كلمة سماحة آية الله قاسم بمناسبة استقبال شهر رمضان المبارك 1441هـ
كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم التي ألقاها على الحفل الخاص بالجالية البحرانية في “لندن” بمناسبة استقبال شهر رمضان المبارك 1441هـ – 24 أبريل 2020م:
صوت الكلمة :
للمشاهدة :
نصّ الكلمة :
السلام على الأخوة والأخوَات مِن المُخاطبين الأعزَّاء المؤمنين..
السلام على أمّة الإسلام..
وبارك الله للجميع لقدوم شهر رمضان المبارك بالخيرات، شهر التقوى، شهر الصيام، شهر التوّجه لله عزَّ وجلّ، شهر المدرسة الإسلامية الكبرى المُرَبِيَّة على طريق الله تبارك وتعالى.
العبادة.. خضوعاً لِمَن؟ وعطاءً لِمَن؟
نعرف أنّ للإسلام منظومته العبادية الرائعة، هدف هذه المنظومة هو تخريج الإنسان ذي الشخصية الربانيّة، إنسانٍ يخلص لله عزَّ وجلّ ليتسنّى له ومن خلال الإرتباط بالمنهج الإلهي أنْ يقتبس نوراً من نور الله عزَّ وجلّ تشعُّ به شخصيّتُه، وليكون خليفةً لله في الأرض بِحَقّ، هذه المنظومة العبادية في مجموعها ذات هدفٍ مشترك تعمل كلّ أجزاء هذه المنظومة إلى الإيصال إليه، وهو تخريج الإنسانية وتخريج الشخصية الإنسانية الربانيّة الراقية ذات الدور الإيجابي البنَّاء، ذات الدور الذي يستهدف إعمار النفس وإعمار الآخرين وإعمار الأوطان.
ولكلِّ ما يدخل في هذه المنظومة العبادية من هذه العبادة أو تلك غايةٌ ودورٌ خاصٌ به لا يخرج عن هدف المنظومة بكاملها وإنّما يُسهم فيه كلَّ الإسهام. ويتكامل عطاء العبادات المتنوعة تكاملاً يُنتج لنا تلك الشخصية التي يُغطّي نشاطها الإيماني كلّ مجالات الحياة.
وما سيجري الحديث عنه هنا في صورتها العامّة وفي هدفها العام المشترك، والعبادة كما يُعرِّفونها هي غاية التذلُّل، وغاية التذلُّل وأقصى درجات التذلُّل وأشدُّها وكلّ التذلُّل لا يكون عقلاً إلاّ لله وحده، لأنّه مصدر كل خيرٍ وجميلٍ واحسان وإفضالُه غاية الإفضال وجميله منتهى الجميل.
وهي حقُّ الله على عباده عقلاً ووجداناً وشرعا، وإذا كانت من طاعة فلا طاعة لغير الله إلاّ بإذن الله تبارك وتعالى، أمّا ما هو أقصى غاية التذلُّل والتذلُّل الذي يمثّله مثل الركوع والسجود فلا يكون إلاّ لله تبارك وتعالى.
هذا الخضوع لا يصحُّ عقلاً لغيره سبحانه أصالةً، ولم يأذن الله به لأنْ يكون لأحدٍ غيره.
لِمَ هذا؟ لأنْ ليس من جميلٍ يصِلُك من أحدٍ من الخلْق أيّاً كان إلاّ بإذن الله ومن عطاء الله ومن عناية الله بك، ، فكلُّ حقٍّ عليكَ لأحدٍ مرجعُه إلى حقِّ الله عليك، وما كان ليكون لأحدٍ حقٌّ على أحد لولا أنّ الله عزَّ وجلّ وضع الحقوق على الناس بعضهم لبعض. فالعبادة من ناحية كونها خضوعاً لا تكون إلاّ لله، وليس لأحدٍ من الخلْق فيها نصيب.
أمّا العبادةُ عطاءً، ما تُنتجه من عطاء، وعطاءها ثَرٌّ وعظيم، فليس منه لله شيءٌ على الإطلاق، الله غنيّ بالغنى المطلق، مالكيَّتُه مطلقةٌ للعابد وما مَّلَّكَه الله، ولا عَظَمَة كعظمة الله، ولا غنى كغنى الله، ولا علم بجلال الله وجمال الله وكمال الله كالله، ولا ينتظر غنى الله وقدرة الله وجلال الله وجماله وكماله شيئاً من مزيد، لا مزيد على كماله عزَّ وجلّ حتّى من ذاته فضلاً من غير ذاته، ذاتُه لا تقبل كمالاً إضافيّاً لأنّه لا كمال إضافيَّ بعدَ الكمال المطلق.
