خطبة الجمعة (231) 18 محرم 1427هـ – 17 فبراير 2006م

مواضيع الخطبة:

عينان وأذنان + الإساءة الوقحة لرسول الله (ص).

ويلي الخطبة الثانية كلمة قصيرة بعنوان: وضعنا السياسي

لن يأتي يوم إلا وملايين المسلمين مستعدّة بكل جدّية أن تُعطي أرواحها ولو كان عندها ما هو أغلى من الروح لأعطته لمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

الخطبة الأولى

الحمد لله الحيّ القيُّوم الذي لم يسبقه وجود ولا عدم، ولا يناله فناء، ولا يعرضه تغيير، ولا يحتاج إلى مؤازر ولا ظهير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي القاصرة المقصِّرة بتقوى الله العظيم الذي ليس مثل عظمته عظمة، ولا ككبريائه كبرياء. فمن لم يتّق الله فقد عرَّض نفسه لغضب من لا يردّ أحدٌ غضبه، ولا يُعذِّب أحدٌ عذابه، ومن لم يُؤْمنه الله فلا مأمن له. وغداً ينكشف الغطاء لتجد كلُّ نفس أنه لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا به، وأنه ما كان يحميها أمسَها أحدٌ غيرُه.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا تقواك ما أبقيتنا، وطاعتك ما أحييتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات في الإيمان فهذه متابعة للحديث عن القلب فنحن وهذه العناوين:
عينان وأذنان:
ونقرأ تحت هذا العنوان ما يأتي من بعض الحديث:
“ألا إنّ للعبد أربع أعين: عينان يُبصر بهما أمر دينه ودنياه، وعينان يُبصر بهما أمر آخرته، فإذا أراد الله بعبد خيراً فتح له العينين اللّتين في قلبه، فأبصر بهما الغيب وأمر آخرته، وإذا أراد به غير ذلك ترك القلب بما فيه”(1).
عينان حسّيتان نعرفهما، ونعرف كيف نستعملهما، ولنا محافظة عليهما بالغة، وما أعز على المرء أن يفقد بصره.
هاتان العينان يدلّان على المسجد، ويدلّان على الملهى، يسعى بهما العبد إلى إصلاح أمر دينه، ويسعى بهما إلى إصلاح أمر دنياه، فهما لابصار أمر الدنيا ولإبصار أمر الآخرة؛ يُطالع بهما كتاباً يزيد في إيمانه، ويطالع بهما كتاباً آخر يتحلّل به خلقه.
وهناك عينان أخريان ليستا حسّيتين، ولكنهما أكبر أهمية من البصر الذي يصعب علينا أن نفقده. إنهما عينا القلب، وعينان القلب نافذة الإنسان على الغيب، نافذته على الحقائق الكبرى، نافذته على طريق سعادته الأبدية.
عينان، إذا أراد الله بالعبد خيراً فتحهما، فأبصر بهما العبد الغيبَ وأمر الآخرة، وارتفع الحجاب بينهما وبين الغيب، وصار الغيب الحقيقة الكبرى في حياته، وشغله شغف الغيب أكثر مما يشغله شغب عالم الشهادة.
وإذا أراد به غير ذلك ترك القلب بما فيه.
تبقى العينان في القلب، ولكن تُغمضان وتعميان، والله لا يعمي القلوب ابتداء، إنما عمى القلوب يبتدئ من العبد، فإذا ما أدبر عن الله، واستكبر وتمادى في إدباه واستكباره قد يعمى قلبُه، وذلك لايتمّ بعيداً عن تقدير الله عزّ وجل وتدبيره، وإنما بتقدير وتدبير.
“إنّما شيعتنا أصحاب الأربعة الأعين: عين في الرّأس(2)، وعين في القلب(3)، ألا والخلائق كلّهم كذلك(4)، ألا وإنّ الله فتح أبصاركم وأعمى أبصارهم”(5).
وفتح البصر قد يكون مطلقاً وكليّاً، كما أن فتحه يمكن أن يكون جزئياً، وهناك من الناس من يُطبق وبصر قلبه إطباقا، ومنهم من يرى بصيصا، ومنهم من لا يرى شيئاً، والله ليس بظلّامٍ للعباد.
