خطبة الجمعة (71) 29 جمادى الأول 1423هـ – 9-8-2002م

مواضيع الخطبة:

الخوف والرجاء  –  اليسر والعسر والتكليف الشرعي  –  قول في الانتخابات

لا بد من التنبيه على ضرورة الارتفاع بمستوى الخطاب الرسمي وشبه الرسمي والشعبي اتفق أو اختلف حول أي مسألة من المسائل، فإن عفة الكلمة ونزاهتها ورقيَّ أخلاقيتها، ومعرفةَ أقدارِ النَّاس وأوزانهم ضرورة من ضرورات الخطاب المحترم، ودليل ذوق سليم، ونفسية عالية.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أرسل الرسل مبشرين ومنذرين رحمةً للعالمين، وإنقاذاً لهم من الجهل والهلكة، وأخذاً بهم على طريق الحكمة والفوز والكرامة، من غير أن تنفعه طاعة المطيعين، ولا تضره معصية العاصين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، ما قال إلا حقاً، وما نطق إلا صدقاً، ولا دلّ إلا على هدى، وما حذّر إلا من هلكةٍ وغوى. صلى الله عليه وآله أهل التقوى، وأئمة الهدى.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، ورعاية حرماته، وأن لا يبيع أحدنا آخرته بلحظة من لحظات اللذّة العابرة، ولا يقف موقف حسابٍ طويلٍ عسير بين يدي العدل القدير لشهوة ساقطة. ولا يكن عرض غيرك هيِّناً عليك فيكن عرضك على الكثير ممن سواك أهون، ومن كرم عليه عرضه كرم عليه عرض الآخرين، فإن تجد من أعراض الآخرين عليك هوانا فإن ذلك من هوان عرضك عليك. وليحذر المؤمن الذي يراه النَّاس في الدنيا عفيفاً، أن يحشر في الزناة غداً، اليوم يعرف أنه عفيف وغداً على رأس الخلائق يُعلم بأنه من أهل الفحشاء. ومن تحذّر اليوم أن يعرف بأنه من أهل الفحشاء في عشرة أو عشرين، من قومه وأهله حقّ عليه أن يحذر من معرفته بفحشائه يوم القيامة من الخلائق أجمعين، وفيهم أشرف النّاس من نبيين ومرسلين، وأئمة معصومين.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، ولا تجعل لنا في أهل المنكرات اسماً، واعصمنا من زلَّة القدم، ومن موجبات الندم، ولا تفضحنا يوم يقوم الحساب يا غفّار يا ستَّار يا كريم.
أما بعد فإن السلوك عند الإنسان تقف وراءه دوافعُ فطرية ثابتة، هي من صميم خلقته وثوابت وجوده في أجياله وأممه، والخوف والرجاء من أعمق هذه الدوافع التي قد توظّف في التربية والاجتماع والسياسة توظيفاً سليماً لبناء الإنسان وإصلاحه، أو توظيفاً سيّئاً لهدمه وإفساده، والسيطرة عليه واستغلاله.
والعقائد والأفكار قد تضع هذه الدوافع على الخط الصحيح، وقد تنحرف بوظيفتها. والدوافع تسمو وظيفة وأثراً في ضوء الفكرة النيرة، والعقيدة السليمة، والتصور الدقيق، وهي نفسُها يمكن أن تنطلق بالإنسان انطلاقة بهيمية مدمِّرة، وتنحدر به إنحدارة خطيرة لو كان التصورُ الذي يقف وراءها تصوراً خرافياً، والعقيدةُ عقيدة ساقطة.
وحال يكون التصور صائباً دقيقاً، والفكرة راقيةً تنطلق الدوافع المتقابلة كالخوف والرجاء في حالة من الانسجام والتوافق، لتنتهي بحركة الإنسان إلى الهدف الصحيح، وحال يكون التصور منحرفاً، والفكرة هابطة قد تنطلق بعض الدوافع طائشة بعنف، واندفاعة طاغية، في حين تُشلّ الدوافع المقابلة، لتفقد الحركةُ توازنها واتّساقها المطلوب، والذي لا بدّ منه في الحكمة من وراء هذه الدوافع، وعلى طريق تحقيق الهدف من وجودها وفاعليتها.

