خطبة الجمعة (383) 7 رمضان 1430هـ – 28 أغسطس 2009م

مواضيع الخطبة:

*هدايات قرآنية *نزاهة رجل وخطأ كلمة *أواجبٌ أم مستحب؟

والهجمة على الإسلام والأمة شاملة لكل أبعاد وجودها.. والجبهات متعدّدة وكلُّ جبهة تحتاج إلى حماةِ ثغورٍ ومدافعين، وتحتاج إلى رَفْعِ مستوى وإعدادٍ وتقويةٍ داخلية. ومن أخطر الجبهات الجبهة الفكرية والثقافية والتربوية… وكلُّ ذلك يتعرّض إلى هجمة شرسة وغزوٍ خطير.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي جعل الدُّنيا دار امتحان وممر، والآخرة دار كرامة ومقر، وجعل الأولى متاعاً للبرّ والفاجر، والثانية جزاء موفوراً، ونعيماً مقيماً لمن أطاع واتّقى، وصدّق بالحسنى.
أحمده بحمده العظيم الذي لا حدّ له ولا منتهى، وأسأله الزّلفة والقربة، وملازمة ما يحبّ ويرضى، ومتابعة من اصطفى وارتضى، وهو وحده وليّ النُّعمَى.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي المقصِّرة بتقوى الله الذي ذلّ له كلُّ شيء ذُلّ العبوديّة والمملوكيّة والمقهوريّة. وفي كلِّ مخالفةٍ لأمرٍ من أوامر المولى الحقّ أو نهيٍ من نواهيه خروج على زيّ العبودية، وتمرّدٌ خائِبٌ من مملوك لا مفرّ له، ومقهور لا حيلةَ له، ومأخوذٍ لا يجدُ سبيلاً إلى النّجاة.
اللهم ارزقنا الانصياع والذّلَ لكبرياء الرّبوبية، والتوفيقَ لأداء واجب العبوديّة، واجعل عبوديّتنا لك خالصة، وطاعتنا لك لا نُشرك معك فيها أحداً، ولا مُبتغى لنا فيها إلاّ رضاك.
اللهم وافعل ذلك بالمؤمنين والمؤمنات أجمعين، واغفر لنا ولهم وتب علينا جميعاً يا توّاب يا رحمن يا رحيم يا كريم.
أما بعد فمع هاتين الآيتين الكريمتين:
{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}(1).
مؤمن آل فرعون الذي آمن بالله الواحد الأحد ربّاً، وبموسى عليه السّلام نبيّاً، يُطلق نداءً في القوم الّذين كذّبوا موسى عليه السلام في صورة تودّدية تستعمل لفظةَ (يا قوم) لمرّتين متقاربتين لما يثير هذا اللفظ من رابطة قومية مشتركة للدخول إلى نفوسهم، وبما يشير إلى أنّ النّداء من منطلق الحب والوفاء والإخلاص والنّصيحة لذوي القرابة، ورابطة النَّسب.
والرجل وإن لم يعرف عنه أنّه نبي إلا أنّه من كبار أهل الإيمان وخاصّتهم حتى أطلق هذا النداء الواثق المطئمن:{اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}.
وربما اختار {اتَّبِعُونِ} مضيفاً الاتّباع إلى نفسه وهو في الأصل اتباعٌ للنبيّ موسى عليه السّلام في دعوته ليدفع ظنّ السّوء عند قوم فرعون بأنّ هدفَ موسى إنّما هو الانتصار إلى قومه من بني إسرائيل، وزعزعةُ حكم قوعون وآله وبني قوميّته.
والهدايةُ التي عناها ذلك المؤمن العظيم هي هدايةُ الإراءةِ والتعليم والشّرح والتربية الصالحة، أمّا هداية الإيصال فأمرُها إلى الله وحده.
