننا وأصحابنا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، واهدنا سواء السبيل، وأصلح عملنا كلّه، واصرف عنّا كيد الشّيطان الرّجيم، وانصرنا كما نصرتَ أهلَ محبَّتك ولطفك على النّفس الأمّارة بالسّوء يا رحمن يا رحيم يا كريم، وصلّ على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واحشرنا في زمرتهم يوم الدّين.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فموضوع الحديث هو البُخل:
البُخل خُلُقٌ لئيم نهى عنه الإسلام كأيّ خُلُقٍ آخر مثله مما لا يليق بكرامة الإنسان المؤمن ورفعته وسموِّه، ووعيه وهداه. وفي البخل انقباض عن الخير، وسقمٌ في الرّأي، وتعطيل للمال، وتضييق على النّفس والأهل، وفَقْدٌ للثّقة بالله، وتضييع للحقوق، وتساهل بالعِرض حيث لا بَذْلَ في وقايته، وهو فقرٌ مذل لا عُذر فيه، ومسكنةٌ معيبة يُلام عليها المرء.
وقد أُمر المؤمن بالكرم، ودُعي للإيثار، ونُهي عن البخل والسَّرَف. والإسلام كلُّه دعوة للعدل والاعتدال، والأخذ بالصّراط القويم في المسألة الكبيرة وفي المسألة الصغيرة. وهو كذلك في كل عقائده، وأحكامه، وأخلاقه ووصاياه؛ فلستَ تجد للإسلام ميلاً في شيء من ذلك عن هذا الطريق.
وإذا وجدنا في الإسلام شيئاً من ميلٍ إلى يمين أو شمال عن خطّه المستقيم فهو من خطأ أهل الاجتهاد، أو من تقوّلِ متقوّلٍ عليه عن هوى وضلال؛ وإلا فما أبرأ دين الله من أن يزيغ في عقيدة، أو يحيف في حكم، أو يجور في خُلُق!!
وقد استهدف الإسلام أن يبني الإنسانَ قويماً مستقيماً على خطّه المستقيم كما هو الإسلام نفسه معتدلاً صائباً في عقيدته، وسلوكه، وأخلاقه أو شبيهاً به على الأقل(1).
وهو يمتلك المنهج الناجح، والتربية الناهضة، والقيادة الأمينة المتكفّلة بوضع الإنسانية على خطِّ الصّواب والاعتدال في سلامة من التّذبذب والإفراط والتفريط والاهتزاز.
وإنفاقُ المال من المؤمن في وجهه الشّرعي الدّقيق لا يكون منه ما هو عَبَثٌ وإنْ قلّ، وإلاّ كان تَلَفاً، ولا ما هو ضارٌّ ببدن ولا عقل ولا روح مما ينبغي الحفاظ عليه وإلا كان ظُلماً وسَفَهاً؛ والشريعة بَراءٌ من كل عبث وظلم وسفه.
وأشرف الإنفاق ما كان في سبيل الله؛ إذ هو نفع بلا ضرر، وزينٌ بلا شين، ونفعُه باقٍ أبداً، وبناؤه شاملٌ للإنسان وأوضاعِه الكريمة المتقدِّمة.
والنفس تنبني في ضوء هذا الإنفاق عالية،(2) وتُحفظ مصلحتها، وتجد منه رصيداً لا ينفد، وكنزاً لا يبلى، وذُخراً لا يضيع.
{هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء…}(3).
الإنفاقُ في سبيل الله يقيم حقّاً ويهدم باطلاً(4)، وينشئ عدلاً ويسقط ظلماً، وينشر علماً ويزيح جهلاً، ويُحوّل الحياة نوراً بعد ظلمة، وأنساً بعد وحشة، وهدى بعد ضلال(5). وهو لراحة الإنسان وأمنه وحرّيته وكرامته ورشده وعُلاه. وذلك كلّه بعكس ما يترشّح عن الإنفاق في سبيل الشيطان والهوى والانحراف(6).
والبخل بالعلم والنصيحة والإرشاد والتوجيه، وكتمانُ الهدى، وإخفاء الدّين عمن هو أهل له، والامتناع عن كلمة الخير مع إمكانها، وأن يسيء المرءَ فعلُ الخير، والعطاءُ والجود من غيره فينهى عنه، وطمس ذكر أهل الحق والفضل والكرامة؛ كل ذلك من أشدِّ أنواع البخل وأقبحِها.