للإنسان بدنٌ وروح، ولبدنه ما يبنيه ويهدمه، وللروح ما يبنيها ويهدمها. الروح قابلةٌ للبناء والهدْم في بُعْدها الفكري وفي بُعْدها الغيبي والإرادي، فأمّا أنْ يؤخذ بها إلى هدمٍ وانهدام أو يؤخذ بها إلى بناء، ولا يبنيها غير منهج الله عزَّ وجلّ، ولا يهدمها إلاّ الانفصال عن منهجه تبارك وتعالى.
وما يبني الإنسان روحاً، وتعمُر به روحه وتشتدُّ نورانيّتها من غير خفوت إنّما هو الإيمان بالله عزَّ وجلّ وما يُلازم ذلك الإيمان من حبّ العبادة له، ليجد نفسه مُنْشَدَّاً للعبادة إنشداداً جادَّاً ولا يملك أمام شوقه الحارّ للعبادة إلاّ أن يدخل في محرابها متقرِّباً إلى الله سبحانه وتعالى.
وما التقرُّب إلى الله؟
التقرّب إلى الله أن أقرُب شيئاً ما من علم الله المطلق، أن أقرُب شيئاً من قدرة الله المُطلقة، أن أقرُب شيئاً ما من رحمة الله فتكون لي رحمةٌ من رحمته، يكون لي علمٌ من علمه، قوّة من قوّته، جمالاً من جماله، تنّزُّهاً من جلاله تبارك وتعالى. بذا يكون أحدنا قريباً من الله تبارك وتعالى.
هذا التقرُّب تصنعُه العبادة، ينجذب الإنسان إلى العبادة، يدخل في محرابها، تصنَعه، ولكن ماذا يسوقنا إلى العبادة؟ لحبّ العبادة؟ كيف يأتينا حبّ العبادة؟ حبّ العبادة ليس مصطنعاً، الإيمان وحبُّ العبادة لله فطرة، ثم يزداد هذا الإيمان والحبُّ الفطري بالاكتساب، بالتربية، بالجهاد، بالبُعْد عن الخبائث، بضبط النفس، ومَن أضعف فطرة الإيمان في قلبه بالقبائح التي يرفضها العقل -هناك قبائح يرفضها العقل قبل أن يُبيّن قبحها الشرع، والعقل رسول الداخل- هذه القبائح إذا اجتُنِبَت من العبد جعلته على طريق قبول الهدى، وإذا لم يُقلِع عنها وغمرته هذه القبائح صاغت له داخله بمَّا يُفسد فطرته، وبما يجعله لا يقبل نور الفطرة ولا يرتاح لسماع نداءها، هذه الخطوة الأولى.
هذا الذي يدخل في عالم القبائح ويرتبط به يُفقِدُ قلبه قابليّة النموّ لحالة الإيمان وحبّ العبادة بل يتراجع لو كان من أهل الإيمان والعبادة عن إيمانه وعن عبادته، فكلَّما تغيَّب نور الفطرة وعَلَت الظلمة النفس واستولت عليها كلَّما أنِسَت بالقبيح وكرهت الجميل، نَفَرَت مْن العدل وأقبَلَت على الظلم، استوحشت من النزاهة وأَنِسَت من الفحشاء والمنكر.
نموّ الإيمان ونموّ الحبّ للعبادة لله عزَّ وجلّ، ونموّ الاستعداد لاستقبال تدَّفقاتهما، هذا كلّه ينقلب إلى حالة رفض ونفور من الإيمان ومن العبادة، ولا يعود القلب من بعد ذلك كما كان على فطرته الأولى التي تضعُه على طريق الهدى بالشكل الأوَّليّ القابل للتنامي والازدياد.
لا يعود القلب على قابليّةٍ لاستقرار الإيمان فيه بأيّ درجةٍ من درجاته، فضلاً عن أنّه لا يمكن ترَعْرُع شجرة الإيمان فيه، ولا أنْ تَسمُق وتنتشر وتزداد في التجَّذُّر ما انفصل عن العبادة وما سَلَك المسلك الذي يقضي على نور الفطرة في داخله.
هذا يحصل للقلب، وإنْ جاء هذا القلب من الآيات ما جاء، ورأى ما رأى، وسَمِع ما سَمِع من العِبَر والعِظات. يقول الكتاب الكريم: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ) – الأنعام: 7.
