خطبة الجمعة (115) 12 ربيع الثاني 1424هـ – 13 يونيو 2003م
مواضيع الخطبة:
الأمانة (1) – هل نبقى أمة؟ –
من هو الطائفي؟ من يغذي الطائفية؟
الطائفية تعني حربا داخلية تقضي
على وحدة الأمة، وعلى إمكاناتها، وعلى وقتها الذي يجب عليها أن تستثمره في صالح
بنائها، ومواجهة عدوها، الطائفية تعني مواجهة الإخوة مواجهة لا تبقي من أخضر ولا
يابس.
الخطبة الأولى
الحمد لله من أول الدنيا إلى فنائها، ومن أول الآخرة إلى بقائها، حمداً فوق كلِّ حمد، لا يدركه عدٌّ، ولا يقف به حدّ. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحيي ويميت، ويميت ويحيي وهو حي قيُّوم، على كل شيء قدير.
وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله خُلُقُه عظيم، وطريقه قويم، وملته ثابتة هادية، وشريعته عادلة بانية. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله الهداة الميامين البررة.
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله الذي لا يُغني عن رضاه رضا، ولا يُجدي مع سخطه شيء، ولا يضر مع نفعه ضارّ، ولا ينفع مع ضره نافع. عباد الله راقبوا الله في أماناتكم وتعاهدوها، وليس من مال ولا ولد ولا أهل ولا عهد لأحد ليس فيه باطل إلا وهو أمانة، وأكبر الأمانات دين الله، وأقدس العهود عهده، وأغلظ المواثيق ميثاقه. وحرمة كلِّ أمانة من حرمة أمانته، واحترام كل عهد من احترام عهده، وقداسة أي ميثاق من قداسة ميثاقه، ومن خان الله فلا أمانة له، ومن استخف بعهده فلا عهد له، ومن هان عليه ميثاقه لم يكرم عليه ميثاق.
جعلنا الله من أهل طاعته، وأعاننا على أداء أماناته، ووفقنا للوفاء بعهده، واحترام ميثاقه، ميثاق الإيمان الحق، والعبودية الصادقة، والولاء الثابت، والطاعة الكاملة، ونصرة الدين، والإخلاص للمؤمنين. وصلَّى الله على محمد وآله الطاهرين.
وهذا حديث عن الأمانة نهتدي فيه بكتاب الله، وحديث المعصومين عليهم السلام:
أولاً: أمناءٌ صادقون:
} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ { 27/ الأنفال.
} وَالَّذِينَ هُمْ ِلأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ { 8/المؤمنون.
“لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحج، والمعروف، وطنطنتهم بالليل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة”(1) عن الرسول (ص).
1. الإيمان عام وخاص. إيمان عامّ بمعنى الإسلام المتقوّم بالشهادتين، والعاصم للدم والعرض والمال. وهناك إيمان خاص وهو على درجات، وقد يجتمع مع الإيمان العام درجة وأخرى من الفسق، ومن الخيانة، فليس كل مؤمن ولو بالإيمان العام لا يخون، وليس كل من حدثت عنده خيانة ما؛ هو ليس بمؤمن بالإيمان العام.
} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ {.
حين تقرأ هذه الآية ونحن نعلم من الخارج بأن ليس كل من خان أمانة من مال أو سرٍّ مثلا خرج من الإيمان كليّاً؛ فإذاً، ولو في ظلّ هذه المقدّمة الخارجية نفهم من الآية الكريمة أنها تجمع بين إيمان المؤمن، وبين أن يكون خائنا بخيانة ما. وهذا الإيمان كما سبق هو الإيمان العاصم في الدنيا للمال والدم والعرض والذي يقوم عليه التناكح، ويقوم عليه الميراث.
أما أن هذا المؤمن يُخلّد طويلاً في النار حتّى توافيه رحمة الله أو لا يُخلّد فذلك راجع إلى درجة إيمانه.
