خطبة الجمعة (274) 12 صفر 1428هـ – 2 مارس 2007م

مواضيع الخطبة:

متابعة حديث التوحيد + سجون تُودِّع وتستقبل + فتنة وقى الله المسلمين منها

ما من شعب في يومنا هذا على استعداد لإلغاء إرادته، والحكم على نفسه بالقصور النهائي الذي يتيح للآخر أن يتصرف في شؤون حياته؛ حاضره ومصيره التصرّف المطلق غير المسؤول.

الخطبة الأولى

الحمد لله على عظيم ما أنعم، وجميل ما أكرم، وجليل ما وهب، وخطير مادفع، وعلى توفيقه للإسلام، وهدايته للإيمان، وما أعان عليه من طاعته، وعصم عنه من معصيته.
الحمد لله حمداً لا تحدُّه بداية، ولا نهاية، ولا أمدَ له ولا غاية تنقطع به عن بلوغ رضاه، وموافقة جلاله وجماله.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا ونحن المخلوقون المرزوقون المدبَّرون بتدبيره بتقواه في الملأ والخلأ، وعلى كل حال، فكما لا تنقطع الحاجة إليه، ولا يتوقف إحسانه، ولا مفرّ لأحد من ملكه، ولا مهرب من سلطانه، ولا غائب عن علمه فلا مناص من تقواه، ولا عقل في معصيته، ولا رُشد في التساهل في أمره ونهيه.
ثم إنه لا خير في بناء بانٍ في هذه الحياة كما في البناء للآخرة، وما قام بناء للآخرة من نفس تعيش داخلها الخراب، فلنصلح أول ما نصلح أيها المؤمنون والمؤمنات أنفسنا، فعمارة النفس بالعلم والعمل الصالح هي العمارة الباقية، وكل عمارة للدنيا إلى زوال.
رزقنا الله الحكمةَ والرُّشد وتوفيق الصواب والسداد، فلا نخسر كرامة النفس بمعصيته، وقيمة الحياة بمضادّته، وحسن العاقبة بمعاداته، وجعلنا من أهل طاعته والإخلاص في عبوديته لنربح النفسَ والحياة والمصير.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربنا هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات في الإيمان فإلى حديث التوحيد في متابعة أخرى في ضوء بعض النصوص المقتطفة من كتاب الله جلّ وعلا وسنة المعصومين عليهم السلام.
تقول الآيات الكريمة:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا…}(1)، {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً… }(2)، {وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً}(3).
تتحدث الآيات الثلاث عن دائرة من دوائر قانون الزوجية، وهي دائرة الإنسان، وأن الإنسان في الأرض يخضع لهذا القانون في استمرار، وأن هذا القانون من صنع الله تبارك وتعالى.
تتحدث آيات أخرى عن قانون الزوجية في دائرة أخرى وهي دائرة النبات {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}(4) وتتعدى هذه الآية الكريمة دائرة النبات إلى الدائرة الواسعة من قانون الزوجية والذي كان يعلم الإنسان له مساحة، ويجهل مساحات أخرى.
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً… }(5). ثم تتسع دائرة قانون الزوجية لتشمل كل شيء كما في كتاب الله تبارك وتعالى {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }(6).
على مستوى الزوجية في داخل الإطار البشري فإن الإنسان نوع واحد، وهو مصنّف أصنافاً كثيرة، لكن واحداً من تصنيفات الإنسان قد جاء ليشدّ صنفاً منه إلى الصنف الآخر شدّاً عجيباً مستمراً طوال القرون، وهو تصنيف الإنسان على مستوى الذكر والإنثى، وإلا فإن أصناف الإنسان كثيرة رغم كونه نوعاً واحداً، وليس بينها ما بين الذكر والإنثى من قوة والانشداد وطبيعته.
ولكن خصّيصة متميّزة تفرض نفسها على الإنسان من منطلق تنصيفه إلى ذكر وأنثى، وهي هذا الانشداد الدائم، والجوع المستمر من هذا الصنف إلى ذلك الصنف، فيبقى الرجل على غير هدأة، وتبقى المرأة على غير هدأة حتى يلتقي الإثنان، تبقى السكينة مفقودة بمقدار متعب في حياة الرجل، وبمقدار متعب في حياة المرأة حتى يجد كل منهما ضالته في الآخر، لتنبني حياة تقوم على جديد من الاستقرار، وجديد من السكينة، وجديد من الطمأنينة والهدوء النفسي.
إنه الاختلاف والاتحاد؛ اتحاد النوع، واختلاف الصنف الذي ولّد مركّباً مشبّعاً بمثل هذه الروح الباحثة عن الآخر من الذكر أو الأنثى.
هذا قانون يفرض نفسه على الحياة الإنسانية، من خطّط له؟ من أوجده في الإنسان؟ هل اجتمع الذكر والأنثى في يوم من الأيام ليتفقا على هذا الخلق؟ على هذا الصنع؟ مَن مِن غير الناس من الممكنات فعل هذا؟ ترجع بك الآيات الكريمة إلى فطرتك، إلى وجدانك، إلى الجواب من داخل ذاتك.
هذه النسبة المتوازنة على مستوى كل الأجيال والقرون بين تعداد الإناث وبين تعداد الذكور بما لا يُعطّل قانون الزوجية، نسبة قد لا تُساوي بين الطرفين وإنما تقارب بينهما على كل حال، ولم يأتِ جيل واحد في الهندسة الإلهية الأزلية كلّه أنثى أو كلّه ذكر، ولن تشحّ الحياة يوماً على الرجل أن يجد المرأة، ولن تشح على المرأة أن تجد الرجل على أساس ما أوجده الله عز وجل من نسبة موازية لحاجة الحياة بين ما هو تعداد الذكور وتعداد الإناث.
ثم إن التشريع الإلهي ليلتفت إلى زيادة قد تحصل في تعداد الرجال بالنسبة إلى النساء بحسب ما عليه القانون الأصلي أو بحسب ما تمليه طوارئ الحروب أو غيرها. يلتفت التشريع إلى هذا الفرق ليتكامل قانون التشريع مع قانون التكوين، فيُتيح التشريع للرجل أن يُعدّد إلى الأربع.
وهنا تناسق لابد أن يلتفت إليه العقل بين قانون التشريع الإلهي وقانون التكوين من صنع الله سبحانه وتعالى.
لِمَ يجوع الرجل للمرأة، ولِمَ تجوع المرأة للرجل؟ ألقضاء وطر عابر من اللذة؟ أو أن الأمر أكبر من ذلك؟ إنها الهادفية، إنها هادفية القانون، وإن الحياة على الأرض لتحتاج إلى مثل هذا القانون، لتدفّق الأجيال، واستمرار الحياة، وعمارة الأرض، والوصول إلى الغاية التي أوجد الله سبحانه وتعالى من أجلها هذا الكون. كلّ ذلك يتطلب هذا القانون، فكان هذا القانون، وكان انشداد الرجل للمرأة، وانشداد المرأة للرجل. ويجب أن يبقى هذا الانشداد في التشريع وكما هو مقرر كذلك على خط هذه الغاية، ومن أجل هذا الهدف.
ونكتشف من القرآن الكريم هنا، وعلى مستوى تقريره لقانون الزوجية إعجازاً لابد أن يُغذّينا بروح الإيمان. متى اكتُشف قانون الزوجية العام على مستوى غير الإنسان والنبات ليشمل حتى الذرة؟ من هو رسول الله صلى الله عليه وآله بما هو بشر؟ إنسان تربّى في بلد لا تكاد تكون له حضارة.
أي بيئة ثقافية للأرض كل الأرض؟ أي مستوى علمي للأرض كل الأرض، أي أبعاد فكرية حيّة وفاعلة يومذاك في الأرض كل الأرض تسمح بتقرير هذه الحقيقة بضرس قاطع، ومن غير أي مقدمات علمية تسمح بذلك، ومن غير أي آليات تتيح لمثل تقرير هذه الحقيقة أن يولد؟ أليس هو الإعجاز؟ أليس هو الغيب؟ ألا يدل هذا بكل وضوح على أن هذا الكتاب الكريم هو كتاب الله عزّ وجل؟ وأن الإسلام هو الدين الحق؟
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ…}(7). الرزق يحتاج إلى إله، يحتاج إلى متصرف في الكون، إلى مدبّر له، إلى مالك لكل ذرة من ذراته، إلى واضع لقوانين هذا الكون، متحكّم فيها، مسيطر عليها، الرزق يقوم على الخلق، على الإيجاد، على التكوين، الرزق ليس تمشية معاش جاهز، الرزق أن يولد حيوان، أن يحيا نبات، أن يسقط مطر، أن تمتلك الأرض خصوبة، قابلية الإنماء، أن تتعاون قوانين وقوانين على تولّد ظاهرة الحياة في الأرض بإذن الله تبارك وتعالى، الرزق يحتاج إلى إبداع دائم، وإلى صنع مستمر، وإلى فاعلية قائمة، وإلى إرادة حيّة قادرة، هذا هو الرزق.
في اليوم الواحد كم يأكل هذا العالم؟ كم يلبس؟ كم يشرب؟ كم يبني؟ من أي كل هذا؟ هذا قائم على الصنع، على الإيجاد، على الخلق، أيملك أحدنا أن يجيب بأن الرازق غير الله؟! فليستنطق أحدنا نفسه بنفسه: هل من رازق غير الله؟ هل من خالق غير الله؟
والآية الكريمة تربط بين الخلق والرزق يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم…} الآية الكريمة تؤكد العلاقة بين القدرة على الخلق والإبداع وبين الرزق {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }.
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ}(8).
يبقى شيء من الحديث مؤجّلاً ويأتي إن شاء الله.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم بلّغنا الإيمان الكامل، واليقين الثابت، وارزقنا التوحيد الخالص، والطاعة الصادقة، والاستقامة على الصراط؛ {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}. اللهم اكشف عنا كل سقم ومرض، وهمّ وغمّ وكرب، وضيق وسوء يا رحيم يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا ينقطع إحسانه، ولا ينقضي امتنانه، ولا يتوقف سيب نعمه، وفيض كرمه، الحمد لله جزيل الإكرام لأهل طاعته، كثير العفو عن أهل معصيته، شديد الرحمة بعامَّة خلقه وأهل المسكنة إليه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي القاصرة الغافلة بتقوى الله وتقديم أمره على أمر كلّ آمر، ونهيه على نهي كل ناه، والزهد في كل شريعة غير شريعته، وطريقة غير طريقته، فإن الخلق له، والرزق منه، ولا ملك إلا ملكه، ولا مفرّ من قهره، والحقُّ كلّه له، ومن عداه إنما هم عبيده وإماؤه. ولا يطلب ثواب كثواب الله، ولا يُخاف عقاب كعقابه.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين. واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا غنى لنا عن ثوابك فلا تحرمناه، ولا قبل لنا بعذابك فلا تذقناه، ولا صبر لنا عن كرامتك فلا تحجبنا عنها، ولا عن معرفتك فلا تسلبنا إياها، ولا عن جنّتك فاسلك بنا إليها، واسكنا بحبوحتها يا أكرم الأكرمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر وحفّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرنا ربنا نصراً عزيزاً.
أما بعد أيها الأعزاء من الإخوة والأخوات في الإيمان فإلى حديث اليوم:
* سجون تُودِّع وتستقبل
* فتنة وقى الله المسلمين منها
1. سجون تُودِّع وتستقبل:
أُطلق سراح المواطنَين الكريمين: محمد سعيد وحسين الحبشي. وهذا جيّد وإيجابي وجميل ومقدَّر. ومن جهة أخرى أنْ يخرج من السجن أفراد ويدخل أفراد، ويغادره فوج، ويحلّ محلّه فوج، ويفرّغ من جماعة، وتقيم مكانها أخرى إنما هو سبب قلق لا استقرار، وتأزيم لا حل، ولا يمثّل ظاهرة سياسية وأمنية صحيحة ولا إصلاحية، والعملية أشبه بعملية عبثية أو محاولة للإبقاء على الساحة في استعداد دائم لتطورات أكثر سوءا، ومرشّحة لأزمات أكبر، ولفروب من الانفجار ولو غير المحسوب؛ بينما المطلوب دينيا وعقلائيا ووطنيا هو الإصلاح لا غيره، وفيه الأمن والاستقرار والثقة والإخاء والرخاء والتقدم.
ويتم الإصلاح بمبادرة ممن يقدر عليها تنصبّ على تحقيق دستورٍ عقدي متمشٍّ مع الميثاق، وحلّ الملفات العالقة المقلقة التي أصبحت معروفة مشهورة موجعة مثارة ومثيرة، أو بتفاهم ينتهي إلى وفاق على كل هذه المسائل.
أما البديل فسكوت شعبي وصمت مطبق عن كل الأخطاء والمفارقات، وإهمال لشأن الحاضر والمصير، وعيش كعيش السائمة أو أقل، لأن الساءمة يشغلها ولو تقمُّمها، وعدم مبالاة شاملٌ لبعد الدين والدنيا في هذه الحياة. وحقَّ أن يُقال: بأن هذا الطرح لا يصح أن يقبل به حاكم لشعبه فضلاً عن محكومين.
البديل الآخر: استمرار المواجهات السياسية، واللغة الصاعدة في هذه الساحة – أي الساحة السياسية – والتي تؤثّر على كل الساحات الأخرى، وهي لا تقف عند هذا الحد حسب طبيعة الأمور بل تجرّ إلى ويلات تشمل الجميع وتحطّم هذا الوطن، وهو بديل سيّء يجب أن يرفضه الجميع، وأن يسعى الجميع لسدّ أبوابه.
ونسأل: ماذا يريد الحكم؟ وماذا يريد الشعب؟
إذا كان حرص الحكم على الاستمرار في السلطة فهذا مضمون ميثاقاً وتوافقاً ولا معارضة من أحد على هذا المستوى، ثم إن له ضماناته العملية المتعددة التي لا تخفى، وليس في الأفق كلّياً ما يشير إلى توجّه معاكس لهذا الأمر.
وإذا كانت السلطة تريد الاستئثار بكل شيء، والتصرف المطلق في مصائر الناس من غير أن يفكّروا في الاعتراض والمواجهة للتقزيم والتهميش والإقصاء، وحتى التآمر من بعض الجهات الداخلة في السلطة فقطار الدنيا كلّها في غير هذا الاتجاه. وما من شعب في يومنا هذا على استعداد لإلغاء إرادته، والحكم على نفسه بالقصور النهائي الذي يتيح للآخر أن يتصرف في شؤون حياته؛ حاضره ومصيره التصرّف المطلق غير المسؤول.
وقطار الحقوق والواجبات المتوازنة، والحريات المسؤولة والملتزمة قد انطلق في الدنيا كلّها بقوّة، وعودته إلى الوراء أو توقّفه عن غايته أصبحت مسألة مستحيلة.
ومما يتصل بالموضوع نفسه فإن الكلّ يعلم بأن عناوين الإصلاح وشعاراته لا تغني ولا تسمن من جوع، ومسألة القدرة على الحل للأزمات، والإقناع للعقول والنفوس إنما هي للإصلاح الواقعي الذي تجسّده الدساتير والقوانين العادلة، والتطبيق الصادق لها، والقائم على المساواة أمام القانون العادل، وتجسّده المشاريع والمواقف والخدمات الحيوية الصالحة المنطلقة من احترام حقوق المواطن، وصدق المساواة بين أبناء الشعب كلّه.
ونذكّر دائماً بأن بداية متواضعة من الإصلاح، ومواعيد إصلاحية كانت قد أخرجت الوضع الوطني من عنق الزجاجة، وحوّلت نقد الشارع إلى أهازيج، والتشنجات والتوترات إلى هدوء أعصاب، والسخط إلى رضا، وتبدّد كل ما كان يصوّره الإعلام زوراً من مؤامرات خطيرة تستهدف الحكم من جذوره، ولا تقتنع إلا بسحب البساط كاملاً من تحت قدميه ولو أُحرقت الأرض ومن عليها. نعم هكذا كان يصوّر الإعلام، وتبدَّد كل ما يصوّره الإعلام من أوهام.
لقد سبق أن أُستخدمت لغة الشد والمواجهة والسجون والتشريد والقتل والتعذيب، وتبيّن إفلاس هذه اللغة من أي نتائج رابحة، وأعقبتها لغة إصلاحية بدرجة ما.
ولغة الإصلاح هي لغة الدين والعقل والمنطق والإنسانية والضمير والإخلاص للوطن، وهي تحتاج إلى صدق واستمرار.
نعم، أعقبت تلك اللغة لغة إصلاحية بمقدار فنزعت فتيل الأزمة، وهدأ معها البحر الهائج، وانطفأت النار المشتعلة.
ولو ثبت الإصلاح واستمر وتنامى بدل التوقف والتراجع لكان الوطن اليوم وبكل مكوّناته بخير يُحسد عليه.
وأقول بأن كل الذين يزهدون أو يُزهّدون في خيار الإصلاح اليوم في وطننا الكريم أو غيره ويختارون سياسة كسر العظم لابد أن يضطرهم الزمن إلى لغة الحوار والأخذ بقضية الإصلاح والمصالحة.
وإذا كانت حياة الأوطان لا تتحمل المواجهات الخارجية بصورة دائمة، فهي أقل تحملاً بكل أطرافها من المواجهات الداخلية الصاعدة لو دامت. والمواجهات الداخلية أمر مذاقا، وأشد إنهاكاً، وأصعب إرهاقا، وأسوأ نتائج، وأبقى على التخريب وتحطيم الجسور، والناس رسميُّون وغير رسميّين منهم من يُخطؤون الظن بحملهم الأصوات الداعية إلى العقل والحكمة والعدل والحق، وتغليب لغة الحوار على أنها إنما تنطلق من شفقة على النفس، وخور في الداخل، وتعلّق بالحياة، وربما كان من أصحاب هذه الأصوات الداعية للإصلاح، وتحكيم لغة العقل والحوار من هم أسخى بأنفسهم للحق من الكثيرين، والصبر على الظنّ السيء من الآخرين في هذه الموارد محتاج إلى مبدئية وإخلاص وعزيمة، وهو ضرورة لصلاح الأمم والأوطان والشعوب. ولا بد منه ما أمكن أن تسمع النصيحة ولم تقضِ الضرورة بأمر آخر لا تستقيم بدونه الأمور، ولا يرضى الدين إلا به، وهي حالات تحدث في مجتمعات الدنيا ولا يكون منها مفرٌّ لمخلص من جهة عقل ودين، وكل الذين يعقلون، ويحرصون على سلامة أوطانهم وأممهم أن يحولوا بين واقعهم وبين يوم يتحتّم فيه الصدام.
2. فتنة وقى الله المسلمين منها(9):
المنطقة مشتغلة بالتحضير الميداني العسكري والسياسي والنفسي وعل كل الأصعدة لحرب عدوانية جديدة بإرادة وتخطيط أمريكيين.
والفتنة الطائفية بين الإخوة من أبناء الأمة الإسلامية الواحدة وقع الاختيار عند المخطِّط على أن تكون من بين الآليات الفعّالة الأهمّ في هذه الحرب.
ومعلوم أن تأثير الفعل يحتاج إلى قابل، والمسلمون حسب واقع علاقاتهم حتى داخل المذهب الواحد والقومية الواحدة والقطر الواحد لا يملكون عصمة أمام مؤامرات الفرقة والشتات والاقتتال وذلك من بُعدٍ شاسع ارتكبوه عن الإسلام.
ونحن على يقين بأن تأجيج الفتنة بين المسلمين، وإثارة الأحقاد والأراجيف المفسدة في صفوفهم مما يغضب الله ورسوله، ويمكّن منهم أعداءهم والمتربّصين بهم الدوائر.
والساحة العامة الإسلامية، والساحة المحلية في هذا البلد تتعرّض لشحن طائفي فوق العادة، وضخٍّ مستمر لمشاعر الحقد والكراهية بين المسلم الشيعي والمسلم السني، ولكلمات تستفزّ النفوس، وتدفع إلى المواجهات المجنونة التي حرّم الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وهي كلمات تُحذّر دائما طائفة من المسلمين بأن حرب الطائفة الأخرى لها على الأبواب، وأنها مصمّمة أن تسلبها كل المواقع والامتيازات إلى حد الإسقاط والإلغاء، وسحق المذهب الآخر، وكأن الطائفة الأولى صفرٌ على الشمال، ولا تملك أيّ إمكانات للدفاع عن نفسها.
الله أعلم ماذا وراء كل هذه التهويلات والاختلاقات والتوهّمات من تصور وتصديق وتوقّع، ونية في نفوس أصحابها.
وليست لنا وقفة مناقشة حتى موضوعية مع هذه الممارسات. ولكن من الضروري أن نذكّر النفس وكل الإخوة من المسلمين شيعة وسنّة بوجوب الحذر من الانسياق وراء هذا التخويف للمسلم من مسلم، وحرق العلاقات الإسلامية بينهما لحساب الاطمئنان إلى الأجنبي الذي ما فتأ يكيد بالإسلام والمسلمين.
كما ندعو المستهدفَين بهذه الحملات المنظّمة المستعرة إلى مقابلتها بالصبر أو التصبُّر وقاية لشر مستطير يوقع المسلمين كلّهم في هول أعظم نكبة.
علينا أن نصرّ بأن يضع الشيعي يده في يد السني، وأن يضع السني يده في يد الشيعي، غير ملتفتين إلى كل الأصوات النشاز من هذا الطرف أو ذلك الطرف ممن يُريد أن يُشعل الفتنة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارحم ضعفنا بقوّتك، وذلّنا بعزتك، وفقرنا بغناك، وافتح علينا أبواب الخير، واغلق عنا أبواب الشر، واكفنا مضلّات الفتن، وانصرنا على أعدائك وأعدائنا نصرا عزيزا مبينا مقيما، يا من لا يؤده شيء، ولا يرد إرادته شيء، يا من هو على كل شيء قدير.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 21/ الروم.
2 – 11/ الشورى.
3 – 11/ فاطر.
4 – 36/ يس.
5 – 7 – 8/ الشعراء.
6 – 49/ الذاريات.
7 – 3/ فاطر.
8 – 21/ الملك.
9 – وهذا دعاء.

زر الذهاب إلى الأعلى