كلمة آية الله قاسم ليلة مولد الإمام الحسن “ع” في قم المقدسة ١٤٤٠هـ
كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم ليلة مولد الإمام الحسن المجتبى “عليه السلام” بحسينية الإمام الرضا “عليه السلام” البحرانية في قم المقدسة – 14 رمضان 1440 / 20 مايو 2019م
للمشاهدة :
نص الكلمة :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على الأبرار الأطهار الأخيار المصطفين من الله عز وجل لهداية العباد ولقيادة المسيرة الإنسانية محمد بن عبد الله وآله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
نزلت الرسالة على النبي محمد “صلى الله عليه وآله” إلهية نقية طاهرة كاملة، هي رسالة تأخذ بالإنسان إلى الله في كل حيثية من حيثيات الحياة، وعلى كل طريق من طرق الحياة، وفي كل لحظة من لحظات الحياة، في كل بُعدٍ من أبعاد الإنسان الداخلية، داخل حياة نفسه وخارج الحياة والساحة العامة التي يصبّ الإنسان جهده فيها.
من دون هذه الرسالة الطاهرة لا يصل الإنسان إلى كماله، ولو كان الإنسان يمكن أن يصل إلى كماله من دون رسالات ورُسل من الله، لما كان الرسل والرسالات إلا لغوا، وحاشى الله عز وجل أن يأتي منه لغوا. إنها الضرورة الحتمية لتربية الإنسان، لتكملة الإنسان، للعدل في الأرض، لأن يصل الإنسان إلى سعادته، أن تأتي الرسالات والرسل من الله سبحانه وتعالى.
الرسالة الضرورة
هي ضرورة اليوم لقوم معينين، لفترة زمنية معينة، أم هي ضرورة ما دامت الحياة على الأرض، وما دام إنسانٌ على الأرض؟
هذه الرسالة كما نزلت طاهرة معصومة نقية يجب أن تبقى كذلك طوال ما بقي إنسان على وجه الأرض، فلابد أن تكون الرسالة الإلهية التي تخاطبه وتقود خطاه إلى الله تبارك وتعالى هي تلك الرسالة على نقائها الأول، صفاءها الأول، عصمتها الأولى.
وكيف تكون؟ كيف تبقى الرسالة معصومة؟ وكيف يبقى الوحي كما هو؟ كيف تبقى المسيرة في الأرض إلهية؟
جاءت رسالات ورسل كثيرون، وكل رسالات الرسل متكاملة، وكل المرسلين أخوة صادقون في الله عز وجل، لقيادة البشرية على خط الله.
تأتي الرسالة والنبوة نقية صافية على يد النبي والرسول، ويأتي من بعده وصيٌ يحافظ على رسالته وعلى عطاء نبوّته، ثم يكون التمرد ويكون الإبتعاد عن الرسالة لتأتي رسالة أخرى، أما بعد رسول الله الأعظم “صلى الله عليه وآله” فلا رسالة جديدة، ولا رسول. فهل تترك الرسالة الإلهية من بعد رسول الله “صلى الله عليه وآله” لإجتهاد فلان وفلان؟ وتتعدد الإجتهادات، ويتكثّر المجتهدون ليكون عندنا ألف إسلام ومليون إسلام؟ ألف صورة عن الرسالة ومليون وصورة عن الرسالة؟ وأن يكون عندنا ألف قائد ومليون قائد؟ وكل قائد وراءه أمة، لتكون الأمة الواحدة في الأرض أمماً كثيرة تبلغ الألوف وتبلغ الملايين؟ وهل هذه حكمة الله؟ وهل هذه رحمة الله بعباده؟ وهل هذا علم الله؟. هذه نقطة.
هل في الإسلام حاكمية؟ هل مع النبوة إمامة؟
أما عن حاكمية الإسلام، فهناك آيات على الأقل، آيات أخرى موجودة كثيرة، ثلاث الآيات، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، والآيات تتكلم عن أهل الإنجيل، وعن أهل التوراة، وعن أهل القرآن.
