الحديث القرآني الرمضاني – 15 رمضان 1440 هـ / 21 مايو 2019
فيديو الحديث:
صوت الحديث :
نص الحديث :
حديث في ضوء القرآن الكريم (7) – سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
قم المقدسة – 15 رمضان 1440هـ / 21 مايو 2019
(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) صدق الله مولانا العلي العظيم.
إلهٌ واحد إذا كان إلهاً حقيقياً، إذا كان إلهاً حقّاً، إذا كان وجوداً محضاً، واجب الوجود كان وجوداً مطلقاً، هذا لا يتكرّر ولا يتثنّى، لا يمكن أن يتثنّى. الكمال كمال واحد، الوجود الكامل واحد لا اثنان، أمّا أن يكون إلهان فتفسد السماوات والأرض، والإلهان اللذان تفسدان السماوات والأرض بوجودهما هما لابد أن يكونا إلهين حقيقين، كلٌ له ألوهيّته التامّة الكاملة المطلقة، إمّا أن نفرض إلهاً كاملاً وإلها ناقصاً لابد أن يكون الإله الناقص محكوماً للإله الكامل، ويخرج عن ألوهيّته، لا يكون إلهاً وهو ناقص، فرض نقصه فرض عدم ألوهيّته، فالمبحوث عنه أو ما تفسد به السماوات والأرض هو وجود إلهين متنازعين؛ الإلهان المتوافقان لا تفسد السماوات والأرض بوجودهما، ولكن هل يتوافق الإلهان؟ هنا الكلام.
توافق إلهين بناءً على نظامٍ يرجعان إليه معاً، ويُنزِّلان فعلهما على مقتضى هذا النظام والقانون، هذا غير موجودٍ بالنسبة للإلهين الكاملين؛ لأنّ الإله الكامل الحقّ هو إلهٌ فعلهُ النظام، وليس فعله قائماً على نظام خارج يُطبّق فعله عليه، من أين هذا النظام قبل فعل الله؟ لا نظام قبل فعل الله تبارك وتعالى، ولا شيء يمكن أن يكون مصدراً للنظام قبل فعل الله تبارك وتعالى، ففعل الله هو راسم النظام، هو أساس النظام، هو المستقى من النظام. النظام يتمثّل في فعل الله وتدبيره، والقوانين الكونية مُستقاةٌ عقلاً من هذا النظام، يستقيها العقل من هذا النظام. فإذن فرض توافق الإرادتين الإلهيتين التامّتين بناءً على أساس مرجعيّة نظامٍ واحد مشترك أمرٌ غير وارد. هذا شيء.
توافق الإرادتين دعونا نفرضه بناءً على أنّ الإرادتين متساويتان، أليس علم الإلهين المفروضين التامّين واحداً تامّاً مطلقاً؟ أليست حكمتهما مطلقة وواحدة لا تختلف؟ أليست رعايتهما للمصلحة رعايةٌ واحدة بمقتضى كمالهما، وأنّهما لا يختاران المفسدة؟ فإذن لابدّ بناءً على هذه المشتركات أو على هذه الأمور الموحّدة أن تأتي الإرادتان كإرادةٍ واحدة، لا تنصبُّ هذه على فعلٍ وتلك على ترك، وإنما دائماً تتوافقان في الترك والأخذ في الاتجاه بالكون على هذا المسار وبأجزاء الكون على هذا المسار أو ذلك المسار، أن يكون الأمر على هذه الصورة أو تلك الصورة بلا اختلاف، فلماذا لا يكون ذلك فلا يفسد النظام مع وجود إلهين حقيقين؟ هذا هو الكلام.
