إلى أحبتي في الغربة .. رسالة موجهة الى الطلبة في خارج البلد (2004م)

عزيزي أيها الطالب
المسلم المغترب المحترم … يا فلذةً من فلذات بلاد الإسلام، وطاقةً مأمولةً من
طاقات المسلمين

كلماتٌ معك تمعّن فيها ودقّق في قيمتها، فما رأيته حقاً ونافعاً أخذت به، و ما
رأيته غير ذلك رددته على صاحبه

 
بسم الله الرحمن الرحيم

عزيزي أيها الطالب المسلم المغترب المحترم … يا فلذةً من فلذات بلاد الإسلام، وطاقةً مأمولةً من طاقات المسلمين
كلماتٌ معك تمعّن فيها ودقّق في قيمتها، فما رأيته حقاً ونافعاً أخذت به، و ما رأيته غير ذلك رددته على صاحبه، أو أسئلةٌ تطرحها على نفسك لا كلماتٌ تُملى عليك. واختياري بأن تكون أسئلةً تستنطق عقلك وقلبك، ودينك وضميرك، ووعيك وخبرتك، وعزمك وإرادتك، تجيب بها على نفسك، وتتعرف من خلالها ما أنت عليه، ومالك وما عليك من واقعك، وما تمَّ على يديك من بناء ذاتك. وإذا كانت كلماتٍ فهي موضوعةٌ بين يديك لاستفادتك، لا لمصادرة خياراتك.
وأنت كلما اكتشفت من واقعك ما يحتاج إلى إصلاح فعجزتْ عن ذلك إرادتُك كان عليك أن تنهض بها متعرفاً على أسباب قصورها وتلكؤِها.
وأسئلةٌ أقترح أن تطرحها على نفسك فيها ما يخاطبك إنساناً قبل أن تكون طالباً وفي كل الأحوال، و فيها ما يخاطبك مسلماً اخترت طريق الإيمان، ومنها ما ينظر إليك طالباً تعدّ نفسك لمستقبلٍ تطمح وأمتك أن يكون مستقبلاً مشرقاً واعداً.
وتعال متفضلاً ندخل لهذه الأسئلة، أما الإجابة عليها فهي لك، و أنت تحكم على ما تتوصل إليه من إجابة، و تقارن بين ما أنت عليه، وما تقتضيه الإجابة الموضوعية الصحيحة على هذه الأسئلة، فإن وجدت نفسك دون ذلك في بعض الموارد فأنت المسئول والرقيب – بعد الله والحفظة – عليها، ولك الخيار فيما تفعله مع نفسك عند خطئها.
ولا أرى أنّ حرصك على كمالك وسعادة حاضرك ومستقبلك يسمح لك بالتواني عن تصحيح الخطأ، وتدارك القصور، ومحاسبة الذات على التقصير.