وخطاب ذلك المؤمن وإن كان مُتلطِّفاً ومراعياً للمشاعر، وآخِذاً بالسّبب الموصل إلى القلوب إلاّ أنّه لم يخفِ الحقيقة المرَّة ولم يتستّر على الواقع السيء، والخطأ الفادح الذي كان فيه قومُه وإن لم يُعبِّر عن ذلك التعبيرَ الصارخ حتى يحافظ على هدوء أعصاب الطرف الآخر، ولا يثير حميّته الجاهلية فاختار تعبير {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} ليدلّ بصورة غير مباشرة على أنهم واقعون فعلاً في السبيل الآخر غير الموصل بل المدمِّر.
وخطأ الطريق، وتنكّبُ الصراط يُسقط قيمة السعي، ويسيء إليه، ويُفشِله، ويعكس النتائج، ويقود إلى خسار.(2)
وعليه يجب أن ينصبّ جهد كبير عند الإنسان واهتمام عال على نوع الخيار الذي يريد أن يعطي له حياته، ويربط به هدفه والمصير، ولا يضعَ قدمه في بداية أيّ طريقٍ من طرق الحياة المتعدّدة المتضاربة قبل أن يفيض في دراسة الطُرق لينتخب ما هو منها طريقُ هدىً ونورٍ ورشاد.
وسبيل الرّشاد كما يحتاج إلى فهم وبصيرة وتبيُّنٍ في كُلِّيِّه، فهو محتاج كذلك إلى هذه الأمور على مستوى تشخيص المصداق. وإذا كان الخطأ في فهم سبيل الرشاد بصورته الكليّة قاتلاً، فكذلك هو الخطأ في التعرّف على المصداق، وعلى الرموز لهذا السَّبيل.
وسبيل الرشاد في كليّه لا يُخالف عقلاً، ولا يُصادم فطرة، ولا يُسبّب ألماً للضّمير، ولا ينحدر بإنسانيّة الإنسان، ولا يهدرُ كرامتَه، ولا يُؤدّي به إلى سوء المصير، ويسقط به إلى الحضيض، بل هو على العكسِ من ذلك كلِّه، ولا يخطئ بالإنسان غايته، ولا يقصر به عنها، ولا يعرقل سيره إليها بل يقود خطاه ثابتة متقدِّمة قوداً على طريقها، ولا يُقدِّم مفسدة على مصلحة، ولا مصلحةً صغرى على مصلحة كبرى، ولا يُوقع في مفسدة أشدّ لدرأ مفسدة أدنى(3).
وقد يتّفق الناس على هذا كلّه أو الكثير منه في وصفهم العام لسبيل الرَّشاد، ولكنَّ كثيراً ما يقع الاختلاف في التشخيص عن علمٍ وعمد أو عن جهلٍ وغفلة ولو في بعض الموارد.
ونجد مؤمن آل فرعون يدعو قومه بحرارة وإخلاص إلى سبيل الرشاد، وإلى اتباعه ليهديهم إليه.
وفي المقابل يطلق فرعون الدعوى في خطابه للناس من قومه بأنّه يَصْدقُهُم الرأي، ويَمْحَضُهُم النصح، ولا يخونهم، وإنما يهديهم إلى سبيل الرّشاد {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ(4) إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}(5) قال ذلك ردّاً على نُصحٍ تحذيريٍّ جاء على لسان الرجل المؤمن المؤازرِ لموسى عليه السلام.
وفرعون يجادل ويكابر ويُطلق الدَّعاوى الفارغة والدِّعايات الكاذبة عن علم وعمد اغتراراً بالدنيا واستمساكاً بها.
فرعونُ يطلق الدعاية، ويستعمل فنّ الإعلام والمراوغة والتأثير النفسي من دون أن تكون هناك قدرةٌ للتّأصيل الحقّ العميق المتجذّر لرأيه الذي لا يلتقي مع الحق في شيء، ولا يسنده العقل والضمير.(6)
وحين يطلق المؤمن نداءّه لقومه باتباعه ليهديهم سبيل الرشاد الذي يجد مصداقاً واضحاً له في تقديم الآخرة على الدّنيا، واستثمار الدنيا من أجلها، يقدِّم الدليل الكافي على صدق هذا النداء، وحقّانيته وهو الدليل الذي تبنّت طرحه هذه الآية الكريمة:{ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}.
