خطبة الجمعة (106) 9 صفر 1424هـ – 11-4-2003م

مواضيع الخطبة:

الدعاء (4)  –   التعليم الديني   –   الحرب العدوانية ونتائجها

علينا وفي كل الأحوال أن ننطلق بالمسجد، بالبيت، بالمؤسسة انطلاقة جديدة كبيرة منفتحة جادة رسالية على طريق الإسلام، وأن نوصل كلمة الإسلام بأقوى درجة ممكنة لأجيالنا الجديدة، وسيكون لنا الشرف كل الشرف لو فعلنا ذلك ونحن نضع الخطى على خطِّ الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا يكون الدعاء إلا له، ولا ينفع التوكل إلا عليه، ولا يحمي اللجأ إلا إذا كان إليه، ولا مغني غيره، ولا كافي من دونه، ولا يُرجى سواه. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سامع النجوى، مجيب الشكوى، ودافع البلاء، ومنجي الهلكى.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ما أتى إلا بما أُوحي له، وما بلَّغ إلا بما أذن له ربُه، وما قال إلا صدقا، وما شرَّع إلا حقا. صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله يا من به تكونون، وإليه تصيرون، ومن رزقه تطعمون، وبرعايته تكلوؤن وبتدبيره تقومون اتقوا الله تقوى من غلب عقلُه هواه، وأذهبت بصيرتُه عماه، ووقاه التدبر من العثرة، وكفاه جده من الحسرة، وماذا يُطمع العبد في معصية الله؟! ضعفه وقدرت ربه عليه؟! فقره وعطاء الله إليه؟! غروره بالدنيا والموت يلاحقه والمنية تطلبه؟! وسوسة الشيطان وهو عدوه؟! وعود المستكبرين وهم ينزلون من أعالي القصور إلى حفر القبور، لا يملكون تقديما وتأخيرا؟! ألا لا يُلجىء من الله أحد، ولا يكفي منه أحد، ولا يقوم لأمره أحد، فلا يغلبنكم على تقواه غالب.

أما بعد يا أخوة الإيمان، فهذه حلقة أخرى من الحديث عن موضوع الدعاء تبتدىء بهذا السؤال: كيف يكون الداعي؟ وهو سؤال يعود بنا شيئا ما إلى حقيقة الدعاء ونحن محتاجون إلى التشبع بهذا المعنى، وأن نتوفر على ما هي حقيقة الدعاء.
في ما وعظ الله تعالى به عيسى: (يا عيسى ادعني دعاء الحزين الغريق الذي ليس له مغيث… ولا تدعني إلا متضرِّعا إليَّ وهمك هما واحداً فإنك متى تدعني كذلك أجبتك).

ما لم يشعر العبد وهو يدعو الله تبارك وتعالى شعور الحزن، لما ارتكبه من تفريط في حق ربه سبحانه وتعالى، ومن استدبارٍ للمولى الكريم، وما لم يشعر بالحزن لأنه في مأساة تحتوشه، ولأنه وإن كان في القصر وبين الأهل يجد أن قد تقطعت أسباب نفعه، ما لم يشعر بأن لاشىء من سفين يركبه للنجاة، وإن كانت أسباب المادة موفورة بين يديه، فهو هنا لم يعرف كونه عبدا، ولم يعرف كون ربه ربا.

حتى يكون قد عرف أحدنا ربَّه ربّاً، وأنه عبد لله سبحانه وتعالى، وحتى يكون دعاؤه صادقا من الأعماق لابد أن يستولي عليه هذا الشعور؛ شعور أن لا شىء يمكن أن ينفع مستقلاً عن الله وبغير أذنه، وأنَّ الأهل والولد، وكل الأسباب المادية الموفورة بيده لا تُمثِّل سفين نجاة، ولا سبيل فلاح. أرأيت كيف يشعر الغريق بأن لا منقذ له من نفسه أو من غيره إلا الله حين تتقطع كل الأسباب أمامه؟! الدعاء الصدق هو أن يكون أحدنا وكأنه ذلك الغريق الذي لا يرى سبيل نجاة إلا بأن يستمسك برحمة ربه، ويضرع إليه. بهذا تكون حقيقة الدعاء وإلا فهو لقلقة لسان أو ما يقاربها.

(… ولا تدعني إلا متضرعاً إليَّ وهمك همَّا واحداً…)
لا تدعني إلاَّ والشعور بذل العبودية إليَّ مستول عليك، وليس لك أكثر من قصد، منه ما للخالق ، ولا أكثر من هم وتطلع منه ما للمالك، ومنه ما للملوك. أيها العبد المملوك لله لا تقصد مع الله بطلبك أحد وإن كان أفضل رسل الله، أو أقرب ملائكته إليه. والشفاعة وإن كانت ثابتة – وهي كذلك – لكن لا اعتماد على شىء بالأصيل إلاَّ على الله ورحمته وقدرته.

ومن دعا متضرعاَ إلى الله وهمه هم واحد متجه إليه فالوعد الصدق الإجابة.

(كان رسول الله صلى الله عليه وآله يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين)، المسكين الذي لا يملك لقمة يسد به جوعته، ويبحث عما يحفظ له رمقه، ولا يجد أحدا يُسدي له جميلا بتقديم هذه اللقمة إلا شخصا واحدا، كيف يكون حاله في العادة مع هذا الشخص؟ يكون المتذلل المتضرع المنقطع أمله – إذا لم ير الله عز وجل – إلا من هذا الشخص. رسول الله صلى الله عليه وآله كان يظهر كأصغر مسكين، وكأفقر فقير في دعائه إلى الله، وتظهر عليه المسكنة أكثر مما تظهر على مساكيننا العاديين حين يسألون غير الله، فيخضعون ويذلون ويتصاغرون.

(مما أوحى الله تعالى إلى موسى: يا موسى كن إذا دعوتني خائفا مشفقا وجلا، وعفِّر وجهك في التراب، واسجد بمكارم بدنك، واقنت بين يديّ في القيام، وناجني حيث تناجيني بخشية من قلب وجل).

(مما أوحى الله تعالى إلى موسى: يا موسى كن إذا دعوتني خائفا مشفقا وجلا – أقول: وكيف لا، وموسى المعصوم عليه السلام لا يضمن أنه قد وفَّى بحق ربه، فلا بد أن يخاف ويشفِق، ويكون عنده وجل، فإنه لو حاسبه الله بنعمه لا يكون أهلا لدخول الجنة. الخوف والإشفاق والوجل لما يكون عليه الداعي من تفريط في حق ربه، ولأن هذا الذي لا يجد باباً يطرقه إلا بابَه، قد أدبر عنه كثيراً في السعة، وقد عصاه طويلا، فلابد أن يحزن، لابد من أن يخاف من الطرد. حين يلحظ الداعي ذاته وتقصيرها يحكم على نفسه بأنه مطرود من رحمة الله، مردود عن بابه، ولمَّا تكون له نظرة على سعة رحمة الله ولطفه ينتعش في داخله الأمل (وعفّر وجهك في التراب) لا تبقي شيئا شامخا على شموخه وأنت تتجه لله بدعائك، وكل ما ترى له شموخا وترى فيه عزة منك فأذله، واسحق شموخك -وهو كاذب – أمام يدي الله سبحانه وتعالى (واقنت بين يديّ في القيام، وناجني حيث تناجيني بخشية من قلب وجل). وهل نفعل ذلك في دعائنا؟!

(ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)، هكذا هو الداعي يائس آمن، قلق مطمئن واثق، يائس حين ينظر إلى موقفه من الله، قلقٌ حين ينظر إلى تقصيره، آمن واثق مطمئن حين ينظر إلى كرم الله ورحمته.

ورحمة الله وسعت كل شيء، فلابد أن يكون إيقان بالإجابة.

(إذا دعوت فظُن أن حاجتك بالباب). وقد يأتينا هذا الظن حين نسأل إنساناً كريما، ماذا لو سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاجة قضاؤها ميسورٌ له؟ وحتى لو كنت على تقصير في الأدب مع رسول الله فهل تيأس أو تأمل؟ إني أجدك إذا كنت على شعور مستقيم، وإذا كنت تعرف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزنه أنك لابد أن تثق وتطمئن لقضاء الحاجة، وما كرم رسول الله صلى الله عليه وآله من كرم ربه؟ كرم رسول الله صلى الله عليه وآله محدود، وقدرته محدودة، وكرم الله مطلق، وقدرته مطلقة.
ثم إنَّ هذه بعض آداب الدعاء منها ما يسهل الإجابة، ومنها ما تتمّ به الفائدة، ومنها ما يرتفع بمستوى الطلب، وقيمة الغرض، ومنها غير ذلك، فهي آداب ذات مهام وأهداف مختلفة.

أقرأ شيئا يسيرا.
أولا: صلاة ركعتين:-

(إن رجلا دخل المسجد فصلى ركعتين، ثم سأل الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله أََعْجَلَ العبُد ربه، وجاء آخر فصلى ركعتين، ثم أثنى على الله عز وجل وصلى على النبي وآله فقال صلى الله عليه وآله سل تعط).
(إن رجلا دخل المسجد فصلى ركعتين، ثم سأل الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله أعجل العبد ربه..) قام بعمل يجعل الله عز وجل يسرع في قضاء حاجته، وهذا العمل صلاة الركعتين، (وسل تعط)، توفرت على شرط العطاء، فلو سألت لأعطيت.

ثانياً: الدعاء لا يستصغر:-

مطلوب للداعي أن يتوفر على شروط وآداب، وأن يتهيأ تمام التهيأ للدعاء، ولكن لا يتوقف أحدنا عن الدعاء في أي حال من الأحوال، فسواء كان له أن يتهيأ تمام التهيأ للدعاء، ويدخل في صلاة ركعتين وفي الطهارة قبلهما وما إلى ذلك، أو لم يكن له أن يفعل ذلك كله فلا يملنَّ من الدعاء، ولا يكن له ذلك صارفاً له عن التوجه بحاجة إلى ربه لأن كرم الله واسع، ولا يدري العبد أي دعاء منه، وأي سؤال يوافق رضا الله سبحانه وتعالى، ويلاقي إجابته. فلا يبطئن عن الدعاء.

(إن الله تبارك وتعالى أخفى… إجابته في دعوته فلا تستصغرن شيئا من دعائه فربما وافق إجابته وأنت لا تعلم).
لا تقل اني دعوت دعوة مستعجلة سريعة ولم أكن على وضوء ولم أكن على صلاة فهذه قطعا دعوة غير مجابة؛ فليس لك أن تحكم على كرم الله بالضيق، وهناك ساعات تغنى بألطاف خاصة، ومناسبات تتضاعف فيها الرحمات والبركات.

ثالثا: لا استكثار على الله:-

يا أخوة يا أخوات لا نخطىء، لا تتعلق آمالنا بالصغار، لا نستمسك بالعرى المنقطعة، وبالفقراء ممن خلق الله، إذا أردت أن تكون ذليلا ومتضرعا ومسكين ولابد لك أن تكون كذلك فما أنا وأنت؟- فكن كذلك أمام الله عز وجل.
إنه لابد أن نستكين، لا بد أن نذل، لابد أن نطلب الحاجات، ولكن ليكن استمساكنا في كل ذلك بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه الغني وحده، ولا مالك من دونه، ولا راحم مثله.

اسمعوا هذه الأحاديث الشريفة المنقولة عنهم صلوات الله وسلامه عليهم .
قال الله تعالى:(لو أنَّ أوَّلكم وآخركم، وحيِّكم وميِّتكم، ورطبكم ويابسكم اجتمعوا فتمنى كل واحد ما بلغت أمنيته فأعطيته لم يتبيّن ذلك في ملكي).

وكيف يتبين في ملك الله العطاء المحدود، وهو ملك غير محدود، ؟!
(سلوا الله وأجزلوا – أكثروا من الطلبات – فإنه لا يتعاظمه شيء) وابحثوا عن ملك آخر لا يتعاظمه شيء، فإنكم لا تجدون.

اللهم صل على محمد وآل محمد، واجعلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات ممن تأدَّب بأدبك، وتخلق بأخلاقك، ونزع عن معصيتك، والتزم طاعتك، واكفنا شرور الدنيا والآخرة، وزدنا من فضلك يا كريم.
اللهم اغفر لنا ولهم لوالدينا وأرحامنا وجيراننا وكل ذي حق خاص علينا من مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة يا أرحم الراحمين.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ )

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي فطر النَّاس على معرفته، وأودع في الأنفس ركائزَ دينه، وبثَّ في الكون آياتِه، وأنزل على رسله بيِّناته، فأوضح السبيل، وقطع العذر، وأتمَّ الحجة، رحمةً بالعالمين، وهدى للمتقين.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خالقٌ وإن من شيءٍ عداه إلا وهو مخلوق، رازقٌ وكل من سواه مرزوق. وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله، وزادهم خيراً كثيراً، ورفعهم شأناً كبيراً.

عباد الله أوصيكم ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله، والاستقامة على طاعته في شدائد الفتن، وقواصم المحن، فلا ربح يرتجى كربح التقوى، ولا خسارة تُتقى كخسارة العصيان لربِّ الآخرة والأولى. وإنما يعرف الرجال بثبات القدم في الفتن والمحن، وإنما يعرف النُّهى – العقل والحكمة – عند اشتداد البلاء. وإنَّ أوضاع النّاس لا تزال تشطُّ عن ذكر الله ومنهجه، والفتنُ يركب بعضُها بعضاً، وإيمانُ الضعيف في مهب الريح؛ فاثبتوا أيها المؤمنون على دينكم، وقولوا صالحاً، واعملوا صالحاً، ولا تنووا إلا الخير، ولا يفتننكم الشيطان عن طريق التقوى، ولاجندُه في الأرض وهم كثير.

اللهم إنَّا نعوذ بك من مضلات الفتن، وأن نكون من صيد الشيطان الرجيم، وحزبه الضالّين المضلين. اللهم صل وسلم على البشير النذير، والسراج المنير خاتم النبيين والمرسلين محمد وآله الطاهرين. اللهم صلِّ وسلّم على علي بن أبي طالب، الولي الوصي، التقي النقي. اللهم صلّ وسلم على المعصومة البتول، فاطمة بنت الرسول (ص). اللهم صلّ وسلم على ولديها الزكيين، الإمامين الحجتين الحسن بن علي بن أبي طالب وأخيه الحسين.

اللهم صل وسلم على القادة المتقين، والهداة الميامين، سادتنا المعصومين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري رحمة العالمين، وهدى المؤمنين.

اللهم صل وسلم على الحاكم بالقرآن، ومبيّن الأحكام، والفاصل بين الحلال والحرام، محمد بن الحسن صاحب العصر والزمان.
اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وانصره نصراً مبيناً، وافتح له فتحاً قريباً، اللهم انصر ناصره، واخذل خاذله، واملأ به الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.

اللهم الموالي له، الداعي إلى منهجه، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الأخيار والمجاهدين في سبيلك، والعاملين من أجل عزّ دينك أيدهم وسددهم وذد عنهم وأظهرهم على أعدائك في العالمين يا رحمن يا رحيم، يا علي يا عظيم.

أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فالحديث عن قضيتين إن :-

‌أ. التعليم الديني:-

لا إنسانية ولا خلق ولا عدل، ولا أمن لا سعادة بلا دين، نحن نعرف أن للعلم المادي عطاءه، وقد لا نعرف ما للدين وعلم الدين من عطاء إلا القليل. علم المادة يتقدم بحياتنا المادية، يسرع بسفرنا، يسد جوعتنا، يكسو ظهورنا، يرتقي بمستوى ما نركب، ما نأكل، ما نلبس، ما نسكن، يُعطي قوة هائلة للبناء، وللتدمير، ولا يعطي ضوابط لهذه القوة، وكل الحروب الغاشمة العدوانية يستعان فيها بالعلم وعطاءاته، والقدرة الفتاكة الهائلة التي يضعها بيد أشرار الناس.

للعلم هذا، وذاك، ولا ضابط لعطاءات العلم، ولا موظف لها التوظيف الصحيح إلا ضميرٌ حي، ونفس طاهرة، وروح زكية، وقلب مشع، وليس شيء من ذلك إلا عن طريق الإيمان بالله، ووصل القلب به، وهي وظيفة الدين.

العلم يعطي فرصة الإشباع، ولكن قد لا يشبع، وقد يجوّع، العّلم يمكنه تقديم فرصة أمن، ولكن لا يضمن الأمن، وقد يخيف. كل هذا الجوع والعري والقلق والتدمير والصراعات الحضارية مستعان فيه بعطاءات العلم، وما استقوى قويٌ ظالم على ضعيف مظلوم في هذه الحضارة إلا بالعلم.

فالعلم تحتاج عطاءاته إلى توظيف صحيح يخدم البشرية، ويرتقي بها، ولا ضابط لحركة العلم ولعطاءات العلم إلا الإيمان.
العلم منه السحر، والعلم منه الشعوذة، والعلم منه ما أنتج الإشعاع النووي، والإشعاع الذري قبل ذلك، وبالعلم استُعملت القوى الهائلة في التدمير البشري.

إننا بحاجة إلى الدين للتوفر على الأمن حتى من النتائج المدّمرة للعلم، وعلى العدل والحياة المستقرة، ونحن بحاجة إلى الدين في بُعد أهمّ من هذا البعد بكثير وهو أن نبقى على خط إنسانيتنا، وأن تكتمل هذه الإنسانية فينا. وأن يكون لنا الدور الذي نخلد به في الآخرة خلودا سعيدا كريما.
هذه مقدمة، وهي مقدمة الحاجة إلى الدين.

المقدمة الثانية:

إنكم تعرفون أنّ الأنظمة الرسمية في العالم كلّه وعلى الإطلاق لا تُعطي التعليم الديني حقه، وأنّ الغالبية الكبرى جداً جداً جداً تستخف بالتعليم الديني. إذاً هناك حالة إهمال، وحالة استخفاف تسبب فراغا هائلا في هذا الأمر المهم، الذي لا تستقيم حياة ولا آخرة مع إهماله. هذه المقدمة

الثانية.

المقدمة الثالثة: أن الهوية الدينية تتعرض للتدمير مستقبلا بصورة أكبر، كما تنذر به نُذُرُ الشيطان الأكبر في الأرض؛ نذر أمريكا، وتصريحات مسؤوليها الكبار من العزم المؤكّد على مواجهة الثقافة الإسلامية الأصيلة، وهي أصفى ما بقي من تراث الأنبياء، ومن عطاءات مسيرة الرسالات السماوية الكبرى.

المقدمة الرابعة: التعليم الديني في الإسلام مسؤولية عامة، وتكليف لكل مسلم، فوظيفتان وضعهما الإسلام على كاهل العبد المسلم ذكرا كان أو أنثى، شابا كان أو عجوزا، وفي أي موقع من المواقع ألا وهما: وظيفة تعليم الجاهل ما يحتاجه من أموره دينه، ووظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هذه مقدمات أربع تفضي بنا حتما إلى أن نتحمل مسؤولية تعميم وتركيزالكلمة الدينية، المفاهيم الدينية، الأخلاقية الدينية، الوعي الديني، الروح الدينية.

وأن نبدأ تحركا عمليا جادا بأن نعمل على تحويل كل مسجد وكل بيت ما أمكن إلى مدرسة دينية.
قد تحاصره في مسجده، قد تحاصر الجاهلية المسلمين في مساجدهم، ولكن ولو لم يملك المسلم إلا بيته فإنَّ عليه أن يحوِّل بيته إلى مدرسة، وأن يتحمل أمانة صناعة جيل واعٍ حديدي يستمسك بالإسلام من أبنائه وبناته، على أنّ محاولة قوى الاستكبار الشريرة في الأرض أن تستولي على المسجد محاولة يجب أن تُسترخص في الوقوف أمامها كلُّ الأرواح، وكل الدماء، وكل عزيز.

علينا وفي كل الأحوال أن ننطلق بالمسجد، بالبيت، بالمؤسسة انطلاقة جديدة كبيرة منفتحة جادة رسالية على طريق الإسلام، وأن نوصل كلمة الإسلام بأقوى درجة ممكنة لأجيالنا الجديدة، وسيكون لنا الشرف كل الشرف لو فعلنا ذلك ونحن نضع الخطى على خطِّ الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم.

الوصية التي أوصينا بها جميعا – من ذكر وأنثى – من قِبل الأنبياء والمرسلين والأئمة عليهم السلام والأولياء هي العقيدة، القرآن، الصلاة، الأخلاق الإسلامية، النفسية الإسلامية، أحكام الشريعة، نحتضنها، ننشدُّ إليها،نبلّغِها وندعو إليها، ونغنىء الساحة العالمية بأنوارها.

عما يتصل بالحرب العدوانية ونتائجها، أطرح أسئلة محددة مستعجلة:-
ما حدث انتصار آلة أو رجال؟

المنتصر هي الآلة الأمريكية أو الجنود الأمريكيون؟

تمتلكون الإجابة هنا بوضوح وأن المنتصر الأكبر هي الآلة الأمريكية التي تقدمت في ظل حرص الحكومات الغربية على تقدم شعوبها، وفي ظل حرص الحكومات الإسلامية على تخلف شعوبها.

ليس استبسال الأمريكي أكثر من استبسال الشخص العراقي حتَّى في بعض قطاعاته الموالية لصدام، وليست الرجولة هناك أكبر من الرجولة هنا، والتربية الفاسقة الماجنة كما هي هنا هي هناك، فليس المنتصر هو الجندي الأمريكي، وإنما المنتصر هو الآلة الأمريكية.
أسأل سؤالاً آخراً: هزيمة أمة أصيلة أو نظام مهزوز معزول؟

باختصار أيضاً وبلغة واضحة: حتى تُنسب الهزيمة إلى الأمة الإسلامية لابد أن تكون هذه الأمة قد حاربت كلها، وأنّ حربها كانت من منطلق الإسلام، وأنها قد صُنعت قبل ذلك صناعة إسلامية، وأن الشعار كان شعارا إسلامياً في الحرب، وكل ذلك مفقود.
أؤكد أن كل ذلك كان مفقودا في هذه الحرب، وكل حرب مماثلة من الحروب التي خاضتها الأمة الإسلامية مع الكفر العالمي في حقبتنا هذه.

إنها هزيمة نظام، ونظام مهزوز لأنه معادٍ لشعبه، ونظام معزول لأنه معاد لمحيطه، ومعاد لدول إسلامية كثيرة، ودول عربية، وليس على علاقة جيدة بكثير من دول العالم.

شيئ آخر أقوله: ما كان الشعب غاليا على صدام، ليكون صدام غاليا على الشعب، ليقف معه إلى الأخير ويفدَّيه بنفسه ودمه.
متى يهب الشعب لنصرة حاكمه؟ إذا كان الشعب عزيزاً على الحاكم في الرخاء، كان الحاكم عزيزا على الشعب في الشِّدة، وإذا كانت مواقف الحاكم – أي حاكم وليس صدام فقط – للشعب في الحالات العادية، فموقف الشعب سيكون للحاكم حين تواجهه المحنة، وصدام لم يكن يرى للشعب قيمة؛ فحق للشعب أن لا يرى لصدام قيمة، وحق للشعب أن يخذل صدام الذي كان همه إضعاف الشعب وتركيعه وإذلاله وسحق هويته، وتغريبه.