والتصور التوحيدي يمتنع أن تجاريَه فكرة أخرى صدقاً ورقيّاً وانعكاساً بالشفافية والسمو على مجموعة الدوافع، وجعلها منظومة متناغمة الأطراف، مولِّدة للحركة الصاعدة بالمستوى الفعلي لإنسانية الإنسان، من خلال المسار التوحيدي لذات الفرد والمجتمع، وهو مسار في صعود دائم لا ينقطع ولا تدرك غايته.

إن التصور التوحيدي يرتفع بقيمة الدوافع البشرية كلها، حتى ما كان لصيقاً بجانب الطين من وجود الإنسان، كدافع الأكل والشرب والجنس من خلال توظيفه لها على طريق الهدف الربَّاني الكبير، والوظيفة البنّاءة الهادفة الصالحة، مما تزخر به واعية الإنسان المؤمن، ومركزُ شعوره، وهما اللذان يَرجِعُ إليهما وضع الدوافع على مسارها الصحيح وربطها بالغاية الكريمة.

ولذلك يعبر الإسلام في تربيته للإنسان أن يملك عليه التصوّرُ التوحيديُّ وعيَه وشعوره، ويتعبَّأ مركز الوعي والشعور فيه بهذا التصور إلى أقصى حدّ، لوضع دوافعه على المسار الصحيح وضبط حركتها، والتنسيق بينها، والبلوغ بها إلى تحقيق أكبر هدف، وأشرف غاية، تعطي للإنسان أعظم معنى وأكبر سعادة، وحتى لا يلقى على طريق غايته البعيدة رهقاً، ولا تعرقله انتكاسات.

والخوف وهو دافع سلوكي عميق في وجود الإنسان تحاول التربية الإسلامية أن تربطه بالتصور التوحيدي، شأنه شأن الدافع الأخرى، وتقطع على التصورات الأخرى إساءة استغلاله، وتحويله إلى عامل إعاقة في حركة الإنسان، وعاملِ استعبادٍ يهبط بمستواه، وأداةِ تخريب في ذاته.

يقول سبحانه {إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} 175 – آل عمران.
ويقول عزّ من قائل: { الذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله} 36 – الأحزاب.

ويقول وهو أحسن القائلين: {… يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} 54 – المائدة.
ومن الحديث الشريف في هذا المجال ما عن رسول الله (ص):
(طوبى لمن شغله خوف الله عن خوف النّاس) ميزان الحكمة 3 – ص189.
وما عن أمير المؤمنين عليه السلام:
(لا تخافوا في الله لومة لائم يكفكم من أرادكم وبغى عليكم) المصدر.
وما عن الصادق عليه السلام:
(المؤمن لا يخاف غير الله ولا يقول عليه إلا الحقّ).
الآية الكريم الأولى ونكتفي بالوقفة القصيرة عندها دون بقية النصوص:
وقفة مع النّص الأول.
{الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم زادهم إيمانا وقالو حسبنا الله ونعم الوكيل}

