خطبة الجمعة رقم (243) 21 ربيع الثاني 1427هـ – 19 مايو 2006م

مواضيع الخطبة:

 

الزمان وعلاقة الإنسان به + المسجد بين الاستقلالية والتبعية

أريد أن أؤكّد أن المجلس العلمائي غير مستعدٍّ نهائيّاً للدخول في المهاترات، ولا التنازل عن شخصيته المعنوية الدينية التي تجعله يسلك طريق الدين والحكمة والتعقّل والإخلاص للإسلام والمسلمين، والحرص على بقاء الصفّ الإسلامي موحّدا، وكذلك الصف الوطني.

الخطبة الأولى

الحمد لله بديع السماوات والأرض، بارئ النسم، باعث الحياة بعد الموت، يهدي من يشاء، ويضلّ من يشاء، ولا يفعل عبثاً، ولا يظلم أحداً وهو العدل الحكيم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله، والتزام طاعته وإن كثر العاصون، وقلّ الطائعون، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(1)، ولا يغني مولى عن مولى شيئاً من دون الله، ولو تناصر أهل المعصية من أول الدّنيا إلى آخرها جميعا لما قاموا لقدرة الله، وما أنقذهم تناصرهم من عذابه. ومن عرف الله لم يستوحش على طريق طاعته وإن قلّ سالكوه، وما استوحش على طريق الحق إلا غير عارف.
ولقد كان الواحد من المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين الأشد أنساً بما اختاره من الطريق القويم، وهو في القوم الذين يجمعهم الكفر والضلال على خلافه.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل أُنسنا بالإيمان، ووحشتنا من الكفر، واسلك بنا طريق طاعتك، وجنّبنا طريق معصيتك، وذدنا عن النّار، وأدخلنا الجنّة يارحيم ياكريم.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات المؤمنون والمؤمنات فقد وردت في الزمان وعلاقة الإنسان به أحاديث لنا وقفة قصيرة معها:-
تقول الكلمة عن الصادق عليه السلام:”العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس” وهي المشاكل الغامضة الذي يحار العقل في حلِّها ويرتبك الفكر في طلب المخرج منها.
والزمان في استعمال هذه الأحاديث تعبير عن محتوى الزمان من أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية وقوىً فاعلة على الأرض، وتشابكات أحداث وأوضاع.
هذا المحتوى الذي لا بد من حسابه عند أي موقف، وله مقتضياته الضّاغطة على اتخاذ موقف معيّن هو المقصود من كلمة الزمان في هذه الأحاديث.
“العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس” يتّخذ الشخص الموقف بعيدا عن حسابات الأوضاع فيُفاجأ بأن هذا الموقف موقف خاطئ، وينكشف له الواقع بما هو على خلاف كل احتمالاته التي بنى عليها موقفه، وحين يُحاول الإنسان أن يتخذ موقفا من المواقف في أي قضية من القضايا وهو لا يملك الإلمام الكافي والخبرة الكافية لأوضاع زمانه لا بد أن يكون موقفه مرتجلا، ولا بد أن يكون تفكيره قلقا مرتبكاً، ولا بد أن تقيم عليه الأمور.
ليس من السهل أن تتخذ موقفا من المواقف خاصة بالنسبة للشأن العام فيكون موقفاً سديداً حين لا تكون لك الخبرة الكافية بأوضاع الزمن وما عليه معادلات الساحة(2).
“أعرف الناس بالزمان من لم يتعجّب من أحداثها”.
صاحب الرؤية الواضحة، والخبرة لزمانه يتوقّع المواقف التي تتخذها الجهات الأخرى، ويتوقّع لون الأحداث التي يمكن أن يمرّ بها المجتمع، ثم لا يهوله في الزمان السيء أن تأتي مواقف من أصدقاء على خلاف ما هو الحق، وأن تأتي مواقف عدائية كبيرة من آخرين قد لا يتوقّع منهم الآخرين ذلك.
كل ما يمكن أن يترشح من أوضاع الزمن، ومن مواقف متباينة تكون داخلة في حساب الإنسان الخبير بزمانه، ولوابسه وتعقيدات مشاكله.
إن مواقف الإنسان الخبير يدخل في حسابها ما يمكن للأصدقاء أن يُفارقوه فيه، وما يمكن للأعداء أن يحيكوه ضدّه.
“من وثِق بالزمان صُرع”.
الثقة التي تقوم على الغفلة، وتقوم على السذاجة، وتصور أنّ كل شيء سيجري حسب ما تشتهي النفس، وأن الطريق مفروشة بالورود، وأن الأوضاع كلّها مساعدة، هذا اللون من التصور والغفلة والسذاجة يوقع في مزالق كبيرة، وقد يقود إلى الهلكة.