* هل تعرف نفسك وحقيقة ذاتك: أنت شيء مما ترى من جمادٍ أو نبات أو أحياء معك في الأرض؛ تنمو وتتحرك، وتشاركك في مأكلٍ ومشربٍ ومسكن وتدفئة وتبريد وتزاوج وتناسل؟ تقف عند هذا الحد ولا تتجاوز عنها هذا الصعيد؟! أم أنت مخلوق آخر لك ما يتجاوز بك مستواها، ويتفوق بك عليها جميعاً؟ ثم ما ذلك الشيء الذي يعطيك التفوق عليها، ويخصك بالكرامةِ المتميزةِ من دونها؟ أهو الطاقة الفكرية فقط وقدرتك على التحليل والتركيب والاستنتاج؟ أترى أن لو سخّرنا التفكير للحاجات الجسدية التي يشاركنا الحيوان فيها، وعثنا في الأرض فساداً، وكنا أكثر عدوانية من كل شيء، ولم يكن لنا هدفٌ سامٍ في الحياة، وغايةٌ كبرى منها، ولا تطلعٌ لما وراء حياة الطين، أكنّا نستحق الكرامة والموقع الإنساني الكبير؟ أليس الفكر المسخّر للمادة وتكثيفها ولحياة البدن لا يتجاوزها ولا تكون له قيمة فوق قيمة المادة والبدن؟ وإذا كان كذلك، أليس الكثير من الحيوان أقوى بدناً وأكثر تمتعاً بلذائذ المادة وشهوات الجسد من كثير من الإنسان؟ فكيف يُقدَّم الإنسان لفكره على الحيوان إذا كان هذا الفكر في خدمة بدنٍ وشهواتٍ يتقدم فيها عدد من الحيوان كثيراً عن بني الإنسان؟
ألا ترى أنك ذاتٌ أسمى من مجرد بدنٍ وطاقةٍ فكرية تذوب في حياة البدن وشهوات المادة؟ ألا ترى أن لك بُعداً روحياً يجعلك دائماً تتطلّع إلى الكمال الذي لا تجده في عالم المادة؟ ويشدك إلى قيمٍ قد تضحي من أجلها بما في يدك منها ويجعلك متعطشاً دائماً إلى التعرف والتقرب من الكامل المطلق والغني بالذات؟ ألا تجد نفسك تفكر في ما وراء الحياة قبلها وبعدها وتبحث عن الحقيقة الكبرى التي تفسر وجودك ووجود كل ما ترى وتسمع وتصل إليه بحواسك وحتى ما لا تصل إليه حاسة الجسد، ويصل إليه الإدراك مما هو فقيرٌ أصلاً، معدومٌ أساساً، ثم اكتسى حلّة الوجود، وقام حقيقة في الحقائق، وشيئاً في الأشياء؟ ثم ألا تجد نفسك منجذباً إلى تلك الحقيقة، ملتصقاً قلبك بها، مطمئنةً نفسك بمعرفتها؟ إذا كان كذلك أفلست معي أننا أكثر من كوننا بدناً وتفكيراً مادياً؟ وأن الإشراقة النورانية التي تشعرنا بكرامتنا الإنسانية هي ما في نفخةِ الروح في ذواتنا من نور المعرفة الإلهية الفطرية بالقدر الذي يعطينا الغنى – بالقياس إلى الحيوان – بمعرفة الكامل؟ والشوق والسعي إليه، و التحلي بشيء من الكمال المطلق الذي هو عليه ولا نبلغه؟
أكتفي بهذا المقدار من الأسئلة المطروحة علينا جميعاً من حيث إنسانيتنا.
الاستقامة مبعث الفخر بالذات
* والآن فلتقرر أن ما به فخرك واعتزازك أنك صاحب بدنٍ قويٍ جميلٍ .. ثروةٍ طائلةٍ .. موقعٍ اجتماعيٍ متميز.. شهادةٍ علميةٍ عاليةٍ مردودُها كمٌ أكبرُ من المال وفرصٌ أوسعُ في عالم المادة و الشهوة .. تفكيرٌ عميقٌ يتيح أن تكتشف وتخترع لمزيد من متعةِ البدن بلا أن تتقدم خطوات في اتجاه معرفة الحقيقة الكبرى، وبناء ذاتٍ إنسانيةٍ راقية …. أهذا – بعضه أو كله – هو ما به فخرُك واعتزازُك؟ أم أن سموَ الذات، والقدرةَ على التحكم في السلوك في ضوء هدفٍ كبير، ومنهجٍ حياتيٍ صحيح، وشعورَك بأنك تملك ذاتاً تنال رضىً إلهياً لاستقامتها، واكتسابها بالمجاهدة والصبر والمصابرة ما قرّبها إلى الله، وجعلها تستضيء في شخصيتها بأسمائه الحسنى؟
أنت وما تدرك وما تقرر. وتقريرنا دائماً بمستوى وعينا وذوقنا الإنساني، وما عليه واقع الذات من مستوى.

* أتدري عزيزي أنه برغم أننا خُلقنا أُناساً، ولنا إمكاناتنا الإنسانية، لكن ما يحدد أني إنسانٌ أو حيوانٌ – فاقدٌ نصيبه من الإنسانية بحسب واقعه الفعلي – هو نوعُ الهدف الذي نختاره والخط الذي نرتبط به والدور الذي نمارسه والنظرة التي ننظر بها إلى الكون والإنسان والحياة والموت والدنيا والآخرة.
ضع نصب عينك هادفية وجودك
* بعد ذلك هل ترضى أن تساوي بين هدفك ودورك في الحياة وأشواقك وطموحاتك وبين ما عليه غير الإنسان مما في الأرض في هذه القضايا والأمور، أو بينك وبين إنسانٍ يرى الحياة سُدىً ويتخذها متعةً ولا يتحمل فيها مسئولية.