يعني ما هذا إلا سحرٌ مبين، لا شيء من الحقّ فيه، ولا شيء من الصدق فيه، ولا صِلَة له بالله إنْ كان الله عزَّ وجلّ موجوداً، وهو الموجود الحقّ تبارك وتعالى.
وتقول الآية الكريمة الثانية: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) –الأنعام: 111
يرجّحهم الله لفطرتهم، يفرض عليهم الإيمان فرضاً فإنّهم يؤمنون، إمّا وأنّهم انفصلوا عن الفطرة وأطفئوا نورها داخل أنفسهم ولم يعُد للفطرة في داخلهم صوتٌ يُسمع ولا بصيص نور يظهر لبصائرهم ولعقولهم، فمع هذا لا عبادة ولا إيمان ولا تصديق لكتابٍ ينزل قرطاساً ويلمسونه لمساً حتّى يتبيّنوا أنّه قرطاس وليس وَهْمَاً، ولا أنْ تتنَّزَّل عليهم الملائكة ولا أنْ تأتيهم أيّ آيةٍ أخرى كبرى.
وكلّما بقي القلب محتفظاً بنور الفطرة كلَّما كان قابلاً لاحتضان نورٍ أكبر ممَّا كان له من نور الإيمان، وهدىً أوسع من هداه الأوّل الذي أمّدَّته به الفطرة التي شرّفه الله بها وأمَّدَّته به العبادة إذا كان من قبل يعبُد الله تبارك وتعالى.
وكلَّما ابتعَدَت بالإنسان إرادتُه عن ممارسة القبائح وارتكاب المظالم والفواحش وهَجَر روح العناد والاستكبار -وهذه بديهة جدَّاً تحول بين الإنسان وبين الإيمان، ولو كان على إيمان واعتادَ أن يُعاند الحقّ في مسائل يتراءى له أنّها صغيرة، وأن يستكبر على الحقّ فإنَّ هذا مسارٌ قد لا يقف به إلاّ أنْ يكفُر بالله عزَّ وجلّ-.
أقول كلَّما ابتعَدَت بالإنسان إرادتُه عن ممارسة القبائح وارتكاب المظالم والفواحش، وهَجَر روح العناد والاستكبار، كلَّما زاد استعداد القلب للاستضاءة بنور الإيمان والتشبُّع بحبّ العبادة والتزّكّي بها والتطّهُّر بعطاءاتها، وكلَّما التصق بالعبادة ووَعى معانيها ودروسها عَبَّ منها هدىً كثيراً وزَكَى قلبه باضطراد.
وكلُّ استقامةٍ ونجاحٍ حقيقيٍّ في الحياة أساسه قلبٌ وَعِيٌّ زكيّ، وعقلٌ منفتح، وعلمٌ صحيح، وعملٌ صالحٌ من نتاج هذا الوعي والزكاة والعلم.
وكلُّ انحرافٍ وفشلٍ في الحياة إنما هو راجعٌ إلى شيءٍ واحد، إلى قلبٍ لا يستلهم الهُدى ولا يستنير بالحقّ، ويختار الرجس على الطُهر، ويسلك غير مسلَك العلم، وعندئذٍ نعرف أنّ الصلاح في الحياة والاستقامة والعدل والأمان والخير لا يكون شيءٌ منه بلا عبادة، لا يمكن لأي منهجٍ يخلو من منظومة العبادات أن يُعطي لأهل الأرض أماناً وسلاماً وقوّةً صالحة وسعادةً هنا في الدنيا فضلاً عن سعادة الآخرة.
هذا بالنسبة للدنيا، وأمَّا يوم الآخرة، والذي تَتَقَطَّع فيه الأسباب، ويفقُد الناس كلَّ ما كانوا يستندون إليه في دنياهم ويلجئون إليه من أسباب البقاء والقوّة والمِنْعَة ولم يبقَ لهم منه شيء؛ فأمرُ الأهمية للعبادة في الدنيا والتي تخلُق روحاً مُنْشَّدّةً كلَّ الإنشداد إلى الله ظاهرٌ كلَّ الظهور في يومٍ يقوم الحساب.
العبادةُ هي كذلك، ونتيجتها هي كذلك، على مستوى الشخص الواحد في نفسه، وعلى مستوى المجتمع والأمّة والإنسانية، والمجتمع الصالح والمستقرُّ والسعيد لا يمكن أن يَبنيَه أفراداً ضعفاء أشرار سيّئون مفسدون، والفردُ ضعيف وشرّير وسيء ومُفسد ما انفصل عن منظومة العبادات.