في هذا السياق وبتوسط الآية الأخرى جاءت الآية الكريمة: {إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه}.
الشيطان يخوّف أولياءه ويخوّف من أوليائه، يخوف أولياءه فيتّبعونه، ويقفون الموقف المغضب لله والذي فيه رضى وليّهم الشيطان. كما يخوّف الشيطان المؤمنين من أوليائه، يخوّف المؤمنين من أمريكا وروسيا والصين واليابان وغيرها من دول الكفر والضلال، ليعبدوا هذه الدول من دون الله سبحانه وتعالى، وليكفّوا عن حركتهم الإسلامية وجهادهم الإسلامي، وليتوارو عن الساحة خوفاً على النفس والمال والمركز. هذا هو الشيطان وجنده، وهم مصدر تخويفٍ دائم، والشيطان إذا كانت له وسوسة في النفس وألسنة كثيرة في الناس فاليوم ألسنته أكثر وإعلامه أكبر، حتى ليملأ هذا الإعلام وقت الإنسان، ويستغرق عليه ليله ونهاره، فلا تخافوه. أليسوا بأقوياء؟! أليس لهم الجند والسلاح؟! ألا يملكون على الناس أعمالهم؟! لا، إن كل ذلك تحت قبضة الله، ولن يصيبك أدنى ضررٍ من دون إذن الله. إذا كنت موحداً فأنت تعتقد ألا فعل في أرضٍ ولا سماء إلا بإذن الله، وأن لا خير ولا شر يمكن أن يحدث إلا بقضاءٍ (بمشيئةٍ) من الله. فالخوف إذن لابد أن يكون ليس من الشيطان وجنده وإنما من الله وحده. {فلا تخافوهم وخافون} الخوف لابد منه، والإنسان الذي لا يخاف مجنون، والذي يخاف من القويّ النسبي ولا خوف له من القوي المطلق مجنونٌ كذلك. فالخوف إنما يجب أن يكون من القوي المطلق، من القوي الحاكم وليس من القوي المحكوم. {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} آه، وا أسفاه، أجد نفسي أخاف، أخاف من غير الله، فإذن لا إيمان لي. وإن كان إيمانٌ فهو إيمانٌ هابط. وا أسفاه.
الخوف أما خوف من الله وممن يقع خوفه على طريقه، وأما خوف من غير الله مما يضاد خوفه الخوف من الله. الأول خوفٌ من مخالفة علم لا يخطئ، وحكمة لا تضل، وعدل لا ظلم معه، وخير لا شر يجوز معه، مع قدرة لا تتخلف، وعقوبة على قبيح لا تحتمل. إنه الخوف من خسران العلاقة بالكامل، إنه خوفٌ من الهبوط، إنه خوفٌ من خسارة معنى الذات. والثاني الخوف من غير الله ممن يضاد الخوف منهم الخوف من الله عكس ذلك. خوفٌ من الظلم، وليس خوفاً من العدل، والخوف من العدل يبني، والخوف من الظلم يهدم، الخوف من الجهل يجهّل، والخوف من العلم يأخذ بك على طريق العلم، فالخوف من الله للبناء، والخوف من غيره مما لا يلتقي مع الخوف منه للهدم، والانتكاس. هناك خوفٌ من رسول الله (ص) هو خوفٌ يلتقي مع الخوف من الله، فلابد أن نخاف من غضب رسول الله صلى الله عليه وآله، لأن غضب رسول الله غضب الله، لابد أن نخاف من غضب فاطمة عليها السلام، لأن غضب فاطمة عليها السلام من غضب الله. لابد أن نخاف من غضب الإمام القائم عجل الله فرجه وسهل الله مخرجه، لأن غضبه غضبٌ من غضب الله.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد واهدنا بهداهم، وجنبنا ما جنبتهم من سوء، واجعل خوفنا منك، ورجاءنا فيك، وشوقنا إليك واغفر لنا ولوالدينا ومن يعنينا أمره، ومن كان له حقّ خاص علينا من عبادك المسلمين والمسلمات ولجميع أهل الإيمان والإسلام إنك غفور رحيم توّاب كريم.

بسم الله الرحمن الرحيم
(قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد).

الخطبة الثانية

الحمد لله العدل الحكيم، العليّ العظيم، بارئ الخلائق أجمعين، ديّان يوم الدين، ربّ العالمين. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة صدق وحق ويقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صدع بالحقّ المبين، وبلّغ الدين القويم صلى الله عليه وآله الطاهرين.

عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله وأن لا نستبيح من مسلمٍ دماً ولا مالاً ولا عرضاً ولا مالاً مما حرَّم الله، ولا تتعدى حدّاً من حدوده، ولا نظلم أحداً من عبيده.

اللهم اجعلنا ممن أوجه من توجّه إليك، وأوصل من قصد إليك، وأهدى من استهداك، وأرشدِ من استرشدك. اللهم صلّ على نبيك المرسل، وحبيبك المطهّر، خاتم النبيين والمرسلين محمد الهادي الأمين وآله الطاهرين. اللهم صلّ وسلّم على وليّ المسلمين، وإمام المتقين علي أمير المؤمنين. اللهم صلّ وسلّم على أمتك المهديَّة الصابرة الرضيَّة فاطمة الزكيَّة. اللهم صلّ وسلّم على النورين الهاديين، والوليين الطاهرين، إمامي الرحمة الحسن والحسين. اللهم صلّ وسلّم على الهداة الميامين، والأئمة الراشدين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، الهادين المهديين. اللهم صلّ وسلّم على الخلف القائم، والحجة على العالم، مصلح البشر، محمد بن الحسن المنتظر. اللهم عجل فرجه، وسهّل مخرجه، وانصره نصراً مبيناً، وافتح له فتحاً يسيراً، واجعلنا ظهيراً له ونصيراً بمنك وفضلك يا كريم.