الفعل السّيء، يعمى القلب، ويكدّر النفس، وشفافية القلب إنما يخسرها الإنسان بفعل السوء، وبالإصرار على فعل السوء، وأكبر ما يُوصد من المرء قلبه، ويفقده بصره هو أن يستكبر على الله.
“لولا أنّ الشّياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت”(6).
هناك قوّة وباصرة معنوية تُدرك المعاني والحقائق البعيدة كما يُدرك البصر الحسّي الحقائق القريبة، وقد يكون أكثر من ذلك وأشدّ. فلماذا لا نشهد الغيب؟ ولماذا يشغلنا عالم الشهادة عن عالم الغيب؟ والعالم القريب عن عالم الملكوت؟ ذلك لأن الشياطين تحوم على قلوبنا، ونحن نستجيب.
وحين تصدق المعركة مع الشيطان لا يكون للشيطان على الإنسان سلطانٌ بعون الله.
وفي الدعاء:”إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النّور…” فضلاً عن حجب الظلمة التي ترين على القلب.
“حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور” حجب الظلمة تعود للعبد، وحجب النور تعود إلى درجات من النور والكمال قد تشغل العبد عن عظمة الرب.
“حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك”(7).
للعبد بصر معنوي نافذ بعيد المدى، واسع الأفق، ولكنّه قد يخسر هذا البصر بما يسيء لنفسه من فعل القبيح.
وفي دعاء آخر:”واكشف عن قلوبنا أغشية المرية والحجاب”(8).
وهناك نرى الحقيقة، وهناك تطمئن القلوب، وهناك تسعد النفوس، وهناك تعلو المقامات.
ولنسمع هذا الحديث عن علي عليه السلام:”تكاد ضمائر القلوب تطّلع على سرائر الغيوب”(9).
هذا لو انجلت، وانكشفت ظلماتها، وارتفع الرين عنها فإنّها ستشفّ وسترفّ وستنتقل بنظرتها إلى بعيد.
وكما للقلب عينان يبصر بهما الحقائق فإن له أذنين يصلان به إلى تلك الحقائق.
فلا يكون سمعه سمع الحيوان، ولا يكون بصره بصر الحيوان.
والإنسان يطالع في هذا الكون، ويكتشف الحقائق القريبة، ويتوصّل إلى حقائق ترتبط بالفلك، وترتبط بالحياة لكن تقف به معرفته عند رؤية مجهره فيكون الإنسان الأعمى، وإن كان حيواناً ذا سمعٍ حسّيٍّ بعيد، ونظر حسّيّ بعيد كبّره العلم المادي.
“إنّ للقلب أُذنين: روح الإيمان يسارّه بالخير، والشّيطان يسارّه بالشرّ فأيّهما ظهر على صاحبه غلبه”(10).
هناك حديثان في النفس؛ حديث للشيطان، وحديث للملك، وأذن تتلقّى من الشيطان، وأذن تتلقى من روح الإيمان، وقد يكون روح الإيمان ملكاً خاصّاً، أو أي معنى من القوة الروحية المعنوية الحسّاسة التي توصلنا عن طريق السمع في القلب إلى الحقائق.
روح الإيمان يسارّ بالخير، صلّ، لا تشرب الخمر، والشيطان يسارّه بالشر، اقتل ظلما، اغتب، فأيهما ظهر على صاحبه غلبه، وظهور الشيطان على الملك، وظهور الملك على الشيطان لا لرجحان في قوّة أداء الملك، ولا لرجحان في أداء قوة الشيطان بحيث يلغي هذا الطرف فاعلية الطرف الآخر أو ذاك الطرف فاعلية هذا الطرف، وإنما موقف الإرادة الإنسانية هو الذي يرجّح أحد الطرفين.
“ما من قلب إلا وله أُذنان على إحداهما ملكٌ مُرشِد(11)، وعلى الأخرى شيطانٌ مُفتن، هذا يأمره وهذا يزجره: الشّيطان يأمره بالمعاصي والملك يزجره عنها وهو قول الله عزّ وجل {… عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(12)”(13).