أعزَّائي..
الإنسان خُلِق ضعيفاً فعلاً، ولكنّه خُلِق قويّاً بمقدارٍ استعدادا، هو ضعيفٌ بالفعل يومَ يولد ويومَ يكون طفلاً، لكنْ على مستوى الاستعداد والقابليّة هو قويٌّ بمقدارٍ وإلى حدٍّ كبير.
وكلُّ يومٍ يمرُّ من عمر الإنسان منذ طفولته في ظلّ تربيةٍ سليمة وتوجيهٍ صحيح تظهَر قابليّات الخير فيه، ويأتي جديداً عن أمسه بما هو جميل وبما هو قويّ وبما هو فعّالٌ في الخير.
الإنسان زُّوِّدَّ بحبّ الكمال، ولا تنفكُّ أنت، ولا أنفكُّ أنا، ولا ينفكُّ أحد من غيرنا عن حبّ الكمال، وهذه نعمةٌ من نِعَم الله عزَّ وجلّ علينا. الإنسان زُّوِّدَّ بحبّ الكمال وإنْ كان يُخطئ كثيراً في نفسه بشأن ما به الكمال، أحبُّ الكمال لكن بِمَ يكون كمالي؟ وما هي حقيقة كمالي؟ وأين أجِدُ كمالي؟ وأيُّ منهجٍ وأيُّ طريقٍ يسلك بي إلى الكمال؟ هذا كثيرٌ ما نخطئ فيه.
وحبّ الإنسان إلى الكمال الصِدق الحقّ المطلق يساوي تماماً الحبَّ لله تبارك وتعالى. أنتَ تحبُّ الكمال لا لحدّ، تُحبُّ العلم لا لحدّ، تُحبُّ القدرة لا لحدّ، تُحبُّ الغنى لا لحدّ، تُحبُّ الخير لا لحدّ، تُحبُّ كلَّ شيءٍ من ذلك بصورته المطلقة اللامحدودة، هذا الحبّ يعني أنّكَ تحبّ الله عزَّ وجلّ لأنّه لا كامل مطلق إلاّ الله سبحانه وتعالى.
وكلَّما نسمع، وكلّما نرى، وكلَّما نتصوَّر، وكلّما تقع في أذهاننا له صورة محدودة فليس له الكمال المطلق.
فالإنسان بفطرته يُحبُّ الكمال يعني يُحبُّ الله، “يولدان على الفطرة”، يُولد الناس على الفطرة، مَن الذي يُهوِّدَّان الولد ويُنصِّرَانه؟ أبواه. وُلِدَ على منوال إبراهيم “عليه السلام”، على فطرة الله التي فَطَر الناس عليها، وتأتي من بعد ذلك الانحرافات والزيْغ والضلال عن طريق التربية الفاسدة وغير المُوَّجهّة بالتوجيه الصحيح.
فمَنْ أحبَّ الكمال الصِدْق فذلك يعني أنّه يُحبُّ الله تبارك وتعالى. ماذا يحبُّ الإنسان من أمور؟، ماذا يطلب من خير؟ سَبق أنّه يُحبُّ العلم والقدرة، إلى آخره. ثمَّ يُسأل، وماذا ممَّا يطلب من خيرٍ وكمالٍ لا يجدُه عند الله، أنتَ تطلُب علماً، عند مَن تجد هذا العلم؟ وإذا وجدت علماً عند أحد فمِّمَن هذا العلم؟ هو من الله، وهكذا سائر الصفات الكريمة.
وماذا من ذلك يمكن أن يجده عند غير الله من دون إذنه، هل مِنْ مخلوقٍ يملك شيئاً من كمال، ولو شيء بسيطاً من نِعْمَة من دون إذن الله حتّى لو سعى إليه كلّ السعي؟
نحن نطلب الحياة والعلم وما يقوِّم الحياة، نطلُب العزَّة والكرامة وحريّةً وأمْنَاً وحاضراً ومستقبلاً، احتماءً، غنىً، احتراماً من الناس، مَن يعطي هذا كلّه؟ من هو القادر على اعطاء هذا كلّه؟ هو الله تبارك وتعالى.