2. أمَّا الإيمان الحق فأرضية صلبة، وعلّة تامّة لتحمل الأمانات والحفاظ على العهود ورعايتها الرعاية التي تحميها عن حالات النقض والثلم والوهن. فالمؤمن يرعى أمانته، كما يرعى صحته، وولده، وأعزّ شيء عنده، بل ربما كان لها أشد رعاية.
فالمؤمنون ليس أنهم يحفظون الأمانة أي لون من حفظ، إنما يحفظونها الحفظ الذي يقوم على المراعاة والحراسة، ويقوم على التنبّه والتلفّت، والإحساس المعمّق بثقل الأمانة. وتسألني أي الأمانات؟ أقول لك كلّ أمانة.
إن الأمانات كثر، والعهود قد تكون عهودا مع الله، وقد تكون عهودا مع غيره، وأي عهد لم يكن في معصية الله ولم يخرج على أحكام شريعته فهو عهد محترم محروس من الإنسان المؤمن يحافظ عليه كما يحافظ على حدقة عينه.
3. النصوص السابقة منها ما يقول لنا أنّ من لم يؤد الأمانة، ولم يصدق الحديث كان غير مؤمن الإيمان الحقَّ الكافي، وليس أن المؤمن يكون الكاذب الخائن.
قد تجد من مؤمن خيانة، قد تجد منه كذباً، كيف تحدث من المؤمن الخيانة وكيف يحدث من المؤمن الكذب؟ يحدث هذا لفقده درجة من الإيمان تصون الأمانة، وينطلق منها الحرص دائماً على الصدق.
أمَّا من وصل من درجات الإيمان إلى الدرجات العالية فلست تجده كاذبا، ولست تجده خائناً.
فإن تجد مؤمنا قد خان أو كذب فاعرف أن في إيمانه ثلمة، وليس أن إيمانه كامل وقد جامع إيمانه الكامل الكذب أو الخيانة، أبداً أبداً، لا تجامع الخيانة ولا الكذب الدرجة العالية من الإيمان.
فمن هم المرشّحون لتحمّل الأمانات في الأرض؟ من هم المرشحون للمحافظة على مكاسب المحرومين وعرقهم؟ من هم الذين تقوم بهم الحكومة العادلة الأمنية على أعراض الناس وأموالهم ودينهم ودنياهم؟ فئة إن لم تكن على مستوى أمير المؤمنين علي عليه السلام فهي على مستوى سلمان وعمار والمقداد ومالك.
ثانياً: صرامة شرعيَّة وإطلاق:-
نواجه صرامة شرعية وإطلاقاً فيما أمر الله تبارك وتعالى به من الأمانة.
}إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا{ 58/ النساء. الآية فيما يظهر فيها عموم وخصوص. فيها ذكر للخاص بعد العام، ويقولون بأن ذكر الخاص بعد العام يعني التأكيد على الخاص.
هنا أمر بأداء الأمانات، والحكم أمانة، ولكن بعد أن أطلقت الآية الكريمة في الأمر وبأداء الأمانات، صبّت اهتماماً خاصّاً على الحكم فقالت:} وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ { فهذا الفرد الخاص من الأمانة فرد نال عناية الآية الكريمة في صورة خاصة للتأكيد والتشديد.
عن الباقر (ع):”ثلاث لم يجعل الله عز وجل لأحد فيهن رُخصة: أداءُ الأمانة إلى البرِّ والفاجر، والوفاء بالعهد للبرِّ والفاجر، وبر الوالدين برَّين كانا أو فاجرين”(2) فنحن وعلى خط الإيمان ومن منطلق الورع والتقوى دائماً مع أداء الأمانة إلى البر والفاجر. كان المرء مؤمنا أو لم يكن مؤمنا، كان تقياً أو كان متهتّكا، فما دام قد ائتمنك وقبلت أمانته فعليك أن تفي بأمانته، هكذا يقول لنا لسان الدين القويم وتعاليمنا الإلهية الحقّة. وكذلك هو الوفاء بالعهد، ولكن ليكن عهدك دائما مع أي طرف عهداً لا يناقض عهد الله، وعهداً لا يختطّ طريقا غير طريق الله، وليس فيه هدم لدين الله، ولا إضرارٌ بالمؤمنين. “وبرّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين”، أما أنا فأدري عن نفسي بأني لست بمستوى هذا الأمر كما ينبغي(3)، وأنتم أعلم بأنفسكم.