الإرادتان المتوافقتان -وقد فرضناهما إرادتين تامّتَين- أيّ إرادة منهما اتجهت إلى الفعل بطل فعل الأخرى، توارد علّتين على معلولٍ واحد لا يكون، والعلّة التامّة لا تكون جزء علّة، فلابدّ أن يكون لكلّ منهما استقلالٌ تامّ كامل في إحداث الشيء الذي توجّهت إليه، فلا يبقى للثانية مجال، أين ألوهية الذات الثانية وفاعلية الإرادة الثانية؟ بطلت، وإلهٌ تبطل إرادته ويُمنع على ذاته أن تفعل لا يبقى إله.
التوافق ممتنع، وتمانع الإرادتين لا يكون؛ لأنهما متوافقتان في الحقيقة، أمّا لو تفعّلتا فمن الطبيعي أن يفترقان، لو تفعّلت الإرادتان المستقلّتان مع تباين الذاتين -لابدّ أن يكون تباين ذات، وتباين صفات في درجتها وتمامها ونقصها، والناقص من الذاتين ذاتاً أو الناقص من الذاتين صفة أو أكثر من صفة مألوه لا إله-، فقضية أن يُفرض إلهان ويسير الكون على نظامه أمرٌ مستحيل قطعاً ويقيناً، ولذلك يكون هذا البرهان برهاناً عقلياً وليس اقناعياً بناءً على ما يبني عليه العقلاء بأنّ وجود نزاع بين حاكمين مثلاً لا يستقيم معه النظام، هذا شيءٌ مألوف ومعروف، ومصدّ من قبل العقلاء، لكن الدليل ليس على هذا المستوى، وإنما هو على مستوى برهاني عقلي قطعي يقيني.
(فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)، بمَ وصفوه سبحانه؟ وصفوه بأنّه له شريك، تقدّم وصفه منهم بأنّ له شريكاً، وقد يصفونه بأنه يجلس على العرش، وإلى آخره من الأمور التجسيميّة.
لفظ الله (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ)، الله الكامل المطلق، الله معناه الكامل المطلق الذي لا تُدرك كنهه العقول، تكبر العقول، عقل نبي، عقل مَلَك، جبرئيل أكبر من جبرئيل؟ عقله كبير جدّاً، لكنه لا يدرك كُنه الله عزّ وجلّ. الإله محلّ حاجات الخلق، الغني الذي لا يحتاج، والغني الذي لا مستغنٍ عنه على الإطلاق، مستغنٍ على الإطلاق عن كلّ أحد، ولا يستغني عنه أحد. كم واحد؟
الوجود الأصل، الوجود الحقّ، وكلّ ما عداه باطل، وحقانيّة كلّ شيءٍ من صنعه ومن عطاءه، كم واحد هؤلاء يصيرون؟ فالله عزّ وجلّ، يعني مَن سمّاه الله، ومن قال موجود الله، لا يجوز له أن يقول بأنّ معه شريك، لفظ الجلالة موضوع على الذات الإلهيّة، المتعاليّة، المتقدّسة، المنزّهة عن كلّ نقص، وفرض وجود واحد آخر -موجود تباين، موجود تركيب، فيوجد تركيب للفرق بين الأول والثاني- ففرضك الثاني لابدّ أن يكون فيه وصفٌ للأول بالنقص، أو للثاني بالنقص.
هذا الدليل (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ…)، ماذا ينتج؟ (فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)، تقديس، تنزيه، تبرئة ساحة الجلال من كلّ شوْب نقص، تقول: جلَّ وعلا، جلّ: تنزّه، لا يقرُب منه نقص. والتعالى على كلّ شيء، أكبر من كلّ شيء بوجوده الحقّ تبارك وتعالى.
(فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)، ربّ العرش، ربّ المُلك، ربّ السلطان، المُلك المطلق، فكلّ مَن عداه مُلكٌ له، مملوك له، كلّ من عدا ربّ العرش، أصل المُلك، وأصل السلطان، وكلّ المُلك والسلطان له، فمن يبقى إلهاً في قباله يا أخوة؟
(فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)، مالكيّته لكلّ شيء، وسلطانه على كلّ شيء، وقيام كلّ شيءٍ به، وبقدرته، يمنع عقلاً يقيناً أن يُفرض معه إلهٌ آخر.
(فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)، ونحن كذلك نصِف الله، ونغلط، والله الغفّار. حين نقيسه على مستوى الكبار، حين نستبطئ عطاءه، حين نستكثر شكرنا له، وإلى آخره، هذا فيه تصغير لله عزّ وجلّ، تحديد لله عزّ وجلّ، وضع حدّ معيّن لحقّه، لجلاله، لجماله، لقُدسه.
(لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، من أوضح العلل لعدم حقّانية أن يُسأل، وحقِّه في أن يَسأل؛ هو مالكيّته المُطلقة الشاملة. أنا مملوكٌ لله بالكامل، مِن أخمص قدمي إلى مُخّي، ومن أصل وجودي إلى نهاية أيّ أثرٍ من آثاري، مملوكٌ لله، بعد مع ثيابي أيضاً، مع الأرض التي أقوم عليها، مع السماء التي تظلّني، مع كلّ نعمةٍ تتأتّى لي من عطائه سبحانه وتعالى، كيف أسأله يعني؟ مملوك.
وهل من حقّه أن يُسأل؟ لو أدخلني النار لا أسأل.. مُلكٌ له، قِنٌّ، عبدٌ، مملوك له سبحانه وتعالى، نعم، حكمته تمنع أن يُدخِل النار مَن أطاعه ومَن استقام، حكمتُه وليس عدم حقّه في إدخال عبده للنار.
لا يُسأل عمّا يَفعل، المالك يَسأل المملوك، والمملوك لا يَسأل المالك، العالم يسأل الجاهل، والجاهل لا يسأل العالم، القادر المهيمن يسأل العاجز المحكوم، والمحكوم في قدرته لا يسأل القادر، الحكيم المُطلَق الحكمة يَسأل السفيه ومَن يُحتمل فيه الخطأ والخطأ عن الحقّ، فالحكيم يسأل هذا الإنسان، يسأل النبي “صلى الله عليه وآله” – طبعاً ليس سؤال استفهام، بل سؤال لإظهار طاعته إلى العلن، وإظهار أمانته ورساليّته وتميزّه-، لكن النبي المُعطى للمعطي أن يسأله، النبي المخلوق للخالق أن يسأله، النبي المملوك لمالكه أن يسأله، أما النبي المملوك له أن يسأل المالك؟ لا.
فالحقّ، العقل، المنطق، يرفع كلّاً من هذا وذاك، يرفع صوته مدّويّاً أيضاً مع الآية: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).
(أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً)، هذا مكرّر، قبلها لدينا: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ)، هنا: (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً) أعمّ من كونها من الأرض أو من غير الأرض.
(قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي)، قلنا “أم” هناك للإضراب، والهمزة للإنكار والتقبيح والتوبيخ، هنا أيضاً كذلك (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً)، القضية تحتاج دائماً إلى إنكار وتوبيخ، وفيها سخافة انحدار أكثر من بعض القضايا وهي قضية أن يُقال لله شريك، وأن هناك آلهة أخرى دون الله تبارك وتعالى.
(أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ)، القضية حقٌّ يجب الأخذ به مع اليقين، إذا كان يقينٌ بالقضية لزم الأخذ بها بلا شكّ، وقد تكون يقينيّتها لبداهتها وأوّليّتها، وهذه لا يُسأل عن دليلٍ عليها. القضية دون ذلك، دون القضية الفطريّة والبديهيّة والأوّليّة، الأخذ بها متى يكون؟ الأخذ بها يكون إذا كان يقين.
قضية “لا إله إلا الله” فطرية في أصلها، وقام عليها الدليل العقلي. مرّة نقول وجود الله فطري، بعد وحدانيّة الله فطرية كذلك، قام على الوحدانية الدليل (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا).
