خطبة الجمعة (163) 28 جمادى الأولى 1425هـ – 16 يوليو 2004م

مواضيع الخطبة:

 

حضارة الإسلام (15) + نحن والوضع الداخلي + المساجد بيوت الله

 

العقلاء هم من استطاعوا أن يسدّوا أبواب الفتن، وذلك أيسر لتجنيب الأوطان المخاطر. أما إذا تُركت الأمور حتى يشتعل فتيل الأزمة فمن الصعب أن يتغلب العقل على الهوى بالسرعة المطلوبة وقبل أن تتعاظم خسائر الأوطان، وهي خسائر للجميع.


الخطبة الأولى

الحمد لله الخالق بلا شريك، الربّ بلا معين، المدبر بلا ظهير، الحاكم بلا وزير، الإله الحق الذي ليس له شبيه ولا نظير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الخاطئة بتقوى الله الذي لا ربّ لأحد سواه، ولا أحد يُنعم نعمه، أو يوقع نقمه، أو يردّ قضاءه، أو يدفع بلاءه، أو يحمي من قدره، أو يثيب ثوابه، أو يعاقب عقابه؛ فلا ينسنا عظيمُ رجائه خوف غضبه، ولا شديدُ أخذه رجاء عفوه، وليكن وعده في نفوسنا كما هو الحقُّ أصدقَ وعد، ووعيدُه أشد وعيد.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، واجعلنا من أوفى من وفى بعهدك، ومن أرجى من صدّق بوعدك، ومن أخوف من خاف وعيدك، ومن أطلب من طلب طاعتك، ومن أكثر الناس فراراً من معصيتك، يا من لا تتعاظمه مسائل السائلين، ومطالب الطالبين، ولا تفوته معصية العاصين يا عليُّ يا عليم يا قدير.
أما بعد أيها الجمع المؤمن فمع الحديث المتتابع في موضوع:
حضارتان: حضارة الطين وحضارة الإنسان.
وحضارة الطين إنما تلتفت للإنسان بما هو بشر من طين ومن هذه الحيثية، أمَّا ما به إنسانيتُهُ العالية فتأخذه وسيلة لجانب ماديته. وحضارة الإنسان تتوجه بهمّها الكبير لإنسانية الإنسان، وتوفّيه بالعدل كل حقوق بدنه.
والآن إلى هذا العنوان الفرعي:-
الإنسان دوراً:-
أ‌- في حضارة الإنسان: وهي الحضارة التي يصوغها القرآن والإسلام من أجل إنسانية الإنسان وسعادته.
” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً “(30 البقرة). للإنسان دور محدود تابع لله سبحانه وتعالى في الخالقية والتغيير والتطوير النافع لنفسه ولغيره، وفي تحقيق العدل والإحسان والرحمة والخير في الأرض.
الإنسان مهيئ لأن يجاري الله عز وجل مجاراة عملية محدودة وبفيض من الله سبحانه وتعالى في التزين بأسماء الله الحسنى حسب ما يطيقه وجوده المحدود، وفي حيثيات معيّنة، وجهات مخصوصة، أما أسماء لله حسنى فيستحيل على الإنسان أن يتزيّن بها كالقديم والدائم.
” الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور” (14 الحج) هذا دور الإنسان في التصوير القرآني.
إقامة الصلاة توجّه خالص من الذات الإنسانية لله يربّيها ويصوغها ويصنع خيرها وكمالها، والصلاة مصنع للذات الإنسان تصنعة صناعة سامية عالية، تولد فيه القوة الخيرة، وترفع من مستواه، وتجعله على الطريق الصحيح، تسمو به، وتعطيه الغنى، وتنقله من ضيق النظرة إلى سعة الرؤية، ومن الشعور الخانق إلى الشعور الفسيح، هذا الدور البنّاء؛ دور الأعمار والصناعة للذات الإنسانية تقوم به الصلاة وعلى الإنسان أن يمارس الصلاة ليصنع ذاته.