يقول الكتاب الكريم عن بعض هذه الصور {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ…}(7). وفي الحديث “أن أبخل الناس من بخل بالسلام”(8)، “البخيل حقا من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ”(9).
وهناك صورة كاذبة من الكرم وراءها نفسيةٌ تستبطن البخل، وتنطوي على الحرص، وتُشدِّد القبضة على ما في اليد من حطام الدّنيا. سؤالٌ بالخير من الله سبحانه للإخوان، وقبض لليد الواجدة المليئة عن البذل وإن سهُل؛ ففي الحديث عن القائم (عجّل الله فرجه وسهّل مخرجه):”إني لأستحي من ربي أن أرى الأخ من إخواني فأسأل الله له الجنّة وأبخل عليه بالدينار والدرهم، فإذا كان يوم القيامة قيل لي: لو كانت الجنة (لك) لكنت بها أبخل، وأبخل، وأبخل”(10) إذ ما قيمة الدينار والدرهم الذي عزّ عليك بذله بإزاء الجنّة التي عظّم الله قدرها، وأعدّها داراً لسعادة أوليائه؟! فمن بخل بالقليل الفاني كان أولى بلؤمه أن يبخل بالكثير الباقي.
ومن أحاديثهم عليهم السلام في البخل(11):
“البخل عار”(12)، “البخل جلباب المسكنة”(13)، “البخل يمزّق العرض”(14)، “البخل بالموجود سوء ظن بالمعبود”(15)، “من بخل بماله ذلّ….” (16)، “بالبخل تكثر المسبَّة”(17)، “البخيل خازن لورثته”(18)، “البخيل يسمح من عِرْضِه بأكثر مما أمسك من عَرَضِهِ”(19).
يؤكل شرف البخيل، ويُساء إلى عرضه، ويُعتدى على متعلِّقيه وهو قادر على دفع ذلك باليسير من كثير المال الذي بيده فلا يفعل، فهو يسخو بهدر الشّرف، وتسيُّب العرض، وتمزّق الكرامة، ولحوق الأذى، ويقبل خسائر معنويّة كبرى اعتزازاً بماله، وإبقاءً عليه وإن كان لا يساوي في ميزان العقل والدين والعرف السليم شيئاً مما خسِر.
وما أبعد البخل من خلق الإيمان، ونفسية الأحرار، والطَّبْع السليم، والذوق المعتدل “إيّاكم والبخل فإنها عاهة لا تكون في حرّ ولا مؤمن. إنها خلاف الإيمان”(20).
فهو عطب في نفسية صاحبه، وتشوّهٌ في طبعه لا تعرفه نفسية مؤمن ولا حر.
ولو كانت نفس البخيل حرّة لما استعبدها المال، ولو كان مؤمناً لوثق في وعد الله الكريم لباذلي الخير وأهله.
“حسب البخيل من بخله سوء الظن بربّه. من أيقن بالخلف جاد بالعطية”(21).
ومن أبرز صور البخل ومصاديقه بخل يحول بين صاحبه وبين أداء ما فرض الله عليه وأوجبه ففي الكلمة عنه عليهم السلام:”وإنما البخيل حقّ البخيل الذي يمنع الزكاة المفروضة في ماله، ويمنع النائبة في قومه، وهو فيما سوى ذلك يبذر”(22).
نعم لا تعجب هناك من ينفق المال بلا حساب في ما حرّم الله وللتفاخر بالباطل، ويقبض يده عن إنقاذ المحروم وعون المريض، ومسح دمعة اليتيم.
ما أجمل الإسلام، وأسمى خلقه، وأرفع شأنه، وما أسعد الحياة والإنسانية به وما أشقاهما في غيابه!!