السؤال، هل للإسلام حاكمية؟
كيف نلغي حاكمية الإسلام أمام هذه الآيات الصريحة؟ وهل حاكمية الإسلام هي حاكميةٌ تحكم سلوك الزوج والزوجة فقط؟ سلوك الولد ووالده؟ سلوك الأسرة؟ تحكم حالة العبادة بمعناها الخاص فقط؟ تحكم مجال التجارة فقط؟ إن لم نكن لنا نصٌ على الحكم السياسي -خاص- لو، فإن الإطلاق يقول بحاكمية الإسلام في كل المجالات. هل يريد الله عز وجل أن يطاع في مسألة دون أخرى؟ في ساحة دون أخرى؟ في ميدان دون آخر؟ أو أن طاعته المفروضة على العباد (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، ليعبدوني في التجارة فقط؟ ليعبدوني في الصلاة فقط؟ أو كل حياتهم من أجل العبادة، والسياسة بُعدٌ مهمٌ جداً من أبعاد حياة الإنسان.
النبي محمد “صلى الله عليه وآله” وقت أن كان في هذه الحياة، ووقت أن كان في المدينة وقامت الدولة، من كان الحاكم؟ محمد “صلى الله عليه وآله” أو غيره؟ لا جدال في أن الحاكم كان هو رسول الله، أكان حاكماً بعنوان أنه من قريش؟ بعنوان أنه عربي؟ بعنوان أنه مكي؟ بعنوان أنه مدني؟ بعنوان أنه مجاهد؟ أو بعنوان أنه نبي وأنه حاكمٌ من الله؟ بمَ يجيب المسلمون كل المسلمين؟ هل من مسلم أن النبي “صلى الله عليه وآله” كان مبلّغاً ومعلماً ومربياً ومزكياً وهادياً بعنوان أنه نبي، وأن هذا كله بتكليفٍ من الله، وبإذن من الله، وبتنصيب من الله، أما هو في بعده السياسي فلا علاقة له بالله ولا بحكمه ولا برسالته ولا بنبوته، وإنما كان حكمه بعنوان أنه إنسان متميز في قدرته السياسية، أو متميز في إنتماءه القبلي، أو ما إلى ذلك؟ هل من مسلم يقول بأن حاكمية رسول الله كانت من هذه الخلفية؟ من خلفية أرضية؟ أو من خلفية أنه رسول الله ونبي الله والمكلف بقيادة المسيرة السياسية في الأرض؟ واضح جداً أن حكم الرسول لم يكن من منطلقٍ أرضي، ولا إمتيازٍ أرضي، ولا إنتماءٍ قبلي وما إلى ذلك، وإنما كان بعنوان أنه النبي الرسول المكلف بقيادة مسيرة الحياة في كل أبعاد هذه المسيرة، وقيادة الإنسان من كل حيثياته وأبعاده.
الإمام الحسن “عليه السلام”، فيما روي عنه أنه يروي عن رسول الله “صلى الله عليه وآله”: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشر ريبة والخير طمأنينة).
غاية، متيقن، أنت متيقن، أنا متيقن من ربحها وسلامتها وعلوّها وسموّها، غاية تقابلها وتباينها، عندي شكٌ في سموّها، في سلامتها، طريقان إلى غاية معلومة مرضيّة، طريق لا ريب فيه أنه موصل، طريق آخر مقابل مشكوك في موصليته. علاقتان، قيام، قعود، قيامان مشكوك أحدهما، معلوم الصدق معلوم الحقانية الآخر، وهكذا، ماذا يقول العقل؟ وماذا يقول الدين في مثل هذا الأمر؟ أأخذ بما فيه ريبة أو بما لا ريب فيه؟
الإمامة شيءٌ من الإسلام، درعٌ في الإسلام، ومارسها الرسول “صلى الله عليه وآله”، الإمامة الشاملة، إمامة الدين وإمامة الدنيا بكل أبعادها، مارسها رسول الله وهي ثابتة قرآناً وسيرة وأحاديثاً. هذه الإمامة إمامةٌ لا ريب فيها، وإمامةٌ مشكوكٌ فيها، (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك..) إذا كانت أامي إمامتان، إمامة معلومة الصدق، يقينة الحقانيّة، وإمامة أخرى محل شكٍ ولو قليل، ماذا يقول العقل وماذا يقول الدين؟ أأخذ بالإمامة المعلومة المقطوع بها المتيقنة، التي أنا متيقنٌ برضى الله بها وأخذها بي إلى الله عز وجل، أو أن أأخذ بالإمامة المشكوكة؟
بين إمامة عليٍ “عليه السلام”، وإمامة معاوية، بين إمامة الحسن “عليه السلام وإمامة معاوية، وبين إمامة الحسين “عليه السلام” وإمامة يزيد، بين إمامة زين العابدين، محمد الباقر، جعفر الصادق إلى آخر الأئمة “عليهم السلام” وبين إمامة خلافة بني أمية وبني العباس، تعال يا مسلم، أنصف، قل كلمة تنبىء عن ضمير إنساني حي، أن المتيقن إمامة معاوية أو إمامة علي بن أبي طالب “عليه السلام”، قُلها صريحة.