وإيتاء الزكاة دور بنّاء آخر يقوم على العطاء، وحب الخير، والفاعلية القويمة الكريمة في الحياة، فمن دور الإنسان أن يعطي، أن يفيض؛ والله عز وجل هو المعطي المفيض بالأصل، والإنسان في الأرض محاولته الجادة الصحيحة أن يتحلّى بأسماء الله الحسنى ما استطاع، فحتّى يتربى الإنسان على العطاء عليه أن يستغني ما استطاع أن يستغني، وعليه أن يعطي ما استطاع أن يعطي لكي يكون مفيضاً في الأرض خيرا وبركة وهدى.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو دور بنّاء آخر يصنع الأوضاع الإنسانية الصحيحة سليمة من آفة الانحراف ويقوّمها كلما عرضها شيء من الميل عن الخط اللاحب.
فنجد الإنسان هنا في التصوير القرآني مقيما للصلاة، مؤتيا للزكاة، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ليكون الخليفة عن الله في الأرض وليمارس دور البناء والإصلاح وتقويم الأوضاع.
“.. وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ..”(25 الحديد)، آية أخرى
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ” (135 النساء).
الآية الأولى تحدد جانباً من دور الإنسان، والإنسان في المفروض الإسلامي عليه أن يكون مؤمنا وصاحب دور قائم على الإيمان. وعلى خط وظيفة الإنسان، ودوره في الأرض جاءت الرسل ونزلت الكتب، فإنما جاءت الرسل ونزلت الكتب لتثير وتنشط وتحافظ على الدور الإنساني الأصل الذي خُلق له الإنسان.
ما هو هذا الدور؟ من هذا الدور إقامة القسط ” لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ” فمطلوب من الناس كل الناس أن يقوموا بالعدل، وإقامة العدل ليس في جنبة من الجنبات، وليس على صعيد من الصعد فقط. إقامة العدل في الفكر، في الشعور، في الأوضاع الخارجية، في الأوضاع النفسية الداخلية، في كل مساحة الحياة، وفي كل مناحي النشاط.
“.. وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ..” ويُستقرب عند بعضهم في الميزان أنه الإسلام، وأن الميزان تفسير للكتاب، وليس ببعيد، وإن كان التأسيس أولى من التأكيد إلا أن تقوم قرينة.
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ ” فلتكونوا على حركة، ولتكونوا على نشاط، ولتكونوا إيجابيين دائما، لا قاعدين. كونوا قائمين، بل قوّامين بالقسط شهداء لله شهادتكم لا تنظر لغير الله سبحانه وتعالى. وأقصى درجات القسط، وأتم درجات العدل هو أن يأتي الشعور والسلوك غير ناظر إلا لوجه الله سبحانه وتعالى. فحيث ينظر السلوك والشعور لله وحده لن يميل عن الحق قيد شعرة.
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ” (8 المائدة) فالحركة والقيام والجد في البناء والاعمار والتصحيح والتغيير والتطوير مطلب إسلامي، والإنسان جاء الأرض لا لينام، جاء الأرض لا ليتكاسل، لا ليسترخي، جاء للحركة، والحركة إعمارية تصحيحية تغييرية.
وهذه الحركة لا تكون للإعمار بحق، وللتصحيح وللتغيير الإيجابي إلا بأن تكون حركة في اتجاه الله، بأن تكون حركة صاعدة، وليس من حركة صاعدة إلا إذا اتجهت لله سبحانه وتعالى ” كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ ” لا للشيطان.
تقوم من فراشك صباحاً لله، ولا تقوم من فراشك صباحا للشيطان، بنية سوء، وللحركة الإفسادية. تقوم من الفراش صباحا ملؤك الشعور بالحب لله ولمن أطاعه، وملؤك الشعور بالشفقة على الإنسانية، ملؤك البنيّة صالحة، ملؤك الفاعلية الخيرة.
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ ” فليس من جمود ولا همود ولا كسل، إنما هي حركة ونشاط وفاعلية، وهذه الفاعلية وهذا النشاط لابد أن يكونا صاعدين، ولا صعود في حركة ولا نشاط إلا بأن يكون اتجاههما لله ومن أجله، وعلى منهجه.