ما هو الثمن الذي يريده الغزاة لإسقاط صدام؟
إذا كان الثمن مكاسب مادية لا تمثل استنزافا لخيرات العراق فإن هذا قد يُتسامح لهم فيه، أما إذا كان الثمن الذي تريده أمريكا هو الثروة والإنسان والإسلام فإنها الحرب في طول الحرب، ولن يستسلم العراق للإرادة الأمريكية كما يدل عليه تاريخه، وخاصة في ظل هذا التحدي الصارخ للأمة. وستكون المسألة هكذا؛ من الحرب مع النظام إلى الحرب مع الشعب.

لن تكون حالة الفراغ والهدنة طويلة بين حرب أمريكا للنظام، وحربها مع الشعب، إذا كان الثمن الذي تريده هو الثروة والإنسان والإسلام.
هدفان قذران حركا آلة الحرب؛ وهما الاستلاب المادي، والاستلاب الحضاري. فإذا كان الثمن المطلوب هو هذا الثمن الكبير الباهظ لكاهل الأمة، والذي يسحق عزتها، فالمحدَّد هنا هي حرب مع الشعب، بعد الحرب مع النظام.

لأن الشعب العراقي لن يعطي هذا كله، وهذا كله هو ما حرك الآلة الأمريكية في حرب مع صدام، وعلى مستوى التفصيل السريع المراد هو نهب الثروة وتقديم الفتات، والمخطط له الهجمة الثقافية، وتدنيس الساحة الإسلامية بالفحش والعهر المكشوف، والفكر المعادي، ومن الأهداف التمكين لإسرائيل، والمعاملة هي معاملة استعلائية مع الشعب العراقي ورموزه، وكل واحد من هذه الأمور الأربعة يكفي لخوض معركة جديدة مع الشعب المسلم الأبي العزيز، لأنْ ليس منها إلاَّ ما ينفذ له صبر الأحرار العراقيين.

والمواجهة ستكون مواجهة بين أمريكا وبين الإسلاميين والوطنيين والقوميين وكل إنسان له شئ ضمير أو غيرة على نفسه ووطنه.
ولا شك أن المعركة ستدار من طرفها الشعبي باليد الإسلامية القوية وبالجنان الإسلامي الذي لا يلين ولا يستكين.

وأسأل: هل توحّد المعارضةَ في العراق الأحداثُ الجسام؟ وهل نقبل سيادة المؤمن بدل سيادة الكافر؟ هل نولِّي على أنفسنا مؤمناً واحدا من المؤمنين من أهل الكفاءة من أي جبهة من الجبهات المسلمة والمؤمنة، ونقبل بولايته بدل أن نقبل بولاية الكافر؟ هذا ما نتمناه، وهل تدفع هذه الأحداث الأليمة المسلمين كل المسلمين على المستوى الشعبي لأن ينسلخوا من طائفيتهم، ولأن يمتلكوا وعيا رشيدا فلا يستجيبوا لدعوات التفرقة والطائفية العملية على المستوى السياسي والاقتصادي وما ماثل ذلك؟!

وأمريكا ستدخّر عملاء كانوا لها في النظام، وستبحث عن عملاء جدد من النظام ليبقوا ورقة بيدها تستعملهم في وجه الإسلاميين كلما احتاج الأمر.

اللهم صل على محمد وآل محمد، ولا تخلنا والأمة المسلمة كلها من حمايتك، ولا تحرمنا جميعا من رعايتك، وهب لنا رحمة من رحمتك، ولطفاً من لطفك، لا نشكو معه ضرا، ولا نخاف عدوا، ولا ننقص عزا، ولا نخسر دينا أو دنيا.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا وأخواتنا في الإيمان والإسلام، ومن كان له حق خاصِ علينا منهم، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وأصدقائنا. يا أرحم امن استرحم، ويا أكرم من رحمِ، يا الله يا عظيم.

“إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)” النحل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملحوظة:- الخطبتان لا تخلوان من شئ من التعديل.

زر الذهاب إلى الأعلى