اللهم عرفنا الإسلام، وارزقنا خلق القرآن، ونوّرنا بنور الإيمان، وزيّنا بحلية أوليائك، وصدق أصفيائك، وإخلاص رسلك وأنبيائك، وأحينا محياهم، وأمتنا مماتهم، وابعثنا مبعثهم يا كريم يا رحمن يا رحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ربنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ، كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ، نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ، فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي خلق فملك، وملك فقدر، وقدر فحكم، وحكم فعدل، وشرّع فأحكم، وأحكم فكلّف، وكلّف فحاسب، وحاسب فجازى، وهو خير المجزين، وخير المحسنين، وأشد المعاقبين. رحمته لا تحدّ، وعذابه لا يطاق، وهو الفعّال لما يريد.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله أُوصيكم ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله أداءً لحقِّ النّعم، وطلباً للثواب، ودرءاً للعقاب. وأفضل التقوى ما كان تعظيماً لله، وعن حبّه والاشتياق إليه، وطلب رضوانه.
وإن من أقبح القبيح تكبُّر العبد على العبد، فكيف بتكبّره على الربّ؟! والتكبُّر لا يجامع التقوى ولا يلتقيها على طريق، فإيّانا والكِبْر. ومن أكبر الكبر جحود الحق، وما عُلِم من دين الله عز وجل {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}(23).
وقد اختار الاتضاعَ من ركب مركب التكبّر، فإن الله مذلّ الجبّارين.
أعذنا ربَّنا من كل خلق سيء، ومن كل ما يحطّ القدر عندك، ويستوجب سُخْطك، وأليم عقوبتك، والطردَ من رحمتك، وألحقنا ربّنا بِخُلق النبيين والمرسلين، وأوليائك الصالحين، واسلك بنا مسارهم، وخذ بقلوبنا إليك.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، على الأئمة الهادين المعصومين المنتجبين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفّه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا قائما ثابتا.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات الكرام الأعزاء المؤمنون فإلى هذا الحديث:
الخمر والأحوال الشخصيَّة: ويتم تناولهما بصورة إجمالية مختصرة.
لا يخلو مجتمع إسلامي اليوم من قلّة محسوبة على المسلمين ترى بعين الغرب، وتُفكّر بتفكيره، وتشتهي مشتهاه، وتُريد للمسلمين ما يُريده، وتُحاول الأخذ بأوضاعهم الفكريّة والنفسيّة والخلقية إلى ما يتمنّاه. ولهذه الفئة منطلقاتها المختلفة في اتّخاذ هذا الموقف والتحمُّس له. وصوتُها في المجتمعات الإسلامية صوتٌ نشاز ولكن قد أخذ على نفسه أن يرتفع في مُختلف الساحات الإسلامية برغم كلِّ الظروف، وأن يعمل جاهداً على توسيع دائرته، وطلب دعمه ومناصرته.
ويمتلك أصحابُ هذا الصوت النّشاز المواقع الرسمية العالية، والثروات الطائلة، والأساليب الكثيرة الملتوية. ومنهم من يُجاهر بهويته، ومنهم من يتستّر في حربه للإسلام باسم الإسلام، ويستخدم التّلاعب بالنّصوص الإسلاميّة، وتطويعها قهراً في خدمة الفهم الذي يُنهي الإسلامَ وينقض بُنيته.
وهذه الشرذمة مدعومة وبكلّ قوَّة في مواجهة الإسلام من الكثرة الكاثرة، والغالبيّة العُظمى من الأنظمة الرسمية التي تحكم المسلمين.
وهناك دعمٌ مفتوح وعلى مختلف المستويات تتلقاه هذه الفئة عن السيد الغربي، والتنسيقُ بين الطرفين قائم على قدمٍ وساق، وارتباط المصالح بصورة مركّزة يدفع لهذا التنسيق والتّوافق بين الطرفين.
وهناك توافق أكبر بينهما كما أُشير إليه من قبل من التوافق في المصالح، وهو توافق رؤى ومشاعر وقناعات وأهداف على حساب الإسلام، والأمة الإسلاميّة.
وذلك لأن العلاقة بينهما هي علاقة قويٍّ دوره الفعل، وضعيف ومايعٍ دوره الانفعال.
وهذا الصّفُّ حاضر بمكوّناته المتعددة بكل قوة في المعارك التي تشنُّ في الساحات الإسلامية على مستوى العقيدة، والشريعة والخلق والسلوك ضدّ الإسلام.