المتيقن إمامة الحسن أو إمامة معاوية؟ كم هي الآيات في أهل البيت “عليهم السلام”؟ ألا تكفي؟ آيات الكتاب الكريم، ألا تكفي الأحاديث المتواترة عن أهل البيت “عليهم السلام”، ألا تكفي الأحاديث المتواترة عن جميع المذاهب مما يدل على إمامة أهل البيت وحصر الإمامة فيهم “عليهم السلام”؟
أين موّدة القربى للإمام الحسن “عليه السلام”؟ يخطب أول خطبة يوم الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك، يوم استشهاد أمير المؤمنين “عليه السلام”، والمسلمون في ذاك اليوم وقد افتقدوا خليفتهم الإلهي، يتطلعون إلى الخليفة الذي يأتي من بعده، وهم يعرفون من هو الخليفة بنص أمير المؤمنين “عليه السلام” وبدلالة النصوص عن رسول الله “صلى الله عليه وآله”، وبدلالة القرآن الكريم، ولكنهم ينتظرون تنصيبه الرسمي الأرضي، أو إعلانه عن نفسه إذا صح، تأتي خطبة الإمام الحسن “عليه السلام”، تركزت الخطبة على قيمة أمير المؤمنين “عليه السلام” في كلمات قصيرة، وذَكّر عن نفسه بأنه ابن رسول الله، وأنه من أهل البيت، الذين أوجب الله مودّتهم على العباد، وأنه من أهل البيت المعصومين، وبذلك يذكر مؤهله في إعلانه عن إمامته وأنّه ابن رسول الله للنصوص التي تؤكد على أن إمامة المسلمين من بعد رسول الله لا تخرج عن صُلبه، وأنّه من أهل البيت الذي نُص على مودتهم قرآنياً.
الإمام الحسن هنا بعد عليٍ “عليه السلام”، وفي حالة إعلان الإمامة، يقول تعالوا يا مسلمين أعطوني هدايا؟ ابكوا عليّ حين أموت؟ اعطفوا عليّ؟ هي مودة أهل البيت هذه؟ هل مودة أهل البيت التي فرضها الله هي أن نبكي عليهم وانقضى واجب الموّدة؟ أن نقدّم لهم هدايانا وانقضى واجب المودة؟ أن نسلم عليهم ونقبلهم وانقضى واجب المودة؟
مرة تكون مودة لطفل يا أخي، ومرة تكون لأب، ومرة تكون لزوجة، أو مرة تكون لصديق، هذه المودات هل تكون على مستوىً واحد؟ وبلون واحد؟ وباسلوب واحد؟
مودة أهل البيت “عليهم السلام” بما هم أهل علم القرآن، وبما هم معصومون، وبما هم أولياء من الله عز وجل صادقون، ما مودتهم؟ الأخذ منهم؟ اتباعهم؟ طاعتهم؟ الإستجابة لأمرهم ونهيهم؟
العصمة، ماذا تعني العصمة؟
تعني علماً لا يفارق علم القرآن، الثقلان، علماً لا ينافي علم القرآن -هذا على المستوى العلمي-، تعني شعوراً لا يفارق الشعور الذي يريده القرآن، تعني التطلع، النية مما لا يغادر خط القرآن، تعني الحركة والسكون اللذين لا يخالفان القرآن، تعني أن لا يهتزّ له موقفٌ يأخذ به يميناً شمالا عن خط الله لموقف رعب، للموقف المزلزل، أن لا تأخذ منه الدنيا بكل زينتها، بكل زخرفها، قيد أنملة من شعور ليميل إليها، تعني نفساً مستعلية على الأرض وكل من فيها، لا تهاب شيئاً من قوى الأرض، لا تركع لشيء مما على الأرض أو في السماء غير الله سبحانه وتعالى.