القضية التي ليس عليها دليل ليس من حقّك أن تُلزمني بها، ولا من حقّي أن ألزمك بها. هناك قضية ليس عليها دليل، لا على وجودها ولا على عدمها، شخصٌ يدّعي قضية على نحو الثبوت، والقضية ليس لي دليلٌ على عدمها، ولا دليل على ثبوتها، هناك قضية يُدّعى لها الثبوت، وعندي دليل على عدم ثبوتها، موقفي أقوى في أيّ القضيّتين؟ في القضية الثانية التي ليس لمّدّعيها عليها دليل ولي دليل على عدمها، مرّةً ليس له دليل على الإثبات، وأنا ليس لي دليل على النفي، أمّا في الفرض الآخر فليس له دليلٌ على الإثبات، أمّا أنا فلي دليلٌ على النفي. فرضُ الآلهة الثانية من النوع الثاني؛ الدليل قائمٌ على عدمها بما لا يُعطي احتمالاً لوجود دليل عليها، (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا)، هذا يعطي قطعاً بعدم وجود وببطلان قضية آلهة أخرى، وإذا بطل الأصل بطل الفرع وهو الدليل على وجودها، لا يوجد إمكان للدليل على وجودها، ثمّ مدّعيها أين دليلك؟ ليس عنده دليل، مدّعي الآلهة الثانية (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ)، (أم اتّخذوا من دونه آلهة) قل لهم يا رسول الله: (هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ). أنا برهنت على عدم وجود آلهة أخرى بما لا يعطيني احتمالاً بوجود برهان على قضية وجود إله آخر، برغم ذلك هل لكم من دليل على الوجود أنتم؟ أصل الدليل على الوجود ليس موجود، عقلي غير موجود، نقلي غير موجود.
(هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي)، القرآن أو الوحي، قالوا بالذكر هنا هو القرآن أو الوحي، هذا الذكرُ لي، وذكرٌ لمن معي من أتباعي المؤمنين، موجودين أو سيأتون، هذا الذكر الذي نزل عليَّ من أجل ذكري وذكر من معي، هذا هو الذكر الذي يحمل الحقائق التي يحتاجها البشر، وكلّ التعاليم والهدايات التي يحتاجها البشر، وما تريده السماءُ أن توصله إلى أهل الأرض من هذه الهدايات، هذا ذكر من معي، أضف إليه ذكر من قبلي، وذكر من قبلي في كتابي، في كتاب الله، في الوحي الذي جاءني، الذكرُ التوحيدي، قضية التوحيد، الأمرُ الأصلُ الأساسُ في الإسلام كلّه من أوّلِ يومٍ إلى آخر يوم، من إسلام آدم إلى إسلام محمد “صلى الله عليه وآله وسلّم”، هذا الأصل الأصيل، والأرضيّة التي لا تهتزّ للعقيدة والإسلام، والأمر الذي بنيت على أساسه السماوات والأرض وقام النظام، هذا الأصل يحمله الذكر الذي جاءني وجاء كلَّ الأنبياء من قبلي. هذا ذكر من معي وذكر من قبلي.
ائتوني بنبيّ واحد، برسول واحد جاء برسالةٍ من عند غير الله، قال بأنّ هناك إلهين؛ كلّ الأنبياء المعترَف بنبوّتهم في الدنيا كلّها، عند كلّ الديانات، هاتوا نصّاً ثابتاً يقول بأنّ الإله ليس واحداً إنما اثنان، واحد يقول أنا جئت من عند هذا الإله، وواحد يقول جئت من عند هذا الإله! لا يوجد.
(هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ)، أنتَ تتحدّث مع براهين، أنا القرآن أتحدَّث معهم على مستوى البراهين والأدلّة الساطعة النيِّرة، هؤلاء كأنهم ليسوا بهذا المستوى، ليسوا في هذا الوادي.