” شُهَدَاء بِالْقِسْطِ ” شهداء بالعدل، فلا ميل عند الفرد المسلم ولا عند الأمة المسلمة عن العدل، والشهادة بالقسط على الأم والأب وعلى النفس.
حركة على منهج الله والهدف هو رضوانه، حركة تحقق العدل في كل أبعاد الذات الإنسانية، وجوّها الداخلي، وتحقق العدل في كل مساحة الحياة الخارجية، وتحقق الشهادة القويمة العادلة ابتغاء وجه الله، وكل ذلك يمثل تجسيداً للدور الذي كُلّف به الإنسان في الأرض، وهو بهذا يبني نفسه، ويطورها، ويتكامل من خلال حركته الصاعدة لله سبحانه وتعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم، وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3). الإنسان نشطاً، الإنسان متحركاً، الإنسان صانعا زارعا، الإنسان منتجا على غير طريق الله في خسر.
من هو الإنسان الرابح؟ صاحب هذا الدور: دوره الداخلي إيمان بالله سبحانه وتعالى وبملائكته ورسله واليوم الآخر، وهو إيمان بالحق. حركة النفس ونشاطها وحيويتها إنما تكون لون حركة تتسق وطبيعتها، فالذات الإنسانية حركتها الداخلية الذاتية ليست في صورة إنتاج مصانع وزراعة وتكنولوجيا متقدمة. النفس في حركتها الداخلية إنتاجها أن تصل إلى رؤية الحق، أن ترتفع بمستواها إلى حدّ القدرة على التمسّك بالحق، أن تحتضن الحق وتتفاعل معه، وتذوب فيه، وتستجيب له وتعطيه الحاكمية الكاملة على داخلها.
وللإنسان حركة في الخارج تتمثل في البناء وفي الصناعة وفي غيرها إما بهدف سوءٍ أو بهدف خيرٍ، والحركة على يد الإنسان المؤمن دائما هادفة هدف الخير.
” إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ” حيث تتخلق نفس مؤمنة تمتلك رؤية كونية حقيقية صادقة، وحيث تهتدي نفس إلى الله سبحانه وتعالى فتستضيء بهداه، وتتعرف على شيء من أسمائه الحسنى تكون جميلة فلا يصدر منها إلا الجميل بقدر ما آمنت، وبقدر ما عرفت، وبقدر ما كانت على استجابة لله سبحانه وتعالى، فيأتي العمل الصالح، ويأتي التواصي بالحق، ويأتي التواصي بالصبر.
فالعمل الصالح دور إنساني داخلي وخارجي إيجابي خيّر. والتواصي بالحق… التواصي بالتمسك بالطرح الإلهي الصحيح… التواصي بالنظرية الصحيحة، وبالموقف العملي الصحيح، تواص بالدين في داخل النفس، وتواص بالدين في خارج النفس، وتواصٍ، باحتضان كلمة الوحي، وبالتمسك بها على مستوى الفكر والشعور والسلوك، وهو من دور الإنسان في هذه الحياة،والتواصي بالصبر على طريق الله، وتحمُّل تبعات هذا الطريق البناء الصاعد وظيفة من وظائف الإيمان والإنسان على الأرض.
الإنسان المسلم يبني نفسيته في ضوء إيمانه، ويسعى جادا لبناء نفسية الآخرين في ضوء هذا الإيمان. هذا هو دور الإنسان في التصوير القرآني فماذا تريدون من الحضارة الإسلامية أن تتعامل، فأيَّ تعامل من الحضارة الإسلامية مع الإنسان في جانبه الروحي، وفي جانب الطين ترتقبون؟! إنها حضارة الروح وإن كانت أنجح الحضارات في إسعاد البدن كذلك.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن كان له إحسان خاص لنا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
اللهم اجعلنا مصلحين لا مفسدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، وآمنا في الدنيا والدين.
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)}

الخطبة الثانية

الحمد لله مالك النعماء والبأساء، ومقدّر الشدَّة والرخاء، ومنزل القضاء، ودافع البلاء، كشّاف الكروب، مفرّج الخطوب.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله مالك الرقاب، ومسبب الأسباب، كثير المنِّ، عظيم الطول، بالغ القدرة، شديد العقاب.
ألا من رحم نفسه أطاع ربّه، ومن عصاه فقد قسى عليها، فليس أشدّ من عذاب توعّد به العصاة من خلقه، وهو عذاب لا مُنقذ منه إلا طاعته ومغفرته، وليس من ثواب يرتجى عند أحد كما هو الثواب المرتجى من عند الله.
رحمنا الله وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين برحمته، ووفقنا لطاعته، وجنبنا معصيته. اللهم أعذنا وإياهم من سوء أنفسنا ومن شر الشيطان الرجيم.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين، وعلى فاطمة المعصومة بنت رسولك المصطفى، وعلى الحسنين الإمامين الزكيين، وعلى الأئمة الهداة علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، وعلى الحجة القائم المنتظر.
اللهم عجّل فرج وليّك القائم المنتظر، وسهّل مخرجه، وانصره نصرا عزيزا، وأيده تأييداً كبيراً، ومكّن له في الأرض تمكينا كثيراً طويلاً.
عبدك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والعاملين من المؤمنين والمؤمنات، وكل مؤمن ومؤمنة وفقهم لمراضيك، وبلغهم مناهم مما يرضيك.
أما بعد فوقفة مع بعض الموضوعات:
أولاً: نحن والوضع الداخلي:-
– نؤيد التقدم على مسار المفاوضات في الشأن الدستوري بما يحقق توافقاً على ما فيه مصلحة الوطن واستقراره وتقدمه. ونقف مع ذلك بجد.
– علينا أن لا نستحدث ولا نسمح لأن تنشأ أزمة بين الجمعيات غير المشاركة والمشاركة، وأما استقلالُ الجمعيات الأربع في التفاوض فمرجعه ليس التميز الخاص وإنما مقتضى الظروف الموضوعية، وطبيعة موقف عدم المشاركة نفسِه، وما يتطلبه ذلك الموقف من حلحلة لإشكالات المسألة.
– إن رياح الفتن في كثير من البلدان عاصفة، وعلى جميع الأطراف في البحرين أن تنأى بالسفينة عن مسار الرياح العاتية، والأعاصير المجنونة، ولا يحقق هذا الأمر غيرُ الحوار في هذا المجرى، وغير التفاهم والتشاور في المجرى الآخر والبحث الهادئ عن الحلول المبكرة لأي مشكل ناشئ.
وتجنّباً لأي مضاعفات يستوجبها الإعلام الواسع حول أي مسألة، وطرحُها لمداولات الأطراف المختلفة في الشارع ينبغي أن يفتح ملفها في أجواء التفاهم الهادئ بصورة مبكرة توفر على الأطراف كثيراً من الجهد، وتتيح للعقل أن يفكّر بعيداً عن ضغط العاطفة وما تثيره من توترات في الجو النفسي والاجتماعي، وفي ذلك إبقاءٌ للعلاقات الحميدة، والأجواء الندية، وفيه صمّام أمان عن انفلات