هتاف الحضور: لن نركع إلا لله.
تعني نفوساً لا تلذّ لها لذة، ولا تهنأ لها لحظة خارج رضا الله سبحانه وتعالى، تعني نفساً كنفس عليٍ “عليه السلام” لو وقفت الدنيا كلها في وجهه لتردّه عن شيءٍ من الحق مما يأبى الله عز وجل أن يضيع لما أرتدّ ولما هاب ولما أحجم ولما تراجع، تعني أن لو غضبت القبيلة، غضب الولد، غضب الزوج، غضبت الدنيا كلها، فهذا الغضب لا يزلزل موقف المعصوم ولا يغيّره عنه مُغيّر.
هذه العصمة التي تشمل بعلمها السياسة وغيرها، وتشمل بقوّتها وصمودها مسرح السياسة ومسرح العسكرية وكل مسرح، هذه العصمة التي تعطي شخصية، صورة طبق الأصل عن الرسالة، عن القرآن، عن الرسول “صلى الله عليه وآله”، هذا هو الإمام، هذا هو الحسن.
الحسن “عليه السلام” إمامٌ في صلاته، ليس إمام جماعة، يعني صلاته تتقدم كل صلاة، وتقوم إماماً لكل صلاة، وتقوم مُعلما لكل من يريد أن يصلي. إمامٌ في صيامه، إمامٌ في صلاته، إمامٌ في حجّه، إمامٌ في حربه، إمامٌ في سلمه، إمامٌ في صلحه، إمامٌ في قعوده، إمامٌ في قيامه، ولِذا (الحسنُ والحسين إمامان قاما أو قعدا). وكما عن ابن شراشوب في كلمته أنَّ هذا كان محل إجماع المسلمين، أو ما عليه المسلمون جميعاً، وأن الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا.
يعني الإمامان معفوّان، يريد أن يقوم، يحارب حيث يقتضي الظرف الحرب، أو لا يحارب، الظرف مقتضٍ للحرب وهو لا يحارب، حارب أو لم يحارب فهو إمام؟
الحسن “عليه السلام”، كان الظرف ظرف قيامٍ فقعد، أو كان الظرف ظرف قعودٍ فقام، فهو إمام. هل هو الفهم هذا يعني؟، صلّيت أو لم تصلِّ فأنت مؤمن؟ جاهدت أو لم تجاهد فأنت مؤمن؟ ومرضي عند الله وفائز عند الله وإمام وعلى الناس أن يأخذوا بك وتقود المسيرة البشرية؟ هو هذا؟ طبعاً لا أحد يقول بهذا الفهم أصلاً.
يعني هما مقياسان، بما لهما من عصمة علمّية، وعصمة عمليّة وعصمة نفسيّة، هما مقياسا صحّة القعود وصحّة القيام، يعني موقفهما يكشف أنَّ موضوع الخارج يقتضي القيام أو يقتضي القعود، إذا شَخّص الإمام فأنتهى كل تشخيص، إذا شخّص الإمام بأن الظرف ظرف قيام فلا قائل بأنَّ الظرف ظرف قعود،
المجتهدون الآن، فقهاؤنا العظام يجوز أن يشخّص أحدهم بأن الموقف موقف قيام، والآخر يرى بأن الموقف موقف قعود، ويجوز أن يكون هذا رأي هذا هو الرأي الصحيح، وأن يكون تشخيص ذلك هو الصحيح وإن كان الحكم لرأي الولي الفقيه القائم في وقت هذا الإختلاف، لو حصل هذا الإختلاف فإن الأمة عندها إمام فالطاعة تكون للإمام هذا، لكن أنّ الحق مئة في المئة مع الإمام القائم وهو غير معصوم. الحق في الواقع، وأن التشخيص هذا هو الحق، أو تشخيص ذلك هو الحق، فالعلم عند الله تبارك وتعالى، وإن كان الحكم الظاهري ما يجب على المسلمين ظاهراُ هو إتباع الإمام الفعلي.