وحُبُّ الكمال حتّى يَنفَع، أنا أحبُّ الكمال لكن أريد الكمال الفعليّ، أريد تحقُّقَ ما أُحِبّ، صحيحٌ أنّ الكمال أراه عظيماً جدَّاً وهو معشوقي، ولكن عشقٌ بلا تحقّق المطلب ربما يبقى ظمئاً.
وحُبُّ الكمال حتّى يَنفَع يحتاج معه صاحبه إلى منهجٍ موثوق، أنا أحبُّ الكمال حتّى ينفعني هذا الحبّ للكمال لابد أن أجِد المنهج الذي يوصلني إليه، بحيث أطمئنّ لهذا المنهج، ويصدِّقُه عقلي، ومنطلق هذا المنهج من رحمة، مِن علم، من علمٍ بكلِّ ذرّةٍ مِن ذَرَّات هذا الوجود. هذا المنهج أُريدُ له أنْ يُبيِّن لي ما هو كمالي، ما هو الشيء الذي أكمُل به؟ أصير به كاملاً؟ وأنْ يرسم لي تفاصيل ما يوصلني إلى هذا الكمال، ويربّيني على التزام هذا الطريق، ويرتفع بمستواي إلى حدِّ تحمُّلي لتكاليفه ومواجهة تحدّياته، الطريق إلى الكمال طريق صعود، طريق عروج، ولا يُقاس الصعود بالنزول، فالصعوبة في الصعود، والمعاناة في الصعود، والصعود المطلوب هنا ليس كأيِّ صعود، إنما هو صعودٌ يتجاوز بالإنسان الأرض ويأخذ به من صفاتها الطينيَّة إلى صفات أهل السماء، وصعود إلى مستوىً من قلبٍ لا نقطة سوداء فيه، ولا مَيْل فيه لقبيح، ولا يدخُله وهنٌ ولا ضعفٌ على هذا الطريق، أي طريق الكمال.
الطريق إلى الكمال طريقٌ صعبٌ مُستَصعَب، وتحدِّيَّاتُه فوقَ كلِّ التحدِّيات.
والعبادة بما تُنَّمِّيه في العابِد لله سبحانه، من روح الإعظام له، ماذا تصنعُ العبادة فينا لله عزَّ وجل؟ تُنَّمي فينا روح الإعظام له، والشوق إلى أسمائه الحُسنى، أنتَ تعبُد الله لأنّه الحيّ الذي لا يموت، ولأنّه المالك الذي لا يُشاركه مالك، والخالق الذي كلُّ شيءٍ من خلقه، والمُحسن قديم الإحسان وعظيم الإحسان، تعبُد الله عزَّ وجلّ مُّنشَّدَّاً إلى كلّ أسمائه الحُسنى في عبادتك، فهنا تنصاغُ روحك، وينصاغُ قلبُك على ضوء الأسماء الحُسنى لله عزَّ وجلّ والذي صِرْت عَشَّاقاً لها.
والعبادة بما تُنَّمِّيه في العابِد مِنْ هذا الشيء، ولِما تُفسِحُ له من الرؤية لعظمة الله عزَّ وجلّ، العبادة وفيها حالة صفاء وتوّجُّه، انفتاح قلب على الله عزَّ وجلّ، حالة اقبال، حالة في الوضع الإسلامي، في التربية الإسلامية تشدُّ القلب إلى المعبود، حالة انشداد من القلب إلى المعبود، فأنتَ هنا في عبادتك ينفسح لكَ أنْ ترى الله عزَّ وجلّ لا كما تراه في لَعْبِك وفي تجارَتك وفي لذّاتكَ المادية وفي أوقاتك العاديّة.
العبادة تمُّدُّنا بروح الإعظام لله عزَّ وجلّ، وتُفسِحُ لنا الرؤية لعظمته من خلال بلوَرَة الروح وصفاء القلب. العبادة عمليّة تصفية للقلب، بلوَرَة للروح، كَشْف غطاء عن القلب، رَفْع حُجُب عن القلب، وهذا يُعطي انفساح في رؤية القلب لله عزَّ وجلّ.
العبادة بهذا وذاك، تحمينا مِنْ أنْ نَضِلّ، من أنْ نتفَه أو ننحَدِر أو تغلب أحدنا الدنيا أو أنْ يطغى أو أنْ ينحني أمام طاغية، أو ينقطع نفسه في معراج الكمال ويحسّ بالتعب الذي يقفُ به وقفةً نهائية لا وقفة استراحة، استراحة قلبٍ ليس له من طاقة الصعود أكثر من هذه النصف ساعة أو الساعة التي قضاها في عبادته، وهناك قلوبٌ تستمرُّ في اتصالها مع الله عزَّ وجلّ الإتصال الحيَّ لساعاتٍ وساعات وأؤلائك هم صفوة البشر.