فحجمُ الدنيا ووزنُها أنها دارُ انتفاعٍ يسير، ومتعةٍ قليلة عابرة يشوبها ما يشوبها من ألوان الآلام والشّدائد والمُكدّرات، أمّا الآخرة فهي دار القرار عذابُها دائم أليم، ونعيمها خالد مقيم، ولا نهاية لها ولا انقطاع.(7)
والإنسان إمّا أن يكون على يقين بالآخرة، أو ظن، أو احتمال، ولا يملك أحدٌ من النّاس وهو في هذه الحياة وتحت حكم تجربتها، ولم يشاهد من أمر الآخرة وهو في دنياه شيئاً أن يحكم عليها بالانتفاء.(8)
وإذا كانت الآخرة محتملة على الأقل وبما لها من امتداد لا يعرف الانقطاع، ونعيم لا مثيل له، وعذاب لا يوصف، ولا تحتمله نفس فأين الرُّشدُ حَسْبَ الفطرة والعقل وحساب المصلحة والمفسدة، وفي الحكمة والنّظر العُقلائي؟! الرُّشدُ في تقديم الدنيا على الآخرة، والدنيا لا يبقى من لذائذها ولا متاعها شيء، وكلُّ يوم يمضي منها يقترب بالإنسان إلى حياة أبدية كلها عذاب لمن طغى واستكبر ولو حَسْبَ الاحتمال عند من لا يؤمن بيوم الحساب؟! أم الرُّشد في الأخذ من هذه الدنيا ما ينفع دون ما يضرّ، وما يُصلِحُ دون ما يُفْسِد، وفي العمل صالحاً طاعة لله سبحانه ليستقبل المرء حياةَ الأبد المُقْبِلة بقلب مؤمّل مطمئن آمن؟!
لو كانت الآخرة رغم ما يُشير إليها من عدل الله وحكمته، وما يدلُّ عليها من إخباره وتأكيده، ومن تركيز أعلى النماذج الإنسانية عقلاً ووعياً وعلماً وحكمةً ونزاهةً من أنبياء ومرسلين وأئمّة هادين وأولياء عظام على أهميّتها محتملة لا أكثر لكانت الأحقّ بالتقديم لها على الدنيا وطلبها(9).
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار. ربنا هب لنا حكمة نختار بها الآخرة على الدّنيا، ومصاحبةَ الأخيار دون الأشرار، والسعي إلى الجنّة لا النّار. ربنا افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله يا أرحم الراحمين، وأكرم المعطين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا وجود لشيء إلا من وجوده، ولا حياة لحيّ إلا من حياته، ولا قدرة لقادر إلا بقدرته، ولا علم لعالم إلا بعلمه، ولا مصدر لنور أو خير أو هدى سواه، ولا يقعَ أمرٌ إلا بإذنه، ولا يرفع الضّر غيره، ولا رافع ولا خافض من دونه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله الذين خلق وملك، وأحيا ويُميت ويبعث علينا نحن المحاويج المملوكين المقهورين لقدرته بتقواه، وأن لا نشتريَ رضا أحدٍ برضاه فما نَفْع رضا المخلوق المملوك المرزوق المقهور في غضب الخالق؟!
ولنعلمْ أنّ سيرنا للآخرة لا نملك من أمره شيئاً؛ فالليل والنّهار يحدوَان بنا قهراً، وما اليومُ الذي نسعى إليه مسرعين من توقيتنا؛ ولا نعلم من سرِّه شيئاً. وما علينا رعايته هو العمل لأن يكون المنقلبُ منقلباً خيراً. ولا يأسفُ على الحياة الدّنيا من بكَّر الرَّحيل إلى جنّةٍ ورضوان، وليس البقاء الأكثر إلا خزيٌ وخسارة لمن أساء عملاً، وكان في بقائه غضبُ الله والنِّيران(10).
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نسألك عمراً مديداً، وأن تجعله عامراً بطاعتك، والخير الوفير من عندك، وأن يكون مبارَكاً، وسبباً لمزيدٍ من القرب إليك، ونيلِ الرّضا من فضلك، ورفعة الشّأن عندك، والتخلّص من أسباب غضبك، والمبعّدات عنك، والتّطهُّر من كلّ ما يمنع رحمتك، ويَحْرِم من ألطافك يا من هو على كلّ شيء قدير، وبالإجابة الصّالحة حقيقٌ جدير.
