خطبة الجمعة (396) 11 ربيع الاول – 26 فبراير 2010م

مواضيع الخطبة:

*حديث عن اللغو *ضجة مفتعلة

المؤمن يرى سباقات وتنافسات ومشاريع يراها أناس كبيرة ومهمّة، وفرصا يحسبها البعض عزيزة ونادرة ومثمرة، إلا أنه يعرض عنها بما هي لغو في نظره، خالية من الفائدة بالقياس إلى هدفه، ومن ذلك الظهور والرئاسة والزعامة وأمور كثيرة من أمور الدنيا التي لا تلتقي مع هدف الآخرة.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا يقوم العالم إلا بربوبيته، ولا شيء يغني عن رحمته، ولا خارج عن سلطانه وقدرته، وكلّ شيء خاضع لإرادته، ومنتهٍ إلى حكومته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرة بتقوى الله الذي إليه اللجأ في كل شدّة، والمفرّ من كلّ كرب، ومنه تُطلب الحاجات، وإليه تتوجّه الآمال، وبه يُستدفع البلاء، ولا يملك أحد من دونه نفعا ولا ضرّا، ولا تقديما ولا تأخيرا.
ولنذكر عباد الله يوم نُبعث وننشر؛ وهو يوم قال عنه سبحانه:{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(1).
فيوم يقوم الحساب لا ينفع قوم ولا عشيرة، ولا حزب ولا جماعة ولا وطن، ولا أيّ شيء آخر، وإنما هما رصيدان: رصيد لك، ورصيد عليك، لك ما عملت من خير، وعليك ما عملت من شرّ. فافعل ما ينجيك، وجانب ما يرديك.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين و المؤمنات أجمعين، وتب علينا إنّك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم اجعلنا نخشاك كأننا نراك، وأسعدنا بتقواك، ولا تشقنا بمعصيتك، وفِر لنا في قضائك، وبارك لنا في قدرك، واغمرنا بعافيتك، وبارك لنا فيها، وأدمها علينا، ولا تحرمنا منها، واجعلها عافية دنيا ودين؛ عافية سابغة تامة كاملة شاملة يا أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
حديث عن اللغو:
أما بعد، فحياة الإنسان المسلم العارف بالإسلام، الآخذ به حياة جادّة بعيدة عن الترهّل والاسترخاء، والميوعة والذوبان، والإسفاف والإهمال، والانحدار والتسيّب، والفضول واللغو، والعبث واللهو واللعب.
ولا تكون الحياة إلا كذلك عند من كان هدفه كبيرا، وكان ارتباطه به واعيا صادقا، وإيمانه به قويا شديدا.
وفيما عدا ذلك يضعف الإحساس بقيمة الحياة والوقت والنفس وكل شيء، ويكثر هدر الفرص، ويلغو القول والفعل، ويزداد الفضول، وتصاب الحياة بالتردّد، وتتبعثر الخطى، ويكون العثار.
وتتطرد الجدية بالاطراد في سموّ الهدف، والهزلُ والعبثُ واللغو بالاطراد في دنوّه، وتؤثّر درجة الوعي والإيمان بالأهداف العملاقة في توليد الحركة وانضباطها وجدّيتها واستقامتها على خط الهدف.
ولا يذهب بأحدنا الوهم إلى أن الجدية في حركة الحياة تعني التوتّر والشدّ النفسيّ وتحميل النفس ما لا طاقة لها به، وانعدام الراحة والترفيه الحلال عنها.
فما تعنيه الحياة الجادّة الهادفة هو توظيف الوقت والمال وكل الأرصدة الأخرى بيد الإنسان على طريق الهدف، ومن ذلك الراحة والاستجمام، والنوم المطلوب لصحة الجسد وقوّته، واستعادته لنشاطه، والترويح والترفيه الحلال الطيب الذي يعيد للنفس رغبتها في العمل، والقدرة على مواصلته، ويخلق فيها جوّا مساعدا على الإبداع والعطاء الجديد المثمر.
فقد جاء في القلوب أنها تملّ كما تملّ الأبدان، وفي هذا الحال يُبتغى لها طرائف الحكمة معالجة لما عرضها من فتور.
ولا يوجد هدف يدفع الحركة المنتجة وديمومتها وحيويتها واستقامتها ونزاهتها وسموّها وفاعليتها بقدر ما عليه هدف الإنسان المؤمن المتطلّعِ إلى رضوان الله، والمرتبط بطموح الآخرة.