“من أمن زمانه خانه، ومن أعظمه أهانه”.
حين يؤمن الزمن وتهمل حسابات الزمن، وأوضاع الزمن في بناء المواقف، واختيار المواقع، وفي ردود الفعل يُصطدم بما ينسِلإ المواقف، ويحطم المواقع، ويُفشل الخطى.
وإذا اخترت تتحجّم جدا أمام صعاب الزمن، وأمام حساباته، ورأيت أن أوضاع الزمان لا يمكن أن تتغير فإن الزمن هنا يهينك، لأنك ستبقى الإنسان المتحجّم الجامد الذي يؤثر عليه الآخرون ولا يؤثّر ويكيّفُه الزمان، ويُلغي وجوده الفاعل. هذا التصور يجعل الإنسان ويجعل الأمة تراوح في موقعها المتخلِّف لتفقد وزنها فيتطاول عليها الآخرون.
فالزمان له حسابه، ولا بد من واقعية وأمل، لا بد من واقعية ورسالية، والذي يتجاوز حسابات الزمن، ويلغي مقتضياته، ولا يعترف به يفشل ويُهان، ومن وقف مأسوراً للزمن، مهزوماً أمام ضغط الزمن وأوضاع الزمن ينتهي إلى نتائج وخيمة مهلكة كذلك.
“من أمِن الزمان خانه، ومن تعظّم عليه أهانه، ومن ترغَّم عليه أرغمه، ومن لجأ إليه أسلمه، وليس كلُّ من رمى أصاب، وإذا تغير السلطان تغيّر الزمان”. مكابرة الزمن بلا عدّة وبلا استعداد، ولا آليات كافية تُسبِّب إرغام الإنسان الذي يتحرك لإصلاح أوضاع زمنه، ومن لجأ إلى الزمن واستسلم له فإنه يُسلمه، وليس كل من رمى أصاب، فالرمية أو الإصابة تحتاج إلى مقدّمات وإعداد كبير، وخبرة وذهنية خاصة، وحسابات خاصة، واستنارة بما عليه مقرَّرات الدين ومقتضيات العقل.
والحالات السياسية الانتقالية لها أثرها السلبي والإيجابي على جملة أوضاع المجتمعات كما هو واضح.
“الزمان يخون صاحبه ولا يُستعتب لمن عاتبه”.
الزمن لا يقبل عتاب العاتب، ولا يتراجع عن آثاره التدميرية لمن لم يحسب له حساباً، الزمن عنيد، أوضاع الزمن في أي ظرف من الظروف تكون عنيدة ومقاومة وتحدّيها كبير وضخم، حين لا يُحسب حساب لهذه التحديات وهذه الأوضاع ومقتضياتها والتي تؤثر على أي خطوة من خطوات الإصلاح فإن التحسُّر والتندّم ومعاتبة الزمن تدخل في إطار الوهم والخيال الذي لا واقعية له ولا أثر إيجابي يستتبعه.
“من عاند الزمان أرغمه”.
والمعاندة هنا بمعنى أن تُهمل كل حسابات الزمان، وليس أن تقاوم أوضاع الزمن لإصلاحها، وتسلك الدرب الصحيح، وتعد العدة الكافية لهذا الإصلاح.
أنت حين تعدّ العدة الكافية للإصلاح، وتفكر بموضوعية في خارطة الأوضاع، وتتعامل معها التعامل الحكيم تستطيع أن تغيّر، ويمكن لك أن تهزم الأوضاع الزمنية الشاذة(3).
أما أن تعاند الزمن، بمعنى أن تهمل كل حساباته فإنه هنا سيغلبُك حتما. “ومن استلم إليه لم يسلمه” إذا كان النص كما هو عليه هنا فكيف نجمع وبين “من استسلم إليه لم يسلمه” وحديث مرّ “ومن لجأ إليه أسلمه”؟
اللجأ للزمن بمعنى التعامل معه بسذاجة وفجاجة، والاتكال على زحمة الأوضاع موقع في الأزمات، أما إذا أخذنا “استسلم إليه لم يسلمه” بمعنى من أقرّ بمقتضيات الزمن، وبصعوبات الزمن وتحدّياته، وواجهها بالعدة والحكمة فإن الزمن هنا لا يسلمه.
وفي كلمة أخرى عن علي عليه السلام “من كابر الزمان عطب – هلك – ومن ينتقم عليه أو ينقم عليه غضب”.
فمكابرة الزمن بمعنيين كما سبق في أكثر من حديث، هناك مكابرة عقلائية ومكابرة غير عقلائية؛ المكابرة العقلائية هي مكابرة من أجل التغيير المعتمد على أخذ المقدمات المناسبة ومواجهة الحال الموضوعية بالحكمة والرزانة والشجاعة.
والمكابرة غير العقلائية هي المكابرة التي تريد أن لا تعترف لكل الأوضاع القائمة بالتأثير على أي خطة يتخذها المصلح وهذه المكابرة تهلك.
وفي توضيح أن الزمان هم أهل الزمان وأوضاع الزمان؛ قالوا: وما لزماننا عيب سوانا.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين. اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم بصرنا بأمر الدين والدنيا، وارزقنا الحكمة والرشد فيهما، ونبّهنا من نومة الغافلين، ونجّنا من إضلال المضلّين، وبغي الظالمين، وكيد المفسدين، وأدخلنا في الصالحين، واجعلنا من الفائزين برحمتك يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي خلق فسوّى، وقدّر وقضى، وأمات وأحيى، وأمرض وشفى، وعافى وأبلى، وعلى العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وله الآخرة والأولى.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
علينا عباد الله بتقوى الله والتهيؤ ليوم المعاد فلا أحقَّ من ذلك اليوم بالتّهيؤ له، والعمل من أجله؛ فهو أصعب الأيام موقفاً، وأخطرها شأنا، وأشدّها خزياً على المفسدين، وآلمها حسرة على من أهمل. وهو اليوم الذي شغل بال الأنبياء والمرسلين، وأرّق ليالي الأولياء والصالحين، وما هان أمره إلا على سفيه، أو غافل، ومن قد أضلّه الشيطان. ولا زاد لذلك اليوم، ولا منقذ من هوله إلا عمل صالح يشفع للعبد برحمة الله وكرمه وتلطّفه، وشفاعةٌ ممن ارتضى الله شفاعتهم وذلك من بعد إذنه، ومدخل العبد إلى شفاعة الشافعين طاعته لربّه.
اللهم إنا نعوذ بك، ونستغفرك، ونتوب إليك فاغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتّقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن القائم المنتظر المهدي.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفَّه بملائكتك المقرَّبين، وأيده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، المجاهد في سبيله، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفّقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيّها الملأ المؤمن المبارك فهذه وقفة مع بعض المواضيع:
أولاً: المسجد بين الاستقلالية والتبعية:
استقلالية المسجد وإمام الجماعة والجمعة وتبعيتهما لجهة رسمية هل يستويان؟
لا أظنُّ أن يذهب ذاهبٌ إلى أن استقلاليتهما وتبعيتهما سواء، ولا أن التبعية أولى. وإن بين المسجد والمؤسسة الرسمية من حيث الوظيفة صوراً:
استقلال وظيفي: فالمسجد يتحدث في أمر، والسياسة تتحدث في أمر آخر. هذا مشغول بمساحة، وتلك مشغولة بمساحة.
المسجد يتكلم عن الكفن والقبر والوضوء والغسل والحيض والنفاس، والسياسة تتحدث عن الحكم، عن المال، عن الإسكان، عن الاستيراد الحضاري، عن كل شيء يهمّ الحياة.
في هذه الحالة لا يكون شغل للسياسة بالمسجد، ولا تعيره اهتماما، ولا تتشاغل بشأنه أساساً. هذا النوع من المساجد لا يُبذل في مواجهته عليه فلس واحد من قبل السياسة.
صورة ثانية: تداخل وظيفي: تتحدث السياسة في الأحوال الشخصية، ويتحدث المسجد في الأحوال الشخصية، تتحدث السياسة في السياحة الحرّة، ويتحدث المسجد في السياحة الحرّة، السياسة تحتضن الربا، المسجد يرفض الربا، للسياسة طريقتها في تقسيم الثروة، وللمسجد رأيه واقتراحه في تقسيم آخر للثروة، إنه تداخل وظيفي واحتكاك بين المسجد والسياسة.
وهنا يسهل على السياسة بل يتوجّب على السياسة أن تبذل الكثير من أجل احتضان المسجد، توجيه المسجد، تعديل سياسة المسجد، السيطرة على المسجد.
مرة تتفق الرؤية بين الطرفين في الأحوال الشخصية، في السياحة الحرة، في الربا، في تقسيم الثروة، في كل مجال من المجالات، وهذا ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذه الحالة يكون تناصر وتكامل وتآزر بين المسجد وبين المؤسسة السياسية في كل مرافقها.
المسجد يدعم السياسة، والسياسة تدعم المسجد، المسجد يعمل على نجاح الدور السياسي في هذه الحالة، والسياسة تعمل على نجاح دور المسجد.
ومرة يكون اختلاف في الرؤية، وكل هذه المواضيع محل اختلاف في الرؤية بين السياسة وبين المسجد، وهذه حالة تقسم الأمة، تخلق الصراع في المجتمع، تجعل السياسة معادية كل المعاداة للمسجد، وتضطر المسجد لأن يقول الكلمة التي تضير السياسة. وفي هذا الفرض تأتي أهمية المسجد والسيطرة عليه من قبل السياسة.
ومنذ بدايات مفارقة الأمة خطّ إسلامها بدأت المفارقة بين المسجد والسياسة. وبدأ لونٌ من المواجهة بين المسجد والسياسة، وتكبر المواجهة كلما شطّت السياسة بعيداً عن طريق الدين، وكلّما حرص المسجد على أن يلتزم خطّ الرسالة.
عند اختلاف الرؤية إمّا أن يسكت المسجد على ظلم السياسة، ويتحول إلى شيطان أخرس، أو ينطق المسجد في صالح ظلم السياسة ويتحول إلى شيطان ناطق، والشيطان لا ينطق إلا بالباطل، والشيطان لا يسكت إلا عن الحق.
تنتهي مشكلة الصراع بين المسجد والسياسة عندما يتخذ المسجد للمسجد موقف الصمت من السياسة، ويكون الشيطان الأخرس عن النطق بالحق. ويكون التصالح، والتحاضن، والعلاقة الحميمة، والدعم الهائل للمسجد حين يتحول المسجد إلى شيطان ناطق، فينطق بما تريده السياسة، ويكون حقُّ السياسة حقاً عنده، وباطل السياسة باطلا عنده، وصديق السياسة صديقه، وعدو السياسة عدوّه. حينئذ يغنى المسجد، ويرتفع الشأن المادي للمسجد، ويأمن، وتصفّق السياسة للمسجد.
أما إذا اتّجه المسجد إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول كلمة الحق، فإن العلاقة ستكون مرهقة، وسيتعب المسجد، وإمام المسجد من أذى السياسة، وربما أغلق المسجد وطُرد إمام المسجد بقوّة السياسة.
إذا كانت الحكومة ستعطي رواتب بلا تبعية فذاك موضوع آخر، وإذا كانت ستعطي رواتب مع التبعية فهي الكارثة التي لا ريب فيها، وهو الموقف المحرج دينياً، والذي لا يمكن المساومة عليه، ولا اتخاذ موقف الصمت منه. نجح الموقف المعارض أو لم ينجح، فإنها الوظيفة الشرعية التي لا بدّ منها، والداخلة في الأمر بالمعروف وإنكار المنكر، والقول بالحق.
لا تردّد في أن رواتبَ مربوطة بالتعيين والفصل لإمام المسجد تمثِّل انعطافة خطيرة في تاريخ مذهبنا على الأقل، ومفارقةً لخطّ الأئمة عليهم السلام أقولها صراحة يلزمني الإسلام بها.
هل التبعية مقرّرة أو ليست مقرّرة؟
كل الخلاف في هذه الجزئية، أما بعد أن تكون التبعية مقرّرة فلا أرى أحداً من المتشرّعة يقول بصحّتها.
التبعية قرّرها نظام الكادر في أكثر من مادة، وقُرأت المواد من على هذا المنبر في يوم من الأيام، والآن ارجع إلى أخبار الخليج يوم الثلاثاء يوم السادس عشر من الشهر الخامس من هذه السنة الميلادية فستجد تماماً أن المتابعة مقرّرة رسميّاً وأن لا فلس لأحدٍ لا يخضع لهذه المتابعة.
وأكتفي بقراءة بعض النصوص التي جاءت في المصدر الذي أشرتُ إليه:
“كما تختص الإدارتان – وهما تابعتان للشؤون الإسلامية – بتعيين الخطباء والأئمة والمؤذّنين في المساجد التابعة لهما وفصلهم وإنهاء خدماتهم” فليس للمؤمنين أن يختاروا إمام جماعتهم وجمعتهم، إنه الإمام الذي قد لا يرتضيه المؤمنون ولكن ترتضيه السلطة. التزكية ليست لكم التزكية للجهة الرسمية، وللجهة الرسمية حسب موازينها في التزكية التي قد تلتقي وقد تختلف عن موازين شرعية ثابتة تأخذون بها في هذا المجال.
وفي بندٍ آخر “وتتولّى إدارة الأوقاف تعيين الأئمة والمؤذّنين من خلال مجلسي إدارتيهما، ثم متابعة الأئمة للقيام بالمهام المنوطة بهم”، “وأن كادر الأئمة والمؤذنين الذي تمّ تفعيله من قبل الوزارة يُخضِع جميع الأئمة والمؤذنين إلى أنظمة الخدمة المدنية في المواظبة والانضباط، والعمل جارٍ على استصدار لائحة تتضمّن معايير ملائمة لمتباعة الأئمة والمؤذنين والتزامهم بعملهم بما يحفظ للمسجد هيبته ويحقق رسالته” لكن أي رسالة؟! ذاك لتقدير واضع النظام.
المدرّس يدخل وزارة التربية والتعليم تحت نظام معيّن ثم يتطوّر نظام التربية والتعليم يوما بعد يوم وتستجدّ تعاليم وتكاليف يُعفى منها أو هي ملزمة له؟ كل ما يجد من أنظمة ولوائح داخلية وتعليمات وتكاليف في أي وزارة تلتحق بها تثبت في حقك، فبعد الدخول في الوظيفة ستبقى خاضعا لكل مستجدّات هذه الوظيفة بكل تعاليمها وتكاليفها المستجدّة.
في فقرة أخرى في بند آخر “أمَّا الدروس فتتم ضمن برامج الوعظ والإرشاد التي تُعدّها وتنفذها الوزارة بوساطة وعّاظ معتمدين ومؤهّلين وهذه البرامج من أهم ما تقدّمه وزارة الشؤون الإسلامية لجميع شرائح المجتمع….” ثم في جملة أخرى “ويتم التنسيق بشأن البرامج المتعلّقة بالمساجد مع إدارتي الأوقاف والبرامج خارج نطاق المسجد مع الجهات التي ترعى المستفيدين أضف إلى ذلك أن هناك مجموعة من الوعّاظ المتطوّعين لإقامة الدروس في المساجد – انتبه إلى ما يأتي – يُسمح لهم بإلقاء الدروس في المساجد بعد اجتياز الامتحان من قبل لجنة شُكِّلت في ذلك وحصولهم على الترخيص اللازم” أسيطرة أكبر من هذه السيطرة على المسجد؟! أاستيلاء أكبر من هذا الاستيلاء، وأشمل من هذا الاستيلاء؟!
لقد جاء مثل عربي يصلح تطبيقه في هذا المورد “قطعت جهيزة قول كل خطيب” كل الجدل الدائر حول التبعية المشروطة في المشروع وعدم التبعية وأن الرواتب تُدفع تبرّعا وإحساناً أو تدفع قبال وظائف محددة وشروط معينة وتعيين وفصل وإنهاء خدمة، كل هذا النقاش يجب أن يتوقّف بعد صدور التوضيح في أخبار الخليج.
وبعد ثبوت التبعية والضرر هل يبقى تردّد في حرمة الدعم للمشروع؟ هنيئا لمن يأخذ مالاً ولا يُعطي قباله تنازلا عن دور المسجد، لكن هل هذا موجود؟ أيضيرنا أن توزّع الحكومة على الناس على كل فرد عشرة آلاف دينار؟ فلتوزّع على الناس عشرة آلاف دينار ولكن كل الكلام في السيطرة على الدين.
المسألة وكما ذكرت أكثر من مرة في تقديرنا وفي نقاشنا ليست مسألة رواتب كما قد يتصوّر، إنما المسألة مسألة التنازل عن دور المسجد أو عدم التنازل، المسألة مسألة تبعية المسجد للمؤسسة السياسية أو عدم تبعيته لها.
يبقى كلامٌ عن المعركة الوهمية المختلقة من السياسة، ويبقى موضوع آخر ولا وقت للموضوعين.
يبقى الكلام عن المجلس العلمائي واستهدافه وموقفه من هذا الاستهداف وأريد أن أؤكّد أن المجلس العلمائي غير مستعدٍّ نهائيّاً للدخول في المهاترات، ولا التنازل عن شخصيته المعنوية الدينية التي تجعله يسلك طريق الدين والحكمة والتعقّل والإخلاص للإسلام والمسلمين، والحرص على بقاء الصفّ الإسلامي موحّدا، وكذلك الصف الوطني.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسن وقنا عذاب النار.
{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 38/ المدّثر.
2 – أما العالم بزمانه، البصير بأوضاعه، الخبير بملابساته، القادر على تحليل ظواهره، وسبر أعماقه فلا يقع في المفاجئات المربكة، والمواقف المرتجلة ولا يخطئ تقدير الأوضاع والأفعال وكيفية مواجهتها الأخطاء الفادحة القاتلة.
3 – وذلك ولو بصورة تدرجيَّة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى