خطبة الجمعة (353) 26 محرم الحرام 1430هـ – 23 يناير 2009م

مواضيع الخطبة:

*حديث في موضوع الهوى *انتصاران *أوباما وأمتنا *قمّة الكويت *المساجد لله

ليست الشهوة دائما في المادة والماديات، إنما قد تلبس الشهوة ثوب المعنويات، على أنها تبقى الشهوة الخسيسة التي تنحدر بالنفس، ولا يشفع لها أن تلبس لباس العلم أو لباس التقوى.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي خلق في الإنسان دوافع لحياة بدنه، وأخرى لحياة روحه، وجعله مختارا مريدا، وأنزل له على يد أنبيائه ورسله منهاجا يوفّق بين كل طاقاته ومواهبه، ومختلف دوافعه بما يكفل له حياة طيبة في الدنيا، سعيدة في الآخرة دون أن يشقى، وأن تكون دنياه نصبا، وآخرته عذابا.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، وعدم مسايرة النفس فيما اشتهت؛ فكثيرا ما تشتهي الباطل نفس لم يكن لها عاصم من ذكر الله وقربه، وإنما العاقل من عرض مشتهاه على دينه، وهواه على عقله، فما ارتضاه العقل والدين أخذ به، وما أنكراه نأى بنفسه عنه.
ومن الحق ما تكرهه النفس لثقله عليها من خفّة وزن تعاني منها وانحدار، وهنا تأتي الكلمة عن الإمام علي عليه السلام:”أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه”(1) حيث تأخذ بالنفس من مستنقع هواها، وتستنهضها بهذا الإكراه والمواجهة إلى الرشد والرقي، والصعود والسمو.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أعنّا على أنفسنا، وخذ بنا إلى مراضيك، وقوّنا على طاعتك، وسهّل لنا سبل الوصول إليك، واقطع عنّا دابر الشيطان الرجيم، وأنقذنا من وسوسة النفس الأمّارة بالسوء يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
أما بعد فهذا حديث في موضوع الهوى:
والهوى عواطف ثائرة، ودوافع هائجة، وانفعالات مندفعة، وغرائز متحرّكة من دون أن ترجع في شيء من ذلك إلى عقل ودين وحكمة وتفكير في المصلحة. وإذا انطلق الإنسان من هذه الخلفية المفصولة عن الحكمة والتعقّل والدين انطلق قويّاً، لكنّه ينطلق مجنوناً أو شبه مجنون لا يرى إلا بُغيته، وإن حطّم كلّ شيء، وتحطّم من كلّ شيء.
الهوى قد يقتحم بك الحواجز واللجج الغامرة ولكن في النهاية هو مفسدة وهلكة وخسار.
ولنقرأ شيئاً من الأحاديث التي وردت عنهم عليهم السلام في هذا الموضوع:
عن النبي (صلى الله عليه وآله):”إنّما سُمّي الهوى لأنه يهوي بصاحبه”(2) إلى هلاك، إلى خسار بحيث يخسر رصيده الإنساني، يخسر قربه من الله عزّ وجلّ، يخسر كماله، فالهوى إنما يقود إلى الانحطاط، ويأخذ بصاحبه إلى هاوية نفس، وهاوية نار. ولذلك سُمّي الهوى.
“احذروا الشّهوة الخفيّة(3): العالم يحبّ أن يُجلس إليه”(4).
مرّة يحب العالم أن يجلس إليه ليفيد ويستفيد، ولينشر الهدى في الناس، على أنْ يأخذ به قبل غيره، وأخرى إنما يحب العالم أن يُجلس إليه حبّاً للظهور، وليُرى أنه العالم، وأنه الذي يملك من الأفكار ما لا يملكه الآخرون، هذه شهوة شيطانية قد تدخل نفس العالم فتنحطّ به إلى منحدر سحيق.
فالشهوة شهوتان، وليست الشهوة دائما في المادة والماديات، إنما قد تلبس الشهوة ثوب المعنويات، على أنها تبقى الشهوة الخسيسة التي تنحدر بالنفس، ولا يشفع لها أن تلبس لباس العلم أو لباس التقوى.
عن الإمام علي عليه السلام:”أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوى، وطول الأمل. فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق. وأما طول الأمل فينسي الآخرة”(5).
الهوى المنفصل عن العقل والحكمة والدين ليس معناه إلا أنه خط آخر في مقابل خطّ الحقّ والعدل والإنصاف والحكمة والدين. وطول الأمل الذي يُنسي الآخرة هو أمل إنسان في أن تكون دنياه بلا نهاية بحيث يكون فكره وشعوره واهتماماته متركّزة على الدنيا دون غيرها؛ وبحيث تكبر الدنيا في نظره ويريه الشيطان أن دنياه باقية، وأن خير دنياه خالد، وأنه يمكن أن يكتسب الخلود مما في يده من أشياء دنيا. وهو أمل قاتل يفصل عن الحقائق الكبرى، عن الآخرة، ويصطدم في نهايته الإنسان بصخرة الواقع ليجد نفسه أنه قد أخفق نهائيا، وخسر أعظم خسارة، وجنى على نفسه جناية كبرى نهائيا يوم أن سار على خطّ الأمل الكاذب.
هناك أمل صادق، وهناك أمل كاذب، والكاذب لا يمكن أن يعطي نتائج إيجابيَّة ضخمة كبيرة لا صغيرة واقعية، وأمل الدنيا كاذب الآخرة، وأما الأمل الصادق فهو ليس إلا في الله تبارك وتعالى، وفي الآخرة.
فيوم أن يتخذ الإنسان من دنياه في رؤيته غاية الغايات، وأن الدنيا ستبقى فسيكتشف يوما أنه واهم، وأن الواقع بعيد عنه وعن تصوّراته وأوهامه كل البعد.
“فُضِّل العقل على الهوى، لأن العقل يملّكك الزمان، والهوى يستعبدك للزمان”(6).
يملّكك الزمان أي أشياء الزمان، ويستعبدك للزمان أي لأشياء الزمان. الشيء الصغير في الزمان يستعبد من ركب مركب الهوى، لا أريد أن أضرب أمثلة، وربما الأمثلة الكثيرة حاضرة في ذهنكم الشريف، ولكنّه مثال واحد: فتاة في واقعها كريهة، لكن نظرة خائنة يمكن أن تريها لصاحب النظرة كبيرة، فتّانة، وأجمل فتاة فيبيع حياتها ركضا وراء تلك الفتاة حتى ينتهي نهاية مخزية أدركها أو لم يدركها، هذا هو الهوى، وهذا من حكومته على النفس وإذلاله لها.
أما العقل فإنه يبقيك الرجل السيِّد، صاحب الزمام، المتحكّم في الظروف حتّى لو جاءت الدنيا متمرّغة على قدميك. إنّه حتّى إذا عظمت الدنيا في يدك مالا وجاها وقوة تبقى سيدها ولا تنال هي من السيادة عليك شيئاً إذا كنت العاقل الذي لا ينخدع.
“أول المعاصي تصديق النفس، والركون إلى الهوى”(7).
النفس الأمارة بالسوء وليست النفس المفطورة على الخير.
“اعلموا أنه ما من طاعة الله شيء إلا يأتي في كره، وما من معصية الله شيء إلا يأتي في شهوة”(8).
طاعة الله خاصة قبل المران، قبل الترويض، قبل اشتداد عود النفس من خلال حملها على الحقّ وتحمّل مسؤولياتها؛ طاعة الله وخاصة في هذا الحال صعبة، وهي تعني مرتقى بعد مرتقى، وصعودا بعد صعود، وفي ذلك ثقل على النفوس الصغيرة، ونفوس البشر فيما عدا نفس المعصوم صغيرة، فلا بد أن تُربّى، نفسي ونفسك طفل، فما لم نربّ نفوسنا تكن غير قادرة على النهوض بمسؤوليات الدين وطاعة الله.
أما الشهوات فنحن منساقون إليها بالطبع. عندنا دوافع روح، وعندنا دوافع مادة، ولكن لا تقاس حرارة دوافع الروح – وهذا من امتحان الله عز وجل – بحرارة دوافع المادة.
“مَنِ اتَّبَعَ هَواهُ أعْماهُ، وَ أصَمَّهُ، وَ أذَلَّهُ، وَ أضَلَّهُ”(9). والكلمات واضحة ولكنّها تحمل نتائج ضخمة خطيرة مهولة. أعماه أصمّه أذلّه أضلّه، فلنتذكر أن هذه نتائج الهوى، نتائج لابدّية لمن اختاروه.
