خطبة الجمعة (392) 16 ذوالحجة 1430هـ – 4 ديسمبر2009م

مواضيع الخطبة:

*عقيدة الحساب *أولاً: سويسرا والمآذن الأربع *ثانياً: درس من أفغانستان

إذا كان للغرب أن يحمي حضارته ودينه أو ماديته فلماذا ينكر علينا هذا الحق نفسه بالنسبة لموقفنا من مراكزه التخريبية وعريه وعربدته في البلاد الإسلامية؟ من حقّهم أن يحموا حضارتهم، ومن الواجب علينا أن نسكت أمام غزوهم الذي تشارك فيه أنظمة تحكم المسلمين من عرب وغير عرب؟!

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي رزق عباده جوداً منه وكرماً، ورأفة ورحمة، وكلّفهم لا لحاجة لتكليفهم، وإنما لتكميلهم لطفاً بهم وحكمة، وهداهم النّجدين، وبيّن لهم عاقبة الجنّة والنّار، وزيّن لهم طريق النّجاح، وحذّرهم من طريق الخسار والعار.
الحمد لله الذي كثرت نعمه حتى امتنع على أكثر الشّاكرين وأصدقهم شكراً الوفاءُ بشكره، بل استحال عدُّ آلائه وإحصاء نعمه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله القائل بالحقّ الذي لا يشوبه باطل {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ}(1) فويل لمن لم يتق الله الذي لا إله غيره، وويل لمن اتخذ من دون الله إلهاً يتقيه، ولمن أشرك مع الله عزّ وجل إلهاً آخر في تقواه.
اللهم أسعدنا بتقواك، ولا تُشقنا بمعصيتك، وأعذنا من أن نشرك بك من سواك، ومن أن نختلق في أنفسنا آلهة كذباً، وأن نتقي آلهة وهماً.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أما بعد:

عقيدة الحساب
فإنّه لا نُكرَ أن يَسألَ المالكُ المملوك، ويُحاسِبَ الرازقُ المرزوق، ويطالبَه بحُسن توظيف النعم، وعدم الإساءة في التصرّف في الآلاء، ووضعها في الموضع الذي يُغضب المنعم، ويضرّ المفاضَ عليه.
وإنّه ما من عبد من عباد الله، ولا أمة من إمائه إلا وهو وكُلُّ ما يملك من فيض الله، وليس فيه ولا عنده نعمة من غيره سبحانه، ولذلك ولأن الله عز وجل لا يريد عبثاً ولا فساداً، ولا مضرّة العباد، ويحب الحكمة والصلاح ومنفعة من خلق فقد حقّ على العبيد الحساب.
والحساب يومَ القيامة عقيدة من عقائد الدّين، وثابتة من ثوابته، وهو مقتضى العدل والحكمة.
وعقيدة الحساب عقيدة مربّية على الخير، حاجزة عن الشر، موجهة للحياة، مصلحة لها، آخذة بها على طريق الهدى والنجاح والفلاح.
والنعم الإلهية عند العبد وهي لا تعد ولا تحصى إما محفوظة قد وضعت في موضعها الصحيح النافع حسب مقتضى العقل والدّين والوجدان السليم، فتكون في خير الإنسان وصالحه، وكماله وسعادته ورضى ربّه، وإما مهملة مضيَّعة معطّلة فيُحرَمُ من وُهِبت له خيرَها، وتكون عليه حسرة بما ضيَّعها، وإمّا محرّفة عن مواضعها، موظَّفة في المعصية، مصروفة في الإساءة فتعود على من أعطيت له بالسوء والشقاء. وربما عمّ بذلك منها الضرر، وفشى في حياة الناس بها الخراب. وفي ذلك سخط المنعم، واستيجاب العقوبة.(2)
وفي كل طرفة عين من العمر نعمة، وفي كل دقة قلب نعمة، وفي كل نسمة هواء نعمة، وفي كل جارحة نعمة، وفي كل لقمة نعمة، وفي كل شربة ماء نعمة، وفي كل لحظة أمن، وصحة نعمة، وفي كل سبب من أسباب الحياة نعمة. ولا نعيش لحظة من لحظات العمر إلا بما لا يحصى من أسباب موفّرة، وموانع مدفوعة، ولا مسبِّب لسبب من تلك الأسباب، ولا دافع لمانع من تلك الموانع إلا الله الحميد المجيد المتعال.(3)
فَكَم على الإنسان يوم القيامة أن يتلقَّى من الحساب، وكم عليه أن يجيب إذا كان السؤال مستقصياً، والحساب مستوفياً؟! وما هو مقدار ما تحتمله نفس هذا الإنسان الضّعيف الهلوع وفي اليوم المهول من حَرَج السّؤال، وثقل الحساب، وشدّة الموقف، ومرارة الجزاء؟!
إذا كان السؤال عن كل لحظة من لحظات عمر التكليف، وعن كل نعمة تلقّاها العبد من فيض الربّ، وعن كل عمل اجترحناه، وعن كل فَلْسٍ اكتسبناه وأنفقناه، وعن كلّ قصد وراء ما نعمل فما أكثر السّؤال، وما أحرج الجواب؟!! إننا ننتظر كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فما أشدَّ يومَ الحساب!!(4)
ولنقف هنا على عدد من نصوص المسؤولية في الكتاب الكريم، والسنة الشريفة:
{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }(5).
وكم من مسموع نسمعه في حياتنا، وكل ذلك نحن مسؤولون عنه، وكم من شيء نبصره وكل ذلك نُسأل عنه، والفؤاد كم فيه من بغض، وكم فيه من حب، كم فيه من ولاء، وكم فيه من عداوة، وكل ذلك وأمثاله سيكون محطّ سؤال.
وكم من خيانة في حياتنا لنعمة السمع والبصر والفؤاد؟! وكم من إساءة لنا في استعمال هذه النِّعم، وكم من مخالفة عندنا لإرادة الله عز وجل في الاستفادة منها، وكم من توظيف هدّام لها نرتكبه، وكم من مخالفة للحق فيها نُقدم عليها؟! كم نسمع من باطل ونأخذ به، ومن حقٍّ فنتخلى عنه؟! وكم نبصر من آية فنعرض عنها، ومن قبيح فنأخذ به؟! وكم للفؤاد من سوء نيّة، ومن غلّ يبغضه الله عز وجل، ومن حب لا يرضيه، وبغض يسخطه؟! وكم من عدد هائل لا نحصيه من استعمالاتنا السّيئة لهذه النعم؟! فكم سيكون حسابنا عليها؟! وكم سيطول، وكم سنتحمل أمام هذا الحساب؟!
ويقول سبحانه:{فَوَرَبِّكَ(6) لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(7) مورد نزول الآية اليهود والنصارى، ولكن هل لليهود والنصارى خصوصية أمام عدل الله؟ هل عدل الله يفرّق بين اليهودي والنصراني وغيرهما؟ حاشاه.
ويقول سبحانه:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}(8) ومن التفاسير ما يعمّم النعيم لكل أَنعُمِ الله تبارك وتعالى، وحقّ لله أن يحاسب وهو العدل الحكيم على كل نعمة أعطاها العبد لصلاحه وإصلاح الحياة، ثم استعملها في فساد نفسه وإفساد الآخرين.
ويقول عز من قائل:{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ، مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ}(9) كنتم تتناصرون على مقاومة إرادة الله وشرعه، وتجتمعون جبهة عريضة من شرق الدنيا وغربها لمحاربة الدين، كنتم تسعون لإبطال دين الله، وتسعون في الأرض بالفساد، وتستعملون النعم في مضرّة العباد، هل من قوّة اليوم؟! هل من جمع ينفع؟! هل من مناصرة تنقذ؟! هل من جواب تبجّحي؟
وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وآله:”ألا كُلّكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته فالأمير الذي على الناس(10) راع وهو مسؤول عن رعيته(11)، والرّجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم(12)، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم”(13).
المرأة حافظة دين البيت، وعرض البيت، شرف زوجها، ماله، حارسة دين الأطفال، مربّية الأجيال على الخير، إن سقطت أسقطت نسلا، وأسقطت قبيلة، وأسقطت مجتمعا.
وكم لمن ذكرهم الحديث وغيرهم ممن لهم إشراف على أمر الغير، وممن يتحملون أمانة العناية والرعاية والتدبير لشأن من شؤون النّاس من تفريطات وتقصير وإهمال مما لا يحصيه إلا الله وهو محل الحساب؟!!
وعن الإمام علي عليه السلام:”أوصيكم بتقوى الله فيما أنتم عنه مسؤولون(14)، وإليه تصيرون(15)، فإن الله تعالى يقول:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (16)}(17) ويقول:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ}(18)”(19).
الله عزّ وجلّ شديد العقاب، قادر، عليم، خبير، لا تفوته سيئة مسيء، ولا يمكن أن أن يفرّ ظالم بظلمه من عدله.
“اتقوا الله في عباده وبلاده(20) فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم وأطيعوا الله ولا تعصوه”(21) لا تعصوه في علاقاتكم، في تعاملكم حتى مع الطبيعة. الطبيعة على وضعها الصحيح السليم الأصيل وجدت للبناء، لبقاء الحياة، إذا سعيتم لإفسادها سعيتم لإفساد معادلة أرادها الله تبارك وتعالى لسلامة الحياة مقاومين معاندين لما يريد.
“قال أبو عبد الله عليه السلام: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} قال: يُسأل السمع عما سمع(22)، والبصر عما نظر إليه(23)، والفؤاد عما عقد عليه”(24).
قد يعقد القلب على محبّة المؤمنين أو على بغضهم، على محبّة الفاسقين أو على بغضهم، على موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله أو العكس.
“أن النبي صلى الله عليه وآله أبصر ناقة معقولة(25) وعليها جهازها(26) فقال أين صاحبها؟ مُروه فليستعدَّ غداً للخصومة”(27) وخصمه الناقة أو خصمه الله؟ خصمه الله قبل الناقة.
ونسأل: أي شيء أتى به الغرب مما هو جيّد، مما هو صحيح لم يسبق إليه الإسلام؟! لا شيء. إذا كانت هناك رعاية حيوان، وإنصاف حيوان، فالإسلام سابق إليها، وإذا كانت هناك رعاية وعناية بنظافة البيئة وسلامة البيئة فالإسلام قد سبق إلى هذا الأمر.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا عارفين بحقك، آخذين بمنهجك، قاصدين رضاك، غير مستبدلين عن دينك، ولا راغبين عن متابعة أوليائك، وأعنّا على تجنُّب معاصيك، واستثمار العمر في طاعتك، وسهِّل علينا الحساب، وتجاوز عنا، وعاملنا بعفوك، ولا تحملنا على عدلك يا كريم يا رحمن يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الحيّ أزلاً وأبداً الذي هو حيٌّ بذاته لم يكسب الحياة من حيّ، ولا يفقده الحياة شيء، ولا يحدُّ حياته شيء، وليس لها من منتهى. وكل حياة من عنده، وأمرها بيده، ومحكومة لتقديره، ولا قيام لها إلا بإذنه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
عباد الله فلنتق الله القائل في كتابه المجيد:{وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً(28) أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ }(29) فكيف لا يُتّقى من له ما في السموات والأرض؟! وكيف يُتّقى من لا شيء له على الإطلاق؟!(30) إنه لمنكر أن يُتقّى من لا يملك شيئاً، ولا يجد لنفسه نفعاً ولا ضراً، وأن يُستكبر على مالك كل شيء، ومن لا نفع ولا ضرّ إلا بيده.(31)
الله العظيم وهو الخالق ولا خالق غيره، الرازق ولا رازق من دونه، المالك لما في السماوات والأرض ولا مالك سواه له الدين الواصب، وله الطّاعة الدّائمة، ولا طاعة بالذات للمخلوقين المرزوقين المدبَّرين الفاقدين.
عباد الله بالتقوى يُستعدُّ ليوم الموت، ويوم البعث والنّشور، والحساب والثّواب والعقاب.
وبالتقوى يُستعان على مكاره الزّمن، وشدائده ومضائقه، وزحمة الحياة.
اللهم إنّا نعوذ بك من غفلة الغافلين، وسهو الساهين، واستكبار المستكبرين، وعناد المعاندين.
اللهم اجعلنا نخشاك حتى كأننا نراك، وأسعدنا بتقواك، ولا تشقنا بمعصيتك، وأتمم علينا بطاعتك نعمتك، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين إنك أنت التواب الكريم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين أئمتك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين، وجعلنا من أنصاره وأعوانه في حضرته وغيابه.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ظاهراً دائماً قائما.
أما بعد أيها الإخوة الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى عنوانين:
أولاً: سويسرا والمآذن الأربع:
مآذن أربع في سويسرا تصيبها بالفزع وتحدث لها حالة استنفار، وتؤدي إلى تعديل دستوري يمنع من تشييد المآذن هناك. ولقد صارت البلاد الأوروبية تفزع ويصيبها الذُّعر لقطعة قماش تستر رأس امرأة، أو نقاب يغطّي شيئاً من وجهها، وتخاف على حضارتها العملاقة الانهيار من ذلك.
وسويسرا وأوربا بلاد تتشدق برفع شعار الحرية، وتنصب نفسها مدافعة عنه في كل الدنيا، وتغزو بلادا بعد أخرى بذريعة الانتصار لشعار الحرية، وتنعى على الكثيرين أنهم لا يقيمون للحرية وزنها المطلوب، وأنهم يحتاجون إلى من يعلّمهم فنّها الذي لا يجيده إلاّ الغرب.
مواجهة المآذن الأربع، ومواجهة ستر الوجه، أو ستر الرأس أو أي سلوك من هذه السلوكات التي تأخذ طابعاً إسلامياً الذريعة فيها الخوف من الإرهاب. ولكنّ وراء هذه الهجمة والشراسة في مواجهة أي مظهر إسلامي في الغرب شيء أكبر من ذلك، وهو خوف الاستقطاب.
إن الغرب ليخاف من الإسلام لأنه يقدّر أصالته وكفاءته، ويعرف أن الإسلام الأصيل النقي إذا عرفه النّاس هفت القلوب إليه من شعوب الدنيا كلّها، وأنّ السبيل على بقاء المصالح الاستكبارية هو الصد عن الإسلام، وتشويهه.
وكما يأخذ الغرب بهذه السياسة فإن كل الذيول الاستكبارية في البلاد الإسلامية تأخذ بهذه السياسة نفسها. كل المستكبرين، وكل الطغاة، وكل الذين يريدون أن يستغلّوا الناس، وأن ينصبوا أنفسهم آلهة في الأرض من دون الله يعزّ عليهم أن تنتشر الحقيقة الإسلامية، وأن يعرف النّاس الإسلام.
ولا حرب اليوم في الأرض أكبر من الحرب على الإسلام، وحرب المستكبرين كلها في مظاهرها المختلفة، وفي كل جبهاتها هي في عمقها حرب على الإسلام.
ونقول: إذا كان للغرب أن يحمي حضارته ودينه أو ماديته فلماذا ينكر علينا هذا الحق نفسه بالنسبة لموقفنا من مراكزه التخريبية وعريه وعربدته في البلاد الإسلامية؟ من حقّهم أن يحموا حضارتهم، ومن الواجب علينا أن نسكت أمام غزوهم الذي تشارك فيه أنظمة تحكم المسلمين من عرب وغير عرب؟!!
إذا شتم شاتمهم مقدساتنا اعتذروا بأن الحرية مبدأ مقدّس عندهم لا يمكن أن يمس، ولا أن يؤدّب الممارس لحريته من أبنائهم، لأن القانون والدستور يحميه، أما إذا سترت مواطنة مسلمة من مواطني بلادهم شعر رأسها بمنديل ممارسة لحرّيتها قالوا هذا تهديد للحرية وخطر على الحضارة كلّها، وباب من أبواب الإرهاب. أرأيت كيف يكال بمكيالين، وكيف يكون التناقض في المواقف المتشابهة وحتى المتماثلة؟
وذريعة الإرهاب التي صار يستعملها الغرب لإذلال المسلمين هناك، ولكبتهم، ولسلب حريتهم، وإنزال الأذى والضرر بهم هي ذريعة قدّمها نفر لا يجيدون فهم الإسلام من أبنائه من خلال مذابح بشعة، وتقتيل مسرف، وتنكيل لا حدود له باسم الإسلام بالمسلمين… أطفال المسلمين، شيوخ المسلمين، أبرياء المسلمين وعلى أرض الإسلام، والغرب استغل هذه الذريعة أبشع استغلال.
ثانياً: درس من أفغانستان:
1. تخوض أمريكا وحلفاؤها الأوربيُّون حرباً ضارية في أفغانستان ويملكون هناك حكومة من صنعهم تأتمر بما يأمرون، وتُنفِّذ ما يريدون، يرسمون لها السياسة، وعليها التنفيذ.
2. وقد قرر أوباما الدفع بثلاثين ألف جندي إلى الحرب الأمريكية الأوروبية الأفغانية، وقبل أن يدفع بهذا الجيش الجديد، وبعد ذلك هو ومع خبراؤه يؤكّدون بأن الحرب لن تُحسم بالقوة، وأنّه ما دامت أفغانستان تعاني من حالة الفساد المالي والإداري، وما دامت الحكومة الأفغانية تتلاعب بالمال، وتستأثر به، وتجوّع شعبها لتتبذّخ، فلن يمكن أن يتحقق نصر على الأرض من خلال الحرب. فما بقي الجوع أو الطبقية الفاحشة حتى مع هدأة البطون فلن يهدأ الشعب الأفغاني ولن يكون نصر للغزاة وأعوانهم. وهناك حقيقة يهملها الغرب دائما في إعلامه وإن كان يدركها في نفسه، ولكنّه يعاند وهي أن الشعب الأفغاني وغيره من الشعوب الإسلامية لن تبقى راضية عن أمريكا، وسيستمر قتال المسلمين لها ما دامت تستهدف دين المسلم، وأخلاقياته وقيمه.
الشعوب الإسلامية ليست قطعانا من الأبقار والإبل، ليست بهائم. لها تفكر وهم كغيرها من الشعوب يتعلّق باللقمة والكسوة والمسكن والحياة المسهَّلة، ولكنّ لها نظرة أبعد من ذلك، وهمّها الأول يتركّز على ذاتها الحضارية، وقيمة انتمائها. إنها لتفدي نفسها رخيصة للدين قبل اللقمة(32).
حقيقة صارخة لا يمكن أن تتنكر لها أمريكا ولا غير أمريكا وهي أن الشعوب المجوّعة، والشعوب المظلومة ما عادت تقبل الواقع السيء الظالم، وهي تصرّ دائما على الانتفاضة أمام هذا الواقع، وعلى تغيير هذا الواقع، وإن دعمته أكبر قوّة عاتية في الأرض.
والدرس الذي يجب أن تتلقاه كل الحكومات هو أن اعتماد أسلوب القوة لإسكات الشعوب مع استمرار النهب والغصب والاستيلاء الظالم على مصادر الثروة، واقتسام المال العام بين نفر قليل، أو العمل على مصادرة الحق الديني، ومعاداة دين الأمة، والتعاون مع أعدائها على إضعافه شيء فاشل لا يؤدّي إلا إلى مزيد من الخسائر المشتركة، وقواصم الظهر العامَّة، وإغراق الأوطان في الكوارث والمأساة.
الحكومات التي تعتبر أن اليابسة لها، والبحر لها، وما تحت الأرض وما عليها لها تهبُ من كل ذلك ما تشاء لمن تشاء، وتمنع من تشاء بغير حساب، ولا ضابطة من شرع، ولا قانون، ولا عرف تكونُ قد اختارت الصّراع مع شعوبها حالة دائمة، واستخدام قسط كبير من ثروات الأوطان وتضييعه لقمع الشعوب في هذا الصراع، وكتبت على شعوبها خوض معركة مفروضة عليها من قبل تلك الحكومات.
والحكومات الجادّة في إيقاف حالات العنف – والعنف ضارّ بالجميع – والمستهدفة درءها حقاً لا يمكن أن تؤجج حالة العنف، أو تدفع إليها، أو تؤسس لها بالتلاعب بالثروة الطبيعية العامة، وتوزيعها على عدد قليل من أهل الثروات العملاقة لتوقع عامة الناس في مأزق خانق وضائقة حادّة في المعاش والمسكن تفرض عليهم أن يجهروا بصوت المظلومية والاحتجاج، وأن يُشدّدوا النّكير، ويطلبوا الخلاص من أي طريق تنفتح نافذة الفرج منه.
لا يقبل عاقل على الإطلاق أن من العدل، ومما يهدّئ الأوضاع، ويقود إلى حالة من التعقل أن تُخصَّص ملايين الأقدام المربّعة من أرض وطن صغير المساحة لنفرٍ قليل من أهل القِمّة في الثروة في وقت يُحرم فيه الكثير الكثير من المواطنين نيل أحدهم قطعة أرض صغيرة يقيم عليها مأوى صغيراً يأويه وأهله وأطفاله.
لا نرضى العنف أبداً، ولا نرضى التشجيع عليه، وندعو للتقيُّد بالأسلوب السلمي في مواجهة الظلم، ولكن نؤكّد أنّ في استمرار الفساد المالي والإداري وغيره سياسة تشجّع على العنف، وتحث عليه، وتستهدف تأجيجه، وتُيئِسُ من قيمة الأسلوب السلمي، وطَرْق أبواب الحوار. وهي سياسة فيها تدمير للوطن بكل ثروته وسمعته وإنسانه.
وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم غيّر سوء حالنا بحسن حالٍ من عندك، واكفنا ما أهمّنا من أمر الدّنيا والآخرة، وادفع عنّا كل سوء، ولقِّنا خير ما نرجو وما لا نرجو، وباعد بيننا وبين أهل النّار، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصلّ على محمد وآله الطاهرين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 2/ النحل.
2 – فليس كل نعمة أنعمها الله على العبد تبقى نعمة، وإنما قد تتحول إلى أشد النقم على يد العبد المسيء.
3 – فنحن نعيش في وسط من النعم التي لا تعد ولا تحصى ولا تقوم لنا حياة إلا بتلك الآلاء والنعم.
4 – آهٍ وكثيراً ما نغفل، وكثيرا ما نتلهى عنه بأمور صغيرة، وكثيرا ما تسكرنا الحياة حتى كأنه لا آخرة ولا بعث ولا حساب.
5 – 36/ الإسراء.
6 – قسم به عز وجل.
7 – 92، 93/ الحجر.
8 – 8/ التكاثر.
9 – 24، 25، 26/ الصافات.
10 – كان أميرَ حقّ بتشريع من الله، أو أمير باطل فرض نفسه أو فرضه من لا يحق له أن يفرضه.
11 – الرعاية: العناية والاهتمام، والمجتمع وإن كان فيه كبار، وإن كان فيه عمالقة فكر، وإن كان فيه أشدّاء إلا أنه بما هو مجتمع وليس بما هو فرد فرد، وبما هو كيان متوحّد يحتاج إلى راع.
