خطبة الجمعة (327) 24 جمادى الأول 1429هـ – 30 مايو 2008م

مواضيع الخطبة:

*موضوع الذلّة *الغرب بين العدوانية والحوار *العراق والتعاهد مع أمريكا *تحت الامتحان

نجدنا أمام واقع صارخ من تعامل الغرب مع أمتنا يجعلنا على يقين بأن التيار الأعظم من ساسة الغرب، وزعمائه الدينيين ومنظِّريه العلمانيين إنما يقفون من هذه الأمة موقفاً عدائيّاً شرساً يقوم على روح الهيمنة المادية والحضارية معاً مغلقين أبواب الحوار الحضاري المقرون باحترام الآخر.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا خلقه إلا خلقه، ولا رزق إلاَّ رزقه، ولا هدى لمهتدٍ إلا من فيضه، ولا ذكرَ من ذاكرٍ إلا من فضله، ولا خير لأحد إلاّ من عنده، ولا إحسان إلا وهو منتهٍ إلى إحسانه، ولا يكون إلاَّ ما يريد، ولا تقدير إلاَّ ما قدّر، ولا توقيت إلاّ ما وقّت، ولا تأخير لما قدّم، ولا تقديم لما أخّر، بيده الأمر كله، وهو على كل شيء قدير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي التي تغشُّني بتقوى الله طلباً للنجاة من غضبه، ونيلاً لرضوانه إذ لا منقذَ لمن غضب الله عليه، ولا ضارَّ لمن رضيَ عنه، وقد خرج من السُّوء كلِّه من قُبِل لديه.
والتقوى شعور كريم يملأ النّفسَ، وربما كان مزيجاً من خوفٍ من قدرة الله وعلمه وعدله، ومن رجاءٍ في كرمه وسعة فضله وفيضه، ومن شُكرٍ لجزيل نعمائه، ودائم عطائه، ومن حبّ جلاله وجماله وكماله والانشداد إليه.. مزيجاً من خوف مرارة العقوبة، وخسارة العطاء، وألم التقصير، ومن حرمان ذكر، وطردٍ من مجلس أنس، وفقد مشاهدة بها كل الكرامة، وكل السمو، وفيها أطهر لذّة، وأرقى وأنفع نعيم.
ولو قام في النفس بُعْدٌ واحد من أبعاد هذا المزيج فضلاً عن أن تقوم فيها هذه الأبعاد مجتمعة لأخذ بها إلى كل جميل، وصرفها عن كل قبيح، وقطع بها أشواطاً بعيدةً إلى الكمال.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. واجعل حياتنا بِذلة في طاعتك، ومسعانا إليك، وجائزتنا رضاك، وخاتمتنا شهادة كريمة في سبيلك، ومأوانا مع صفوة أنبيائك ورسلك وأوليائك يا أكرم الأكرمين، وأرحم الأرحمين.
أما بعد فالحديث في موضوع الذلّة على ضوء نصوص جاءت في هذا الموضوع:
{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}(1).
وهذه الذلّة في التعامل مع المؤمنين ليست ذلّة انحطاط، وإنما هي ذلّة لين ورحمة وعطف وتواضع، ولذلك جاء قوله تعالى {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ولم يأتِ “أذلة للمؤمنين”، فالمؤمن دائما يعيش العزّة؛ عزّة الإيمان، وعزّة الكرامة بالصلة بالله تبارك وتعالى، وليس من مؤمن بموقع العبد ولو للمؤمن الآخر، ولكنّه يتعامل معه من موقع الإيمان، ومن موقع العطف الذي يفرضه الإيمان والرحمة بين المؤمنين يتعامل معه وكأنّه الذليل بين يديه تواضعاً لا ضِعة، في الوقت الذي تملأ نفسه عزّة الإيمان، وكرامة الإيمان، ولا تدخله روح الانسحاق أمام أي مخلوق من المخلوقات بما هو ذلك العبد، أو ذلك الشيء الممكن الذي لا يملك نفعاً ولا ضرّاً لنفسه فضلاً عن غيره.