وهكذا تذهب الأحاديث لتقرير هذه الحقيقة؛ حقيقة أننا جئنا مصنوعين صنعاً إلهياً حكيما يطلّ بنا على الغيب، ويفتح لنا السبيل للارتباط بالحقائق الكبرى حتّى لا نقيم حياتنا في ظل حقائق جزئية منقطعة.
الحياة الأسمى، والحياة الأبقى، والحياة السعيدة هي التي تقام في ضوء الحقائق الكبرى التي لا نكتشفها إلا بسلامة القلب، سلامة سمعه وبصره، ومسؤولية الإنسان أن يحافظ على أقدس قوة في وجوده، وعلى أكبر هبة من هبات الله في وجوده ألا وهو سمع القلب وبصره.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم حُل بين قلوبنا وبين أن تميل إلى حرامك، أو أن تملّ من طاعتك، أو يصرفها شيء عن دينك، أو تنسى توقيرك وتعظيمك، وتقف عند أحد من خلقك منقطعة عنك. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي يُجازي بالخير إحساناً، ولا يُعاقب إلا عدلاً، ولا يُعذِّب أحداً ظلماً، ولا يشبهه أحدٌ شكراً، ولا كإحسانه إحسان، ولا كمنِّه منٌّ، ولا كتفضُّله تفضُّل. كلُّ شيء قائم برحمته، وكلُّ خير من فيضه، وكلُّ إحسان من فضله.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله عصمه وطهّره وزكّاه ونقّاه ورفع درجته صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً.
علينا عباد الله بتقوى الله فإنّه لا شأن لأحد عنده سبحانه إلا بما اتّقاه، ومن لم يكن له شأنٌ عند ربّه لم ينفعه شأنه عند النّاس. وما كان للنّاس ولو اجتمعوا قاطبةً أن يُنقذوا عبداً من سوء أراده الله به، وما كان ذلك بمزحزحه أبداً من العذاب، وما كان لهم جميعاً أن يشقوا من أراد الله سعادته؛ فإنّ الله فعّالٌ لما يريد، ولا يظلم ربُّك أحداً.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، واجعلنا نخشاك حتى كأننا نراك، وأسعدنا بتقواك، ولا تُشقنا بمعصيتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى خاتم النبيين والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين، وعلى علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الحسن والحسين الإمامين الزكيين الهاديين، سبطي رسول الله صلى الله عليه وآله.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفَّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا، وأيدهم تأييدا كبيراً..
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى هذا المحور:
الإساءة الوقحة لرسول الله (ص):
1. عظيم ما أعظمه، وإساءة قبيحة ما أقبحها، هي إساءة لمن زكّاه الله وقال عنه عزّ وجل:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(14) {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(15). رجل لا يُجارى، ومثال إنساني لا يُلحق.
المسلمون العظماء عندهم كُثر، وكل أنبياء الله ورسله عظماء عندهم ولكن لا عظيم عند المسلمين كرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الغرب من يجهل، ومن لا يجهل بأن ملايين المسلمين يبذلون نفوسهم رخيصة فداء لحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وكرامته.
فلماذا الإساءة؟ قد تكون الإساءة من جاهل، والجاهل يحتاج إلى تعليم، وقد تكون هذه الإساءة من عالم بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله في هذه الأمة التي تقترب في عددها من المليار ونصف مليار، وليس العبرة بالعدد بقدر ما تكون العبرة بسموّ المعنى، وهذه الأمة هي الأمة الوسط.
إذا كانت إساءة العالم بما عليه مقام رسول الله صلى الله عليه وآله في قلوب المسلمين ونفوسهم للاختبار، فمن المختبر؟ إذا كانت الاختبار للحكومات، فالحكومات قد اختبرها الغرب منذ بعيد، فوجد أكثرها ناكصة عن الإسلام مستخفّة به.
وكثيرٌ من المسؤولين يضربون المثل السيء، ويُعطون نماذج من الإساءة للإسلام أمام كبار الغربيين وصغارهم.
وإذا كان الاختبار للأمة فإن الأمة لم يمر عليها يوم من الأيام قد هان عليها رسولها الكريم صلى الله عليه وآله وسلم(16).