اللهم صلّ على محمد عبدك ورسولك خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك، وقادة الناس إلى جنّتك ورضوانك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتاً مقيما.
أما بعد فهذه نقطتان:
نزاهة رجل وخطأ كلمة:
الكلمة هي ما يدور حولها كلامٌ كثير هذه الأيام، والرجل هو قائلها، وأعني به سماحة السيد حيدر الستري حفظه الله.
وتعليقي على الموضوع هو الآتي:-
1. الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هو الرّجل الأول بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله كمالاً، وكمالُه لا يُجارى “ينحدر عنه السّيل، ولا يرقى إليه الطّير”(11) الطّير المُجنّح والمحلِّق، السّابح بعيداً في الفضاء الرّفيع، القاطع للمسافات الطّويلة صُعُداً صُعُداً، وليس المقصود طائراً من أمثالي لا يعرف التحليق.
وإنّ الدنيا لن تلد عليّاً جديداً، أو عليّاً مثل عليٍّ عليه السلام.
والإمام عليٌّ عليه السلام قدوةُ المسلم والمؤمن كما هو الشّأن في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(12)، وعن عليٍّ عليه السلام “أعينوني بورع واجتهاد”(13) ويسعى المؤمن جاهداً على طريق رسول الله صلّى الله عليه وآله ووصيّه عليه السّلام مقتدياً ومتأسّياً ما استطاع دون لحاق وإن اكتسب ما اكتسب مما لهما من هدى ونور، ودون أن يقرُب من سمائهما سماء العبودية الصّادقة لله تعالى، والتي لا طريق لإنسانٍ للعزّة إلا بها؛ إذ لا شيء للإنسان على الإطلاق من نفسه أو غيره من دون الله(14)، ولا عِزّة لأحد أبداً إلا عن طريق معراج العبودية للعزيز المقتدر بالذّات.
وتبقى المسافة شاسعة بعيدة بين علي عليه السلام في علياءِ عبوديّته لله الواحدِ الأحد وبين عُظماء تلامذته في فنّ الرّقيّ الصّادق، والسّموّ الحقيقيّ عبر معراج العبودية للإله الحقّ من مثل سلمان المحمدي(15) وأبي ذرّ بحيث لا يسمح ذلك البُعد والفارق في المسافة بالتشبيه الدقيق بين الطرفين، وفي الكثير من الصفات وخاصة إذا جاء مطلقاً.
ولنا على مدى التاريخ فقهاءُ كبارٌ مخلصون، وعُرفاء أتقياءُ صالحون، وهم من عشّاق علي عليه السلام، وخريجي مدرسته، وفيهم قدوات عالية ومعلمو أجيال، وإنهم ليتشرّفون بأن كانوا ويكونون من تلاميذِ تلاميذ مدرسته عليه السلام.
2. السيد حيدر الستري أعزّه الله من أهل البصيرة في هذا الأمر، والإيمان العميق بهذه الحقيقة، وهو المتغنّي بها في نثره وشعره، وهُويتُه مشدودة إليها بقوّة، وعليها نَبَتَ لحمُه، واشتدّ عظمه، وقد تشرَّبَتْها روحه الشريفة مع لبن الرضاع، ويرى فيه أنه لا يُضحّي بهذا الإيمان بثمن هو الدنيا مضاعفةً أضعافاً، وأنّه يعطي نفسه ثمناً رخيصاً لهذا الإيمان. فمن الظلم أن يُزايَد على السّيد في هذا المجال(16).
وكرسيُّ نيابي، وما هو أكبر منه بمرَّات قذارة ورجس لو كان ثمنه شيئاً ولو يسيراً من دين المؤمن وشرفه، على أنّه ليس من الدين ما هو شيء رخيص. وحاشا للسيد أن يُقدِم على هذه القذارة(17)، وما هو بمحلِّ ظن سوء كما قد تذهب عند البعض الظّنون.