“أيها النّاس إنّ المنيّة قبل الدّنيّة والتجلّد قبل التّلبّد(2)”(3).
الحديث يطرح أن المنيّة قبل الدّنيّة؛ فحين يكون الخيار إمّا عيش ذلّ وهوان وانحطاط، وإما أن يقبل الإنسان المؤمن الموت، فالموت مقدّم في خيار المؤمن على عيش الذلّة والمسكنة بما هو ذلٌّ ومسكنة، وهذا لا ينفي الأحكام الشرعيّة التي تتصل بموضوع الشهادة، وبموضوع الإقدام على الموت وضوابطهما.
ولكنّه من الواضح جدّاً أن الأمّة حينما يكون خيارها إمّا أن تقبل بالذلّة والهوان والانحطاط وأن تُعامل معاملة العبيد، وإمّا أن تُضحّي من أجل حريتها وكرامتها وعزتها، فهنا المطلوب من المؤمنين أن يعملوا على استرداد الكرامة والعزّة من دون أن يستسلموا لمسألة الذل والهوان. وأرجع لأقول بأن هذا يخضع لميزان الشرع الدقيق، ولا يرجع إلى اجتهادات الأفراد العاديين.
“والتجلُّد قبل التلبّد” الأصل في المسلم والمؤمن والجماعة المسلمة والمؤمنة هو الحركة التغييرية الناشطة التي تعمل على إعادة الحقّ إلى نصابه، وتصحيح أمور الدنيا والدين، ووضع كل الأوضاع على الطريق السالك لله سبحانه وتعالى وهو طريق العدل والكرامة، لكن قد تأتي ظروف قاهرة، والسؤال هل للظروف القاهرة أن تُعطي للمؤمن اختيار حالة جمود تامّة؟ وهل التلبّد الذي قد يأتي في بعض الظروف يعني التوقّف التامّ عن حركة البناء؟
ما نعرفه عن سيرة الأئمة عليهم السلام والأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أنّ التلبّد يعني استبدال أسلوب إلى أسلوب آخر، وأنّه بدل أسلوب المواجهة من غير استعداد لابد أن يبني الناس أنفسهم وأوضاعهم حتّى يستطيعوا أن يدخلوا المواجهة بصورة متكافئة أو قريبة من المتكافئة.
أما الجمود واللجأ إلى هامش الحياة، وإلى منطقة خارج الحياة ليشهد الشخص أو لتشهد الجماعة على نفسها بالموت فهذا مرفوض من فهم الدّين القويم.
الرسول صلى الله عليه وآله كانت له مرحلتان في الدعوة: مرحلة السرّ، وعدم المواجهة، وبناء الجماعة، والعمل على رفع مستواها، ثمّ مرحلة الدعوة الجهرية وتحمّل أعباء المواجهة، فالمسلمون غير مطالبين – اللحظة مثلاً – أن يدخلوا حرباً عالمية مع الكفر، لكنهم مطالبون وبصورة حتمية أن يبنوا أنفسهم، أن يطلبوا أسباب القوة، أن يعملوا على توفير كل الاستعدادات التي تفتح لهم إمكان باب المواجهة الاختيارية مع الكفر العالمي لا ليظلِموا، وإنما ليقام العدل مقام الظلم في الأرض، ويقود العلم والهدى حركة الإنسان بدل أن يقودها الجهل والضلال.
ويأتي هذا الحديث عن علي عليه السلام:”ساعة ذلّ لاتفي بعزّ الدّهر”(4).
يقول أحدنا: إني أقبل حالة الذلّ والهوان والانسحاق لساعة، أو ليوم، ولكنّي من خلال هذه الساعة سأغنى. في الفقر ذلّ، وأمامي طريق مفتوح للتخلّص من الفقر بأن أُقبّل الآناف، بأن أقول الكلمة المتملّقة الكاذبة، بأن أنسحق ساعة واحدة أمام كبرياء الآخر من أجل أن أخرج من ذلّ الفقر ولكنّ عليّاً عليه السلام يقول على نحو القلب في التعبير:”ساعة ذلٍّ لا تفي بعزّ الدّهر” والمعنى أن عزّ الدّهر لا يُساوي ذلّ ساعة، فلا تقل بأنّي أشتري عزّ الدّهر، وأتسلّق إلى الموقع الكبير، إلى المال العريض من خلال ساعة ذلّ واحدة.