ولن يأتي يوم إلا وملايين المسلمين مستعدّة بكل جدّية أن تُعطي أرواحها ولو كان عندها ما هو أغلى من الروح لأعطته لمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وحقّ لها أن تفعل لأنّها لن تبقى بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبانفصالها عنه إلا جسداً كجسد الكلاب.
2. وإذا كانت هذه الهجمة السخيفة لهزّ قدسية رسول الله صلى الله عليه وآله، قدسية القرآن الكريم، قدسية الإسلام في نفوس المسلمين فإنّ الوعي الإسلامي، والصحوة الإسلامية، ومصادر الفكر الإسلامي، ومنابع الهدى الإسلامي ستحول بكلّ تأكيد بين ما يريد الغرب من هذا الأمر وبين أن يكون.
لا يمكن أبداً وعلى الإطلاق أن تهتزّ قدسية رسول الله صلى الله عليه وآله، قدسية القرآن، قدسية الإسلام في نفوس أهل الصحوة، وأهل اليقظة، وأهل الضمير الحي، وأهل الرؤية الكونية الفسيحة، وأهل الإنسانية المتوثّبة.
أما المظاهرات والمسيرات والمقاطعة التجارية فهي من ردّ الفعل المخفِّض. وقد أتى الرد على هذا المستوى من صفوف شعوب الأمة، والرأي – وإن كان هذا الردّ مخفِّضاً – عدم التجاوز لأن القصد ليس إشعال حرب الحضارات، وإنما القصد أن يبقى السبيل سالكاً لأن تسمع الدنيا كلمة الإسلام، وشيئا عن عظمة رسول الله صلى الله عليه وآله، وأجواء السلم دائما أكثر عطاء في هذا المجال من أجواء الحرب.
ولكن ننبّه أن السلم والأمن المحلي والإقليمي والعالمي يمتلك قيمة عالية في الإسلام، ولكنّه إحدى القيم، والعدل قيمة، والعفّة قيمة، والكرامة قيمة، والقيم – على قدسيتها جميعا – تختلف درجات، والمسلم وهو يحترم الأمن في وطنه، وفي إقليمه، وفي أمته، وفي العالم، ويسعى لتركيزه وتأكيده وتثبيته، ويقدّره كل التقدير، ويضحّي من أجله، لكنه مع كل ذلك يضحّي به من أجل الإسلام سواء في وطن أو في إقليم أو في إطار الأمة أو في إطار العالم كلّه.
فحين يرفع المسلم شعار الأمن والسلام، ويؤكِّده فهو لا يعني أبداً أنّه مستعدٌّ في أي لحظة من اللحظات أن يتنازل عن إسلامه، وأن يضحّي بإسلامه، وأن يلغي إسلامه، وأن ينفصل عن إسلامه من أجل أي سلام. ولا سلام في الحق، ولا أمن في الحق في أي أرض، وعلى أي مستوى من المستويات لو ذهب الإسلام، وقيم الإسلام.
إنّ هناك تزاحماً بين القيم، وهو الأصل في التزاحم بين الأحكام الشرعية، ودائماً التقديم في التزاحم للأهم، ولا شيء أهم من الإسلام أصله وجوهره على الإطلاق.
الهجمة حرية تعبير أو حرية تهريج وهراء وهذيان؟ هي من الثاني وليست من الأول.
وإذا كانت التصفية الجسدية لشخص لا تدخل في الحرية فكيف بالتصفية المعنوية لأمة بكاملها، ولشخصيات ربانية على مستوى شخصيات الأنبياء، وخاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟!
وإذا كان باب التهريج مفتوحاً على مصراعيه ويُمثّل قيمة عالية عند الغرب باسم حرية التعبير فليعرفوا أنَّ المقدسات الحقيقية لأمّتنا لا تعادل قيمتها عندنا قيمة، ولا يمكن التنازل عنها. مقدّسك الوهمي السخيف قائم، ومقدّسي الحقيقي الأصيل يسقط؟ لا يكون.
وأين حرية التعبير من أمور كثيرة، وما مسألة حكاية محرقة اليهود إلا واحد منها، وقد تنازلت عنده حرية التعبير في الغرب، وغلبت قدسيته قدسية حرية التعبير عندهم.