فالوقفة مع الخمرة المحرّمة بلا أدنى شبهة ولا شوب في الإسلام، والإصرارُ على تغريب التشريع في الأحوال الشخصية إنما يقعان في السياق العام للمواجهة الشّرسة ضد الإسلام، والتصميم على الاستبدال الحضاري، وتغيير هوية الأمة. والمعركة ليست خاصّة بساحة من الساحات الإسلامية، ولا بمسألة من مسائل الإسلام، وليست محدودة بسقف معيّن يمكن أن تقف عنده، ولا زمان خاص، وإنما هي معركة قد اختاروا لها أن تكون دائمة وشاملة ومستوعِبة، وضاربة في العمق، وأن لا يألوا جُهداً في تحقيق النصر الساحق على الإسلام فيها. ولكنّهم {يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(24)، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(25)، {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ}(26)، {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(27).(28)
والمؤمنون الذين اختاروا أن يعيشوا حياتهم للإسلام وعزّته وقوّته وانتصاره لا يملكون إلاّ أن يثبتوا في هذه المعركة طويلة المدى ويصمدوا، ويكونوا حماة صادقين مخلصين لهذا الدّين الحقّ الذي لا بديل عنه لإنقاذ الإنسانية المعذّبة في ظلّ الطّرح الآخر الجاهلي الذي لا يُقيم وزناً للإنسان، ولا يراه إلاّ سُلعة تجارية رخيصة ولا يتعامل معه إلا من هذا المنطلق إلا أن يكون له ناب حاد أو ظفر قوي، ويد باطشة….. الطرح الجاهلي الذي لا يرعى إلاًّ ولا ذِمّة، ولا يستقبح قبيحاً، ولا يستقذر قذارة تُحقِّق له هدفاً ماديّاً هابطا خبيثاً… الطرح الجاهلي الذي لا يعرف لأحد حرمة، وليس في قلبِ سَدَنتِه رحمة.
إنَّ القول الحقَّ في معركة الخمرة أن مواجهة أنصارها ليست للمجلس النيابي أو للعلماء وإنما هي مواجهة للشريعة الإلهية، ونيلٌ من حرمة الدّين. وإذا قرأتم لأقلام هذه المواجهة فستجدون منها ما يتحدّث عن الإسلام باستخفاف واحتقار ويرميه بالرّجعيّة والتخلّف، على أنه يكفي في احتقار الإسلام، والاستخفاف به، ومحادّته هذا الاستخفاف بحكم من أحكام الحرمة الثّابتة بيقينٍ في شريعته.
أملاك الدولة ومتهمو كرزكان:
لحدِّ الآن لم تنته قضية أملاك الدولة إلى شيء، وتشكيل اللجنة شيء، ولكن هذه اللجنة من طرف واحد، وهو الطرف الذي ينبغي أن يجري معه التحقيق أي طرف الحكومة. وقيمة النتيجة تتأثّر بقيمة المقدّمة، والشعب ينتظر أن لا يضيع من الأملاك المتلاعَب بها شبر واحد، وأن يُفتح باب التحقيق الموضوعي، ويُسهّل طريق الوثائق المطلوبة لهذا التحقيق بالنِّسبة لكل موارد الشّكّ في التصرف غير الشرعي والقانوني في أملاك الدولة وانتقالها بغير حق ولا وجه مقبول للأيدي الخاصة.
وعن متّهمي كرزكان فقضية الجانب الرّسمي معهم مَثَارُ عجب: سجّل الإعلام عليهم قبل أي محاكمة أنهم قتلة، ويجب أن يُحكم عليهم بأقسى العقوبات ولا شيء دون الإعدام، وجرت محاكمتهم بعد ما تلقّوا وجبات كافية من التعذيب في السّجن، ثمّ نالوا عفواً صريحاً لم يمكُث إلا يسيراً حتى عادت محاكمتهم، انتهت المحاكمة إلى البراءة، ونُشرت حيثيات الحكم بالتبرئة بوضوح حتى كان لهم الحق بالمطالبة بالتعويض، ثم من بعد هذا الحكم جاء حكم مناقض جديد لا لجديد في الموضوع وحيثياته وأدلته، ولكنَّه جديد السياسة التي لا تثبت على شيء(29).