الأمور، وسوء الثقة، وتدهور الأوضاع. وهذا كما هو مطلوب في المسائل بين الحكومة والشعب مطلوب كذلك وبصورة مؤكدة بين فئات الشعب نفسه.
والعقلاء هم من استطاعوا أن يسدّوا أبواب الفتن، وذلك أيسر لتجنيب الأوطان المخاطر. أما إذا تُركت الأمور حتى يشتعل فتيل الأزمة فمن الصعب أن يتغلب العقل على الهوى بالسرعة المطلوبة وقبل أن تتعاظم خسائر الأوطان، وهي خسائر للجميع.
والتحلي بروح الإنصاف، والتمسك بقيم العدل والمساواة والكرامة للجميع، والحرية النافعة الكريمة، مع الإسراع إلى الأخذ بخيار التفاهم والتشاور لأول ما يكون خلاف في النظر أو إحساس بالمُشكل من شأنه أن يُخلي الأجواء من فرص التشنجات، ويسد أبواب التوتر، ويضع الجهود كلها متكاتفة متسقة في الطريق الصحيح ومن أجل الأهداف النبيلة.
حقّاً إن الذين يقدّمون الظلم على العدل مخطئون في حقّ أنفسهم والآخرين، وإن الذين يقدّمون العنف على التفاهم مضرون بأنفسهم والآخرين.
وإنه لعقلٌ ودينٌ أن يكون عدل ومساواة، وتفاهم وتشاور.
المساجد بيوت الله:-
في آخر زواج جماعي مبارك كان في هذا الجامع الكريم كانت تهيئة للزواج من قبل اخواننا الشباب الغيارى تتطلّبها أجواء العرس، وما كان فيها شيء من المحرم في ذاته، إلا أن قدسية المسجد، والحفاظ على حرمته اقتضت النصح للأخوة أن يتخلّوا عن المظاهر التي قصدوا إيجادها في هذا المكان.
وكلّي شكر وتقدير لهم على التفهم والاستجابة السريعة التي تنم عن إيمان وتقيد شرعي.
وأنت تدخل بيت عالم فتعرف أن له أدبا خاصاً، وتتقيد بهذا الأدب، وتدخل بيت حاكم فتعرف أن له مراسم خاصة فتتقيد بهذه المراسم، وأي بيت من بيوت المؤمنين له حرمته، ولا يجوز لنا أن نهتك حرمة بيت أي مؤمن، وما من بيت إلا وله حرمة في الدين وفي القانون إلا لأمر استثنائي، والمسجد بيت من بيوت الله، وليس كالله من عظيم.
المسجد في نفسه أشياء من أشياء هذه الأرض. بيوت كثيرة تتقدم على المسجد عمارة وجمالا حسياً، لكن يبقى المسجد أكبر من كل القصور، وأكبر من كل مقدّر من مقدرات الناس لملك أو شهرة أو غير ذلك.
في بيت العالم لا نضحك كثيراً، لا نمدّ رجلنا أمامه، لا نكثر من المزح. أي بيت مؤمن يحس بشرفه لا يسمح لداخليه بأن يحولوه إلى ملعب إلى ملهى إلى مضحك. للمزح وللضحك حدود في بيوت المؤمنين.
وبيوت الله سبحانه وأشرفها البيت الحرام والكعبة المطهرة لها آدابها، ومن المقرر أنه يحرم هتك حرمة المساجد.
المصحف الشريف نقدّره تقديراً دينيا،ً وتقديرنا له يمنع علينا أن نرمي به، يمكن أن ترمي بكتاب في اللغة الإنجليزية أو غيره، لكن هل يمكن أن ترمي بكتاب الله لمسافة ثلاثة أذرع؟! لم تمزقه، لم تحرقه، لم تنجسه، لكن هذا العمل يعدّ في العرف هتكاً لحرمة كتاب الله واستخفافاً بوزنه. فلا يرتكب ذلك الإنسان المؤمن.
وبيوت الله سُمّيت بيوت الله لإضفاء شحنة من التشريف ومن القداسة عليها حينما عُينت لعبادة الله. هي بيوت لعبادة الله، ونُسبت إلى الله سبحانه وتعالى نسبة تشريفية ترفع من شأنها، وكرامة المسجد ترفع من كرامة الأمة. واحترام الأجيال للإسلام ينهدم لو أُهين المسجد، وأُهين المصحف، وأُهينت الرموز الدينية.
حينما تسحق كرامة الرموز الدينية، وتهان الكعبة، ويهان البيت الحرام، ويهان هذا المسجد وذاك المسجد، أو نستخف بهذه المقدَّسات تنهدم حرمة الإسلام أساسا في النفوس. ليس عبثا ولا اعتباطاً أن وضعت تعاليم وقواعد خاصة لدخول بيوت الحكام والملوك، يريدون أن يعطوا هيبة، يريدون أن يعطوا حرمة، يريدون أن يعطوا لهذه المواضع، لِلمُلك نفسه، والسلطان هيبة في النفوس.
علينا أيها الأخوة أن نقبل التأدب بالآداب الإسلامية كاملة في المساجد حفاظا على حرمتها.
وهناك أحكام إلزامية للمساجد، وهناك مكروهات وهناك مستحبات، وكل ذلك يعطي صورة عن موقع المسجد وحرمة المسجد في الإسلام، وعلينا أن نسأل أيتناسب مع ذلك كثير مما نريد أن نمارسه في المسجد أو لا يتناسب؟
من أحكام المسجد: عدم التنجيس – عدم دخول الكافر – حرمة دفن الميت في أرض المسجد – الحرمة الاحتياطية لزخرفة المسجد وهي تزيينه بالذهب – والحرمة الاحتياطية لنقشه بصور ذوات الأرواح.
حرمة هتك المسجد، وقد تهتك حرمة المسجد بما لا ينجّسه. أنت لو جئت بعشرة صناديق مقفلة كلها من فضلات الإنسان ووضعتها في المسجد، فهذه الصناديق لن تنجس المسجد، لكن هل يتناسب مع المسجد وضع هذه الصناديق؟! فيه هتك، هذا لا يتناسب مع حرمة المسجد.
لو حوّلنا المسجد إلى سوق نأتي ببضائعنا فيه، ماذا سيضر المسجد من ناحية مادية؟ لكن هذا يلوث الأجواء المعنوية، وينقله من دار آخرة تخدم الدنيا، وتصحح مسار الدنيا إلى دار دنيا تفسد الآخرة – حرمة مكث الحائض، النفساء، الجنب، خروج الجنب من البيت الحرام من غير تيمم يحرم. هذه أحكام تجدونها في هذه الرسالة العملية أو تلك.
مكروهات:
الاستطراق بلا صلاة ركعتين: أنا أريد أن أعبر المسجد، أتخذ من المسجد طريقا لي، أدخل من باب وأخرج من الباب الآخر، مكروهٌ هذا الاستطراق بلا صلاة ركعتين.
التنخم،(1) والبصاق، والنوم إلا عند الضرورة – الحذف بالحصى، أأخذ حصى من المسجد وأحذف به – السؤال عن الضالة. وهي الحيوان الضائع، وقراءة الشعر إلا إذا كان فيما يرضي الله، كما في الدعاء أو الموعظة مثلاً – رفع الصوت في ما عدا المستثنيات كخطبة الجمعة والوعظ وما إلى ذلك – البيع والشراء وغيرهما من المعاوضات(2)– عمل الصنائع كما في فقير يريد أن ينسج له قطعة قماش في المسجد – التكلم في أمور الدنيا – تمكين الصبيان والمجانين من دخول المسجد – سل السيف فيها، وتعليقه في القبلة وإن لم يكن مسلولاً – الدخول مع رائحة الثوم أو البصل وما تكون له رائحة مؤذية – كشف العورة (3) أو السُّرة(4) أو الفخذ أو الركبة وإن لم يوجد في المسجد ناظر أو أمن من اطلاعه(5).
مستحبات:
الكنس وإخراج القمامة – الإسراج ليلاً وإن لم يكن مصلٍّ وإن لم تكن حاجة إلى الإنارة من باب تعظيم شعائر الله.
السبق إلى دخول المسجد وإطالة المكث فيه، وتقديم الرجل اليمنى عند الدخول، واليسرى عند الخروج، والدعاء الخاص في الموردين.
الدخول على طهارة – استقبال القبلة بعد دخول الداخل ركعة التحية أو صلاة أخرى تقوم مقامها.
احترام المساجد احترام للدين، وتعظيم للشعائر، وفي ذلك تعظيم لأعظم عظيم.
المسجد لا يُعظّم لنفسه، الكعبة لا تعظم لنفسها، إنما تعظم الكعبة والمسجد لرب الكعبة، والمسجد.
والتساهل يجر إلى التساهل حتّى يؤدي إلى هتك الحرمة وإسقاط القيمة المعنوية والمكانة الكريمة. وحاشا لشبابنا المؤمن أن يقبل بذلك فضلا عن أن يسعى إليه. ونحن لا نرضى بهتك حرمة بيوتنا فكيف نرضى بهتك حرمة مساجدنا؟! صبَّرنا الله على أحكامه، وجعلنا من أكثر الملتزمين بها. وغفر الله لي ولكم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وأعذنا من شر أعدائك، ولا تذلنا لأهل معصيتك، وأعزنا بعزك، وزدنا من فضلك، وأكرم مثوانا يا رحيم يا كريم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – وليس وضع النخام في المسجد. أصل التنخم.
2 – والبيع والشراء هنا لا يعني بأن تأتي ببضاعتك، المكروه هو إن أُجري عقد البيع، قولي لك بعتك الكتاب الفلاني، وقولك لي قبلتُ هذا مكروه في المسجد، وليس معنى البيع والشراء هو أن نحضر البضائع في المسجد.
3 – كشف العورة ليس أمام الناس، وحدك.
4 – كشف السرة ليس أمام الناس، وحدك.
5 – صحيح موجود شخص هنا لكن مأمون أنه لا يطّلع مع ذلك هذه الأمور مكروهة.

زر الذهاب إلى الأعلى