خطبة الجمعة (105) 2 صفر 1424هـ – 4-4-2003م

مواضيع الخطبة:

الدعاء (3)   –   مقولة في الصحافة   –   الحرب الدائرة

الخروج من الذنب يحتاج إلى توبة، والإقرار بالذنب يعني أنك تتوب، وأنك تُفارق هذا الذنب، وأنك تعيش شعوراً بفداحة الخسارة بسبب هذا الذنب

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي فتح على عباده أبواب رحمته، وهداهم إلى طاعته، وأذِنَ لهم في مسألته، وضمِن لهم إجابته، وشرّف الصالحين بمناجاته، وآنسهم بذكره، وجعل قلوبهم مشرقةً بمعرفته.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا تُعدُّ آلاؤه، ولا تُحصى نِعمه، ولا يُستقصى فضله، وأشهد أنّ محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله أوصيكم ونفسي الواقعة في الغفلات بتقوى الله، فإنها موقظة للقلب، محيية للنفس، مطهِّرة لها من الرجس، مزيحة عنها الظلمة، مذهبة عنها الوحشة، جالبة لها الأنس. ألا إن بتقوى الله يكتفى من الأزمات، وتفرج الكربات، وتفتح مغاليق الخير، وتُسدُّ أبواب الشر، }وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ…2/3{ الطلاق، }وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً{ 4/ الطلاق، وهي الطريق للخروج من السيئات، ومضاعفة الحسنات }وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً{5/ الطلاق.

اللهم صلِّ وسلم على محمد وآله، وأكرمنا بالتقوى، واجعلنا من أهل النُّهى، وأسكنا جنة المأوى، ولا تذلّنا في الأصدقاء، ولا تُشمت بنا الأعداء يا أكرم الأكرمين، ويا أجود الأجودين.

أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الكرام فهذه حلقة ثالثة في الحديث عن الدعاء تضمُّ ثلاثة أسئلة وإجاباتها:-
السؤال الأول: كيف ندعو؟

وقفة مع هذه النصوص التي تُقدِّم الإجابة على هذا السؤال:

1. عن الرسول صلى الله عليه آله وسلم: (لا يرد دعاء أوّلُه }بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ{).

2. عن الصادق عليه السلام: (كل دعاء لا يكون قبله تمجيد فهو أبتر).

3. عن الصادق عليه السالم: (إن في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إن المدحة قبل المسألة، فإذا دعوت الله عز وجل فمجِّده. قال: قلت: كيف أُمجِّده؟ قال: تقول يا من أقرب إلي من حبل الوريد، يا من يحول بين المرء وقلبه، يا من هو بالمنظر الأعلى، يا من ليس كمثله شيء).

4. عن الصادق (ع): (إنما هي المدحة ثم الإقرار بالذنب ثم المسألة….).

5. عن الصادق عليه السالم: (من كانت له إلى الله عز وجل حاجة فليبدأ بالصلاة على محمد وآله، ثم يسأل حاجته، ثم يختم بالصلاة على محمد وآل محمد، فإن الله أكرم من أن يقبل الطرفين ويدع الوسط).

الحديث الثاني والثالث أحدهما يجعل مقدِّمة الدعاء المدحة، والآخر التمجيد، والمدحة والتمجيد بمعنىً واحد فالمدحة الثناء، وتمجيد الله عز وجل بثنائه، وذكرِهِِ الجميل، فهما يعتمدان هذا الأمر مدخلا للدعاء، وهو أن تذكر اللهَ، أن تُمجدَه قبل أن تبتدأ أيَّ جزء من الدعاء. أمَّا الحديث الأول فيذكر أنه لا يرد دعاء أوله}بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ{، والبسملة هي مصداق من مصاديق المدحة والثناء والتمجيد لله، فيتلاقى الحديث الأول مع الحديثين الثاني والثالث، ومع كلّ الأحاديث التي تذكر التمجيد أو المدحة مدخلا للدعاء، فبعض الأحاديث تقول بأن المدخل هو التمجيد، أو الثناء أو الذكر، والحديث الأول يذكر صورة من صور التمجيد والثناء وهي البسملة }}بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ{.