هذه الرؤية، وذلك الحبُّ المُشتعل لصفات الله عزَّ وجلّ، لجلاله وجماله في النفس لا يسمحان للعابد من أؤلائك الصفوة أن يقتنع بمستوىً من مستويات ما يصل إليه في عروجه في رحلة الكمال.
هذه العبادة تحمي من العابِد كل جانحةٍ وجارحةٍ أن تمتَّدَّ إلى أحدٍ بظلم، وأن تبتغي فساداً في الأرض، وتحميه مِنْ أنْ يَسَعه أن يُصلِح في الأرض ومن أحوال الناس ثمّ يترك له ضميره أنْ لا يفعل، -يسعه أن يُصلح ويجد من ضميره أنّه يسمح له بأنْ لا يصلح، هذا مستحيل على ذلك العابِد-، تحميه مِنْ أنْ يَسَعه أن يُصلِح في الأرض ومن أحوال الناس ثمّ يترك له ضميره أنْ لا يفعل، أو أنْ يفعل أقلَّ من أقصى ما يستطيع، عبادتُك الصادقة لا تجعلك وأنت تستطيع تبذل عشر ساعاتٍ في خدمة الإسلام والمسلمين والناس ثمّ تقتنع بخدمة خمس ساعات.
العبادة تُعِّدُّ صاحبها قويّاً وقويّاً جدَّاً لبناء الدنيا الصالحة لا لَهُ وحدَه، ولا لمن حوله فحسب، وإنّما لكلّ الناس، وتعِّدّه كذلك لا لكسب الآخرة على مستوى شخصه وأهله وولده وإنّما على مستوى كلّ الناس.
العبادة بما هي انحناءةٌ صادقةٌ وتعلُّقٌ روحيٌ جادٌّ بالجلال والجمال المطلق لله تبارك وتعالى تجعل النفس في سعيٍ دائب وجهادٍ مستمّرٍ لصوْغ ذاتها الصوْغ الذي يجعلها مُقَّرَّبةً لديه مرضيَّةً عنده، فلا تجِدُ من أجل ذلك وحتّى يرضى الله عنها وحتّى يُقرِّبها إليه إلاّ أنْ تصِّحَّ وتستقيم وترشُد وتقوى في الخير وتتنزَّه عن الشرّ وتعمُر الأرض وتُقيم العدل وتُجاهد الباطل وتُصلِح الأوضاع وتحارب الألوهيات الكاذبة وتطارد طاغوتيّة المستكبرين وفساد المفسدين وتنتصر للمظلوم على الظالم وتُعين الضعيف وتُخلِص في السرّ والعلن لكلّ إنسان، ولكن كيف تُخلِص لهذا الإنسان وذاك الإنسان؟ لا بما تستجيب لِما يطلب له هواه، وما يفرُضه عَلَيَّ طغياته وإنّما لما يُحبُّ له ربُّه ممّا يُصلحه ويُنقذه من سوء الدنيا والآخرة، ذلك لأنّ الله مصدر الخير، ولا يحبُّ من أهل طاعته -أنا أدّعي طاعة الله، وأنّي أعبد الله، لا أصدُق هذا القول إذا كنت لا أفعل ما يُحبُّ الله، ولا أبتعد عمّا يبغض الله، والله يُحبُّ الخير ويبغض الشرّ، يُحبُّ العدل ويبغض الظلم، يُحبُّ التعاون في الخير ولا يُحبُّ التعاون في الشرّ-.
نَعَمْ لا يُمكن التقرُّب إليه سبحانه وتعالى إلاّ بفعل الخير والعمل الصالح، وبِذا يكون العابِد لله حقّاً يساوي العامل بالخير والعمل الصالح البعيد عن الشرّ، العَمَّار للدنيا الهّدَّام للباطل، المُقيم للحقّ.
أيُّها الأخوة والأخوات في الله..
قد تبتدئ العبادة في التربية الإسلامية بصلاةٍ يُصلِّيها الصبيُّ المسلم في مسجدٍ صغيرٍ أو في بيته، ولكنَّ ذلك إنّما هو البداية ليكون مِنْ بعد ذلك كلَّ مكانٍ في الأرض والجوّ وساحة الحياة ومختلف ميادينها محراب عبادةٍ وذِكرٍ وتهجُّدٍ وموقع جهادٍ في سبيل الله عند هذا الإنسان.