أما بالنسبة للمعصوم “عليه السلام“ فلا يمكن أن يختلف تشخيص الحسين والحسن، لأن الواقع لا يمكن أن يتعدد، ونظرتهما لا يمكن أن تخطئ الواقع، ولأن الواقع واحد، وكلٌ من الإمامين لا يخطئ في نظرته للواقع فإذن لا يمكن أن يختلفا في تشخيص الواقع.
فسكوت الإمام الحسن “عليه السلام” في مسألة المهادنة مع معاوية ليست سكوتاً تعبُدّياً فقط، لطاعة الإمام الفعلي، إنما التشخيص أيضاً عنده إنما الظرف ظرف مهادنة وليس الظرف ظرف إصرار على المواجهة للظروف الموضوعية القائمة يومذاك.
(…إمامان قاما أو قعدا)، فليس للأمة أن تتأخر عن موقع الإمام لو كان قياماً، وليس لها أن تتقدم على موقف الإمام لو كان قعودا، أمره أمر الله، نهيه نهي الله، كما كان أمر ونهي رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم”.
الإسلام ليس فيه فصل بين الدين والسياسة، الرسول جمع بين الدين والسياسة، وأوصى بأن يتوّلى أمر قيادة الدين والسياسة، الدين والدنيا، من بعده أمير المؤمنين “عليه السلام”، والآيات الكريمة (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ…) لا تسمح بأي فصل بين الدين والسياسة، وآيات وآيات، وأحاديث وأحاديث.
حينما نُسقط العصمة من الحاكم الأصل، ونقول أن الحاكم لا يجب أن يكون معصوما، يعني لا علمه معصوم، ولا عمله معصوم، ولا نيته معصومة، ولا مشاعره معصومة، ولنتوقع منه أن يأتي بما لا يُرضي الله، وأن يأتي منه بما لا يعلم موافقته لحكم الله، لنتوقع منه المخالفة في مجال الفكر وفي مجال العمل وفي مجال النيّة، –يبقى شرط العدالة نشترطه أو لا نشترطه هذا شيء آخر كذلك–.
حين لا تكون عصمة يبدأ تخالف مبدئي بين السياسة وبين الدين، وكلّ ما هو خروج عن العصمة فيه خروج عن الدين، هذه درجة.
ولذلك أُنكرت حتى وجوب العصمة، حتى ينفتح المجال لحكم غير المعصوم، كيف يحكم غير المعصوم والإسلام يوجب العصمة في الحاكم؟.. خَسِرنا كل الحكم، وسقطت كل التطلّعات في الحكم، لابد أن نحارب اشتراط العصمة حتى في الرسول، أو نشكك في العصمة حتى في الرسول، ونخلق له مواقف مخالفة للعصمة.
صار هذا التدّرج. متى أُعلن عن الفصل بصورة واضحة وصريحة؟ متى أعلن عن الفصل بين الدين والسياسة؟ حين كابر معاوية علياً “عليه السلام” في الخلافة، معاوية لم يقدم نفسه معصوماً وقد لا يقدم نفسه أو لا يقدمه المسلمون عادلاً، وقطعاً لا يقدم نفسه أنه عالم قرآني يعلم بواقع القرآن أو حتى يعلم بما عليه المجتهدون الكبار من علم القرآن، لا يقدم نفسه بهذا المستوى، والذين قدموه لا يقدمونه على أمير المؤمنين كذلك، فهذا إعلان عن ماذا؟ هذا إعلان عن الفصل بين الدين والسياسة، وتدرّج، فجاء الحسن ومعاوية، وجاء الحسين ويزيد، نزّلنا بعد ذلك إلى سقوط -شرط العدالة غير مذكور، ولكن بعد ذلك انتهى شرط العدالة، والآن دساتير البلاد الإسلامية ليس فيها شرط العدالة أبداً، ووصلنا إلى انتفاء شرط الإسلام في الحاكم للمسلمين-، من أين بدأ فصل الدين عن السياسة؟ من القول بعدم اشتراط العصمة في الحاكم المسلم، وهكذا بفصل السياسة عن الدين ابتعد المسلمون كل المسلمين عن كثيرٍ من قضايا الدين وعن أساسيات الدين، وهل يسلم الدين في ظل سياسةٍ تعادي الدين؟ وتملك كل الإمكانات التي تستخدمها ضد الدين؟
الحاكم بيده الثروة النفطية، وبيده الإنتاج التكنولوجي، بيده الأرض، بيده الزراعة، بيده كل شيء، والدين بيده المسجد إذا سلم على المسجد، ولكن الحاكم يضع القوانين على المسجد وينصّب الإمام -إمام المسجد- ويفرض عليه خطبة يوم الجمعة، الدين دين محمد أو دين الحاكم؟ الدين دين الله أو دين الحاكم؟ هذا دين من؟ على ذوق الحاكم، على عقلية الحاكم، على شهوة الحاكم.