وإذا كانت الصهيونية العالمية يُسعدها اشتعال حرب حضارية طاحنة بين الغرب والمسلمين فإن على الغرب أن يحترس من ذلك لأن الخسارة ستكون شاملة وفادحة وكاسحة لو اشتعلت هذه الحرب ولن تخص المسلمين وحدهم.
وإن ما ذهب إليه الكثيرون من لا بديَّة حماية قانونية دولية تعمل عليها الدول الإسلامية لحماية الأديان السماوية من تطاول السفلة والمفسدين وأصحاب الأقلام الرخيصة لهو أمرٌ حقٌّ ويجب التركيز عليه، والدفع في اتجاهه.
وأُنبّه أنه كما هوت المادية السقيمة بإنسان الغرب وأفقدته أخلاقيته واتّزانه، فهان عليه أن ينال من أقدس المقدسات، فقد بدأ هذا السقوط في الساحة الإسلامية بالنسبة لبعض من يُسمّون أنفسهم مسلمين ويسعون دائماً للنيل من المقدّسات، ويتطاولون على الأمة. وعلى الأمة أن تحمي نفسها من مثل هذه العناصر السيئة البغيضة.
وما الذي يساعد ويجرّئ غير المسلمين كثيراً على الإسلام؟ متطرّف لا يحترم الآخرين، ويسل السيف في غير موضعه، ويطلق لسانه بالسب والشتم؟! ومتهاون لا يقيم للإسلام وزناً أمام الآخرين؟! ويكثر هذا الصنف في مسؤولي الأمة وحكّامها.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم نوّر قلوبنا بمعرفتك، وأحيها بذكرك، وآنسها بمناجاتك، واجعلنا من أهل محبتك، والصادقين في طاعتك، والصالحين من عبادك، ولقّنا خير الدنيا والآخرة، واكفنا شرّهما ياكريم يارحيم، يارب العالمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

الكلمة التي تلت الخطبة الثانية بعد صلاة العصر:
وضعنا السياسي: ويتناول نقطتين:
(الأحكام الصادرة بشأن قضية المطار / المسألة الدستورية)
1. الأحكام الصادرة بشأن قضية المطار في حق عدد من الشباب – حسب القرائن – هي ذات منطلق سياسي، ومغزى سياسي. وتمثّل لوناً من الخطاب السياسي.
وهذا الخطاب وما يُساوقه طبيعة في المقابل من خطاب التصعيد الذي يُرهق كاهل الأوطان كثيراً، ويعجز في الأخير عن الحل.
والأحكام المذكورة قد تجاوز صدورها كل نداءات المخلصين بغلق ملف القضية التي ابتدأتها الحكومة بما لا يترك فرصةً لتداعيات ضارّةٍ بالساحة، وبالمصلحة الوطنية المشتركة، ومُشيعةٍ لجوٍّ من التوترات المتواصلة.
ولقد جمع الادّعاء العام والإعلام على الشباب البُرءاء كما تبيّن حِزَماً من التّهم ونعوت الإفساد والتخريب والفوضوية وهي تهم كثيراً ما تنضم إليها تهمة فقد الولاء للوطن، والتآمر لتُلصق بكل من يطالب بحق، أو يتحرك لإنكار منكر، وما أسرع ما يُخرج الإعلامُ مواطنين مستهدفين من الدين والإنسانية والوطنية لأدنى مناسبة وإن تبيَّن ألف مرة زيف هذه الادعاءات الواهية الكذوب.
وإنه بلحاظ الخطوة الأولى لحادثة المطار والتي أقدمت عليها الجهة الرسمية وهي خطوة استفزازية بطبيعتها – كما يعرف الجميع -، وبلحاظ ما أنهت إليه الوثائق المتوفّرة عند المدّعى عليهم، وما تدل عليه القرائن المرافقة فإننا ندين الحكم باعتقال الشباب ونطالب بإطلاق كل من طالته هذه الأحكام وتبرئة كل من يمكن أن تطاله.
والأوضاع المتأزّمة في البلاد لا تُعالَج بمثل هذه المواقف المتشدّدة، وهي إما أن تترك – أي هذه الأوضاع المتأزّمة – لتزداد وتتراكم إلى حدّ الانفجار، وإما أن تتجه الإرادة الجدية للتخلّص منها بالتخلّص من أسبابها المتمثّلة في مصادرة الحقوق والاستضعاف والحرمان وهدر الكرامة، فتدرأ بذلك الانزلاقات الخطيرة والنهايات المريرة.
وقد لا يغذي الأزمات في حال يقظة الأمم والشعوب كالإفراط في استعمال القوة في وجه المطالبة بالحق.
2. المسألة الدستورية:-
المسألة الدستورية مسألة أساس لأن كل الأوضاع الداخلة في العلاقة السياسية بين الحكومة والشعب من جهة، وبين المواطنين أنفسهم من جهة أخرى بُنى فوقية تُعدّ هي أساسها الذي تعود إليه.
فأيُّ خللٍ فيها – المسألة الدستورية – يسري إلى ما عداها، وأي خلاف حولها ينبسط على غيرها، وأي اهتزاز أوطعن أو شك ينالها ينال ما يقوم عليها.
وواقع الأمر في المسألة الدستورية في هذا الوطن العزيز أن دستور العام 73 يُعد دستوراً ذا صفة شرعية وضعية قد ألغته الحكومة من جانبها بإرادة منفردة.
أما دستور العام 2002 فيُعدّ فاقداً لهذه الشرعية لمفارقته للميثاق الذي اتُّخذ عقداً بين طرفي الشعب والنظام، ولأنه جاء باسم الديموقراطية وهو يخالفها حيث لا ديموقراطية بفرض إرادة واحدة، ولأنه تراجع واضح فاضح عن مستوى الشعب وتجربته الدستورية السابقة. والاعتراض على الدستور الحالي سبق ولادته ورافقها وبقي مستمراً إلى اليوم، وسيكون قائماً إلى أن يُستبدل.
وفي ظل هذا الوضع لا توجد وثيقة تحكم العلاقة بين الشعب والحكومة ويُسلَّم بشرعيتها الوضعية بينهما إلا الميثاق.
والميثاق يؤكد أساس العدل والمساواة والمواطنية المتساوية والديموقراطية وكون الشعب مصدر السلطات وهذا كله يقود بلا أدنى ريب إلى نظام انتخابي يتساوى فيه صوت المواطن مع أخيه المواطن الآخر، فيكون لكل واحدٍ منهما صوت واحد، كما يمنع تماماً من إمكان أي دستور إلا ما رشح عن عملية انتخابية حرَّة في ضوء نظام انتخابي عادل، يكون بها – العملية الانتخابية – من صنع الإرادة الشعبية الحرّة، ولا تقيده إلا مبادئ الميثاق الثابتة.
وبهذا تكون الانطلاقة الطبيعية الصحيحة الجادة للخروج من الأوضاع المتأزّمة إلى فضاء الإصلاح الرَّحب والعلاقات الإيجابية المتينة بالأخذ بالإرادة الشعبية الحرّة كما هو تقرير الميثاق في صياغة دستور عقدي بين الشعب والحكم تنضبط من خلاله كل المسارات في الحياة السياسية لهذا الوطن على مستوى التعاهد والتعاقد.
غفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ميزان الحكمة ج8 ص224.
2 – يعني نوع عين، ومن حيث العدد هما عينان.
3 – أيضاً يعني نوع عين، ومن حيث العدد هما عينان.
4 – كل الخلائق من بني الإنسان لهم هذه الأعين.
5 – ميزان الحكمة ج8 ص224.
6 – ميزان الحكمة ج8 ص224.
7 – ميزان الحكمة ج8 ص224.
8 – ميزان الحكمة ج8 ص224.
9- ميزان الحكمة ج8 ص224.
10 – ميزان الحكمة ج8 ص224.
11 – قلوب سميعة، قلوب مبصرة، نحن الذين نفقدها سمعها وبصرها. في أصل الفطرة سمع وبصر، وفي رحمات الله الخاصة ما يسمع ويبصر، وفي آياته منافذ للسمع وللبصر ولكن قد نخسر كل ذلك بسوء ما نفعل.
12 – 17،18/ ق.
13 – ميزان الحكمة ج8 ص224.
14 – 4/ القلم.
15 – 3،4/ النجم.
16 – هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا محمد).

 

زر الذهاب إلى الأعلى