الساحة الاجتماعية محراب، الساحة الاقتصادية محراب، الساحة الصحيّة محراب، ساحة الحرب محراب، ساحة الزراعة محراب، كلُّ هذه الساحات محرابُ عبادة عند الإنسان الذي بدأ عبادته بصلاةٍ في مسجدٍ صغيرٍ أو بيته.
كيف تأخذ بي الصلاة إلى هذا كلّه؟
ذلك أنّ العبادة والصلاة والصوم تقول لمن يعبُد الله ويُصلَّي ويصوم لرضاه أنّ كلَّ الأرض والسماء لله وحده، ولابُّد أنْ تُعمَر بذكره، وتضيء بنور دينه وعدله، وتُحكَم لأمره ونهيه، ولا تسلك الحركة فيها إلاّ إليه، ولا يُعبَد شيءٌ سواه، هكذا تقول لي ولكَ العبادة.
ولتصدُق هذه العبادة، وحتّى نكون على الخط العمليّ في مواجهة الباطل، ودفع الباطل، وعلى الخط العمليّ لإحقاق الحقّ وإقامة العدل، العبادة بما تقوم به بتعريف النفس بالله، أليست العبادة تُعرِّفُني بالله؟ تُعرِّف نفسي بالله؟ وتُرَّكزَ توحيده في فكري وشعوري؟ وتُثير روح الاستلهام عندها من أسمائه الحُسنى؟ والتخلُّق بما استطاعت بالخلُق الذي يقتضيه استلهامها من نور الله؟ أليست العبادة هذا دورها؟
إذا كان هذا دور العبادة، فإنّها تبنيني البناء الصالح القويّ الفعَّال الذي يُحوِّل أفكاري الصحيحة ومشاعري الطاهرة -وأسأل الله أن يكون لي ولكَ ذلك- إلى حركةٍ إيجابيّةٍ نافعةٍ تُثمر في الأرض الخير والبركة، وفي العقول الهدى وفي القلوب الشفافيّة والرحمة، وفي الأيدي الغنى، وفي الحياة كلِّ الحياة أمناً وسلاماً وكرامة.
العبادة هدفها أن تضعني على طريق الغاية الكبرى من الحياة، وأن تعطيني الصبر على هذا الطريق الصعب المحفوف بالجمِّ من التحديّات التي تلين لها العزائم، ما هو هدف العبادة؟
أنْ تقرُبَ بي من الله، أنْ تجعلني عند رضوانه، أنْ تجعلني أهلاً لأنْ أسكُن جَنَّة الخُلد والرضوان من عنده.
العبادة لتجعلنا مقيمين للقسط في الأرض آخذين أنفسنا وغيرنا بالعدل، معاندين مكابرين للظُلْم، وأذِّلاء بين يدي الله، وأذِّلاء أمام أضعف خلقه من أجله، مستكبرين على المستكبرين عليه سبحانه وعلى عباده الصالحين والمستضعفين من خلقه.
العبادة تجعلُكَ مستكبراً على المُستكبِر، متواضعاً للمتواضعين، والمبتلَيْن وكلِّ مَنْ يحتاج إلى المساعدة مِمَّن تكون مساعدته مرضيّةً عند الله عزَّ وجلّ.
العبادة تجعلنا لا تخرُّ لنا جبهةٌ على الأرض إلاّ خضوعاً له، ولا تمتّدُّ لنا يدُ ضراعةٍ إلاّ إليه، ولا تسعى مِنّا قدمٌ في شرّ، ولا تتباطئ خُطانا على طريق الخير، ولا تستعطي كفٌّ لنا إلاّ من جوده وكرمه، ولا نداهن ظالماً ولا نسكُت على ظلم.
العبادة لله عزَّ وجلّ من أجل أنْ نُقوِّم المُعوَّجَّ من أنفسنا، ونُقيم البناء الصالح في الأرض ونُطيح بالباطل وننشر الهدى والخير والصلاح والأمن والمحبّة بين الناس، وهذا على المستوى القريب وفيما يتصل بهذه الحياة الدنيا.