“اتقوا الله وأدوا الأمانات إلى الأبيض والأسود وإن كان حروريَّاً أو كان شاميّاً”(4) عن الصادق (ع).
حتى ذلك الإنسان الذي يعادي الحق، ويواجه جبهته، ويثير الفتنة ضد الحق لو ائتمنك على أمانة، فعن الصادق عليه السلام عليك أن تؤدي أمانته، وليس لك أن تفعل أولا تفعل، فإن مقتضى التقوى أن تفعل “اتقوا الله وأدوا الأمانات إلى الأبيض والأسود وإن كان حروريَّاً أو كان شاميّاً”.
“إن ضارب علي – عليه السلام – بالسيف وقاتله لو ائتمنني واستنصحني واستشارني ثم قبلت ذلك منه لأدَّيت إليه الأمانة”(5) عن الصادق عليه السلام.
ابن ملجم يأتمن الصادق عليه السلام على السيف الذي قتل به عليّاً عليه السلام أو غير السيف؛ لو كان فإن الإمام الصادق عليه السلام يقول: سأكون أمينا جدا على هذا السيف، وسأكون محافظا عليه محافظة ربما هي أبلغ من المحافظة على المال الشخصي. وكذلك لو استنصح أو استشار لأن مستنصحك قد ائتمنك سرّه وحلّ مشكلته، وكذلك هو المستشير فأياً كان ذلك المستشير فعليك إذا قبلت أن تشير عليه أو أن تنصحه، أن تخلص النصح، وأن تحكم المشورة فيما ينفعه.
عن علي (ع):”أُقسم لسمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وآله يقول لي قبل وفاته بساعة مراراً ثلاثا – الوصية قبل الوفاة بساعة لمريض يدنو به مرضه من الوفاة لا تكون إلا بشيء من أهم المهمّات -: يا أبا الحسن أدِّ الأمانة إلى البرِّ والفاجر فيما قلّ وجلّ حتى في الخيط والمخيط”(6) والذي أتصوره أنه الإبرة.
تجد أكثر من إطلاق في النصوص فإطلاق يستفادمنه أن عليك أن تؤدي الأمانة إلى أي مُؤتمِنٍ قبلت أمانته. ومعلوم أن هذا ما دامت الأمانة ليست فيها معصية الله. وإطلاق يقول بالحفاظ على الأمانة في كل كبير وصغير، فيما قلّ وجلّ. وأنتم تعرفون أن رعاية القليل كالخيط حين تُعطاه أمانة تحتاج إلى دقّة في الإحساس بثقل الأمانة، فقد يشعر الإنسان بأن عليه أن يحفظ أمانة أخيه إذا كانت بيتاً، إذا كانت مليوناً، وقليل هم الذين يلتفتون إلى أهمية الأمانة، ويمتلكون شعوراً غزيراً بثقلها يجعلهم يحافظون على خيط يؤتمنونه.
الحديث هنا يريد أن يؤكّد على الدقة في حفظ الأمانة، ويغرس فينا أن لا نستهين بالأمانة وإن كانت خيطا أو إبرة.
ثمّ هناك أمر آخر وهو أنّ بعضاً قد يحفظ الأمانة الصغيرة لأنها غير مغرية له، ولكنه لا يملك نفسه أمام الأمانة الكبيرة من مليون دينار فما فوق. والمؤمن كما هو دقيق جدّاً في حفظ أمانته إلى حد أنه يحرس الخيط والمخيط، لا يهزّ إيمانه شيء، ولا يعدل به عن علاقته بالله شيء مهما كبر، فلا يهتزّ شعوره لا أمام مليون دينار، ولا أمام الدنيا بكاملها.