هناك حديث ربما أهملت قراءته، هو الحديث الرابع: (إنما هي المدحة ثم الإقرار بالذنب ثم المسألة) عن الصادق عليه السلام.

هذا الحديث لا يجعل الإقرار بالذنب هو المدخل الأول، إنما يجعله مدخلا ثانياً، يعني يأتي في طول التمجيد، فيكون الترتيب أن تمجِّد الله وتثني عليه سبحانه وتعالى، ثم تُقرّ بذنبك، وتعترف أمام الله سبحانه وتعالى بما فرّطت، لأن هذا يعني تأهيلك لأن تكون في موقع الدعاء، فالذي يدعو ويريد أن ينقطع إلى الله عز وجل لا بد أن ينظف ذاته من أجل أن تتهيأ هذه الذاتُ للدعاء، ويكون دعاؤها مقبولا عند الله سبحانه وتعالى، فأولا إصلاح العلاقة بالله، ثم يأتي الطلب من الله عزّ وجل بقضاء الحاجات، وكيف أُصلح ذاتي مع الله في هذه اللحظة التي أشعر بالحاجة إليه؟ أن أخرج من ذنبي، والخروج من الذنب يحتاج إلى توبة، والإقرار بالذنب يعني أنك تتوب، وأنك تُفارق هذا الذنب، وأنك تعيش شعوراً بفداحة الخسارة بسبب هذا الذنب، وليست المسألة مسألة لقلقة لسان، إنما هي توبة صادقة تنبع من الجَنان.

فحينما تُمجد الله، وتذكره بأسمائه الحسنى تلتفت إلى ذاتك وما اقترفت من ذنب، وما كان لها من طغيان على الله، وهي في موقع العبودية المنسحقة، فتندم وتتراجع عن الذنب، لتصحح علاقتها بالله سبحانه وتعالى، وتتهيأ للدعاء.

يأتي بعد هذا الإقرار المسبوق بالثناء على الله الدعاءُ، لكن أول الدعاء هو الصلاة على محمد وآل محمد.

فالصلاة على محمد وآل محمد هي أول جزء من الدعاء، وليس شيئا يتقدم على الدعاء وهو غيره، ما يتقدم على الدعاء وهو غيره ذكر الله والثناء عليه، ثم الإقرار بالذنب، ويخطئ بعض إخواننا حينما يُقدِّمون الصلاة على محمد وآل محمد على ذكر الله والثناء عليه، والصحيفة السجادية لو راجعتموها فهي إنما تُقدم دائما ذكر الله والثناء عليه.

وتقدُّم هذا الجزء من الدعاء وهو الصلاة على محمد وآل محمد على بقية المطالب فيه لأنه دعاء مقبول، فحين يبتدأ بما هو مقبول من الدعاء، ويُختتم به يبقى الوسط، والحديث يقول بأن الله عز وجل أكرم من أن يقبل الأول والآخر ويدع الوسط. بهذا نتعلم الكيفية الواردة للدعاء.

السؤال الثاني أيهما الأفضل الإعلان أو الإسرار بالدعاء؟

‌أ. }وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الغَافِلِينَ {. الآية الكريمة تقول }وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ{، وفي بعض كتب التفسير أن المعني بما هو }دُونَ الجَهْرِ{ هو الصوت المتوسط، فعلى الأقل الآية الكريمة تقول لنا: بأن الدعاء لا يأتي في صورة صراخ، وإنما يأتي بصوت معتدل لا يخرج بصاحبه عن حالة الخشوع والذل إلى الله سبحانه وتعالى، لا أدري ولم أستقصِ، قد نعثر والله العالم على بعض الأحاديث التي ربما تدعو هذه الصورة؛ صورة الاستغاثة الصارخة إلى الله عز وجل بالصوت المرتفع في ملمات اجتماعية خاصّة، ولكن لا أؤكد ذلك.

عن الرسول صلى الله عليه وآله: (دعوة السر تعدل سبعين دعوة في العلانية). الحديث واضح جداً في التركيز على صفة السرية في الدعاء، وأن يكون بين المرء وبين نفسه، حتى لا يعلمْ أحد بأنه يشتغل بذكر الله والدعاء.