وكأنَّ الحكم يقول للسّاحة لا تهدئي، وكأنّ السياسة من هدفها الإثارة، واختلاق أسباب التوتر، وإنهاء أيِّ فرصة تهدئة.
وكلُّ ما تتخذه السياسة عدل، وصواب، وحكمة، ورأفة، ورحمة، وعقلانية، ورزانة، وإن وُجد في ما تتخذه التهافت والتناقض، وساده التعارض والتضارب.
وعلى الشّعب أن يُصدّق أن هذا الموقف هو الحكمة وكذلك نقيضَه، وذاك هو الرأفة وكذلك نقيضَه، وأنَّ صفة العدل تنطبق على النقيضين، وأنَّ حكم العقل يوافق المتعارضين والمتهافتين مع ما هما عليه من تعارض وتهافت.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم إنا فقراء إليك، مضطرون إلى رحمتك، لا نجد غوثا إلا منك، ولا أمل لنا في غيرك فارحم تضرُّعنا إليك، ومسكنتنا بين يديك، والطف علينا بلطفك، وتجاوز عن قبحنا بعفوك، وأخرجنا من كل سوئنا بكرمك، واهد ضالَّنا، وعاف مبتلانا، وردَّ عاصينا إلى طاعتك، وزد في رغبة المطيح في عبادتك، ولا تجعل للظالمين علينا يداً، ولا لأهل المنكرات سلطاناً يا أقوى من كل قوي، ويا أعز من كل عزيز.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(30).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الإسلام يريد أن يبني الإنسان على طريقته مثله، أو شبيها له على الأقل.
2 – أن تنفق الدينار في سبيل الله، هذه العملية للإنفاق الخارجي إذا جاءت عن توجّه لله، ونيّة خالصة بقصد طاعته سبحانه وتعالى فأنت تنبني هنا من خلال هذا الإنفاق. والنفس البشرية تنبني من كل طاعة من طاعات الله إذا كان المقصود بها وجهه الكريم.
3 – 38/ محمد.
4 – ميزة الإنفاق في سبيل الله أنه يبني حقا ويهدم باطلا.
5 – كلُّ هذا مضمون في الإنفاق في سبيل الله عز وجل.
6 – إنفاق للهدم، للإفساد، للخراب.
7 – 37/ النساء.
8 – بحار الأنوار ج 73 ص12.
9 – معاني الأخبار للصدوق ص246.
10 – ميزان الحكمة ج1 ص 232.
يا كذّاب!! أنت بخلت بالدينار، كان منك البخل بالدينار، وماذا يساوي الدينار، وماذا تساوي الدنيا من الجنّة؟!
11 – كلمات قصار عنهم عليهم السلام دعونا نمتصّها ونكتنزها في مشاعرنا.
12 – نهج البلاغة ج4 ص3.
13 – بحار الأنوار ج74 ص238.
14 – ميزان الحكمة ج1 ص232.
يُتيح الفرصة لتمزيق العرض، والمال مكتنز.
15 – المصدر السابق.
16 – المصدر السابق.
17 – المصدر السابق.
18 – المصدر السابق.
دوره أن يخزن المال للورثة الذين لا يُدرى أنهم يُحسنون في تصرّف هذا المال أو يُسيئون، فإن أحسنوا كان الثواب لهم والوزر عليه، وإن أساؤوا الاستعمال ربّما كان سبباً في هذه الإساءة.
19 – المصدر السابق ص233.
20 – ميزان الحكمة ج1 ص232.
21 – بحار الأنوار ج70 ص307.
22 – بحار الأنوار ج71 ص149.
هناك نمط من الناس هكذا فعله. في الموارد التي ينبغي الإنفاق فيها والإنفاق فيها ينقذ ويحمي ويكفي ويصون تشحّ يده، وفي مواضع شيطانية يهدر المال هدرا ويسخو به سخاء كبيرا، في موارد المعصية، في موارد الترف، في موارد التفاخر بالباطل يهدر المال الكثير بينما يقف الفقير على بابه فيردّه.
23 – 87/ البقرة.
24 – 30/ الأنفال.
25 – 8/ المنافقون.
26 – 10/ الأنفال.
27 – 7/ محمد.
28 – هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا إسلام).
29 – هتاف جموع المصلين بـ(معكم معكم يا سجناء).
30 – 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى