خطبة الجمعة (107) 16 صفر 1424هـ – 18-4-2003م

مواضيع الخطبة:

الدعاء (5)   _   الساحة العراقية   _   لا لصدام، لا للأمريكان، نعم نعم للإسلام

فحقاً حقا إن اللاءين والنعم التي قالها العراقيون ليست ليوم واحد، ولا في وجه طاغية هو صدام فحسب، ولا في قبال جبهة عالمية استكبارية واحدة وإنما قالوها ثابتة على الزمان كله، وفي وجه كل طاغية، وفي قبال كل جبهة من جبهات الاستكبار العالمي الغاشم.

الخطبة الأولى

الحمد الله الذي يقبل التوَّابين، ويعفو عن المذنبين، ويسمع دعاء الداعين، ولا يردُّ عن بابه السائلين، ولا يخيِّب أمل الآملين، ولا يقطع رجاء الراجين، ويَعِزُّ عنده المساكين. أشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمد عبده ورسوله، ما ضلَّ من لحِق به، وما هُدي من تخلف عنه، وما رشُد من تقدم عليه، صلى الله عليه وآله صلاة كثيرة دائمة متنامية.

عباد الله أوصيكم ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله والأخذ بهداه، فليس بعد هدى الله إلا الضلال، وما انحدر منحدر عن التقوى إلا غوى. التقوى خير زاد للقلب والروح، وخير ما صلحت به النفس، واستقامت به الحياة، وهي قرينة العلم الأعلى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، وموجبة للعمل الأنقى “التقوى أن يتقي المرء كل ما يؤثمه” كما عن أمير المؤمنين عليه السلام، وفي الحديث “سُئل الصادق عليه السلام عن تفسير التقوى فقال: أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك”، فلا ينقى قلب بتقواه إلا وكان ما تأتيه الجوارح، وما تكنُّه الجوانح نقياً طيباً صالحاً. وكذب امرء يدّعي التقوى، وما يجري على يديه عمل طالح.

عباد الله انظروا إلى أيام العمر تمرُّ على الإنسان، وليس يوم يمرُّ إلا وهو مطية خلق غفير إلى حفر القبور، بعد فسيح الدور، و رفيع القصور، وليس أحد يملك أن يرد أجله، وينسئ في عمره، ويمد في مهلته، أو يختار في الراحلين قافلته، فمسكين من باغتته المنية على المعصية، – والمعصية أخي قد تكون معصية قلب – ووافاه الأجل على القبيحة، وانتزع في لحظة من بذخ الدنيا وعزها الزائل مسكورا، إلى زمر أهل النار الذين والاهم في دنياه، وأقام على طريقتهم في حياته.

أما بعد يا أخوة الإيمان والهداية فالحديث لا زال عن الدعاء وقد تقدم ذكر بعض من آدابه وهذا بعض:-
1. التطلع الكبير:-

“فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله ويُنفى عنك وباله”(1).

لا يكن أقصى همّك أمر الدنيا، فعليك بالآخرة فهي أسمى وأبقى، وإنّه لطموح قصير أن يتجمَّد دعاء المرء عند هموم دنياه، وأصحاب الطموح الكبير لابد أن تتجاوز مسألتهم دنياهم، وإن كانوا لا يستكبرون على الله في سؤال الصغير ولا يستغنون.

“بكى أبو ذر رحمة الله عليه من خشية الله عزوجل حتى اشتكى بصره، فقيل له: يا أبا ذر لو دعوت الله أن يشفي بصرك، فقال: إني عنه لمشغول وما هو من أكبر همي، قالوا: وما يشغلك عنه؟ قال: العظيمتان: الجنة والنار”(2).

سلامة البصر نعمة، وعروض الضرر عليه أذى ومتعبة، ولكن كما قالوا الجرح يسكنه الذي هو آلم، والروح الشفافة التي ترى الآخرة وهولها، وتعاين نعيمها، ينسيها ضرر الآخرة ضرر الأولى، وخير الباقية خير الفانية، وإن لم نكن قد أمرنا بإهمال الدنيا مطلقاً لأن بعض هذا الإهمال يضر بالآخرة، وإن كان لا تحريم لما طاب من رزق الله فيها }قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ…{ 32/ الأعراف.

وأبو ذر حين تتزاحم في لحظة دعائه المطالب يقدم الآخرة على الدنيا لأنها حسب رؤيته الروحية الصافية أكبر همه، وهذا يدفعه لأن يعبئ لحظة الإقبال من نفسه على الدعاء بما هو الأهم من أمر آخرته مما قد ينسيه خير الدنيا وراحتها وضررها.

2. قوة الإيمان تفرض نفسها:-

“إذا دعا أحد فليعمم فإنه أوجب للدّعاء ومن قدّم أربعين رجلا من إخواته قبل أن يدعو لنفسه استجيب له فيهم وفي نفسه”(3).
الأخوة المعنية في الحديث هي أخوة الإيمان، وفيه أنها لابد أن تفرض نفسها على المؤمن، فيذكر حاجة أخيه ذكره لحاجة نفسه، ولهذا الحس الاجتماعي الإيماني تقديره عند الله العظيم، وقيمته العالية وإنه ليكون شفيع المؤمن عند ربه لإجابة دعوته. وترتفع قيمة هذا الحس في الإسلام، والتربية عليه حتى يرغّب في أن يقدِّم الداعي حاجة أربعين من إخوانه في الإيمان على ذكر حاجته.

والمؤمن الحق الجاد في الأخوة الإيمانية لا يجود على أخيه المؤمن بالدعاء ويمنعه مع حاجته مما آتاه الله من واسع رزقه، وأفاض عليه من نعمه، ولو كان الدعاء لحاجة الأخ المؤمن صادقا ونابعا من منطلق الإيمان لرافقه ما يمكن للداعي من قضاء حاجته من رزق الله في يده.
فالكرم بالدعاء والشح بالعطاء ربما كشف عن خفّة الدعاء.

3. أوقات مباركة:-

“ثلاث أوقات لا يحجب فيها الدّعاء عن الله: في اثر المكتوبة، وعند نزول القطر، وظهور معجزة لله في أرضه”(4).
“خير وقت دعوتم الله عز وجل فيه الأسحار، وتلا هذه الآية في قول يعقوب }سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي{ (و) قال: أخَّرهم إلى السحر”(5). أخّر يعقوب أولاده في دعائه إليهم إلى السحر لخصوصية فيه.
أبواب رحمة الله مفتّحة لا تغلق أبدا ما لم يغلقها العبد على نفسه باستكباره، وعناده لربه، ومكابرته له، ولكنّ مناسبات زمنية وغيرها لها من الخصوصية المعلومة عند الله، والتي قد يدرك التأمل شيئاً منها، وقد لا يدرك. وهذه البركة في المناسبة والخصوصيةُ التي تغنى بها تجعل الدعاء الصالح أكثر قبولا، وأقرب إلى الاستجابة.

4. الإلحاح في الدعاء:-

“إن الله كره إلحاح الناس بعضهم على بعض في المسألة وأحبّ ذلك لنفسه”(6).
“من رجا معروفي ألحَّ في مسألتي”(7).
“والله لا يُلحُّ عبدٌ مؤمن على الله عزّ وجل في حاجته إلّا قضاها له”(8).
“لا يزال المؤمن بخير ورخاء ورحمة من الله ما لم يستعجل فيقنط فيترك الدعاء. “قلت له: كيف يستعجل؟ قال: يقول: قد دعوت منذ كذا وكذا ولا أرى الإجابة”(9).

الإلحاح في المسألة على غير الله يُحرج المسؤول ويُضجره، ويُذلُّ السائل ويُصغره، فلا يحب الله لعبد أن يلح على مثله في المسألة، أما الله العلي العظيم، الغني الكريم فلا يُضجره إلحاح الملحين، والتذلل إليه يعزّ صاحبه، والتواضع لعظمته يرفع من شأن المتواضع له، ومن ذلك أحب الله لعبده أن يلح في مسألته، ويتمادى في طلب الخير منه.

والعبد الملح على الله في دعائه صحيح التصور، سليم المعتقد، صادق الرؤية، حيث إن بطء الإجابة لا يزيده إلا أملا في كرم ربه، وحسنَ ظن بحكمته ورحمته وجميل صنعه ولطفه به، وتصديقاً بكرمه وسعةِ قدرته. ولذلك تراه يديم الدعاء، ويواصل الطلب لا يمسُّه يأس ولا قنوط، ولا تدخله ريبة ولا سوء ظن في ربه الكريم الأكرم العليّ الأعلى الحميد المجيد الذي ليس مثلُه حميداً مجيداً.

والعبد المديم الدعاء، الملحُّ في المسألة يغريه بذلك إلى جنب أمله في كرم الله وتصديقه بقدرته وحكمته ورحمته أنه يشعر بالراحة في لقاء الضراعة مع ربّه العلي الكبير، الرؤوف الرحيم، وتثرى ذاتُه، ويعزّ جانبه كلما ناجى الله، وتعلق بكرمه واستغنى به عن خلقه.
وهذا كله خير للعبد المواصل في دعائه، المنقطعِ في مسألته، الملحِ في طلبه على الله، لذا فاللهُ الغني الكريم يحبه له.

وربما أبطأ بإجابته عليه بعض الوقت ليزداد من هذا الخير، ويكون من جائزته مع قضاء طلبته، ففي الحديث “إن العبد ليدعو فيقول الله عز وجل للملكين: قد استجبت له ولكن احبسوه بحاجته، فإنّي أُحبّ أن أسمع صوته….”(10).

ومحبة الله عز وجل له أن يسمع صوته لأنّ في ذلك خيره وتربيته وسمو ذاته وتزكية روحه.
فمن البطء بالإجابة ما ليس للمنع وإنما لزيادة النفع، ومضاعفة الأجر.

أما المستعجل بدعائه، المستبطئ الإجابة، المنقطع عن الطلب، المتوقفُ عن المسألة لا عن إيكال الأمر إلى الله، والاستغناء بعلمه بالحال عن لغة السؤال، وإنما للقنوط من الرحمة، واليأس من اللطف، وسوءِ الظن في القدرة والحكمة، فقد اختار أن يحرم نفسه الرحمة، ويُوصد باب الفرج، ويفارق الخير، ويخسر الأجر، وما في الدعاء من بركات.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وارزقنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ذكرك ودعاءك، ولا تقطع رجاءنا منك، ولا أملنا فيك، ولا تؤيسنا من رحمتك، ولا تبتلنا بسوء الظن بقدرتك وكرمك وحكمتك، واجعل تطلعنا إليك، لا إلى من سواك، وتعلقنا بك لا بأهل الحاجة إليك، واغفر لنا ولكل أهل الإيمان والإسلام ومن كان له حق خاص علينا منهم ووالدينا وأرحامنا وجيراننا وأصدقائنا يا كريم يا رحيم.

بسم الله الرحمن الرحيم
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)

الخطبة الثانية

الحمد لله ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة، ومصدر كل خير، الذي لا يحسن إحسانه أحد، ولا يتفضل تفضله أحد، ولا مغفرة كمغفرته، ولا عفو كعفوه، جلَّ عن وصف المخلوقين، وتنزّه عن محدودية المحدودين. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيراً.

عباد الله اتقوا الله وكونوا دائما على ذكرٍ من عظمته، ولا ينسكم ذكر غيره ذكره، واثبتوا على الطاعة لأمره ونهيه، ولا يكبر عندكم أمر ونهي خالف أمره ونهيه، وإنكم إن تذكروا الله يعصمكم ذكره، وإن تطيعوه تسعدكم طاعته، وإن تشكروا له تزدادوا إلى إحسانه إحسانا، وإلى إنعامه إنعاما، وإن يُكفر بنعمه استُحقت على الكافرين نقمته. والله هو الغني الحميد.

اللهم اجعلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات ذاكرين شاكرين لك، ولا نفارق طاعتك، ولا نقارب معصيتك يا كريم.
اللهم صل وسلم على رسولك الأمين، خاتم النبيين والمرسلين محمد وآله الطاهرين.

اللهم صل وسلم على الإمام بعده، والمهتدي بهديه، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، ووالد الأئمة الميامين.
اللهم صل وسلم على كريمة الرسول، فاطمة الزهراء البتول.
اللهم صل وسلم على النقيين الطاهرين، الإمامين الزكيين، الحسن بن علي أبي طالب وأخيه الحسين.
اللهم صل وسلم على أئمة الهدى، وقادة الورى علي بن الحسين السجاد، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الأولياء الأصفياء.
اللهم صل وسلم على الإمام العالم، والولي القائم، المؤتمن والمنتظر، محمد بن الحسن الأغر.

اللهم عجل فرجه، وسهل مخرجه، واجعل ظهوره قريبا، ونصره عزيزا، وعزّه كبيرا أكيدا، وسلطانه ممدودا، وخيره واسعا عميما.
اللهم أذلّ به الطغاة، واقهر به الجبابرة، وانصر به المستضعفين، وأعزّ به المؤمنين.

اللهم الموالي له، المناصر لقضيته، الممهد لدولته، والفقهاء الربانيين، والعلماء الصالحين، والمجاهدين الصادقين، وكل العاملين في سبيلك من عبادك المؤمنين والمسلمين، وابتغاء مرضاتك، كن لهم نصيرا، وعنهم ذائدا، وبأعدائهم منكلا، يا أقوى من كل قوي، ويا أعزّ من كل عزيز.

أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فلا زال الحديث ينشدّ إلى أحداث الساحة العراقية المشتعلة، وما يحيط بحاضر العراق ومستقبله، بل بالأمة الإسلامية كاملة من أخطار وتحديات صعبة طاغية، وهذه وقفات:-

1. المرجعية الدينية للمسلمين عامة لحفظ أصالة الأمة – ووحدتها – ومقاومتها:-

أصالة الأمة لا يمكن أن تنحفظ إلا بفقهائها القادرين على استيعاب فهم إسلامي كبير، هو الأقرب إلى الصورة الإسلامية الواقعية، هؤلاء الفقهاء الذين يعيشون عمرهم كلّه من أجل التوفر على فهم إسلامي دقيق، ليردوا الأمة دائما في حركتها إلى هذا الفهم، فهم للحفاظ على أصالة الأمة، وكذلك هم للحفاظ على وحدتها، فليس في نفسي أن فقيهاً مخلصا واعيا حريصا على مصلحة الإسلام والأمة، شيعيا كان أو سنيا ينحو نحوا آخر غير نحو الوحدة، لا يتصور في فقيه من هذا المستوى أن يقول كلمة، أو يخطو خطوة إلا في صالح الوحدة الإسلامية المتمحورة حول محور الإسلام، وإن وجد فقيه أو مدّع للفقاهة ينحو نحوا آخر فهو إما أن يكون على نقص شديد من فهم الإسلام، أو أن يكون مريض النفس، فالفقهاء دائما حريصون على الوحدة الإسلاميَّة.

الفقهاء كما عرف من تاريخهم أنهم في الخندق الإسلامي دائماً، وأنهم الطليعة في الدفاع عن بيضة الإسلام، أرضه، وقيمه، وكيانه، وسيبقى الفقهاء يتحملون أمانتهم دائما، ويحتفظون بأصالتهم دائماً، ويقفون الموقف الجهادي الذي تحتاجه الأمة. مرجعية الشهيد الصدر الأول أعلى الله مقامه كانت المثال الحي في المجالات الثلاثة كما يشهد العالم كله. من كان منصفا في العالم وكان يعرف السيد الشهيد الصدر الأول فإنه لا يستطيع أن ينكر دوره الكبير، وتمثيله الحقيقي للإسلام بالمقدار الذي يتأتى لغير المعصوم، وأنه كان الحريص كل الحرص على الوحدة الإسلامية وتماسك البيت الإسلامي الكبير.

على مستوى الأصالة لم يهزم قلم لأحد كاتبا كان أو عالما أو فيلسوفا الشيوعية الحمقاء كما هزمها قلم السيد الشهيد الصدر الأول. حتى احتاجت المكتبة الإسلامية في كل البلاد الإسلامية إلى كتاباته في هذا الشأن، وانكبّ عليها فلاسفة الأمة، ومن يهمهم أمر الأمة في هذا الشأن من علمائها.

ووقف وقفته العملية في وجه التيار المنحرف، التيار الشيوعي يوم أن أراد غزو العراق.

وعلى مستوى وحدة الأمة كل من سمع كلمات السيد الشهيد الصدر الأول أعلى الله مقامه، وكانت له معرفة بمواقفه عرف منه أنه لا يعيش هم طائفة معينة، ولا قطر معين، إنما كان يعيش هم الأمة بكاملها، وكان لا يرضى كلمة لا تصب في صالح الوحدة الإسلامية، وكان يهمه من أمر الإنسان كل إنسان ما يهم الإسلام نفسه، والإسلام يهمه أمر كل إنسان. الشهيد الصدر واقتداء بأجداده الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كان يعيش همّ الأمة الإسلامية أولا، ثم همّ الإنسانية بكاملها ثانيا.

وعلى مستوى المقاومة، كان قد وقف الوقفة الصلبة العنيفة أمام البعث الكافر، وجاهد بكل ما أوتي من قدرة، وخطط كما ذكرت أكثر من مرة لأن يقدم على التضحية الصارخة بنفسه وبالنخبة من طلابه وروّاده من الأجلاء، وكلنا يعرف أن مقاومته وإخلاصه وإصراره على خط الإسلام، وعناده في سبيل الله أوصله إلى التضحية بشهامة، وبصبر وجلد لا يصبرهما إلا قليل… موقف لو اطلع عليه مطلع لكبر الصدر في نفسه مليون مرة عما هو عليه وهو لا يعرف ملابسات المحنة.

وللإنصاف أقول: إن بيت الصدر وله رموز ثلاثة عاشتها الأمة في هذه الحقبة القصيرة، بيت علم ودين ومرجعية، بيت جهاد وقيادة وشهادة، وادرسوا كل هذه العناوين فلن يمكن أحدا أن ينكر نسبتها إلى هذا البيت الشريف من خلال رموز ثلاثة بينة قريبة إلى الذاكرة: السيد الشهيد الأول، والسيد الشهيد الثاني، وموسى الصدر. والمرجعية اليوم بكل رموزها الكبار، وبكل أفذاذها في النجف الأشرف وفي قم وفي الأزهر هذه المرجعية ستبقى سندا للإسلام، وستبقى حصنا للإسلام، وستبقى الذائد الأول عن الإسلام، وستبقى الأصوات النشاز التي تزهد في المرجعية، وتحاول أن تفصل جماهيرها العريضة عنها، أو تحدث في صفها الشَّرخ، سواءاً على مستوى النجف على مستوى العلاقة الإثنينية بين النجف وقم، أو على مستوى العلاقة الثلاثية بين النجف وقم والأزهر، هذه الأصوات النشاز لابد أن تخجل، ولابد أن تنهزم، وسيهزمها حتما وعي الأمة، وتماسكها ووحدتها.

إن فقهاءنا الكرام، ومرجعيتنا العظيمة التي تمثل الامتداد الحقيقي لخط أهل البيت عليهم السلام؛ الخط اللاحب الكريم الموصول برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتخلفون عن نداء الإسلام، ولا يُسلمون الأمة في أي يوم من الأيام، واليوم هو يوم محنة الإسلام والأمة، وهو من أصعب أيامها، والمحنة من أشد المحن التي مرّت في تاريخها. فلا يرتقبن أحد من الفقهاء العدول الكرام استخذاءا ولا سلبية ولا تخلفا عن الواجب.

2. لاءان ونعم:-

نطق الوعي والتربية الطويلة، والضمير الخلقي، والانتماء الحضاري، والاعتزاز الإسلامي، والحق القانوني الدولي على لسان الجماهير العراقية المسلمة بهذه الكلمات الثلاث: لا لصدام، لا للأمريكان، نعم نعم للإسلام.

كلمات معبّرة بقوة ووضوح عن رفض الظلم والاستبداد ودكتاتورية الهوى الفردي البغيضة، وعن رفض الاحتلال الأجنبي والهيمنة الاستبكارية العالمية الطامعة المتغطرسة الملغية لإرادة الشعوب، المتحكمة في مصائرها، المستنزفة لخيراتها وكنوزها، الممتصة لجهود وعرق أبنائها، العاملة على مسخها وتهجينها، واستلابها الثقافي والحضاري وإلغائها، ومعبرة عن الخيار الحر للشعب العراقي، وإيمانه بالإسلام، واستمساكه بمنهجه، وتقديمه له على كل ما سواه، وهذا تصويت شعبي على الطريقة الديموقراطية تشترك فيه الغالبية العظمى في العراق كله من الشمال إلى أقصى الجنوب، مروراً بالوسط، وعلى دعاة الديموقراطية من غزاة العراق أن يصدقوا ولو مرة، ويقبلوا بنتيجة هذا التصويت الذي لو تكرر ألف مرة في ظروف خالية من العنف والضغط والتزوير لجاء بالنتيجة نفسها.

فحقاً حقا إن اللاءين والنعم التي قالها العراقيون ليست ليوم واحد، ولا في وجه طاغية هو صدام فحسب، ولا في قبال جبهة عالمية استكبارية واحدة وإنما قالوها ثابتة على الزمان كله، وفي وجه كل طاغية، وفي قبال كل جبهة من جبهات الاستكبار العالمي الغاشم.
وهي ليست شعار العراقيين وحدهم وإنما هي شعار الأمة بكل جماهيرها المسلمة في كل مكان وفي كل زمان، وأمام أي غطرسة واستكبار، وأي خط يريد أن ينحرف بالأمة عن خط الإسلام.

3. أمريكا والمفارقة: دكتاتورية على الأرض وحسب القرار المعتمد، وديموقراطية على مستوى الإعلام الزائف.
هذه هي أمريكا وإنجلترا.

ولماذا دكتاتورية لا ديموقراطية؟ وكفر لا إسلام؟

لأن الديموقراطية في العراق ستخرجهم من العراق، طرحُ القضية للتصويت الشعبي في الوسط الإسلامي سيخرج الأمريكيين، وسيحرمهم آبار النفط والاستيلاء على الثروة، والتغيير الخط الحضاري وحيونة الإنسان.

مختارهم دكتاتورية تمكِّن من التربية الكافرة، لأن بقاء التربية إسلامية، إيمانية يعني نمو الأمة، وعودة عزّها وتماسكها ووحدتها، ويعني تقدم الإسلام على كل ما عداه، وريادة الأمة الإسلامية بدل أن تكون مأسورة مستعبدة مقهورة.

المطلوب كما هو واضح، حكومة على غرار الحكومة الأفغانية، تتقدم صاغرة من نفسها كما تذكر بعض الأخبار بطلب تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وقولوا لي ما الفرق بين الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والاحتلال الأمريكي للعراق؟ والاحتلال الأمريكي للعراق هو احتلال إسرائيلي أيضاً للعراق، فالقضية قضية فلسطين بدأت تكبر، وبدأت تتفاحش، وبدأ خطرها أكبر مما كان بكثير، فلسطين ثانية في العراق بدأت منذ الغزو الأمريكي لهذا البلد الكريم.
ولن تهدأ المعركة، ولن تكون العراق مفروغاً من سيطرة العدو عليها، ليتفرغ لسوريا من جديد، ويتفرغ من بعد سوريا لبلد ثم آخر من البلاد الإسلامية العريقة.
يمكن لأمريكا إذا أرادت لملياراتها أن تحترق في حرب بعد حرب أن تدخل في حرب مع سوريا، ثم أن تدخل أخرى مع إيران أو السعودية، أو غيرهما كمصر، أما إذا أرادت أن تنتصر الانتصار الحضاري، وأن تستقر لها قدم في البلاد الإسلامية فهذا مستحيل بعد هذه الصحوة، وبعد يقظة الإنسان المسلم، وشعوره بذاته الحضارية، وبأصالته، وانكشاف زيف الحضارة الغربية له. عاد مستحيلاً على المسلم أن يصبر على الصديد الحضاري الغربي، وأن يتنازل عن كبريائه الحضارية، وعن انتمائه الإسلامي لحضارة القرد، وحضارة الغاب.

4. جيوش لا جيش واحد:-

وتدرون أن الجيش الغازي الأمريكي والإنجليزي واحد، ولكن وراءه جيوشاً غفيرة من أبناء المسلمين، بهم استطاعت أمريكا أن تحتل العراق، طوابير من العمال، ومن التجار، من السواق، من مختلف الفنيين، من مختلف المهنيين، من مختلف الحرفيين، دخلوا في تعاون مع الحملة الأمريكية وبهم مشت هذه الحملة على العراق.

ولو كان الحكم الشرعي فاعلا في نفوس المسلمين، ولو كانوا على نباهة من هذا الحكم، وهو حرمة المعاونة على الظلم، ولو بشطر كلمة، ولو بقطرة حبر، ولو بلحظة عين، سواء كان الظلم من مسلم لمسلم، أو من كافر لمسلم، وحتى لو كان الظلم من مسلم لكافر ما كان لأمريكا أن تحتل بلداً من بلداننا.

لو حملنا وعي هذا الحكم، وكان فاعلا في داخلنا، لما استطاعت أمريكا أن تحتل العراق، لم تأتِ بالسواق كل السواق، ولا بكلّ السيارات، وبكل الآليات، وبكل الأغذية من أمريكا. أكثر المؤونة، وأكثر الآليات الثانوية، وكثير من أمور التنقل وغير ذلك كانت تعتمد فيها على أبناء المسلمين.

أرأيتم لو كان إسلام؟! أرأيتم كيف هي جريمة النظم الرسمية التي تغرب الجماهير المؤمنة، وتفصل بينها وبين وعي إسلامها، وبينها وبين تربيتها الإسلامية، لتتحول الأمة عدوة نفسها في لحظة من اللحظات الحاسمة؟!
اللهم صل على محمد وآل محمد، ولا تجعلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات من ميّتي الأحياء، الذين لا ينكرون منكرا، ولا يأمرون بمعروف، ولا يدلون على صلاح، ولا يرشدون إلى فضيلة.

اللهم لا تمنع عن أمة الإسلام النصر، ولا تحرم عبادك المؤمنين والمسلمين الرحمة، وعجل لنا فرجك، ولا تؤاخذنا بما كسبت أيدينا، ولا تحاسبنا على سيئاتنا، واغفر لنا جميعا ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وأهل مودّتنا، ولكل ذي حق خاص علينا من أهل الإيمان والإسلام يا أكرم من كل كريم، ويا أرحم من كل رحيم.

“إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)” النحل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ميزان الحكمة ج3 ص277 عن أمير المؤمنين (ع).
2 – بحار الاَنوار 22 : 431 عن الباقر (ع).
3 – ميزان الحكمة ج3 ص265 عن الرسول الأعظم (ص).
4 – ميزان الحكمة ج3 ص267 عن الإمام الصادق (ع).
5 – ميزان الحكمة ج 3 ص 267 عن الرسول الأعظم (ص).
6 – ميزان الحكمة ج3 ص 267 عن الباقر (ع).
7 – ميزان الحكمة ج3 ص 267 ((في التوراة)).
8 – ميزان الحكمة ج3 ص 268 عن الباقر (ع).
9 – ميزان الحكمة ج3 ص 269 عن الصادق (ع).
10 – ميزان الحكمة ج3 ص 275 عن الصادق (ع).

زر الذهاب إلى الأعلى