اللهم عبدك الموالي له، السائر على منهجه، الممهد لدولته، الراضي بإمامته أيده وسدده وادفع عنه، وانصره، وارفع شأنه، والفقهاء الصالحين، والعلماء العاملين، والمجاهدين عن كرامة الإسلام والمسلمين ادرأ عنهم، وكد لهم وأظهرهم على مناوئيهم يا قوي يا عزيز.

أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات..
فإن الإسلام فيما يصفه به القرآن الكريم دين يسر لا عسر، وسعة لا حرج. يقول سبحانه في كتابه المجيد: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}. 185 – البقرة. ويقول عز وجل: {ما جعل عليكم في الدين من حرج} 87- الحج، ويقول سبحانه وتعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} 286 – البقرة، ويقول تبارك وتعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا ما أتاها} 7- الطلاق.

فالحياة في الإسلام ليست حياة عبث أو ترسل وانفلات، ولا حياة ضيق وانْفِلاق واختناق. إنها حياة تكليف ومسؤولية وانضباط، لا ثقيلة حرجة، ولا مهملة متسيّبة. التكاليف في الإسلام لا تتجاوز الطاقة ولا تستنفدها كذلك عادة، وتجد ذلك في الصوم والصلاة والحج والزكاة والخمس والكثير من غيرها، فهذه التكاليف كلها في مقدورك أن تتحملها مضاعفة، إلا أنها جاءت على صورتها التي تتجاوزها طاقتك، ولا أراك تجد تكليفاً من تكاليف الشريعة بثقل حرمة الفرار من الزحف، وهو حكم تقتضيه الضرورة، وينطوي على اليسر بلحاظ نوع التربية الإسلامية العالية، التي تخفف من درجة المعاناة، والمثوبةِ الفائقة التي تغري بطلب الشهادة، وبالقياس إلى النتائج الموضوعية الضخمة المترتبة على الثبات من انتصار الفضائل والقيم، الذي يوفّر جوَّاً اجتماعياً مريحاً تهنأ من خلاله حياة المجتمع كلّه.

ويسأل عدد كبير من المسلمين صريحاً أو في أنفسهم، كيف نوفق بين هذا المفاد القرآني، الذي يدل على أن الإسلام لا عسر فيه ولا حرج، وبين ما نعيشه وجداناً بالفعل من الضيق والحرج ونحن نحاول الالتزام بتكاليفنا الشرعية؟! نواجه حرجاً في كل الميادين، في ميدان العلم، العمل، التجارة، في الحضر والسفر، في تربية الولد، في حياة الانضباط الخلقي في الأسرة، في كل الطرق في كل المفترقات. وبينما ينطلق الآخرون في كل المجالات ليتقدموا في مختلف العلوم الماديَّة، وليغنوا، ويصلوا إلى المراكز السياسية العليا، ويتمتعوا بلذائذ الحياة كما يشتهون نجد نحن الفرص شحيحة بالقياس إليهم، وكثيرا من الطرق مسدودة، بسبب مراعاة مسائل الحلال والحرام، وما يجوز وما لا يجوز.