فهذا الهدف يضمن أكبر قدر ممكن من الحركة القويمة النافعة في حياة الإنسان التي تبني ذاته، وتثري وجوده، وتصحّح أوضاع حياته، وتتقدّم بها على طريق سموّه وكماله في اتجاه الله تبارك وتعالى، ولا اتجاه آخر لهذا الهدف، ولهذا المطلب.
ودعونا نقف ولو قليلا مع بعض النصّ في اللغو النافي لهادفية الحياة وجدّيتها، مع الالتفات إلى أن الحياة هدفها الآخرة، وعليه فحتّى يكون الفعل هادفا وجادا لابد أن يُعطي اهتماما للآخرة بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ فيكون هدفه دنيويا ولكنه منته إلى الهدف الأخروي كالأكل والشرب وتطوير أوضاع الحياة الفردية والاجتماعية بقصد أداء وظيفة الخلافة في الأرض، والاستعانة على عبادة الله تبارك وتعالى.
فكل فعل أو قول لا ينظر إلى الآخرة، ولا يستهدفها بصورة ولو غير مباشرة يُعدُّ لغواً ولو كان من المباح في نفسه.
وليس أحد منا على منأى من لغو كثير بهذا المعنى، ولكن تنبغي المجاهدة وشدة الالتفات والاحتراس من تلف العمر، وخسارة الوقت، وضياع الهدف؛ إذ اللغو كلام أو فعل لا يخدم الغاية، ولا يقرّب من المراد، ولا يقع خطوة على طريق ما يرمي إليه العقل والحكمة والدين من إنتاج الحياة، والوصول بالدنيا إلى هدفها.
والأهداف الدنيوية بأحجامها المتفاوتة، وكلّ ما تثيره من حركة ونشاط في حياة الفرد والأمّة لا تجعل الفعل جادّاً، ولا تخرج به عن لغوه في النظر الدقيق ما دامت لا تخدم هدف الحياة، ولا تحقّق غاية الدنيا وهي الآخرة.
وهذه وقفة متعجّلة مع بعض نصوص إسلامية في اللغو:
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}(2).
من صفات المؤمنين أنهم عن اللغو معرضون، فهدفهم الإيماني ينأى بهم عن اللغو، ويجعلهم يسمون عن الانشداد إلى صغائر الأمور والتفاهات، ويعتزّون بالوقت، ويشعرون بالحاجة الشديدة إليه لخدمة الهدف الكبير، ونظرتهم العالية لا تسمح لهم بالتوقّف عندما يقطع رحلتهم الكمالية في هذه الحياة. وهذا لا يعني أن المؤمن غير المعصوم لا تعرضه الغفلة، ولا يصاب بالنسيان، ولا يتعثّر على الإطلاق، ولا يضيع منه شيء من وقت، ولكن ما بقي هذا المؤمن على انتباه من توجّهه الإيماني، وهدفه الذي آمن به، وعلى وعي به، وانشداد إليه يحميه ذلك من هدر الوقت، وتضييع العمر، والوقوع فريسة للفراغ أو اللغو أو اللعب، وكل عمل لا يمثّل خطوة في اتجاه الهدف الكبير.
المؤمن يرى سباقات وتنافسات ومشاريع يراها أناس كبيرة ومهمّة، وفرصا يحسبها البعض عزيزة ونادرة ومثمرة، إلا أنه يعرض عنها بما هي لغو في نظره، خالية من الفائدة بالقياس إلى هدفه، ومن ذلك الظهور والرئاسة والزعامة وأمور كثيرة من أمور الدنيا التي لا تلتقي مع هدف الآخرة.
ومن أمثلة اللغو في الروايات والإعراض عنه أن يتقوّل الرجل عليك بالباطل، أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله، وهذا الإعراض والترفّع حيث لا تقضي الضرورة بالرد والتصحيح.
وجاء عن اللغو أنّه الغناء والملاهي، والهزل والكذب، وهذه مصاديق لا ينحصر اللغو فيها.
وتقول الآية عن عباد الرحمن الذين {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا}(3) {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً }(4).
لا ينزلون إلى مستواه، ولا يتلوثون به، ولا ينال من همّهم شيئا، فيصاب قدرهم بسوء. ومن الدخول فيما لا يعني الدخول في ما لا يقرّب من الهدف الإلهي الكبير ولو على مستوى المقدِّمة.
ونحن إذا نسينا وغفلنا كثيرا ما ندخل في أمور تضرّ دنيا وآخرة، ولا تلتقي مع مصلحة أيّ منهما، ويدس أحدنا أنفه فيما يرديه أو يعطبه بلا طائل أو جدوى، ويحاول أن يقتحم من حياة الناس ساحاتها الخاصة، ومواضع سرّها حبّا في الفضول لا غير.
