وقفة قرآنية : آية الله قاسم – ٤ شهر رمضان ١٤٤١هـ
الوقفة القرآنية الاولى في شهر رمضان ١٤٤١هـ / 28 أبريل 2020م لسماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم والتي تُبث ليالي الاحد والاثنين والاربعاء والخميس طيلة الشهر الكريم .
فيديو الوقفة:
صوت الوقفة :
نص الوقفة :
السلام عليكم أمّة الإسلام والقرآن..
تَقدَّم الحديث في الآية الكريمة من الآيات الثلاث السابقة، وهي آية (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، أو هذا الجزء من الآية الكريمة، وبقيَ من الحديث في قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) هذه النقطة.
سَبَق أنّ هذا الرجوع هو رجوعٌ لحساب الله عزَّ وجلّ لعباده، ويُسأل ما هو نوع حساب الله عزَّ وجلّ للعباد؟
أنا إذا حاسبتُك أو أنتَ إذا حاسبتني تسألني عمَّا أعطيتني، وعمَّا إذا وفَّيتُ بأجر ما أعطيتني أو ما قدَّمت لي وإلى أي حدٍّ حدث هذا منكَ أو منِّي. تقول لي أعطيتُك فماذا أعطيتني؟ ومَننتُ عليك بماذا جازيتني؟ تعرفُ منِّي وأعرف منكَ أنّ عطاءنا فيما بيننا على نحو الاستئجار أو على نحو البيع والشراء إنّما يكون بثمن، لأنِّي أنا مُحتاج ولا أستطيع [أن] أبذل كلَّ البذل من غير أجر، وأنت كذلك مُحتاج، وإنْ استغنى أحدنا في جانب فهو غير مُستغنٍ في جانب آخر، والمعاملة بين الناس فيما بعضهم البعض أساساً قائمة على تبادل المنافع، هذا الحساب ليس هو حساب الله عزَّ وجلّ لعباده، حساب الله لعباده يقوم على هذا المعنى، أعطيتكَ نِعَماً لتُحسِن بها لنفسك، لتُعِدَّ بها نفسك الإعداد الذي يبلُغ بها غاية الحياة التي خُلِقت من أجلها، أنا خلقتُك لِما هو أكبر من هذه الحياة ولِما هو أرغد من هذه الحياة ولِما هو أسعد من هذه الحياة وأخلَد، وهذا يحتاج مِنك إلى استعداد للحياة الآخرة بما فيها من نَعيم قد هيَّئتُك له بما أعطيتُك من مواهب في عقلكَ ونفسك، أين وضعتَ هذه النِعَم؟ ما خلقتُك لتُفسِدَ وتفسَد، وما خلقتُك وقد أحسنتُ خلقَك لتَتَردَّى ولترجع من بعد حُسن خلقك إلى أسفل السافلين. حساب الله لنا هو بهذا المعنى، خلقتُك للكمال ولم أخلقكَ للنقص، فإنْ سِرت على طريق الكمال الذي رسمتُه لك فلَكَ الجنَّة، وإنْ أخسرتَ نفسكَ وتسافلت وانفصلت عن إنسانيتك وتردَّيت وصرت الحيوان البهيم فمكانُك ليس الجنَّة، فإذا كُنتَ من الأنعام أو أضلُّ من الأنعام سبيلاً فمكانُك غير الجنَّة. هذا هو حساب الله عزَّ وجلّ. أحسنتَ لنفسكَ أم أسأت، فإنْ كنتَ قد أحسنتَ لنفسك فأنت أمام نِعَمٍ لم تشهدها من قبل وإكرامٍ فوق كلِّ إكرام، وإنْ أسأتَ لنفسك فلتخلُد في جهنَّم.
والآن في هذا الحساب لتقف أمام سجِّل حياتكَ بالدِّقة، سجِّلٌ محفوظٌ لكَ فيه كلّ حسنة ومكتوبٌ عنه فيك كلّ سيئة اقترفتها.
نأتي للآية الكريمة بعد هذه، وهي الآية الأخيرة من الآيات الثلاث: (أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
الآية حمَلَت اسم الإشارة مرَّتين، اسم الإشارة (أُولَٰئِكَ) وهو اسم إشارةٍ للبعيد، حمَلت الآية الكريمة هذا الإسم مرَّتين، وكان يُمكن أن تقول “أولائك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمة وهم مهتدون”، أو “أولائك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمة ولهم الهداية”.
إسمُ الإشارة كما سَبَق يُستعمل للبعيد، موضوعٌ أصلاً للبعيد ويستعمل للبعيد، هذا البُعد أين؟
البُعد قد يكون ماديّاً، وقد يكون بُعداً معنويّاً، هذا البُعد هنا بُعدٌ معنوي، والبُعد المعنوي قسمان: بُعدُ طرد وإقصاء، وبُعد إكرام ورِفعة مَنزلة.
(أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ)
“أولائك” هنا إشارة إلى المقام الرفيع، إلى المنزلة العالية، إلى المستوى الشامخ الذي تتمنَّى النفوس يوم ذلك أن تصل إليه وتتشوَّق ليتحقّق في حقِّها، منزلة كبيرة عالية محطُّ النظر وبلايين الناس لا يجدون لها قُرباً.
(أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ)
موقفهم الذي وقفوه من الصبر على المصيبة وتدَّرُعهم بـ(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، تحصُّنهم، اتخاذهم (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) شعاراً عن صِدقٍ وإيمانٍ وعزمٍ على الاستقامة على طريق هذا الشعار والقيام بتكاليف هذا الشعار جَعَل منزلتهم أن يُشير لهم الله عزَّ وجلّ بـ(أُولَٰئِكَ) ليوم تتَّبيَّن التفاوت بين المنازل ويوم يعلو مقام ويهبط مقام العلوّ الحقيقي والهبوط الحقيقي.
(أُولَٰئِكَ)، وإنْ أرادَ أحدُنا من ” أُولَٰئِكَ” وأنْ يُشار إليه من ” أُولَٰئِكَ” من العظيم تبارك وتعالى، ممَّن لا تأتي منه الكلمة عن شيءٍ من محاباة كاذبة، أو من تزَيُّد أو تأتي من ورائها شيءٌ وشَوْبٌ من جهل، كلمة أتَت من العليم الخبير العَدل الحكيم وهو محسنٌ تبارك وتعالى.
فـ(أُولَٰئِكَ) وسام مِنْ الله لمن صبروا على المصاب وقالوا (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) صادقين، يضعهم في المنزلة الرفيعة ويكفيهم شرفاً فوق كلِّ شرف، هذه (أُولَٰئِكَ).
ما جزاء (أُولَٰئِكَ)؟
رفَعتَ ربّي درجتَهم، وبلغتَ بهم المَبلغ الذي تطمح به الرقاب من حيث وصفكَ لمنزلتهم، (أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)، تلك المنزلة التي صاروا إليها جزاؤها أنْ عليهم صلواتٌ من ربِّهم ورحمة.
(عَلَيْهِمْ) أي تُجَّلِّلهُم وتُظلُّهم وتحميهم وتكفيهم وتدفع عنهم وتُشَّرِّفهم ولا تترك لأي شقاءٍ يصل إليهم، ولا يُنقصهم مع هذه الصلوات شيءٌ من السعادة، هذه الصلوات عليهم وليست يُجزَون الصلوات من الله، هذه الصلوات جزاءٌ من الله في صورة أنْ تكون عليهم مُظلِّلة حامية كافية دافعة مانعة، إلى آخره.
(أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)
ما الصلاة؟
الصلاة عند أكثر أهل اللغة هي الدُعاء، فنحن نُصلِّي لله بمعنى ندعوه تبارك وتعالى بقلوبنا وبألسنتنا وبكلّ جارحةٍ من جوارحنا، نستمطر منه الرحمة والرأفة وتصحيح الذات وقضاء الحاجات ودفع البلايا وأنْ يُكمل لنا إنسانيَّتنا وأنْ يُقرِّبنا إليه تبارك وتعالى، وهو دعاءٌ مِنْ الفقير إلى الغنيّ، مِنْ الضعيف إلى القويّ، مِنْ الهالك إلى الباقي، إلى آخره.
لكن ما معنى صلاة الله على العبد؟ ما معنى أنّ الرسول “صلى الله عليه وآله” يُصلِّي عليه الله عزَّ وجلّ؟ وأنّ (أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ)؟
ما ندعو به مِنْ خير، ما يفوق ما ندعو به مِنْ الخير لأنفسنا ولمَن نُحبّ بما لا نتصوَّره، وما هو فوقه بدرجاتٍ ودرجات، في فعل الله عزَّ وجلّ له بالعبد هذه صلوات الله عليه، أنْ يُصلّي عليكَ الله بمعنى أنّه يرحمُك، يُسعدُك، يُخرجك من الشقاء، من الضعف إلى القوّة، من الحاجة إلى الغنى، من الذّل إلى العزّ، إلى آخره.
(أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)
صلوات، بركات، رَحَمَات، تأتي من جهةٍ إلى أخرى، لكن مهما كانت رحمتُكَ بالبعيد، وبمن لم تتكَّفل برعايته، تختلف عن رحمةٍ وعن نفعٍ وعن دفعٍ وعن حمايةٍ لمن تعهَّدت بكفالته، وتفرَّدت بكفالته، وكنتَ الأول والأخير في تدبير أمره.
والصلوات في الآية الكريمة موصوفة بأنَّها من ربِّهم، فهي صلواتٌ من نوع تلك الصلوات والرَحَمَات والفيوضات والبركات والحماية والدَرْء الذي يتكفَّل به أرحمُ رحيم، وأكرمُ كريم، وبمَن؟ بمَن تكفَّل برعايته وتدبيره وتوَّلى كلّ شأنه، هنا الرعاية تكبُر، الحماية تشتدّ، الإكرام يزيد.