وقبل الإجابة على هذا التساؤل أنبّه على أن القرآن الكريم لا يعنى باليسر حياة الابتسار، والشهوات البهيمية، والانطلاق وراء اللذة بلا حساب على طريقة ما جاء في قوله تبارك وتعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنّار مثوى لهم} 12/محمد (ص). حياة اليسر، ودين اليسر لا يعني يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوىُ لهم. دورة الحياة، دورة الصناعة للإنسان، دورة الحياة دورة البناء الجاد للإنسان، والصناعة والنباء فيهما كلفة، ومن لم يتحمل كلفة أن يبني نفسه، فسيخسر حتماً نفسه.
إذ أنّ هذه الحياة حياة البهائم –الحياة التي وصفتها الآية الكريمة -، وهي حياة منفلتة متسيّبة لا ترجع إلى القيم، ولا تحمل قيمة عالية في نفسها، وإن كان أهلها يتوفرون على الشهادات العلمية المتقدمة، ويملكون ما يملكون من أسباب المتعة والراحة والرفاه. فإنهم بهذا وحيث لا حلال ولا حرام ولا خلق ولا قيم حيوانات مترفة لا أكثر.
والدين لم يأت ليتحوّل بالإنسان من إنسانيته إلى الحيوانية الغليضة والبهيمية المتسيبة.
القرآن يصف حياة المؤمنين المحكومة للإسلام وهي حياة قيم رفيعة، وأخلاق عالية، وحياة مسؤولية والتزام، وضمير ورقابة داخلية، وعفة ونزاهة. هذه هي الحياة التي يصفها بانها حياة يسر، فهذه الحياة المسؤولة – هنا الكلام، هنا العظمة – فهذه الحياة المسؤولة الراقية يصوغها الإسلام بلا عسر ولا حرج فيها، ولا شعور بالضيق والاختناق، يصوغها الإسلام صياغة تأتي بها لا عسر ولا حرج فيها، ولا شعور بالضيق والاختناق، ولا كبت للدوافع، ولا إحساس برهق من التكاليف. يصعد بك إلى أسمى ما تستطيع أن تصعد، من غير رهق، ومن غير أن يتعبك على الطريق التعب الذي يستوفي منك طاقتك، أو يجعلك في الموقف الحرج.
والإسلام قادر بكل كفاءة على الجمع بين كون الحياة في المجتمع المسلم حياة مسؤولية والتزام، ونهوض بالتكاليف العالية التي ترقى بإنسانية الإنسان وتزيد من كفاءته، وبين خلوِّ هذه الحياة من حالة العسر والحرج والاختناق، على أن تكون صياغة الحياة الاجتماعية على يده وبقيادته وإشرافه، وقد كان مجتمع المدينة قد شهد هذا الواقع الرائع في ظلّ التجربة الريادية للحياة الإسلامية التي قادها الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله، فكانت حياة المسلمين في ظلّ تلك التجربة أروع حياة وأرحب حياة بلا عسر ولا حرج، مع دور إيجابي خلاق غيَّر وجه الحياة، وأسس في زمن قصير لأكبر حضارة على وجه الأرض.

واليسر الذي يتوفر عليه الإسلام مردُّه إلى أمور منها:

1. أن التكاليف كما تقدم لا تبلغ حد الطاقة عند الإنسان فضلاً عن تجاوزها.
2. حساب الضرورات والظروف الثانوية في الأحكام الشرعية.
3. تلاقي الإسلام أصولاً وفروعاً مع مرتكزات الفطرة البشرية، وعدم التفكير لأيّ من حاجات النّفس في حدّها المعتدل.
4. التنسيق الكامل بين جميع أبعاد الذات الإنسانية ومقتضياتها في التصور والتشريع.
5. التربية الناجحة في رفع مستوى الكفاءة والتحمل عند الإنسان المسلم والتي يتوفر عليها الإسلام.
6. الأساس العقيدي المتين الذي يهيء لأكبر درجات المقاومة والتحمل.
7. نجاح النظام الإسلامي في تحقيق العدل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي وعلى كل المستويات.
8. تهذيب الدوافع البدنية وعدم استثارتها الاستثارة التي ترهق الإنسان وتحطم أعصابه.
فالعسر الذي يواجهه المسلم اليوم في الكثير الكثير من دروب الحياة لا يتحمل مسؤوليته الإسلام، لأنه نتيجة لفرض الأوضاع المادية الجاهلية نفسها على الإسلام، وصياغة الأجواء في المجتمع الإسلامي صياغة معادية للإسلام وأخلاقه وأحكامه وقيمه.
والإسلام في هذه الحالة الطارئة، الإسلام مرة يحكم بنفسه الساحة ويتحمل مسؤوليتها وهناك لن تجد عسراً ولا حرجاً ولن تجد انحدارةً خلقية ولا خسارة من الإنسان لإنسانيته.
والحالة الأخرى هي أن يحكم غير الإسلام الساحة الإسلامية، فيملاها بالأخطاء والتجاوزات، وبخلل النظام، فما الموقف الإسلامي هنا؟! والإسلام في هذه الحالة – الحالة الثانية – في هذه الحالة الطارئة يخفف من عسر الإنسان المسلم وحرجه بأحكام نقي الضرر والعسر والحرج ولكن ليس للحد الذي يقضى على الإسلام نفسه.
فحين ترتبط فرص العلم المادي الأكثر تقدّماً، أو فرص الربح المالي الأوفر حظّاً يبيع الدين والتنازل عن الهوية لا يأذن الإسلام بطلب هذه الفرص تقديماً للأهم على المهم، أمريكا تعرض علينا سلاحاً متقدماً على أن نكون ذيلاً في إرادتنا لإرادتها، وأمريكا إرادتها إرادة كفر. فهل نملك السلاح المتقدم بديننا وشرفنا وكرامتنا وعزتنا وهويتنا؟! أم نبكي على الذي هو خير، ونرفض السلاح بإباءٍ وكبرياء دون أن نستعبد. ماذا تريدون من الإسلام أن يفعل؟! وماذا تريدون من الإسلام حين يتردد أمر شهادتك العليا بين أن تخنع للإرادة الأمريكية او الروسية، وتقبل أن تعيش كل الأجواء التي تفرض عليك، بسقوطها الأخلاق هناك، بأن تعطي دينك ثمناً لهذه الشهادة، هل من المعقول أن يقول لك الإسلام لك مفتوحٌ والإشارة خضراء؟! لتخسر إسلامك وإنسانيتك. الحديث هنا يحتاج إلى كلامٍ كثير وكثير من نقاط يحتاج إلى تفصيلٍ وأمثلة، ليس الوقت وقتها.
ولا يعقل لمبدأ أن يخطط للقضاء على نفسه، وما يخسره المسلم الفرد أو المجتمع في هذه الحالة لا يساوي قيمة ما يحتفظ به من إسلامه وسلامة إنسانية. الإسلام في الظروف الصعبة التي تفرض عليه من خارجه والتي أما أن يخسر المسلمون فيها إسلامهم أو يتحملوا درجة من الصعوبة الطارئة الصعوبات في حياة الإنسان المسلم حيث يلتزم بإسلامه صعوباتٌ طارئة، حيث تحكم الساحة الإسلامية اطروحةٌ أخرى يحمِّل أتباعه مسؤولية تحمل شيء من الثقل مع مضاعفة الأجر.
والموضوع في تفصيله والتوسع في الأمثلة الموضحة يحتاج إلى مزيد بيان.