“أكرم نفسك عن دنيّة وإن ساقتك إلى الرّغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من دينك وعرضك بثمن وإن جلّ”(5).
نيل أي مأرب، أي شهوة، تحقيق أي رغبة، والثمن هو الذّل، والثّمن هو من دين وشرف لا يصح في فهم الإنسان المؤمن، وفي سيرة الإنسان المؤمن الذي يريد أن يتقيّد بدينه.
كل الدّنيا لا تقوم عوضاً عن ثلمة في دين، فحين يُطلب منك الدين ثمنا لا تعطِ منه شيئا من أجل الدنيا بكاملها. إذا قيل لك: تنازل عن شرفك، تنازل عن عرضك، استرخص عرضك من أجل دنيا العمر كله فلا تقف لحظة واحدة لمحاسبة الموقف، وإنما يجب أن يكون عندك الجزم الحاسم برفض الدنيا في قبال بذل العرض والشرف والكرامة.
وكثيرون هم الذين يبيعون من دينهم الكثير، ومن شرفهم في الناس الكثير ركضاً وراء رغبة في جنس، وراء تحقيق هوى في فتاة حلالاً أو حراماً، وراء تحقيق هوى في منصب. يخرج من العقل إلى الجنون، ومن حالة التماسك إلى الانهيار، ومن الضبط إلى الايتسار، ومن العزّة إلى الذلّ من أجل هوى ضاغط في داخله، هذا يركض وراء منصب، ذاك يركض وراء شهوة حرام تستتبع له نقص المناعة، وثالث يطلب شهرة في الناس ومن أجل هذه الشهرة عليه أولاً أن يمرّغ أنفه في التراب، وأن تدوسه الأقدام فيقبل، كل ذلك مرفوض في فهم الإنسان المؤمن ومسلكه.
“إنّ الله تبارك وتعالى فوّض إلى المؤمن كلّ شيء إلاَّ إذلاله نفسه”(6).
ليس في هذا التفويض ارتكاب حرام، مفوّض لك أن تطلب رزقك عن كل طريق حلال، أن تطلب مجدك المنشود عن طريق أجازه الله سبحانه وتعالى، أن تكون لك أماني، أن تكون لك طموحات، أن تسعى وراء أمانيك، وراء طموحاتك طبقاً للحدّ الشرعي، أمّا أن تطلب العزّة بالذلّ، وأن تطلب الدّنيا بالهوان، وأن تركض وراء طموحاتك وأمانيك عن طريق بيع النّفس والدّين والكرامة فذلك مما ليس لك في دين الله.
هذه صورة أخرى من الوقوع الذّل وهي الصورة التي أتى بها الحديث عن المعصوم عليه السلام(7):”لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه “قيل له: وكيف يذلّ نفسه؟ قال”: يتعرّض لما لا يطيق فيذلّها”(8).
وهذا باب واسع يجب أن يُلتفت إليه في كل المواقف، وفي كل التقديرات، وليكن منه أن تطلب المنصب المعيّن في أي دائرة من الدوائر، في دائرة مؤسسة ثقافية أو اجتماعية وغير ذلك، وأنت تجد أنك محكوم عليك غداً بالفشل، وأنك لا تستطيع أن تعطي المطلوب من أي جهة من الجهات ولو لمرض أو عائق وقتي وما إلى ذلك، فعليك أن تترفع بنفسك، وأن لا تعرّضها للذلّ، ولو كان ذلّ المحاسبة، وذلّ المعاتبة، وذلّ التعيير والشماتة.
“عن مفضّل قال: قال الصّادق عليه السّلام: لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه، قلتُ: بما يذلّ نفسه؟ قال: يدخل فيما يعتذر منه”(9).
فلنفكّر قبل أي خطوة، وأن هذه الخطوة هي خطوة مشرّفة أو خطوة غير مشرّفة، خطوة مشرّفة أستطيعها، أو خطوة مشرّفة لا أستطيعها، خطوة تقودني في الأخير إلى الاعتذار عن التقصير مثلاً، أو هي خطوة أستطيع أن أسيطر عليها وأستطيع أن أتحمّلها وأن تكون رابحة، علينا أن ندرس المواقف والتقديرات كما سبق.
والحمد لله رب العالمين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم طهّرنا في عافية من كل سوء ظهر أو بطن، وأتمم علينا نعمك، وجنبنا نقمك، واجعلنا من أهل طاعتك وحبّك وقربك، ويسّر لنا طرق الخير، واغلق عنّا أبواب الشر، يا مالك النفع والضر، ولا مالك غيره لشيء منهما أبداً، يا من هو على كل شيء قدير، وبالإجابة للخير حقيق جدير.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}

الخطبة الثانية

الحمد لله الجاري قدره على من صغر أو كبر، من رضي أو لم يرضَ، وعلى كل ماضٍ وحاضر وآت. لا يفسخ له قضاء، ولا يُرد قدر، ولا تُنقض سُنّة من سننه، ولا يُغيّر أحدٌ قانوناً من قوانينه في خلقه ولو اجتمع كلُّ من في السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن من شيء على خلاف ما قضى وقدّر. مَن أعزّ فلا مذلّ له، ومَن أذلّ فلا معزَّ له، وهو العزيز الذي لا عزّ كعزّه، وليس من مثل سلطانه سلطان.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
علينا عبادَ الله الذين جئنا من التراب، وإلى التراب نعود، ويبعثنا ربنا خلقاً جديداً كما بدأ خلقنا أول مرة بلا معين ولا ظهير أن نتقي الله، ونخلص له العبودية ولا نشرك به أحداً. ومن استكبر فقد قتل نفسه، وإن الله لغنيٌّ عن العالمين. وما عصى أحد الله إلا بِإقدار منه سبحانه ابتلاء وامتحاناً للخلق، ولو شاء أن يقهر عباده على طاعته، وملازمة عبادته لفعل، وهو الغني الحميد، وهو على كل شيء قدير. ألا من استكبر على الله، وخرج عن عزّ طاعته وإخلاص العبادة له فقد تواضع للشيطان، ودخل في ذُل طاعته وعبادته. ومن لم يسمع من العقل مشورته، قاده الهوى لمهلكته. والعقل لا يشير إلا بطاعة المولى الحق وعبادته، والهوى لايقود صاحبه إلاّ إلى طاعة الشيطان وولايته.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أعذنا ربَّنا من تقديم طاعة الشيطان وأوليائه على طاعتك، والأخذ بولايته عن ولايتك، والرضا بعبادته عن عبادتك، وأنقذنا من كل هوى مضل، وقرين سوء يا قويّ يا عزيز، يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين حجج الله على عبادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك وانصرهم نصرا عزيزا كريما مبينا ثابتا دائما.
أما بعد فإلى هذه المحاور:
الغرب بين العدوانية والحوار:
الغرب على مستوى حكوماته، والمشتغلين بالسياسة أو الدين من أبنائه، وكذا منظِّريه إلا القليل منهم لا يستهدف ولا يؤمن بالحوار الحضاري مع العالم العربي والإسلامي، وإنما يستهدف التغيير الحضاري لأمتنا وأن يصنعها جديداً من حيث الحضارة على نمط ما يعيشه من أوضاع تحكمها النظرة المادية أو المسيحية.
ينضم إلى هذا أن أكثر الحكومات في العالم العربي والإسلامي لا تملك علاقة طيّبة مع شعوبها من جهتين: الأولى كونها كيانات مفروضة على الشعوب بالقوة في الأكثر، والثانية جورها على الشعوب في الحكم من أبعاد مختلفة، وضغطها المتزايد على هذه الشعوب أمنيّا مدفوعةً إلى ذلك بسوء ظنّها الناتج من سياستها العدائية للشعوب.
ولهذا الواقع بشقّيه، ولسيطرة الغرب وقوّته الباطشة، وتمكين الأنظمة له في مصائرها ومصائر الشعوب تجد نفسها مضطرة دائماً لاسترضاء الغرب إبقاء للكرسي واستمرار السيطرة، والاستئثار بالثروة.
ويأتي هذا الاسترضاء على حساب لقمة الشعوب وضروراتها، ودين الأمّة وحضارتها، وهويتها وعزّتها وكرامتها.
ويمارس الغرب عملية الابتزاز للأمة على مستوى المادة والمعنى بصورة مباشرة، وكذلك بوكالة من الحكومات المحليّة المؤتمرة بأمره، المنتهية بنهيه، المنفّذة لأهدافه ولو تحت الإكراه لأخذ ذلك شرطا لبقائها، والسكوت والتمرير لجميع انتهكاتها.
وكلّ من عقيدة المسلمين وشريعتهم داخل في الاستهداف الغربي لهذه الأمة. فعلى مستوى العقيدة:
‌أ. يمارس الغرب بصورة مباشرة حملات التشويه والاستهجان والتسفيه لوحدات من مركّب العقيدة الإسلامية، ورموز من رموز الإسلام كالحملات الشرسة ضد القرآن والسنة والرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم.
‌ب. يمارس ضغطاً هائلاً على الحكومات في العالم العربي والإسلامي لفتح الأجواء، وأبواب الحرية والواسعة قانونيّاً وعرفيّاً للكلمة الإلحادية، والمهاجِمة لعقيدة الإسلام عموماً مع تقديم الحماية الإعلامية والسياسية وغيرها لأصحاب الأقلام المعادية للإسلام داخل البلاد الإسلامية، والدفاع عنها باسم حريَّة الكلمة.
وعلى مستوى الشريعة:
يأتي مع مضمون ألف وباء مما سبق:
‌ج. فرض مناهج دراسية مشبَّعة بمخالفات شرعية وأحكام ومفاهيم ومصطلحات معادية.
‌د. فرض سنِّ قوانين متنكرة للشريعة خارجة عليها حتى وصل الأمر إلى دائرة أحكام الأسرة والميراث والوصايا مما تسعى الحكومات المحليّة جاهدة لفصله عن الإسلام، والتسريع مهما أمكن بتغريبه.
‌ه. ربط بعض المكاسب السياسيّة أو الاقتصادية الحقيقية أو الوهمية للأنظمة ولو كانت على حساب الشعوب بالتوقيع على اتفاقات دولية تكرس تبعية هذه الأنظمة ومن ورائها شعوب الأمة لإملاءات الفكر العلماني الغربي والمصالح الغربية، وتُحلُّ التشريعات العلمانية الأرضية محلَّ التشريعات الإلهية المقدّسة.
ويأتي في هذا السياق توقيع البحرين على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة من أجل اكتساب العضوية في مجلس حقوق الإنسان الذي يُعطي الحكومة سمعة حقوقية متقدِّمة وشهادة بأننا من أروع النماذج في رعاية حقوق الإنسان في الأرض.
واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة – كما يسمونها ليعطوها صبغة إنسانية عادلة من باب الإعلام الكاذب – هي من وَضعِ من يعتبرون نظام الإرث في الإسلام، وحقّ الطلاق، والقوامة، وإذن الولي في الزواج، وحجاب المرأة وحتّى ستر مثل ساقيها وفخديها وصدرها، وتعدد الزوجات عند الرجل، ومنع بعض صور الاختلاط، والسن الشرعي للزواج كلّه من التمييز ضد المرأة.
واستجابة للشرط المذكور من ناحية عملية تكثر تحركات حكومة البحرين، والمؤسسات التابعة لها والمحسوبة عليها، ومعها كل الذين لا يحملون هَمَّ الدين ولا يمثّل عندهم وزناً، ومن يقيمون حياتهم العملية على خلاف أحكامه من أجل استصدار قانون الأحوال الشخصية ليضع الأحكام الشرعية في هذا المجال على طريق العلمنة الكاملة ضارباً بكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وآله عرض الحائط. ومن أجل هذا الغرض نفسه بدأت خطوات عملية تطبيقية كما في مثال التغييرات المستمرة في ورقة عقد الزواج ومثال مشروع قانون الوصية توصُّلاً للمطلوب من قانون الأحوال الشخصية ولو بصورة تدريجية بعيداً عن الضجة الشعبية.
وهذا الشعب المسلم الغيور على إسلامه هو المؤتمن والمسؤول الأول عن الإسلام في هذا البلد وحفظه ومقاومة التآمر عليه. وكل التزامات الحكومة المخالفة للإسلام لا تلزمه، ولابد من مواجهة حملة تغريب القوانين حتى في الزاوية الصغيرة المتبقية من مساحة التشريع الواسعة وهي مساحة أحكام الأسرة وما يتصل بها بحزم وقوة وإصرار، وإلاّ لكان الجميع مشتركاً في الجريمة(10).
وتتصل هذه المشكلة وكل المشكلات الأخرى الدينية والدنيوية من مشكلات ساحتنا بالخلل في ولادة الدستور، وبالتلاعب في تطبيقه، وإلا فإسلامية الدولة وكون الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد الذي نص في الدستور على أنه مصدر أساس يمنع من أي تغيير في أحكام الأسرة، مع كون الإرث منصوصاً دستوراً على بقائه تابعاً في حكمه للإسلام.
وأخيراً نجدنا أمام واقع صارخ من تعامل الغرب مع أمتنا يجعلنا على يقين بأن التيار الأعظم من ساسة الغرب، وزعمائه الدينيين ومنظِّريه العلمانيين إنما يقفون من هذه الأمة موقفاً عدائيّاً شرساً يقوم على روح الهيمنة المادية والحضارية معاً مغلقين أبواب الحوار الحضاري المقرون باحترام الآخر.
العراق والتعاهد مع أمريكا:
العراق بلد عريق في الإسلام، وهو قلعة من قلاعه الصلبة، وفيه من شواهد عظمة الإيمان وأئمة الهدى مفاخر كبرى، ورموز مجد، ومشاهد إيمان وسمو ورفعة وإباء، وهي ثابتة على الزمن لا يخبو لها هدى، ولا يخفت نور.
ولا يُظن بأهل الإسلام والإيمان في عراق الصمود شعباً وحكومة أن تكون منهم مساومةٌ على الإسلام ومقدّساته، وكرامة العراق وإنسانه وأصالته وتاريخه وأمجاده، وصدق انتمائه لدينه، وأن يقبلوا أي معاهدة تُذلُّ العراقيين وتثلم عزتهم، وتطلق الحرية ولو جزئياً ليد الأجنبي في مصالح هذا البلد العزيز وسياسته وتقرير مصيره(11)، أو تعطيه حق التدخل في علاقاته مع دول الجوار العربي والإسلامي وغيرها، أو استخدام أرضه وسمائه في ضرب أي دولة عربية أو إسلامية، أو يكون له شيء من الوصاية على الأرض والإنسان فيه.
ولو حدث شيء من هذا – لا سمح الله – فهو العجب العجاب، وسيمثّل صدمة عنيفة ومفاجئة مؤلمة لشعور الأمة، وسيخلّف ذلاً عامّاً، وخيبة أمل شاملة، وجرحاً عميقاً في نفوس أهل الغيرة والإيمان، وسيحدث زلزالاً نفسيّاً عند العراقيين وسائر أبناء الأمة.
وهل يُحتمل هذا الخطأ الديني والتاريخي الفادح على الأباة الأحرار من أبناء عراق الإسلام والعزّة والكرامة على مستوى حكومة أو شعب؟!! لا تسمح لنا ثقتنا العالية بوعي وإخلاص وشهامة وأصالة الإخوة العراقيين إلا أن نستبعد عليهم هذا الخطأ الكبير الخطير.