وتقول الكلمات عن المعصومين عليهم السلام في هذا المورد:
“من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”(5) هذا وإن لم يعقب التدخل غير خسارة الوقت والجهد.
“راحة النفس ترك ما لا يعنيها”(6) لا تضف إلى مشاكلك مشاكل الآخرين من غير جدوى.
“إيّاك والدخول فيما لا يعنيك فتذل”(7).
“ترك ما لا يعني زينة الورع”(8).
والاشتغال بما لا يعني يكون على حساب ما يعني، وبصرف الطاقة عما يجدي إلى ما لا يجدي.
ففي الكلمة عن الإمام عليّ (ع):”لا تعرّض لما لا يعنيك بترك ما يعنيك”(9) فأنت حتى تشتغل بما لا يعنيك عليك أن تتخلى وتفرّغ الوقت إلى ما لا يعنيك. هو وقت واحد، إما أن تضعه فيما يعنيك، أو أن تصرفه في ما لا يعنيك.
ومن دعاء إدريس المنقول عنه عليه السلام:”اللهم سلِّ قلبي عن كل شيء لا أتزوّده إليك، ولا أنتفع به يوم ألقاك من حلال أو حرام”(10) قصور، حقول، زينات، نساء، ملك، سلطان، أي شيء، إذا كان هذا لا يقع زادا للوصول إليك سلّ قلبي عنه، اصرف قلبي عنه، زهّده في قلبي.
الحلال الذي يقطع عليك رحلتك إلى الله سيّء، وكثير مما ينشئ العداواة الضارية بين الناس، ويمزّق شملهم ويثير الحروب، ويكدّ الأبدان، ويرهق النفوس، ويزهق الأرواح إنما هو مما طلب النبي إدريس عليه السلام سلوة القلب عنه لئلا يخسر حياته ووجوده، ويسوء منه المصير، وتقبح العاقبة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الأطياب الأطهار، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وأزواجنا وأصحابنا، وتب علينا إنك التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا جميعا توفيقا دائما، وعافية تامّة، وعملا صالحا، وحياة رابحة، ومماتاً سعيدا، ومبعثا كريما، وفوزا كبيرا، وجنّة عالية يا رحيم يا كريم، يا من هو على كل شيء قدير.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}

الخطبة الثانية

الحمد لله دائم الملك، ثابت السلطان، نافذ المشيئة، قدره جار، وقضاؤه ماض، وقهره قائم، وجبروته لا يهن، وقدرته فوق كل قدرة، ولا يملك العباد من أمره شيئا.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
عباد الله فلنتّق الله؛ فتقوى الله معراج العبد إلى كماله، ولا طريق آخر إلى الكمال والسعادة. والتقوى في خلفيتها النفسية شعورٌ عميق ثابت واع بعظمة الخالق، وإجلاله وتقديسه ومهابته، وحبّه وعشق جماله، والخوفِ من قدرته وعدله وواجب الشكر لواسع إنعامه وإحسانه، ودوام إفضاله وإكرامه.
وتعبّر التقوى عند العبد عن نفسها بتمشّي إرادته في خطّ إرادة ربّه، واستجابته الطوعية ولو في مكروه النفس لأمره ونهيه(11)، وقطع كل العلائق المضادة لعلاقة العبودية الصادقة له.
وفي معرفة الدنيا والزهد فيها ما يزيد في قابلية التقوى في القلوب، ومن معرفتها ما جاء في مناجاة الزاهدين في الصحيفة السجادية على صاحبها آلاف التحية والسلام:”فإليك نلتجئ من مكائد خدعها، وبك نعتصم من الاغترار بزخارف زينتها، فإنها المهلكة طلابها، المتلفة حلالها، المحشوّة بالآفات، المشحونة بالنكبات”(12).
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وارحم والدينا وأرحامنا وقراباتنا برحمتك يا أرحم الراحمين، وهوّن الدنيا في نفوسنا، وعظّم الآخرة، وحبب لنا الحق وكرّه الباطل، واجعل لنا الغلبة على النفس الأمارة بالسوء والشيطان الرجيم، وارتفع بهمِّنا عن الالتصاق بالأرض، وعن كل سقف دون رضاك، وبذائقتنا عن كل لذة عل خلاف محبوبك يا سميع يا عليم، يا رحمن يا رحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين الميامين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفّه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين، واجعلنا من أنصاره في غيبته وحضوره.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا مقيما.