ما لم ترجع الإمامة لأهل البيت “عليهم السلام”، ونحن ننتظر ذلك، أن ترجع بظهور الإمام القائم “عليه السلام”، لا شك أن الإسلام في ضياع، الإسلام “زرزور” صغير، “حوطة” (حائط) هابطة، بناية متداعية، في ظل سياسة تعاديه، في ظل سياسة تخطط ليل نهار ضده، تستأصل كل صوت إسلامي يرفع صوت الإسلام، هذا الإسلام مسكين، مسكين هذا الإسلام.
هتاف الحضور: لبيك يا إسلام.. لبيك يا إسلام..
ولذلك جاء واجب التمهيد، على مستوى الفرد، على مستوى الجماعة، على مستوى الدولة، ليوم الإمام القائم “عليه السلام“، وإلا الحالة في نفسها لا توصل إلى الإمام القائم “عليه السلام“، الحالة في نفسها تقطع الطريق على الإمام القائم “عليه السلام”، تُذهب الأمل في قيام القائم “عليه السلام“، الأمل في ماذا؟ في عمل التمهيد، في الممهدين، في الموطئين، على مستوى كل الأبعاد العملية، قوة في كل الجوانب، على كل المستويات، حتى تقوم أمة من المسلمين على قدم، ليقوم الإسلام من بعد ذلك على قدم.
الإمام الحسن “عليه السلام” إمامته ثابتةٌ بالنص وثابتةٌ بالشورى والبيعة، لا أدري كيف يتوقف مسلمٌ في إمامة الإمام الحسن “عليه السلام”، إمام كل النصوص التي تدل إمامة أهل البيت “عليهم السلام” هو داخلٌ فيها مئة في المئة، لا أحد ينكر أن الإمام الحسن هو رقم أوّل، هو وأخوه الحسين “عليهما السلام” بعد أبيهما من بين أهل البيت “عليهم السلام”، أيشك شاك في أن الحسن من أهل البيت؟ من أهل المباهلة؟ من أهل الموّدة؟ من الأبرار؟ أيشك شاكٌ في أن الحسن من الثقل الأصغر؟ أيشك شاكٌ في أن الحسن من الداخلين في حديث السفينة؟
فكل النصوص وهي ضاربة حدّ التواتر، التي تدل على إمامة أهل البيت “عليهم السلام“، تدل على إمامة الحسن “عليه السلام“، إلى جنب النصوص الخاصة به، ويوم خطبته “سلام الله عليه“، يوم 21 من شهر رمضان المبارك، يوم الشهادة المُفجِعة، شهادة أمير المؤمنين “عليه السلام“، في هذه الخطبة، وبعدها ينهال عليه المسلمون الذين يغص بهم المسجد لمبايعته، أحصلت بيعة لمعاوية، ليزيد بهذا المستوى؟ إنْ قال المسلمون بالشورى والبيعة فالحسن إمام، وإنْ قالوا بالنص فالحسن إمام.