والكرسيّ المذكور في نفسه، وفيما يفتحه من فرص ماديَّة لا شأن له عند المؤمن، وهو طريق لغاية شريفة لا أنّه في نفسه غاية.
وطلب الدّنيا إنّما يكون الطريق إليه بمحاباة من يملكون من الدّنيا الكثير المبذول لشراء الذِّمم.
أمّا من لا يملكون دُنياً عريضة، أو ليسوا من باعة الذِّمم ولا ممن يبتاعونها ليضلّوا الناس، ويفسدوا في الأرض، فلا يطلب وُدّهم طالب دنيا بمحاباة.
3. وعن الكلمة التي جاءت على لسان السيد الكريم فالحكم عليها بأنها خاطئة، وقد تجاوزت كثيراً تجاوزاً غير مقصود، وسجَّلت جرأة غير محتملة، ولا أراها إلاّ أنّها تسلّلت إلى الخطاب في حينِ غفلة، وأستغفر الله لي ولأخي السيد الكريم منها زلّة. ومَنْ منّا من لا يخطئ، ولا تغلبه الكلمة على الإطلاق؟!
4. وأما عن هذا القاصر المقصِّر عيسى فإنّه يرى نفسَه مسبوقاً جدّاً في الخيرات والعمل الصالح وأبعادٍ كثيرة من أبعاد الشخصية الإيمانية لكثيرٍ من أخوته وأحبّته في الله في هذا البلد – البحرين – من علماء وطلاّب للعلوم والدينية وغيرهم.
وعليه فكيف يرى نفسَه مصداقاً لما قيل؟ وأنّى له أن يظنَّ بنفسه شَبَهاً بالأقلّ من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام الذين كانوا شيعة له بحقّ في ما كانوا عليه من مقتضى الإيمان حتى يدخل في ذهنه التفكير في ذلك بالقياس إلى إمام المتّقين؟!(18)
ولو ظنّ أو فكّر فهو المغرور، والمغرور خاسرٌ ولا قيمة له.
5. يبقى الهاشميُّ الأبيُّ المؤمن الكريم بإذن الله كما هو القويَّ في دينه وموقفه الجهادي وصفاء إيمانه، واستمساكه بأهل بيت نبيّه صلّى الله عليه وآله عليه وآله، وقدرته الإشعاعيّة في المساحة الواسعة من حياة المجتمع، ويبقى الحقيق بثقة المؤمنين والتفافهم وانتفاعهم بهديه. وعلينا أن نعرف أنَّ الجواد يكبو، والسّيف ينبو. ولكنّ السيد الكريم لا يُرتقب منه أن تتكرّر الكبوة، أو أن تتثنّى النبوة. والله هو العاصم، ونعم المولى، ونعم الكفيل.
أواجبٌ أم مستحبٌ؟
الحفاظ على الإسلام والعمل على إبقائه واجب أم مستحب؟(19)
والهجمة على الإسلام والأمة شاملة لكل أبعاد وجودها.. والجبهات متعدّدة وكلُّ جبهة تحتاج إلى حماةِ ثغورٍ ومدافعين، وتحتاج إلى رَفْعِ مستوى وإعدادٍ وتقويةٍ داخلية. ومن أخطر الجبهات الجبهة الفكرية والثقافية والتربوية… وكلُّ ذلك يتعرّض إلى هجمة شرسة وغزوٍ خطير.(20)
وإن أنشطتنا الدفاعية وتحصيناتنا، ووسائلنا الهجومية في المواجهة الثقافية والتربوية حسب الإمكانات المتواضعة المتاحة والتي لا تخلو من محاصرةٍ ومضايقة هي: صلاة جماعة هنا وهناك، مشروع لتعليم الصلاة والقرآن في هذا الموقع أو ذاك، مشروع تدريس لأوّليّات الدين في مكان وآخر، مؤسسة ثقافية أو اجتماعية أو سياسية ذات توجُّهٍ إسلامي، تجمّع علمائيّ على خطّ الدين، احتفالات بالمناسبات الدينية، وعظٌ وإرشادٌ ومحاضرة وندوة للتنبيه والإيقاظ ودفع الشبهة وتصحيح النّظرة، ومعالجة حالة الخلل والانحراف. وهذا كلّه قليل وغير مقاوِمٍ بحسب طبيعته إلى حدّ الكفاية.(21)