* الآن هل ترى أنّ لِزاماً عليك من داخل ذاتك أن تحدد هدفك من الحياة وهو غير أهدافك الكثيرة المتنوعة فيها؟ وأن تفكر جيداً في أي شيء توظف رصيدك الوحيد الذي لا يتكرر؟ ولأي شيءٍ تعطي حياتك الغالية ثمناً؟!
وأنت تعرف أن الهدف الكبير يحدد لنا كيف نقف، وكيف تكون خياراتنا في خططنا الصغيرة والكبيرة، وماذا نقدم ونؤخر في معايشتنا اليومية وكل تفاعلاتنا مع الحياة وما فيها من أشياء وأحداث و قضايا.

* حاول كل جهدك أن يكون تحديدك لهدفك من الحياة ودورك في ضوء رؤية كونية هادئة متأملة موضوعية تنظر من أجلها عالم الآفاق وعالم النفس وما يوحي به العقل والوجدان بعيداً عن كل التأثيرات الخارجية.
ويقينٌ أنك لو طلبت الرؤية الكونية في ضوء العقل والضمير، وفي ضوء مطالعةٍ للكون وعظمته، والنفسِ ودقةِ عالمها لقال لك ذلك كله بأنه لا إله إلا الله، و ألا هدفَ يستحق السعي وبذل الحياة كلها على طريقه إلا هدفٌ يرضي الله، ويقرب العبد إليه.

* هل تدري أنك لو لم يكن لك إلا احتمالٌ بالآخرة – لا ظنٌ ولا قطعٌ بها – لقال لك عقلك بألا تختار التسيب والعبثية، ولا تذهب إلى الانغماس في الشهوات الرخيصة، وأن عليك أن تحتاط لمستقبلك الأبدي الكبير الذي يعتمد على دورك في الحياة وموقفك المسؤول فيها؟
التزامك عدتك في اغترابك
* هل فكرت وأنت طالبٌ قبل سفرك للدراسة وبعده فيما يواجهك من تحدياتٍ وتأثيراتٍ سلبية في البيئة الجديدة؟ وهل أعددت نفسك جيداً ولازلت تعدها لمواجهة هذه التحديات والاستعلاء عليها؟

* سل نفسك وأنت في دراستك بأي وزنٍ تريد أن تعود إلى وطنك: بمستوىً علميٍ، حكمةٍ وخبرةٍ عملية، وعيٍ دينيٍ، نزاهةٍ خلقيةٍ، نضجٍ نفسياً واجتماعيٍ، قدرةٍ على ضبط النفس والسلوك؟
وهل تعلم أنك في نظر مجتمعك – وفي نظر الله عز وجل قبل ذلك – بكل هذه الأبعاد، ولست بشهادة تخرُّجِك كما قد يذهب الوهم بالكثيرين، وكما قد تأخذ به بعض الأوساط التي تشتري و تبيع الإنسان؟
كن عبداً لله وحده
* هل تحدثك نفسك بأن جو المعصية أفسحُ في المهجر من جوها في الوطن وبين الأهل والأحبة؟ وهل تجد أن في هذا إغراء لك بالمعصية؟ لو كان كذلك ألا ترى أن في هذا ضعفاً في الإيمان؟ ونسياناً لرقابة الله ؟ واستخفافاً بشأنه العظيم؟ وأن امتناعك عن المعصية، وأخذك بالطاعة إنما كان عبادةً لمن كنت تحترمه من الأهل والناس؟!
راجع نفسك أكثر من مرة واكتشف أنها تعبد العبيد أم رب العبيدِ وكلِ ما في الوجود! صحح مسارك النفسي وواقع شعورك حتى لا تكون من عبدة الأصنام. ليس هناك من تحق له العبادة غير بارئك ورازقك ومدبرك.
لو عبدت الله وحده لكنت حُراً أمام كل شيء، ولو سمحت لنفسك بأن تعبد غيره لاستعبدك كلُ شيء، فكن الحرّ الذي لا يعبد إلا الله وحده بلا شريك.

* كيف تقف ممن دعاك إلى النار: إلى فاحشةٍ…ضلالةٍ، أي انحراف؛ أتسقط معه؟ وتستجيب لهواه وتخسر عقلك وعلاقتك مع الله ومستقبلك؟ أم تكون القوي اليقظ الرشيد المخلص لمخاطبك فتنقذه من النار، و تنتشله من سقوطه، وتأخذ به إلى سواء الطريق؟ اختر لنفسك أن تشارك هذا الضعيف المهزوز المغلوب على نفسه مصرعَه فتصير معه إلى النار، وبين أن تأخذ بيده فتكون منقذه فيصير معك إلى الجنة. تذكر عزيزي أن هذا المغلوب على نفسه ربما كان ضحية إغواءٍ من ساقطٍ قبله استحثه على الانحراف كما يستحثك.