تحت الامتحان:
هناك حادثتا خطف لطفلتين في الدراز كما ذكرت الأوساط هنا، ونشرت الصحافة وقد سلّم الله من شرهما الكبير. كما ذكر أن هناك محاولتين أخريين قد فشلتا ابتداء ولم تتما.
وفي الحالة الثانية من الحالتين الأوليين قد تمّ القبض على المختطف وعُرّضت الطفلة لامتحانات عسيرة متعددة لتشخيصه، وفي كل مرة تتعرف عليه بعينه برغم حالات التنكر التي تصاحب الامتحان.
وتقول الصحافة أن الجهة الأمنية تطلب مع ذلك شهوداً على الحادث الذي لا يقع بطبيعته إلا بعيداً عن أعين النّاس وفي حالة اختلاس.
وعلى كل حال فإن هذه الحوادث، ووضع اليد على الجاني، – إذا ثبت ذلك ويكاد يكون ثابتا – وما سبق ذلك من حادثتي اختطاف غيّبت طفلاً من سماهيج، وصبيّة من منطقة أخرى في البحرين تضع الأمن والقانون والحميّة بالحقّ في حالة امتحان.
فإلى أي مدى تتجه التحريات لكشف الشبكة وراء هذه التعديات الخطيرة بغض النظر عمن يقع وراءها؟ وإلى أي درجة يصل الصدق والشفافية والجدية في التعامل مع هذه الظاهرة التي تهدم أمن المجتمع، وتقوّض استقراره، وتجعل حياته حرجة مأساوية؟
وإلى أي حد تصل نزاهة القانون والقائمين على تنفيذه في موارد تتطلب إنزال أقسى العقوبات المنصوص عليها بأصحاب هذه الجرائم الفتّاكة التي تسلب النوم من أجفان المواطنين؟ وإلى أي حد سيكون القضاء قادراً على البرهنة على العدالة، واستيفاء حق المظلوم، والتنكيل العادل بالظالم؟
ثم هل سيترك الناس حراسة مناطقهم، والتنبه للعناصر المفسدة لتُترك لها حرية نشر الرعب والفساد والتعدي على الأعراض والدماء، وترويع الآمنين؟!
إذن أين الغيرة الإسلامية، وأين الحميّة بالحق، وواجب الذود عن العرض والنفس والمال؟!
ونحن نعرف أنّ أيّ عملية خطف تتم جريمتها بنجاح تعني استرقاق الفريسة واستخدامها في الأغراض غير الأخلاقية، أو بيعها على حياة، أو بيع أعضاء المختطف مفرّقة أو بالجملة.
وهي نتائج تجعل الاختطاف على أهل الضحيّة أصعب من الموت على مأساويته، وما يمثله من فجيعة مرّة. وقى الله المسلمين من كل سوء وأيقظ في نفوسهم الغيرة والحمية بالحق والإرادة الإيمانية الصلبة في مواجهة الشر والفساد والعدوان.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا علماً كثيراً نافعاً، وفهماً قويماً، وإيماناً كاملاً، ويقيناً ثابتاً، واجعل عملنا صالحاً، ونيتنا طاهرة صادقة، وعمرنا رابحاً، وخاتمتنا صالحة، ومنقلبنا إلى خير. اللهم انصر الإسلام والمسلمين وأيّد حماة الدّين، وأعزّ المؤمنين برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 54/ المائدة.
2 – ولبد وألبد بمعنى أقام بالمكان والتصق.
3 – بحار الأنوار ج74 ص284.
4 – ميزان الحكمة ج2 ص 982.
5 – ميزان الحكمة ج2 ص 928.
6 – موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) ج4 ص32.
7 – وهو الإمام الصادق عليه السلام.
8 – مشكاة الأنوار ص430.
9 – المصدر السابق ص103.
10 – هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا إسلام).
11 – هتاف جموع المصلين بـ(الموت لأمريكا).

زر الذهاب إلى الأعلى