أما بعد فهذا حديث تحت عنوان:
ضجّة مفتعلة:
قرأت بيان الوفاق في مؤتمرها الأخيرِ قراءة عادية فما ألفت نظري فيه شيء، وما كان فيه جديد مثير، وإن تضمّن نقاطا مهمّة، وأعقبت البيان ضجة إعلامية واسعة مضادة ترميه باختراق الميثاق والدستور والتعدّي على الأشخاص والعوائل، وخلطت ذلك بكلام عن ولاية الفقيه محذّرة ومتوعّدة، ومشرّقة ومغرّبة.
وجعلني ذلك أعيد القراءة ممعنا لأجد الجديد المثير في البيان فلم أجد له عينا ولا أثرا. وجدته كما هو يتناول التعددية السياسية، والدستور التوافقي، ونبذ التمييز، والتوزيع العادل للثروة والخدمات الإسكانية والصحية والتعليمية التي تليق بالمواطن والمملكة الدستورية الحقيقية، والحكومة المنتخبة مع بقاء الملك في العائلة نفسها، وتداول السلطة، والغبن الفعلي في قسمة الوزارات وغيرها من المناصب، ومساءلة الحكومة أمام برلمان منتخب انتخابا حراً على ضوء دوائر تساوي بين المواطنين من دون تمييز فيما بينهم، وفي ظل حرية عامة للرأي والصحافة، وحرية تشكيل الأحزاب.
واعتبر البيان أن هذا هو الأفق الذي تسعى إليه الجمعية، ووصف المسار في ذلك بأنه طويل، ولكن عزم الجمعية هو المضي على الطريق بالاشتراك مع كل القوى الأخرى المؤمنة بهذه المطالب.
وذكر البيان كذلك أنه ليس قدرا محتوما أو قرآنا منزلا أن يكون رئيس الوزراء دائما وأبدا من العائلة المالكة، وإنما ينبغي لهذا المنصب أن يكون مفتوحا لكل الكفاءات من كل العوائل ومن كل الشرائح عبر العملية الديموقراطية.
ومرجع البيان في كل ذلك مقررات الميثاق الوطني، وكون الشعب مصدر كل السلطات، والتوجه المعلن للديموقراطية العريقة، والوعود المؤكدة، والتفسيرات الرسمية المذاعة قبيل التصويت على الميثاق.
ومن أراد أن يرجع إلى بيان الوفاق فليرجع فإنه يستحيل عليه أن يجد فيه كلمة نابية هابطة، أو جرما وتعديا على شخص أو عائلة. ولو حدث للأمين العام للوفاق أن ذكر كلمة نابية أو شاتمة لما كان يُرضى منه بذلك، وهو أبعد من هذا الأمر.
أما المطالب المذكورة فهي مطالب متكررة لمرات على لسان المعارضة والقوى المختلفة من الوفاق وغيرها ليس في أمرها من جديد.
وحين تكون ضجّة واسعة وهجمة شرسة من طرف على طرف من غير أن يكون لها موضوع في الخارج يبرّرها يصحّ وصف هذه الضجة بالمفتعلة. فلماذا وصفنا الضجّة الحالية بالمفتعلة؟ لماذا هي مفتعلة؟ لأنك تبحث عن موضوع حقيقي لها فلا تجد.
والضجة هنا فوق العادة، فقد شهدت استنفاراً عاماً من قبل الدولة شمل مختلف المؤسسات والرموز الكبيرة وكل الأنصار.
وافتعال الضجة والمبالغة فيها إلى حد نادر يطرح سؤالا عن الأهداف الخفية وراءها، ورغم الدهشة والحيرة وصعوبة التفسير المفاجئة يقوم أكثر من احتمال، ولا أتناول كل الاحتمالات، ولكن أسأل:
هل تريد هذه الهجمة أن تُلجم الكلمة السياسية العلمية المتّزنة، وتكمّم الأفواه، وتسد باب المطالبة الشعبية بالإصلاح حتى عبر الوسائل السلمية الهادئة؟
أصبح ذلك صعبا جدا، وممتنعا لأكثر من لحاظ، ومن ذلك تقدّم كل الشعوب على هذا الخطّ، وهذا الشعب من أبرزها(13).