أقرأ هذا الحديث بسرعة، عن سليمان عليه السلام أنه قال:”إن الغالب لهواه أشدّ من الذي يفتح المدينة وحده”(10).
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اهدنا سواء السبيل، واختم لنا خير خاتمة.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }

الخطبة الثانية

الحمد لله المحصي لكل شيء من خلقه، ولكل عمل من أعمال عبيده، العالم بالعواقب، القادر على كل شيء ولا يقدر عليه شيء. لا عفو كعفوه، ولا إحسان كإحسانه، ولا امتنان كامتنانه، ولا عقوبة بشدة عقوبته، ولا جزيل مثوبة كجزيل مثوبته، وهو العادل في خليقته، الرحيم ببريّته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله علينا بتقوى الله فما سعد أحد كما سعد أهل الطاعة والتقوى لرب العالمين بما أطاعوا واتقوا، وكان لهم من الرضا بالله الكريم العظيم، وما أراح النّاس من أذاه كما يريحهم امرؤ صاحب تقوى وفهم سديد للدين، وما عمل بالإصلاح مثله أحد، وما جرى نفع على يد إنسان من غير منّ ولا أذى ولا نيّة سوء، ولا طلب نفع من مخلوق كما يجري على يده، وللتقوى عاقبة لا تُنال ببذل كل الدنيا ممن ليس له تقوى لو مَلَكَهَا.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا الصادق الأمين محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أبق علينا كل نعمك، وزدنا من فضلك، اللهم لا تسلبنا تقواك، وضاعف لنا من زادها الطيب، ولباسها الكريم، واجعل لنا منها حصنا يقينا من السيئات، ويسترنا من العورات ياأكرم من كل كريم، ويا أرحم من كل رحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين، وفاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا مقيما ثابتا.
أما بعد فإلى هذا الحديث:
انتصاران:
إسرائيل انتصرت، وحماس انتصرت.
إسرائيل انتصرت انتصار آلة حربية عمياء صمّاء وليس انتصار بطولات ولو جسدية، وليس انتصار أهداف حرّكت المعركة، ولا انتصار قيم إنسانية، وليس هو من الانتصار السياسي كذلك. إنه هزيمة أخلاقية ومعنوية وسياسية وإنسانية، وانتصار حقّقه تفوّق السلاح لا المقاتل، وانتصارٌ لفنّ الإبادة والهدم والحرق والتدمير، وقتل الأطفال والشيوخ والأبرياء.
ولحماس نصر من نوع آخر وهو نصر المعنويات والبطولات والإرادة الإيمانية والصمود والمبادئ، وإبطال الأهداف الباطلة الخبيثة التي حددها العدوان الإسرائيلي المجرم لحربه الشرسة البهيميَّة.
وهزيمة إسرائيل ليست خاصة بها، وانتصار حماس لم يقتصر عليها، انتصار حماس انتصار لشعوب الأمة المؤمنة، وضميرها وأملها، وموقفها المساند، وهو انتصار لكل من اختار أن يكون معها في خندق واحد وقت المحنة واشتدادها.
وقد شملت هزيمة إسرائيل كل الذين تخندقوا معها على أي صعيد من الأصعدة مضادة للمقاومة من داخل الأمة العربية والإسلامية وخارجها.
ثم إن آلة الحرب الإسرائيلية الشرسة العملاقة لم تستطع أن تخرج حماس والمقاومة من الساحة الأمنية والسياسية مع كل الحصار، والتجويع، والترويع، والقسوة البالغة، والهجمة المجنونة على المدنيين، والاستفزاز الدموي لأهل غزة عسى أن يكفروا بالمقاومة، ويرفضوها، فهل هذا الذي عجزت عنه إسرائيل وقوتها العسكرية المتغطرسة تستمر في محاولته سياسة الاستكبار العالمي، والسياسة العربية الموالية منها للغرب، وإن لم يكن الشيءُ الجديد الذي يقرّب محاولتهم من تحقيق ما يحاولونه؟!