ومع ذلك هل تجد هذه المساحات والمواقع وألوان النشاط التبليغي المتواضعة كفايتَها من أصحاب الكفاءة والدّور القادر على نوع من المشاركة الفاعلة والدّاعمة، ومن المال، ومن الجمهور المستفيد والمشجع والمساند؟(22)
ونستطيع أن نجيب على هذا السؤال مطمئنين بالنفي(23)، في حين أنَّ أي فتور أو تساهل أو غفلة أو تغافل أو قلّة عددٍ أو ضعف إمكانات مما يُؤثّر سلباً على حركة المقاومة الثقافيّة، ودفعِ الخطر الماثل عن الوضع الفكري والنفسي والسلوكي لأبناء الأمّة وأجيالها الشّابّة يعني ضياعاً للإسلام وتقهقُراً عمليّاً لوجوده في حركة الحياة في كل مساحاته الخاصّة به، وتراجُعاً له في نفوس المسلمين وضميرهم.
وهذا يعني أن تخلُّف أي عنصر من العناصر القادرة عن المشاركة بالدرس والتدريس، بالمحاضرة، بالندوة، بالوعظ والإرشاد، بالعضوية الفاعلة في هذه المؤسسة النافعة أو تلك، بالإسهام الفكري، أو المالي، بالحضور، بالتشجيع والدعم والمساندة، بالمشورة، بتقديم الخبرة، بتكثير العدد في بعض المواقع، بطلب رفع المستوى الشخصي بالدرجة الممكنة في فهم الإسلام، وفهم الوظيفة الإسلامية، إنما يعني تخلّفاً عن نصرة واجبة يحتاجها الإسلام كلَّ الحاجة فعلاً.
فَلَمْ تعد مثل المشاركات التي مرّ ذكرها من الأمور التطوعيّة المستحبّة فحسب، بينما الحالة القائمة حالة هجوم حادٍّ على كلّ الأبعاد، واستهداف شامل لهويّة الأمة وبقاء الإسلام، ولا يمكن صدّ الخطر إلاّ بأن تجتمع كل الجهود والطاقات بمختلف مستوياتها وأنواعها في جبهة المقاومة.
وماذا يؤخّر الإنسان المسلم عن الإسهام في المقاومة عن دينه وأمّته؟
بتصوّر أنه لا خطر على الإسلام(24)؟ هذا سذاجة.
بتصوّر أن الواجب واجب الآخرين؟ ويأتي السؤال هنا: أين إسلامي، وأين إسلامك؟
بتصوّر كفاية المتصدين؟ لا تقدير دقيقاً في هذا الرأي(25) على الإطلاق. وهذه رؤية مضلَّلة.
أمن استخفاف بأمر الله سبحانه؟ إنما هو استخفاف بالنفس، وإضرار بها، وتعريضها لسخط الله القهّار الجبّار.
أمن خوف على رزق أو أجلّ؟ لا رازق غير الله، وأجلُّ كل نفس بيد بارئها، وليس غير الله من بارئ.
والحمد لله رب العالمين. وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً. وأستغفر الله لي ولكم ولوالديّ ولوالديكم، وللمؤمنين والمؤمنات أجمعين. اللهم اغفر لنا وتب علينا إنك أنت التوّاب الرّحيم.
اللهم اجعلنا ممن تنتصر به لدينك، ولا تستبدل عنّا من هو أحقّ بهذا الشرف عندك، وكنْ أنت النّاصر لنا، والدّافع عنا، والمثبّت لأقدامنا، وأنزل سكينتك في قلوبنا، وقوّها على طريق الجهاد في سبيلك، والذود عن حمى ملّتك وحريم شريعتك، والانتصار لأوليائك، والمظلومين من عبادك يا حنّان يا منّان يا كريم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 38، 39/ غافر.