وبدأ الخروج عن خط الإمامة التي يؤمن بها أهل البيت “عليهم السلام”، وعن خط الخلافة الذي تؤمن به مدرسة الخلفاء، بدأ الخروج على ذلك بتوّلي معاوية، الحسن هو الخليفة الخامس في فكر خط الخلافة، وهو الإمام الثاني في فكر مدرسة أهل البيت “عليهم السلام”، لكن مع وجود الخليفة الخامس من أين تأتي خلافة معاوية؟ أليس ظلماً؟ أليس خروجاً على الإسلام في نظر كل المسلمين؟ وكيف يُلغى الحديث عن الحسن، وعن علي “عليه السلام” وهما الخليفتان الأخيران من الخلفاء الخمسة؟ أليس رأيهما في الحكم ورأيهما في المسائل الأخرى أولى بالأخذ من رأي غيرهما؟
الإمام الحسن “عليه السلام”، الإمامة ليست ملكه، وإنما كانت تكليفاً له، لم يُنصّب نفسه، ولم تنصّبه الأمة، وما كان إعتماده في إمامته بيعة الناس -إنما بيعة الناس هي التمكين كما مكنت رسول الله وإعطاء عهد من الناس بأن يضعوا يدهم في يد رسول الله يدرؤون عنه، يسيرون في خطه في الجهاد، يبذلون أرواحهم وأموالهم في سبيل ما أمر به مما يرضي الله تبارك وتعالى-، الإمام الحسن “عليه السلام” إمامته ثابتة بالنص، فهو لم ينصب نفسه إماماً، وليس له أن يعزل نفسه عن الإمامة، فهل عزل نفسه لصالح معاوية؟.. لا، وإنما هي الهدنة التي حكمت بها الأمة على الحسن “عليه السلام”، ولم يحكم بها على الأمة. الهدنة فرضتها الأمة على الحسن ولم يفرضها هو على الأمة، إنما هو راعى فيها بقاء الأمة التي تخلّت عن نصرته وخانته وانخدعت بعطاءات معاوية ودنياه، والخلل كان سابقاً على إمامة الإمام الحسن “عليه السلام”، كان الإمام علي “عليه السلام” يدفع بأهل الكوفة لمواجهة معاوية مرّات ومرّات ويناديهم وهم يمتنعون، فكانت الخلخلة في الجيش، ولظروف لا يسع الكلام عنها موجودة منذ أيام أمير المؤمنين “عليه السلام”، وليس أن الإمام الحسن كان يعاني من حالة قصور في إدارة الجيش وفي قيادة الجيش وفي ضبط الجيش.
من أين يأتي النصر، ومن أين تأتي الهزيمة للأمة؟
مرّة تأتي الهزيمة من القائد، ومرّة تأتي من الأمة، ومرّة تأتي من الأمة والقائد، هذا يعجز الأمة تعجز، القائد يعيش فقد الثقة والأمة تعيش فقد الثقة، القائد يبخل على الله والأمة تبخل على الله، الأمة تهون عليها عزتها والقائد تهون عليه عزّته، هنا انتكاسة واضحة جداً لابد أن تحدث.
مرّة تأتي هذه النقاط من الضعف والمُقعِدة في القائد، ومرّة تأتي في الأمة. قائدٌ بلا طاعة لا يستطيع أن يفعل شيء، رسول الله لو لم يحصل له على أنصار لما استطاع أن يوجد هذه الأمة، إبراهيم “عليه السلام”، كل الأنبياء كبار عظام أفذاذ، أهل من أحد يشك في شجاعة إبراهيم “عليه السلام”، في صموده، في صبره، في مقاومته، في كبريائه الإلهية، لم يستطع أن يوجد أمة.
ومرّة يكون القائد مفقود، القائد واحد على مئة من القيادة، كل قيادة على مستواها بلا أدنى إشكال، وكل وضع قيادي وكل مجال للقيادة له خصوصياته وله كفاءاته وله متطلباته.
على مستوى قيادة الأمة نحتاج إلى القائد الإلهي الكبير المعصوم، ومن بعده الأقرب فالأقرب إلى حالة المعصوم “عليه السلام”، قادتنا الكبار في زمن الغيبة، كبار كبار عظماء أفذاذ جداً، لكنهم قادة بَدليّون، قادة إضطرار، بديل القائد الأصل، والقائد الأصل هو القائم “عليه السلام”، هؤلاء أفذاذ ودوّخوا الدنيا، وأحدث ما أحدث فيهم السيد الخميني “أعلى الله مقامه”، لكن هذا بديل القيادة الأصل التي قال بها الله سبحانه وتعالى.
إن شاء الله تجد الأمة القادة الأكفاء باستمرار، وتهتدي الأمة إلى الوضع الصحيح من إتباع القيادة الأقرب إلى القيادة الإلهية وإلى القيادة بها خصوصيات هذا النوع من القيادة، وتتدبّر الأمة أمرها، وتصرّ على عزتها، وتصرّ على عودتها للأصالة ولخط السماء، وحينئذ يكون الفرج إن شاء الله.
وغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.