اللهم صلِّ وسلم على محمد وآل محمد، وبلّغنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات خير الدنيا والآخرة، وجنِّبنا جميعاً شر الدنيا والآخرة، واجعلنا ممن حصَّنتهم من السوء والمكروه، ونأيت بهم عن المزالق، ونجَّيتهم من المهالك، وارحمنا واغفر لنا يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر لوالدينا ولأرحامنا وكلِّ من كان له حق خاص علينا من أهل الإيمان والإسلام يا كريم يا رحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
( وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)
الخطبة الثانية
الحمد لله بجميع محامده كلها، على جميع نعمه كلِّها، حمداً يرضاه، وتكون به النجاة عنده، والكرامة لديه، والرفعة في ميزانه، الحمد لله الذي هو أولى بالحمد، وأهل الحمد، وإليه مرجع الجميل كله، والنعم كلها، ولا أصل للإنعام غيره، ولا مصدر للوجود سواه، ولا ممد بالحياة أحد عداه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى الكامل، والنور الشامل، والرسالة الشافية، وأوضح به السبل، ودلَّ به على الغاية، وأنقذ به من الغواية، صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليهم جميعاً سلاما كثيرا.
أوصيكم عباد الله ونفسي المشفق عليها بتقوى الله }وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{132طه ومن خسر العاقبة كانت حياته خسارا لا تقل لي كم ملكت هنا، قل لي إلى مَ تنقلب؟ وإلى مَ تصير؟ ومن كان مأواه النار ذهبت نعمه هباء، ومن فاز بالجنة لم يضره ما ذهب عنه من لذائذ الحياة، وما وافاه من شدائد الدنيا. وإن هو إلا الصبر في هذا الممر لتهنأ حياة المقر، وإن الذين يستنفذون حظهم في الأيام القليلة، والمهلة اليسيرة من هذه الحياة لهم أشقياء الأبد، والمرهقون في الآجلة، والمواقعون النار. اكسب حياتك اليوم بالعمل للآخرة، وإلا وجدتها قد احترقت، والنتيجة عذاب أليم، وليست بعيدة هي النتيجة، ناراً كانت أو جنة، عذابا أو نعيما. يكفيك أن المسافة قد تكون أنفاسا بل قد تكون نفسا واحدا أو طرفة عين، فاحرس أفكارك وخواطرك ونياتك أن تزيغ فتخسر كل الحياة.
اللهم احرس قلوبنا والمؤمنين والمؤمنات من الزيغ، وطهرها من الدنس، واكفها من الضلال.
اللهم صلّ وسلّم على البشير النذير، والسراج المنير، محمد النبي الأمين، وعلى آله الطاهرين. اللهم صل وسلم على علي أمير المؤمنين وإمام المتقين. اللهم صل وسلم على فاطمة الزكية النقية الهادية المهدية. اللهم صل وسلم على الإمامين الزكيين، والسبطين الوليين الحسن بن علي وأخيه الحسين. اللهم صل وسلم على أئمة المسلمين، وهداة العالمين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موس الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري عبادك الصالحين وأولياؤك المرضيين.
اللهم صل وسلم على الحجة المنتظر، الموعود بالظفر، حافظ علم النبيين والمرسلين، والمذخور لإنقاذ العالمين محمد بن الحسن القائم الصادق الأمين.
اللهم عجل فرجه، وسهل مخرجه، وانصره نصرا عزيزا، وافتح له فتحا مبينا، واملأ به الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا.
اللهم الموالي له، المعد لنصرته، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى سددهم ووفقهم لمراضيك وخذ بهم لطريق النصر ويوم العز واجمع كلمتهم على التقوى، ووحد بوحدتهم المؤمنين، واقهر بهم الكافرين والمنافقين.