وأمّا بالنسبة للمدى البعيد والحياة الآخرة التي لا انقضاء لها، ولها بيئةٌ غير البيئة التي نعيشها في دُنيانا الفانية، وشروطٌ غير شروط هذه الحياة. حياةٌ ودارٌ فيها نارٌ لمن بَعُدت به حياة الدنيا عن الله عزَّ وجلّ، وخَسِرَ وزنه الإنساني من أجل مِتَعها وسقط بمستواه بمستوى الحيوان أو ما هو أدنى، كما فيها جَنّةٌ لمَن بلغت إنسانيَّتهم من خلال تجربة الحياة الدنيا وامتحانها إلى نُضجٍ إنسانيٍ كبير، ووجودٍ روحيٍ شديد الرُقيّ لقربه من الله سبحانه، وتخلِّيه وتَحلِّيه بدرجاتٍ عُليا من الخُلق الكريم.
في الآخرة حياةٌ غنيَّةٌ كلّ الغنى بلذائذ المادة وسَعَتها، وهي أغنى وأرقى من حيث لذائذ الروح وكراماتُها، وجوّ الحياة فيها أصفى جوّ، وأطهر جوّ، وأكرمُ جوّ، لا شيء فيه من عيوب النفوس وخُبث السرائر، هذا جوّ الآخرة، وذلك هو مستوى الآخرة، هذا لم نَرَه في الدُنيا، ظروف تبعث على السرور، كلُّ شيءٍ يقعُ عليه النظر، يصلُ إلى المسمَع، يُلمس، كلّ شيءٍ من ذلك وغيره يُدخِل على النفس السرور، هذا المستوى يحتاج إلى نفسيّة أو لا يحتاج إلى نفسيّة؟ النفسيّة المُتعبَة في هذه الدنيا والتي تفقد الأخلاقيّة الكريمة تصلُح لذلك الجوّ؟ لا تصلح.
في الآخرة حياةٌ غنيَّةٌ كلّ الغنى بلذائذ المادة وسَعَتها، وهي أغنى وأرقى من حيث لذائذ الروح وكراماتُها، وجوّ الحياة فيها أصفى جوّ، وأطهر جوّ، وأكرمُ جوّ، لا شيء فيه من عيوب النفوس وخُبث السرائر، وهذا لَيَحتاج إلى نفسٍ أكبرُ من كلّ لذّات المادة، -أنا هنا لا أتحمَّل لذّات المادة على مستوى الحياة، لذّات المادة في حياتنا هذه لا تساوي شيئاً من لذّات المادة في الآخرة، هذا المستوى من لذائد ومن مغريات يُصيب نفسي أمامه الخَوَر، تسقط نفسي أمامه وأُملَك، بدل أن أملك المال يملكني المال- الآخرة تحتاج إلى نفسٍ من مستوى تستذوق معه فعلاً لذّات الروح وتفرح لها أكثر ممَّا تفرح للذائذ المادة، تحتاج إلى نفسٍ قد خَلَت من الميل للشرّ والهوى، وملئها حبُّ الحق وكره الباطل والنفور من القبيح والترّفع عن كلّ ما يكره الله، والإعداد لهذا المستوى اليوم وفي الدنيا، ليس غداً، اليوم عمل ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل، ومن بعد الحساب جزاء.
هذا الذي تَتَطَلَّبُه حياة الآخرة التوّفر عليه يكونُ اليوم وفي الحياة الدنيا، والإعدادُ له هنا، الإعدادُ للمستوى اللائق بالآخرة يكون في الدنيا لا في الآخرة، والتربية الماديّة المُنفصلة عن الإيمان والعبادة والتقوى وهي تسقط بإنسانية الإنسان -تلك التربية- تَبُعُد بي عن كلّ ذلك، الآخرة تتَطلَّب هذا المستوى، التربية الدنيويّة الماديّة تسلُك بي في الاتجاه المُعاكس تماماً لِمَا يُنتِج ذلك المستوى.
الحياة الماديّة ماذا تفعل في الإنسان؟ تُسقِط بإنسانيّته، لا تُبقي منه إلا روحه العدوانيّة الشرسة وتعلُّقاتها السافلة. هذه الروح تسكن الجنَّة؟ وهل تبقى الجنَّة جنَّة ويكثُر فيها الساكنون من هذا المستوى النفسي؟
ولا يبني ذلك المستوى الشامخ إلاّ التربية الإيمانية والعباديّة الواعية الفَاقِهَة المُخلِصة لله وحده.
العبادة لله -مُلَّخَّصاً- ضرورة الدُنيا والآخرة، ولا سبيل لصناعة الإنسان القويّ والقويم إلاّ بها.
وغفَرَ الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.