12 – عن لقمتهم وكسوتهم فقط؟ أو عن أمور أخرى تتصل بصلب إنسانية الإنسان، وبيوم نجاته أو هلاكه؟! الرعاية تشمل الدين، تشمل الخلق، تشمل العفة.
13 – صحيح مسلم ج6 ص8.
14 – اتق الله في النظرة، فيما تسمع، فيما تأكل، فيما تشرب، فيما تقول، في كل ما أنت مسؤول عنه غدا بين يدي الله تبارك وتعالى. وأي شيء سيكون خارج الحساب؟! وأي عمل سيكون خارج الحساب؟! وكل ذلك من حق الله عز وجل أن يحاسب العبد عليه.
15 – كل كلمة نقولها سنشهدها، كل فعل نجترحه سيكون أمامنا معاينا، وهناك نظرية لعدد من المفسّرين تذهب إلى تجسيد الأعمال، وعليها ظواهر نصوص كثيرة، وأن العمل يتجسّد أمام الإنسان يوم القيامة، يأخذ صورة مادية، مفزعة أو مفرحة. فالصورة تأخذ واقعها من طبيعة العمل.
وعملنا لا يضيع منه شيء، لا يفلت منه شيء، لا يُنسى منه شيء، كلّه يُحضر.
16 – هل يُفكّ البيت المرهون إلا بتخليصه من الرهن؟ هل تفك نفس يوم القيامة إلا بعد أن تنتهي من الحساب؟ النفس التي عملها سيء هل يكون لها فكاك أو تبقى مرهونة مشدودة محبوسة في قوقعة عملها السيء؟ فلنفك رهن أنفسنا في الحياة قبل الآخرة بالعمل الصالح ومع الاعتماد والتوكل والدعاء والتضرُّع إلى الله بالتوبة والمغفرة.
17- 38/ المدثّر.
18- 28/ آل عمران.
19 – الأمالي للشيخ المفيد ص261.
20- تقوى الله ليس في العباد فقط، بل وفي البلاد بما فيها من حبة رمل، من شجرة، من بهيمة. كل البيئة يجب أن يتقى الله فيها. أرأيت سبق الإسلام إلى الاهتمام بالبيئة؟ وتحميل الإنسان مسؤولية فسادها. وإفساد البيئة على يد الإنسان شيء تشتكي منه الدنيا اليوم.
21 – شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج9 ص288.
22 – هل سمع بحق، أو سمع بباطل؟ ليس لك أن تسمع أو تستمع لكل شيء، وإذا سمعت كان مما تسمعه يجب عليك الأخذ به، ومنه ما يجب رده، ومنه ما يجب أن تدفع عمن نال منه هذا القول المسموع.
23 – ألنا أن نسرّح النظر يميناً وشمالاً وكيف ما نريد؟! سمعي، نظري ليس لي، سمعك، نظرك ليس لك، أنا وأنت مملوكان لله، وكل جارحة من جوارحنا ملك له، ومن حق الله أن يعين مواضع استعمال ما يملك.
24 – الكافي ج2 ص37.
25 – مربوطة، مقيدة.
26 – والجهاز هو عدّة السفر، ما يحتاجه المسافر من متاع ويحمله على الراحلة، ونُسب إلى الراحلة لأنه عليها.
27 – بحار الأنوار ج7 ص276.
28 – أي دائما.
29 – 52/ النحل.
30 – ونحن نقع في العكس، قد نتقي من ليس له شيء على الإطلاق، ونعصي الله الذي له كل شيء. كم من الأمور في حياتنا من هذا؟!
31 – أتُصدّقون أننا في كثير من حياتنا مجانين؟! لأن من اتّقى الفقير المُعدَم، من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا، وعصى مالك كل شيء، فهو مجنون.
32 – هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا إسلام).

زر الذهاب إلى الأعلى