ينبغي للحكومة أن لا تُستثار وإلى حد فقد الأعصاب كما في الحالة الراهنة للغة التي تتحدث عن الحقوق التي يقررها الميثاق الذي قدّمته بنفسها للتصويت، والديموقراطية التي أعلنتها، والملكية الدستورية التي ارتضتها، وأن لا تضيق ذرعاً بميثاق صاغته بيدها، ودعت الشعب ورغّبته في التصويت عليه.
وإن أكبر انضباطٍ يُطلب من المعارضة هو أن تكون مطالبتها بالحقوق قانونية وتستند إلى المواثيق والعهود المتوافق عليها بلا سبٍّ وشتم وتهريج.
والخطاب الذي استفزّ الحكومة لم يخرج عن هذا السياق، فَلِمَ هذه الضجّة الكبرى المفتعلة؟
إن هذا ليسيء الظنّ.
وكيف يحسن من الحكومة أن تطالب الشارع الذي يشعر بالمظلومية من تمييز وتجنيس وغيرهما بالانضباط وهي تخسر أعصابها في عدد من المرات للاشيء، وبلا سبب معقول؟!
على الحكومة وهي في موقعها المسؤول أن تعطي درساً عمليا واضحا ومؤثرا للآخرين في التريّث وعدم الانفعال الذي يجرّ إلى الأخطاء الكبيرة، والمزالق المتكررة، وأن لا تسعى لاختلاق المشاكل والأزمات في وسط الأجواء المختنقة، والمشبّعة بالمثيرات والمتفجّرات. وهو الشيء الذي ينبغي أن يأخذ به الجميع.
إن كل الحكومات تمتلك آلية إعلامية ضخمة مسيّرة لا تسأل عن تنفيذ ما تؤمر بتنفيذه أنه حق أو باطل، وخير أو شر، ومجرّد إشارة من مالك هذه الآلة تحرّكها لصناعة رأي عام اتجاه أي قضية من القضايا التي تهتم بها الإشارة، وكيفما يريد المشير، وتحريك هذه الآلة يحتاج في الحكمة إلى تدبّر كثير وإمعان في النظر، لأن كثيرا ما يسيء التحريك غير المحسوب لها ويسبب كوارث للشعوب والأوطان وكل مكوّناتها.
وإذا حاولت الشعوب أن تمتلك مثل هذه الآلة أو شبيهاً لها وأسيء الاستعمال وقعت التصادمات الخطيرة، وعمّت فوضى الكلمة والهرج والمرج، والفتن العمياء المظلمة.
على أن الشعوب في ردها الإعلامي على الحملات الظالمة لا تحتاج اليوم وحتى الأمس إلى من يستأجرها لذلك كما تحتاج الحكومات إلى الاستئجار.
الآلة الإعلامية عند الحكومات مستأجرة، والواقع الإعلامي عند الشعوب غير مستأجر، ومفتوح، وإذا توجّه للمواجهة فهو أكبر.
وبعيداً عن كل الانفعالات، والاعتداد بالنفس من أي طرف من أطراف الساحة الوطنية في أي موقع من المواقع، وعن أي تبجّح من أي مكون من مكونات الواقع الوطني تحتاج الأوضاع إلى إصلاح جدي سريع، ولا بديل عن ذلك لاستعادة الثقة وراحة الجميع وخير الوطن.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم احفظ أوطان المسلمين من التمزّق والشتات، وأبرئ حكومات هذه الأوطان من ظلم شعوبها، ووحّد الكلمة على الهدى، وانصر الحق على الباطل، واقطع يد كل مستكبر غاز يريد سوءاً بأمة الإسلام، وسيطرة على بلادها، ونهبا لثروتها، وزرعا للفتن بين أبنائها يا قوي يا شديد يا جبار يا قهار يا من هو الفعّال لما يريد.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 6، 7، 8/ الزلزلة.
2 – 3/ المؤمنون.
3 – 75/ الفرقان.
4 – 72/ الفرقان.
5 – بحار الأنوار ج75 ص203.
6 – بحار الأنوار ج71 ص167.
7 – ميزان الحكمة ج4 ص2791.
8 – ميزان الحكمة ج4 ص2790.
9 – ميزان الحكمة ج4 ص2790.
10 – بحار الأنوار ج95 ص99.
11 – طاعة الله في محبوب النفس لا تعني الكثير، الامتحان في طاعة الله عز وجل في مكروه النفس. نعم إذا أحبَّت النفس محبوب الله بما هو محبوبُه، وبغضت بغوضه بما هو مبغوضه فتلك درجة عليا من صلاح النفس ورقيِّها وهداها.
12 – مناجاة الزاهدين من الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين عليه السلام.
13 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).

زر الذهاب إلى الأعلى