عندما تقول الآية الكريمة (أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ) تُعطي لهذه الصلوات درجةً كبيرةً جدَّاً وتفتح باب الشهيّة لها، وتُعطي للنفس الظمأى للغنى، للكرامة، للخلود، للعزّة، للمجد، تُعطي لهذه النفس كلَّ الطمأنينة وكلَّ الأمل وكلَّ البُشرى.
(أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)
أضافت الآية الكريمة إلى الصلوات (وَرَحْمَةٌ)، والصلوات يفسّرونها بالرحمة، فكيف عُطفت الرحمة على الرحمات، فكأنّه مِنْ عطف الخاصّ على العام، لبيان ميزةٍ فيه.
فوق الصلوات التي قد ينالها المحسنون من خلق الله عزَّ وجلّ، المؤمنون، العابدون، تأتي فوق هذا المستوى وهذا النوع الكريم الجليل من الصلوات ومن الرَحَمَات رحمة خاصّة، لمَن؟ لأولائك الذين صبروا وقالوا أمام المصيبة (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، فكما قالت عنهم (أُولَٰئِكَ) فميَّزتهم، تأتي لتُميِّزهم من حيث الصلوات الفيَّاضة مِنْ الله عزَّ وجلّ عليهم بصلاةٍ ورحمةٍ فوق كلّ تلك الصلوات.
(وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)
(أُولَٰئِكَ) هذه الثانية لمَن؟ إشارة لمَن؟ قد تكون إشارة للمُشار إليه الأوَّل، وهم (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) هم نفسهم. المقصود بـ(أُولَٰئِكَ) في الموقعَيْن واحد، وهم الذين صبروا على المُصاب وقالوا (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
فهنا على هذا التفسير، إذا كانت (أُولَٰئِكَ) تساوي (أُولَٰئِكَ) هناك في المُشار إليه، يأتي كلامه عزَّ وجلّ (هُمُ الْمُهْتَدُونَ) ليصفهم بهداية الطريق، يعني مَنْ صَبَرَ على المُصاب وعاشَ قلبُه واقع (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، وطَفَح ذلك على لسانه، هؤلاء قد أصابوا الطريق، هؤلاء قد سَلَكوا المَسلَك المُهتدي.
هناك هداية طريق أنْ أعرف الطريق مع سلوكه، لا قيمة لمعرفة الطريق مع عدم سلوكه، هذه هداية ناقصة جدَّاً، وهداية حُجَّة على الإنسان إذا ضيَّع الطريق.
هذه الهداية إذا كان المُشار إليه في (أُولَٰئِكَ) التي جاءت في أوَّل الآية، و(أُولَٰئِكَ) التي جاءت في نهاية الآية، إذا كان المُشار إليه واحداً يكون الجزاء (هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، يعني يقول لهم أنتم قد أصبتُم، أنتم قد اهتديتُم الطريق، ومن اهتدى الطريق وصَلَ إلى الغاية التي هي أنْ تكون عليهم صلوات الله ورحمةٌ منه.
أمَّا إذا كان (أُولَٰئِكَ) الثانية المُشار إليه بها، هي غير المُشار بها إلى الأوَّل، فيكون (هُمُ الْمُهْتَدُونَ) لها معنى آخر، ولا تكون الهداية المعنيَّة فيها هي هداية الطريق، إنما هداية الغاية، أنَّهم اهتدوا الغاية، والاهتداء للغاية هو تحقُّق الوصول إليها، هو إدراكُها، هو نيْلها.
ماهو المُشار إليه الثاني؟ يكون المُشار إليه على هذا التقدير، هم المُواجِهون للبلوى، للمُصاب، والذين يواجهون المُصاب الذي لاقاهُم بقولهم (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) القول الصادق الحقّ النابع من داخل النفس، وليس هذا فقط يكون المُشَار إليه، وإنما مع إضافة (عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)، يعني (أُولَٰئِكَ) أي مَنْ صبروا على البلاء والمُصاب وقالوا (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) فتحقَّقت لهم غاية الصلوات من الربّ تبارك وتعالى، والرحمة، ونالوا هذا المقام الكريم والجزاء العظيم مَن جمَعَ بين الصبر وبين تحقّق نتيجة الصبر بأنْ دَخَلَ في الذين (عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)، أولائك يكونون هم المُهتَدون للغاية، أي المُتَحقِّقة لهم الغاية، الغاية مِنْ ماذا؟ غاية الحياة، غاية كسْب الستين سنة، أو العشرين سنة، أو الثلاثين سنة، أو مئتين سنة، غاية ما بنَوا وما هَدَموا، وما فعلوا وما تركوا، الغاية من الحياة السائرة على طريق الله ومنهج الله عزَّ وجلّ هو أن ينتهي العبد إلى أن يدخل في الذين (عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ).
والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.