2 – نقطة البداية المهمّة والخطيرة جدّاً هي قضية أن نختار طريق الحقّ أو طريق الباطل.
3 – فعلى الإنسان أن يستعمل هذه الضوابط في التعرّف على سبيل الرشاد والغيّ.
4 – قد يرى البعض أنّ هذا من فرض الرأي، وظاهر الأمر أنه من دعوى النصيحة، وأنه لا يرى الحق في هذا الجانب ويدعوهم إلى الجانب الآخر.
5 – 29/ غافر.
6 – ولكنّ الكثيرين يؤخذون بالدعاية والإعلام.
7 – فأيُّهما تُقدَّم على الأخرى في رأي عقل، فطرة، وجدان، مصلحة؟!
8 – القول بأنّه لا آخرة قول بجهل واضح وبيّن، قول ساقط لأن القائل لا آخرة من الناس لا يملك رؤية للآخرة، وهو لم يعبر سياج هذه الحياة، وليس له بصر ولا بصيرة تخترق جدار الغيب، فكيف يحكم بأنه لا آخرة. الاحتمالات ثلاثة: أن أعلم بالآخرة، أن أظن بالآخرة، أن أحتمل الآخرة على الأقل.
9 – وذلك بكل المقاييس الحكيمة العادلة.
10 – يزيد أحدنا على صاحبه بسنتين في العمر، يتأخّر عنه في رحيله هاتين السنتين فتكون السنتان جسر المتأخّر إلى النّار.
11 – بحار الأنوار ج 29 ص500.
12 – 21/ الأحزاب.
13 – نهج البلاغة ج3 ص70.
14 – لا طريق للعبد لشيء من العزّة المعطاة من الرّب إلا بأن يذلّ ويخضع ويخشع ويستكين لله الواحد القهّار.
15 – والذي يُقال عنه بأنه في الدرجة العاشرة من الإيمان.
16 – هتاف جموع المصلين بـ(معكم معكم يا علماء).
17 – قذارة كرسي نيابي يثلم من شرفه ومن دينه.
18 – هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا فقيه).
19 – لن يجيب أحدٌ منّا بالاستحباب لأنّ الحفاظ على الإسلام يقف عند حدّ الاستحباب، الحفاظ على الإسلام واجب أكيد، وهو أبو الواجبات.
20 – إذا كان كذلك فما مستوى مقاومتنا، وما مستوى استعدادنا، واهتمامنا بمسألة مصير الإسلام والمسلمين.
21 – هل أخذنا بالتعبئة الكاملة بكفل كفاءته، وهل جنّبنا أنفسنا كاملاً لمثل هذه المهمّة، وهل قام كلّ واحد منّا بواجبه حسب طاقته في هذا الجهاد؟ وهل نمتلك في داخلنا من الاحتراق للإسلام، والهمّ الإسلاميّ بقضية الحفاظ على الإسلام ما نمتلكه بالقياس إلى شؤوننا الخاصة؟ {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (7/ محمد) لكن هل نصرنا الله حتى في هذه الساحة الهادئة؟ قليلون جدّا هم الذين لا يستطيعون أن يسهموا في هذا الميدان من ميادين الجهاد، والباقي غير معذور.
22 – أتُعامل الاحتفالات الدينية بأقلّ درجة من الاهتمام وبفارق عالٍ جدّاً بينها وبين حفلات العرس؟ على أهميّة إدخال السرور على المؤمن بحضور حفل زواجه، وعلى أهمية مشاركة المؤمن ومواساته في مصيبته، إلا أن ذلك وبلا شك أقل شأناً من إحياء أصل الإسلام، والدفاع عنه.
23 – فليس عندنا درجة من الاستنفار الكافي، والاستعداد الكافي، ولا التجنيد الكافي للمعركة الثقافية.
24 – هذا التقاعد، هذا التقاعس، هذا الوقوف هل هو بتصور أنه لا خطر على الإسلام؟
25 – وهو أن نقول بأن هناك كفاية متصدين لمواجهة الغزو الثقافي والحضاري وما إلى ذلك.

زر الذهاب إلى الأعلى