هذه المحاولة ستستمر ولكنها غير مرشّحة لإلغاء المقاومة، لما لها من إيمان بالمبدأ، بالرسالة، بالهوية الصادقة الأصيلة الصالحة، الإسلام، ولما لها من عمق ضارب في وجدان الأمة وضميرها، وقاعدتها الجماهيرية العريضة الذي بدأ يعبّر عن نفسه عمليّاً ومع تصاعد هذا التعبير لا يستطيع العدو الإسرائيلي ولا كل الآخرين أن يفرضوا أهدافهم ومآربهم الساقطة على المقاومة والأمة.
أوباما وأمتنا:
الاتجاه السائد داخل أمريكا وفي الكثير من شعوب العالم أن أوباما لن يكون بمستوى من الشر الذي كان عليه سابقه، فلو جاء هذا التوقع صادقا فإن أثره سيخفف من ويلات أهل الأرض ومنهم شعوب أمتنا، وهي الويلات المترتبة على السياسة الطاغية العدوانية الباغية المغرورة والمنفلتة الباطشة التي كان يأخذ بها بوش الذي ضرب مثلا سيئا في السياسة العالمية، وأضرَّ ببلاده قبل البلاد الأخرى بسبب طيشه وغروره ورعونته.
وإذا خفّ الشرّ عند أوباما، أو ظهرت منه حسنة فذلك لصالح بلاده قبل صالح البلاد الأخرى. فإن أمريكا القوية لابد أن تضعف، ولابد أن تتهاوى إذا أخذت بطريق الظلم والعدوان لأن هذا القويّ مهما يكن عليه من قوة فلن يصمد أمام بلايين العالم.
وعلى أحسن التقادير، وأكبر الاحتمالات تفاؤلا لن يكون أوباما منقذا للعالم، ولا الذي يتحمل مسوؤلية انتشال أمتنا من أوضاعها المتخلّفة، أو يحفل لذلك، أو يستطيعه.
تصحيح أوضاع الأمة والنهوض بمستواها مسؤولية أبنائها جميعا، أما تحمّل هذه المسؤولية بصدق وإخلاص وكفاءة فلن يكون إلا من النخبة المؤمنة الرسالية الواعية صاحبة الرؤية الصائبة، والفهم الرشيد للإسلام، والعلم والخبرة والكفاءة تسندها الجماهير العريضة من أبناء الأمة في كل مكان.
ولن يكون شيء من ذلك على يد أنظمة يُتوقّع لها أن تكيد بالأمة لا لها، وتكون عليها لا معها.
قمّة الكويت:
قمة الكويت أخذت في الجانب السياسي بالعموميات، ولم تضع النقاط على الحروف، وهربت من التفاصيل مع ضرورتها لأنها محلّ الاختلاف في وجهات النظر والمواقف العملية على الأرض.
كانت مصالحةٌ سطحية بعيدة عن التوافق على ما يمثل منابع الاختلاف من قضايا عملية وترتيبات خارجية. وبقاء الأسباب هو بقاء المسبّبات، فبقاء موارد الاختلاف من غير دراسة ومصارحة وتوحُّدِ وجهة نظر بشأنها أو تقارب بقاءٌ للخلاف لا محالة.
فحتّى مصالحات الأطفال لا تتم على نحو الحقيقة إلا بمقدار من القناعة الفكرية بالآخر وطرحه، والرضا النفسي، وإذا كان هذا الأمر لا يتم في العادة بين الصغار بمجرد كلمات مجاملة تحت ضغط الظروف الخارجية فإن حالة الكبار أبعد ما تكون عن تحقيق المصالحة الصادقة في مثل تلك الظروف ولمجرد الابتسامات وكلمات المجاملة.
والمصالحة والتعاون مطلوب حيث يكون على الحق، ومع الحق، وللحق، وهو في المورد ضرورة حيث يكون من أجل الأمة وشعوبها والمقاومة واستمرارها، وغزة وقضيتها، وفلسطين المغتصبة وعودتها، والإسلام وعزته، والكرامة واستردادها.
والمصالحة والتعاون مرفوض إذا كان على الباطل، ومع الباطل، وللباطل، وهو كذلك في المورد لو كان من أجل محاصرة المقاومة وانحسارها، وموت القضية الفلسطينية، وتركيع الأمة وإذلالها.
نرجو أن تكون مصالحة دائمة، وتعاون مستمر لعز الأمة ورفعتها واستقلالها وحريتها وكرامة إنسانها.