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون والمؤمنات فالحديث يقف عند أمرين:
أولا: هل نبقى أمة؟
ما فُرض علينا، وما يراد أن يفرض علينا من مقدمات هو الآتي؛ ونسأل في ظل هذه المقدمات، وفي ظل هذا الواقع المعاش هل نبقى أمة أو تنتهي أمتنا؟
وإذا كان الأمر أن الأمة تنتهي في ظل هذا الواقع، فلابد من تمرّد على هذا الواقع، ومناطحته ونسفه؛ وإلا فقد اخترنا أن ننتهي وأن نكون نسياً منسيّاً.
المقدمات والواقع:
المقدمة الأولى: لا سلاح لمن يقاوم، ويدافع عن هذه الأمة، عن دينها، وعزّتها وكرامتها، ومصالحها الدنيوية، والسلاح المسموح به هو السلاح باليد الطيّعة، وبالمقدار المحسوب الذي لا يضرّ عند المفاجآت وهو سلاح تحت الرقابة المشددة، والهيمنة المباشرة حيث المشرفون الأمنيون والمدرِّبون على السلاح والمشغّلون له والمشرفون المباشرون على كمياته ونوعه، وهو سلاح يُلّح على طلب الخبرة الأجنبية، لمنع الخبرة أن تُملك وأن تتنامى بيد المسلمين.
المقدمة الثانية: الجامعات ومنذ بعيد في خدمة الثقافة الأجنبية، وقد خرجت تقريباً من اليد، وفكرها يناصب الفكر الاسلامي العداء. والطالب الذي يريد أن يستقيم وهو في الجامعة يجاهد جهادا مرّاً من أجل أن تثبت قدمه على الصراط. وهو يحاصر بأجواء معادية، وبأجواء صنَّاعة الصنع الخبيث، الصنع المغرّب، الصنع المعادي للأمة والإسلام.
المقدمة الثالثة: التشريع الوضعي قد اقتحم في كثير من البلاد الإسلامية آخر موقع للتشريع الإلهي من مواقع الحياة الاجتماعية في كل أطرها وهو ما يسمونه خطأً بالأحوال الشخصية.
المقدمة الرابعة: التحرك الجدي على الأرض لتطبيق الإرادة الأمريكية في فرض مناهج يدّعى أنها دينية، وتربية تسمى إسلامية توافق هوى الغزاة الذين لا يعادون شيئا كالإسلام.
المقدمة الخامسة: تخريج أفواج جديدة من علماء وأئمة جمعة وجماعة وأساتذة حوزات وقضاة ومرشدين للحج ولكل الاختصاصات والوظائف الدينية مصنوعين تحت الإشراف الأمريكي وعلى ضوء مخطط لمسخ الأمة وإنهائها.
وهناك على أرض فلسطين وعلى مستوى المقاومة بالدم والأشلاء نموذج جهادي مؤمن بأصالة الأمة وبقيمتها وبقدرتها على المقاومة؛ يحاول هذا النموذج أن يحبط المؤامرة، ويبقي للأمة وجودها وينتصر للأمة وللإسلام والحق، ولكل المستضعفين في الأرض.
وعلى المسلمين في كل شبر من أرضهم أن يعطوا الدعم الكامل ما استطاعوا إلى هذا النموذج الجهادي أينما وجد، وفي صورة غير ما تسمى بالصورة الإرهابية.(7) وعليهم من غير أن يعيشوا حالة الجهاد الثقافي، والمقاومة الثقافية في هذه اللحظات التاريخية الصعبة من مسيرة الأمة، وأن يقاوموا بكل بسالة الغزو الثقافي الكافر – وتقول لي: وهل مقاومة الغزو الثقافي تحتاج إلى بسالة؟ أقول لك: إنها المعركة الأعمق، والتي تتطلب يقظة أكثر ونفسا أطول، ولا جهاد بحقٍّ من النوع الأول الذي يخوضه الإخوة الإسلاميون الكرام الفلسطينيون إلا ممن نجح في الجهاد من النوع الثاني.