* هل أعددت نفسك قوياً ليومك وغدك، مقاوماً لكل المساومات من فردٍ أو حزب أو دولة، والتي تريد منك دينك وخيانة أمتك ووطنك ولو دفعت لك الكثير من مال الدنيا ومواقعها وزينتها؟
الإنسان لا يُشترى إلا إذا كان قد خسر إنسانيته، ومن لا دين له يمكن أن يخسر إنسانيته في أي لحظة، ومن كان على دينٍ قويم متين فلن يجد أحدٌ قدرةً على شرائه، ولن يجد هو عند أحد غير الله ثمناً لنفسه. فالذين يبيعون أنفسهم بأي ثمن من الدنيا لا يعرفون أنفسهم ولا يعرفون الله عز وجل، أما من عرف نفسه وعرف ربه فيستحيل على كل الناس أن يشتروه.
قوّم نفسك بنفسك
* أتريد أن تكون رقيب ذاتك، والقادر على اكتشاف ضعفها وقصورها، وعلى استيقاظها عند الخطأ، وردّها إلى الطريق، أم تريد أن يتولى عنك ذلك الآخرون؟ لئِن سَرّك أن لا يتولى الآخرون نقدك وتقويمك فكن أنت الذي تنقد نفسك وتقوّمها. ولاحظ في ذلك أن يكون منظورك ومعبودك اللهَ لا الناس!
وهل تراك أكبر وزناً أن لو قوّمت نفسك بنفسك أو تكون محتاجاً إلى تقويم الآخرين؟ أتمنى لك أن تستغني بتوفيق الله بتقويم ذاتك، و أن يمتد ذلك إلى تقويمك للآخرين، على أن ليس أحدٌ منا فوق الخطأِ والحاجةِ إلى أن يسمع من إخوانه النقد والتوجيه والتسديد.

* في بحثك في نفسك ورضاك عنها انظر لولدك وابنتك في مستقبل أيامك هل ترضى لشخصيتهما ما عليه شخصيتك؟ وهل ترى في شخصيتك نموذجاً مُرضياً وقدوةً صالحة لفلذةٍ من كبدك؟ إن وجدت في شخصيتك ما لا ترضاه لابنك وابنتك غداً فلابد أن تستحي منه، وتثور عليه، وتتخلص من عيبه. الطموح أن تكون القدوة الرفيعة، و النموذج الرائع لجيلٍ بكامله، ولأكثر من جيل.
صلاحك دعم للإسلام وانحرافك حرب له
* أنت إنساناً تتحمل مسؤولية.. وأنت طالباً تضاف إلى مسئوليتك الإنسانيةِ مسؤولية أخرى.. وأكبر مسؤولياتك وأنت مسلم. فهل تجد نفسك وفيّاً بمسؤولياتك الثلاث؟؟ أتدري أن حسنتك من جدٍ وعلمٍ، وأخلاقٍ وعفةٍ، ونزاهةٍ، ووعيٍ وحكمةٍ، وصدقٍ وأمانةٍ، يعُدها الآخرون حسنةً للإسلام؟ ويجدونها من صنعه فيكبرونه، ويقربهم ذلك إليه، وأن السيئة منك في نظرهم سيئته، وهي منك وبالٌ عليه، ومنفرة للقلوب منه، وسلاح ٌ بيد أعدائه للإغارة عليه؟؟ فأنت مجاهدٌ في الإسلام ومن أجله لو استقمت، ومواجهٌ للإسلام ومحاربٌ ضده لو انحرفت!! إن لإسلامك حقاً ثابتاً عليك بأن تكون واجهةً مشرفة له، وألا تكون لافتة سوءٍ تُلحق العيب به.أتدري أنك على الأول مثاب، وعلى الثاني معاقب؟ وذلك لا يخفى عليك.

أستودعك الله، وأتمنى لك أن تخلو إلى عقلك، وفطرتك، وضميرك، وهدى دينك في نفسك، وتفكيرك في مصلحة حاضرك ومستقبلك، وما هو خير لك ولأمتك وأنت تقرأ ما كتبتُ إليك، لتخلص إلى ما هو خير لك في دينك و دنياك، وأرضى إلى ربك الغني عن كل العباد والذي يرضيه خير عبده وكماله.

زر الذهاب إلى الأعلى