مصالحة دائمة، وتعاون مستمر لمصلحة الشعوب لا مضرتها، ولعزها لا لإذلالها، لقوتها لا لضعفها، وهذا ما يشهد الواقع على خلافه حتى الآن.
وعسى الغد أن يكون أحسن من الأمس والحاضر، وهذه أمنية وإن لم يكن عليها شاهد.
المساجد لله:
وقف الواقف يخرج ما كان له عن ملكه، وينهي علاقته الخاصة به، إلا أن يجعل لنفسه الولاية عليه في متن إيقاع الوقف، والولاية غير الملكية، وهي قابلة للإنهاء ولا بد أن تُنهى عند مخالفة الحكم الشرعي الخاضعة له.
والمساجد للانتفاع العبادي للمسلمين وفي مقدمته الصلاة، ولتبليغ الدين الحق، وتعلّمه وتعليمه، والتمكين له، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يوم أن يتوقف المسجد عن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا توجد مؤسسة أخرى في المجتمع تنهض بهذا الواجب. المسجد هو المسؤول الأول عن النطق بكلمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو آخر قلعة لهذا الواجب فإذا سكت سكت المجتمع كلّه.
ولاتملك الحكومات ولا الأحزاب ولا الفئات شيئا من وظائف المسجد والسيطرة عليه بما يخالف وظائفه الشرعية والأحكام الإلهية المتعلقة به.
ومن منع وظيفة من وظائف المسجد فقد عطّل المسجد وحارب الله ورسوله، وأرصد للدين وأضرّ به، وهو منكر شديد يجب أن يُحارَب. فالحكومة إذا منعت مسجداً من أداء وظيفته فقد ارتكبت كل هذا، ولا يُسكت على منكرها.
ومن هذا الوعي الديني يجب أن تواجه أي محاولة من أي حكومة في بلاد المسلمين وحتّى غيرها ما أمكن لو أرادت أن تضع يدها على المساجد، وتعطّل شيئاً من وظائفها فضلا عن إرادة توظيفها في صالح سياسة من السياسات التي لا تلتقي مع عدل الدين ومفاهيمه وأحكامه ورؤاه.
التدخّل من الحكومات أو غيرها في المساجد على مستويين: المستوى الأول أن تعطل وظيفة المسجد من صلاة، أو تبليغ، أو أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، إلخ، هذا مستوى.
المستوى الآخر أن يُستولى على وظيفة المسجد، وأن تُجيَّر للحكومات بحيث يكون المسجد مؤسسة من المؤسسات الرسمية في وظيفته، وهذا منكر أكبر وأكبر، وأخطر وأخطر.
وتدخّل الدين في السياسة، والمسجد في أمور العلاقة بين الشعوب والحكومات طبقا لموازين الدين وقيمه وأحكامه من صلب الوظيفة الدينية والمسجدية، وغلق المسجد من أجل هذا الوجه، وتعطيل دور أئمة الجماعة إذا كان للقيام بهذه الوظيفة مخالفة شرعية صريحة لا يصح أن تُقرّ ولابد من إنكارها.
إن الوقوف في وجه أي إمام من أئمة الجماعة، وتعطيل دوره في المسجد بتعليل عدم قيده رسميا لهذه الوظيفة يجب أن يُرفض شعبيا بشدة على حدّ رفض الدين لهذا التعليل لمساوقته للاعتراف بملكية الدولة للمسجد، وربط وظيفته بما تشتهيه وتمليه.
أقول: بأنه إذا كان للدولة أن تعيّن أئمة المساجد، أن تفصلهم، أن تضع شروطاً لإمام الجماعة، أن تحدد وظائفه، فمعنى هذا أننا ملّكنا المساجد للحكومات، والمساجد لله.
فَرِضا الدولة الوضعية وسخطها على الأشخاص لا ربط له مطلقا بما وضعته الشريعة من مواصفات لإمام الجماعة، وصلاحيته للإمامة.
وقد رفض هذا الشعب ولا زال يرفض تعيين وفصل أئمة الجماعة من قبل الجهة الرسمية تمشّيا مع أوامر ونواهي الشريعة. رفض ويرفض أن تخضع المساجد لمشتهيات السياسة ومخططاتها، وهو ما استهدفه نظام الكادر المرفوض شعبيا وللأبد إن شاء الله.