والفلسطينيون يواجهون عدوّين:
العدو الإسرائيلي الأمريكي من جهة، وعملاء الداخل من جهة أخرى. والمعركة الثقافية أيضاً تواجه عدوين لذودين: العدو الخارجي الذي قد جند الجند، وخطط الخطط، ورصد الميزانيات الضخمة، وخرج الخبراء من أجل القضاء على ثقافتنا وأصالتنا، وغزو شبابنا وشاباتنا في عقولهم ونفوسهم وإرادتهم، وهناك عدوّ الداخل الذي يكتب بالنَفَس الأمريكي، ويروّج للافكار الأمريكية والغربية، ويواجه الدين وعلماء الدين مواجهة شرسة وفي كل موقع، وفي كل لحظة.
ثانيا: من هو الطائفي؟ من يغذي الطائفية؟
1- الطائفية شرٌ مستيطر يساعد على القضاء السريع على الأمة كما يريد أعداؤها. الطائفية تعني حربا داخلية تقضي على وحدة الأمة، وعلى إمكاناتها، وعلى وقتها الذي يجب عليها أن تستثمره في صالح بنائها، ومواجهة عدوها، الطائفية تعني مواجهة الإخوة مواجهة لا تبقي من أخضر ولا يابس.
فهي خطر مدمر ليس من تقيٍّ أولاً، ثم ليس من عاقل ثانياً يعمل على تغذيتها، أو أنه يملك أن يوقفها فلا يوقفها. والوقت وقت حساس وبالغ الخطورة، وكل البلاد الإسلامية مشتعلة بحرب مصيرية مع أعداء الله في الأرض. فنحن مهددون من الخارج، فأَنْ يأتي مع ذلك تهديد داخلي وهو إثارة مسألة الطائفية، يكبر الخطر، وتتعاظم المحنة.
2- الطائفي ومغذي الطائفية: محتمل أن يكون هذا الطرف أو ذاك الطرف أو أكثر من طرف:
أ- القرار الرسمي في العديد من مواقعه.
ب- الكتابات التي تلاحق الملف الطائفي ووقائعه الشاهدة.
وأقف هنا: إذا كانت الكتابات بلا موضوع فهي المسؤولة، وإذا كانت الكتابات وراءها موضوع فالمسؤول هو منشأ ذلك الموضوع.
يعني إذا كانت الكتابات عن الطائفية وراءها واقع طائفي فليست هي المسؤولة، وإذا لم يكن وراءها واقع طائفي واختلقت الطائفية اختلاقاً فهي المسؤولة ويجب أن تحاكم.
فهنا نحتاج إلى تحقيق، وليكن هذا التحقيق بعيدا عن الاستثارات الصحافية، وليس الغرض أن نثير ضجّة، وإنما أن نصل إلى حلّ. فإذا كان الحل ممكناً عن الطريق الهادئ، وعن طريق التفاهم، وبناء على الاستقراء العلمي الصادق لتعالج المشكلة فهذا هو المفضّل.
والصحافة ليس لها أن تلجأ إلى كشف الواقع بما قد يخلق نوعا من الاختلاف وسوء الظن إلا حيث تتعذر تلك الوسيلة. افتحوا باب الوسيلة الأولى فهي مفضّلة جدّاً عندنا على الوسيلة الثانية.
من بين ما يحتمل مسؤوليته:
ج- الكتابات التي تمتهن شتم مذهب معين، ولا تكف عن ذلك. وهذا أيضا يحتاج إلى تحقيق.
د- توزيع الأشرطة والكراسات الشاتمة والمزيفة للحقائق. والتي تصل إلى الطالب والمعلِّم في مدرسته، وإلى الموظف في دائرته، وقد تصل إلى البيوت من خلف الأبواب. المطالبة به الحكومة هي أن ترصد الظاهرة تماماً، وتتَّبعها تتبعا علميا، وتحمّل نفسها المسؤولية التي تتحملها واقعاً، ثم تحمل الآخرين ما عليهم من مسؤولية.
ه- جمهور الطائفتين. وفي نظري أن جمهور الطائفتين، والشارع من الطائفتين هو الأكثر أمانة في هذه المسألة وانضباطاً وحرصاً على الوحدة.
و- علماء الطائفتين المشهورون المقدرون عند جمهورهم وفي نظري أن هؤلاء العلماء هم شديدو الحرص على الوحدة، وهم أتقى وأورع وأعقل من أن يحرّكوا مسألة الطائفية.
3- أؤكد أن المسألة تحتاج إلى تحقيق لتصحيح الوضع ودرء الخطر لا لإغماض البصر.
4- ونقول كما سبق: لا إصرار على التشهير والفضح وهو آخر ما ينبغي أن يصار إليه ولكن الإصرار على الحل.
5- وهذا الذي قاله الوزير المحترم وزير الإعلام: غيث هو أو قطرة ؟ والحق أنه غيث لا قطرة، ثم أهو غيث شر أوخير؟ والحق فيما نرى – وله رؤيته – أن هذا الغيث غيث شر وقى الله العباد والبلاد منه. وإذا كانت الصحافة مطالبة باللغة الهادئة – ونحن نطالبها بذلك وباللغة العلمية – ونحن نطالبها بذلك، وبأن تكون حريصة جدا على وحدة البلاد، وعلى العلاقة الإيجابية بين الشعب والحكومة، فإن الحكومة مطالبة بذلك كله بدرجة أكبر وأكبر.
والكتابات تذكر أن هناك ممارسات رسمية طائفية، ولا تقول بأن هناك طائفية على مستوى الشارع، ولا تدعو إلى طائفية بين أفراد الشعب. علينا جميعاً أن نكون متبصرين عقلاء رزينين مقدرين للعواقب، والعواقب وخيمة جدّاً إذا كانت الحكومة – وهي مطلوب منها أن تكون شديدة الحرص على وحدة الوطن – تضرب على هذا الوتر.
6- فليراجع الإسلاميون الشتامون للمذاهب الإسلامية، الممزقون لوحدة المسلمين الإسلام مراجعة ممعنة، وليستفتوه واعين غير عمين، فإنهم لن يجدوه أبداً يهدم وحدة المسلمين ويمزق صفوفهم. وليراجع السياسيون بإذن مفتوحة لا صمّاء المصلحة الوطنية، ويراجعوا القيم الإنسانية وقيم الدين، ومصلحة الحفاظ على الدماء والأعراض والأموال والمكاسب الوطنية فلن يجدوا أن واقعا القارِب الواحد المشترك يسمح لهم بأن يعملوا على التفرقة ليضمن طرف السلامة بغرق الطرف الآخر. فإن غرق القارب الواحد ليس من شأنه أن يجعل غرق طرف مقدّمة لنجاة طرف، إنما غرق القارب الواحد غرق لكل أهله في الغالب.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وافعل بنا ما أنت أهله، وأنت أهل الخير كله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله فإنك إن تحاسبنا بذنوبنا نهلك، وإن تؤاخذنا بخطايانا نكن من الخاسرين، اللهم وحد صفوف المسلمين، واجمع كلمتهم على التقوى، واحفظ سلامة هذا الوطن وأمنه، ووفقه لوحدة أهله واجتماعهم على كلمة التقوى، ورد كيد الكافرين إلى نحورهم، وأنقذ هذه الأمة من هذه الغمة يا قوي يا عزيز، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات يا غفار يا ستار يا كريم.
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)النحل/90
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ميزان الحكمة ج1 ص344
2 – ميزان الحكمة ج1 ص345
3 – فإن حقَّ الوالدين عظيم خاصته وهما برّان، وهو يتعاظم كل بِر.
4 – ميزان الحكمة ج1 ص346
5 – المصدر
6 – المصدر
7 – من غير أن يصدِّقوا بأن المقاومة المشروعة من الإرهاب.