من جهة أخرى أودّ أن أقول عن الانتخابات القادمة وبعيداً عن تقرير رأي المشاركة والمقاطعة أنه سواء كنت مع تلك الانتخابات، أو كنت لست معها وضدها فلا يصح لك أن تنال من مؤمن يخالفك الرأي وهو ينطلق من منطلقك في رعاية مصلحة الإسلام والوطن. ولا داعي أن يكون ذلك أيضاً سبباً من أسباب التوتر بين هذا الاتجاه وذاك في الدائرة الوطنية الشاملة.
والمطالبة بالحقوق والتطور إلى الأفضل وتصحيح الواقع حق ثابت للمواطنين عقلاً وشرعاً وميثاقاً وعقلائياً.
وينبغي ممارسته بالطرق السلمية المناسبة وبأرقى الأساليب المتاحة، وأن تُفتح القنوات الرسمية لهذه الممارسة فضلاً عن القنوات الشعبية اللائقة، ولا يصح للحكومة أن تغلق الباب أمام هذا الحق، ولا أن يتخذ أحد من هذه الممارسة في حدّها المشروع وهو حد واسع سبباً للتشنّجات والتوترات الضارة بوحدة الوطن ومصالحه المشتركة.

ولا بد من التنبيه على ضرورة الارتفاع بمستوى الخطاب الرسمي وشبه الرسمي والشعبي اتفق أو اختلف حول أي مسألة من المسائل، فإن عفة الكلمة ونزاهتها ورقيَّ أخلاقيتها، ومعرفةَ أقدارِ النَّاس وأوزانهم ضرورة من ضرورات الخطاب المحترم، ودليل ذوق سليم، ونفسية عالية. والتأسيس لخطاب سافل فوضوي منفلت ينحدر بمستوى الأمة بكاملها، ويُشيع فيها خلق الخسَّة والدناءة.
والكلمة الفاحشةُ، والهابطةُ التي لا تقيم وزناً لعلم ولا إيمان ولا كرامة؛ هي كلمة ساقطة ولا يرتقب أن تصدر من لسان وراءه عقل ذكي، وقلب زكي.
وإني لأخشى على الخطاب كله في غمضة الحماس السياسي أن ينحدر كثيراً، وينسى القيم، ويبخس النَّاس أقدارهم، وهو ظلم كبير، وسقوط مريع.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد وصبرنا على طاعتك، وعن معصيتك، وإن خشن الظرف، واشتد العسر، وثقلت الكلفة وفرج لنا فرجاً عاجلاً يا كريم. اللهم واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا ولكلّ ذي حقّ خاص علينا من المؤمنين والمؤمنات أجمعين ولجميع أهل الإيمان والإسلام يا أرحم الراحمين، وخير الغافرين

(إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)

زر الذهاب إلى الأعلى