وهل يبقى شك عند أحد في أن إخضاع إمامة الجماعة لنظام الكادر وربطها بالإرادة الرسمية إنما هو طريق للاستيلاء على هذه المؤسسة الإسلامية الأصيلة في كل مهامها ووظائفها لصالح السياسة الوضعية ولو على خلاف الدين؟!
التعليل لغلق مسجد بأن إمام الجماعة فيه ليس معتمداً رسميّاً كشف تماما أن الكادر من أجل تحويل المساجد إلى مؤسسات رسمية، فمن أرضى من أئمة الجماعة الحكومة في دوره بقي، ومن لم يُرضها لا يبقى، من سجّل فله أن يصلّي إماماً، ومن لم يسجّل فليس له أن يؤمّ جماعة في أي مسجد، هذا القرار اليوم يطبّق على واحد، وغداً يطبّق على الجميع.
وإذا كان سيعطّل أي إمام مسجد عن إمامته بحجة أنه من خارج أئمة الكادر فكلنا خارجون منه. وليختر الناس بين أن لا يعطوا الشرعية إلا لإمامة من تعيّنه السلطة، أو يأخذوا شرعية الإمامة بالجماعة من دين الله وشريعته.
وإذا كان خيار المؤمنين أن لا يصلّوا إلا خلف من أجازته الحكومة – وهذا بعيد على هذا الشعب كل البعد – فعلينا نحن الذين لا نرضى بهذا المنكر أن ننسحب جميعا من محاريب الصلاة. وقلت إن هذا لبعيد كل البعد على هذا الشعب(11).
والموقف الشرعي الواجب والذي يحتم رفض ومواجهة إلحاق المساجد بمؤسسات الدولة التي تخدم سياستها وإن عارضت الدين منسحب بالقوة نفسها على عرقلة بناء المساجد والحسينيات، وربطه بالإرادة السياسية خارج كل الاعتبارات الأخرى، وعلى كل محاولات التدخل السافر في الشأن الديني بما يضره ويقضي عليه.
والحكومة بهذا التدخل تفتح باب معركة لا تنتهي على الإطلاق.
ولا يملك المرء إلا أن يبدي عجبه من إصرار الحكومة على تكثير الأزمات على مستوى المعيشة، والإسكان، والأمن حيث تتوالى دفعات الموقوفين والمعتقلين والمحاكمين لمسرحيات هزيلة مختلفة بين حين وآخر. إن في هذا التأزيم شديد للوضع، والمستهدف له مستهدف لزعزعة أمن هذا البلد.
نعم لا يملك المرء إلا أن يبدي عجبه من إصرار الحكومة على تكثير الأزمات على مستوى المعيشة، والإسكان، والأمن، والدين، وغير ذلك بصورة حادة ومتوالية بما لا يعطي فرصة على الإطلاق لاستقرار الوضع ولو قليلا، وكأنها تستحث الأوضاع إلى مزيد من التوتر والتفجّر، وكأنها مؤمنة بأن مصلحتها في ذلك، وهو تفكير مستغرب، مستقبح، مستنكر، بعيد عن كل تجارب الأرض تاريخا وحاضرا.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله، اللهم من طلب العزّ من غيرك فإنا لا نطلب العز إلا منك، ومن رام النصر ممن سواك فإنا لا نعتمد فيه إلا عليك، ومن طلب الخير أي خير من دونك فإنا لا نطلبه إلا منك، فأعزنا بعزك، وانصرنا بنصرك، وأعطنا الخير من فضلك يا معز، يا ناصر، يا محسن، يا متفضل، يا من هو على كل شيء قدير، وبالإجابة حقيق جدير.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بحار الأنوار ج68 ص218.
2 – سنن نالدارمي ج1 ص109.
3 – ما هي الشهوة الخفيّة؟
4 – كنز العمال ج10 ص185.
5 – نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع).
6 – شرح نهج البلاغ، ابن أبي الحديد، ج20 ص279.
7 – مستدرك الوسائل ج12 ص113.
8 – موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) ج5 ص448.
9 – هداية العلم في غرر الحكم ص645.
10 – ميزان الحكمة ج4 ص3484.
11 – هتاف جموع المصلين بـ(معكم معكم يا علماء).

زر الذهاب إلى الأعلى