(لا يعلمون الحقّ فهم معرضون)، وأتصوّر أنّ عدم العلم بالحقّ مرّة يكون عن تقصيرٍ، ومرّة يكون عن قصور، والمُتَيّقن أنّ الله عزّ وجلّ لا يؤاخِذ عبداً على عدم علمه إذا كان عن قصور، إنّما يحاسب بقدر ما آتى. فهو يعرف بأنّ العباد ليس عندهم شيء، تحاسبني على شيء ما عندي بعد ما يصير. فعدم العلم الذي نُعاتَب عليه ونؤاخذ به هو عدم علم من منشأ التقصير لا من منشأ القصور، وهذا التقصير يحصل من الإعراض عن التأمّل والتفكّر والتدّبر. أنا إذا لم أتدبّر في آيات الله، في الكون، في آيات الكون، في آيات الأنفس، في آيات الحياة، من أين سيحصل لي العلم بالحقّ؟ ومن أين سيتركّز عندي العلم بالحقّ وشهيّة اتّباع الحقّ؟ لا يكون شيء من ذلك.
هذا عدم علم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الظاهر أنّه من منطلق التقصير، وهذا التقصير قائمٌ في أصل الإعراض عن التفكّر، والتدّبر، وإعمال العقل، وإحياء الفطرة أو الإبقاء على حياة الفطرة. أنا بلا تدبّر ألهو وألعب، وبدل تنقية النفس ألوّثها بكلّ وساخة وقذارة، فأنا الذي سَددتُ ما في القلب عن النور وأعميت بصيرتي، فأتحمَّل وِزرَ هذا الفعل.
(وَمَا أَرْسَلْنَا)، تأكيد. الخبر الذي لا يختلف خبره، ولا يتخلّف خبره، وليس محلَّ شكٍّ في صدق خبره.
(وَمَا أَرْسَلْنَا)، ضمير المتكلّمين في موضع ضمير المتكلّم، والمتكلّم لأنّ له الجلال كلّه، والجمال كلّه، والعظمة كلّها، والعلم كلّه، والقدرة التي لا تُحيجُه إلى الكذب، والغنى الذي لا يُحيجُه إلى الكذب، الغنى والقدرة لا يُحيجان أبداً إلى الكذب.
الخبر يقول لنا: صادر من هذه الجهة، من جهة الكمال المطلق (وَمَا أَرْسَلْنَا)، من جهة الجلال، الجمال، القدرة، العلم، الحكمة، الصدق.
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)، أنتم رؤساء البشريّة، أعلم من في البشريّة، أنبياء، رسل، خطّكم خطّ النملة في عبادة الله، والخضوع لله، والسجود لله، كما أنّ النملة تعبد الله، والميكروب يعبد الله، أنتم عليكم أن تعبدوا الله. عبادتهم تكوينية، وربما شعوريّة بمقدار، أنتم يجب أن تكون عبوديّتكم مع ذلك عبودية عن تصميم إرادي، ومقاومة شرسة لكلّ المضادّات، وكلّ الادّعاءات والمغريات والملهيات، أنتم عبيد ولابدّ أن تعترفوا بعبوديّتكم على كلّ المستويات. لا تذهبون إلى إله آخر، مدّعى، زائف.
(..إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)، ” فَاعْبُدُونِ” كسرة تقوم مقام الياء، (فاعبودني) أصلاً، وأستُغني بالكسرة عن الياء.
“إِلاَّ أَنَا”، قبل (وما أرسلنا) بيان مقام العظمة والجلال والكبرياء والعلم المطلق والكمال المطلق، يأتي الموضع الثاني موضع توحيد، وموضع تركيز على التوحيد: (أنه لا إله إلا أنا)، بعد لا يأتي ضمير المتكلّمين؛ لأن لا تدخل شبهة على أحد، ” فَاعْبُدُونِ”.
كلّ الأنبياء جاؤوا بهذا، أين برهانكم أنتم؟ يعني ليس هناك نبي يحمل رسالة بدعوى أنّها رسالة من إلهٍ آخر.
(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ)، هذه دعوى وُجدت في بعض القبائل العربية التي كانت تجعل من الملائكة أولاداً لله عزّ وجل.
اليهود قالت عزير ابن الله، المسيحيون قالوا عيسى ابن الله، جماعةٌ من العرب قالت الملائكة أولاد الله.
(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا)، “اتَّخَذَ” هل تعني التولُّد؟ بأنْ تزوّج وقام بمقدّمات انتاج الولد؟ أو اتّخذ تعني التبنّي، ليس عنده ولد ويتبنّى ولد؟ الولد الأول المتوّلِّد لا يكون إلا الله العلي القدير، تبارك عن كلّ ما هو مادّي، وعن كلّ محدوديّة، وعن كلّ شهوة، وعن كلّ ما يغلبُه سبحانه وتعالى، وعن كلّ حاجةٍ إلى من هو خارج ذاته، غنيٌ عن كلّ الغير؛ عن الولد، والزوجة، والصديق، وما إلى ذلك سبحانه وتعالى. الظاهر أنّ هذا الاتّخاذ هو اتّخاذ تبنّي، وهذا التبنّي يكون متى أيضاً؟ يكون لحاجة، يتسلّى الواحد، يحسّ بالفراغ، يحسّ بالضعف نوعاً ما، يحتاج إلى أنس، يحتاج إلى عزّة، يبحث له عن ولد، يحسّ بالوحدة والوحشة فيبحث له عن ولد.
الله، الاسم الموضوع على الكامل الكمال المطلق، على الموجود الحقّ المحض، على الغنى الذاتي، هذه الفرضيات كلّها ساقطة وتافهة وجنونيّة حين تفرضها في حقّ الله تبارك وتعالى.
(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا)، هو الرحمن الواسع الرحمة، والشاملة رحمته لكلّ شيء، غير مرحوم له، وإنما تحت رحمته، مو ولده، كلّهم مرحومون، كلّهم ضعاف، كلّهم محتاجون إليه، يأخذ منهم ولد؟ وهو غني عن كلّ غني، وكلّ غنيٍ محتاج إليه.
(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا)، يعني الله يحكي لنا، يتحدّث عن دعوى تافهة حين تربط بين الرحمن الذي يحتاج إليه مَن في السماوات والأرض، ويقوم بقدرته وعطائه وغناه كلّ ما في السماوات والأرض، الدعوى التي تربط بني الرحمانيّة والحاجة إلى اتّخاذ الولد، يتحدَّث لنا عن هذه القضية التي جرت على بعض الألسنة السفيهة.
(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ)، عبادٌ محلُّ رحمته، ومن عطاء رحمته، كما سبق، هؤلاء من عطاء الرحمة الرحمانيّة، عبادٌ ومن أصدق العباد، عبادٌ خاضعون تكويناً في كلّ ذرة من ذرّات وجودهم، في كلّ حيثيّة من حيثيات وجودهم.
“مُّكْرَمُونَ”، مقرّبون لله عزّ وجلّ، صِفوا الملائكة بالوصف الصحيح، دعوا عنكم هذا الجنون وهذا السَفَه، وصفهم الصحيح أنهم عبادٌ ولهم مقامٌ كريم عند الله عزّ وجلّ، هذا المقام من أين؟ من عطاء من عندهم؟ من حاجة إليهم؟ لا، إنما من كونهم عباد، هذا الإكرام مرتبط بعبادتهم وعبوديّتهم، أصدقوا العبوديّة فأكرمهم هذا الصدق عند الله عزّ وجلّ، (بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ).
ويأتي ما يبرهن على صدقيَّتهم الشديدة في العبوديّة، وما به إكرامهم.
وغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.