الدعاء بين المرء ونفسه أبعد عن الرياء، وعن عبادة الآخرين، وعن طلب التوفُّر على مكاسبَ تُعزز الموقع في الملإ المؤمن، دعاء السر أقرب إلى الخلوص وصدق الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى، ولب الدعاء هو هذا الانقطاع، هو هذا الشعور المستحوذ على الذات بالحاجة إلى الله سبحانه وتعالى، وبالثقة في قدرته وعطائه.

(ما يعلم عظم ثواب الدعاء وتسبيح العبد فيما بينه وبين نفسه إلا الله تبارك وتعالى) كم هو الثواب؟ ليس بيد أحد أن يُقدِّره، أمِّل ما تؤمل فإن كرم الله أوسع بما لا يُحدُّ مما تتصوره، هذا الثواب المفتوح هو جزاء الذكر والدعاء والتسبيح لله في السِّرِّ، وما أعظم ما يصنعه هذا الدعاء، والتسبيح من تقويم النفس، وتصحيح مسارها، وبلورة معرفة الله داخلها، إنه أكبر من أن تسمع ألف درس، ومن أعمالٍ حسنةٍ كثيرة فيما يعطيه من مردود كبير على مستوى صناعة النفس وتطهيرها، وربطها بالله عز وجل، وتزويدها بالشعور بالثقة الذي يُفعمها وتزخر به.

لكن نقرأ مع هذا اللون من الأحاديث التي تُعظِم من دعاء السر، وذكر السر، ويظهر منها تقديمه على دعاء العلن، هذا الحديث عن الصادق عليه السلام: (كان إذا حَزَنَهُ أمر جمع النساء الصبيان ثم دعا وأمَّنوا)، وفي قراءة أخرى (إذا حزبه أمر جمع النساء والصبيان ثمّ دعا وأمَّنوا) يعني إذا أصابه.

فهذا دعاء علني، وفي محضر الآخرين، ويأتي في صورة دعاء جماعي.
وفي حديث آخر: (ما اجتمع أربعة رهط قط على أمر واحد فدعوا الله إلا تفرقوا عن إجابة) فمما يساعد على إجابة المطلب محل الدعاء هو أن يكون الدعاء جماعيا، وفي محاولة فهم ما تتلاقى عليه الطائفتان، وما قد يكون جمعا بينهما؛ أن الأولى فيما يظهر منها أكثر ما تلحظه هو حيثية الثواب، وفيما يظهر من الثانية أنها تلحظ حيثية تحقيق المطلب، ثم إن الطائفة الثانية قد يكون موردها في الأكثر المصائب الظاهرة، والملمات الاجتماعية، ومثل هذا الحديثين ما يأتي في صلاة الاستسقاء، فربما تبرز حتى البهائم إلى جنب الأطفال والنساء، وكأنَّ ذلك لإظهار حالة الضعف وحالة انقطاع الأمل من كل أحد،(1) وأنّ المطلب لم يكن مطلبي أنا الفرد حتى يُردّ لو كنت آثما، فإن في هؤلاء من يُرحم وإن كنتُ أنا لا أستحق الرحمة، وحالة الدعاء الجماعي كأنها أقرب تناسباً مع إبداء الحاجات العاجلة الضرورية الاجتماعية(2)

السؤال الثالث: أيهما أفضل الدعاء أو الذكر؟

والدعاء هو رفع الحاجات إلى الله، والاستعانة به سبحانه في قضائها، أما الذكر فهو الاشتغال بعظمة الله عز وجل عن غيره، وذهاب القلب إلى العيش مع أسماء الله الحسنى، وانصراف القلب عن جمال المخلوق إلى جمال الخالق، ولَهَجُ اللسان بذكر عظمة الله وأسمائه الحسنى وحمده وشكره وتقديسه.

تقول النصوص: }وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ{.

وقد فُسرت العبادة في الآية الكريمة بالدعاء كما مر، فالاستكبار عن الدعاء متوعدٌ عليه بدخول جهنم في صورة صَغار وذل وانحطاط.

عن الرسول صلى الله عليه وآله: (قال الله تعالى:” من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أُعطي السائلين”).

هذا صاحب حاجة في نفسه أو في أهله، ولكنه قد شغله ذكرُ الله عن ذكر حاجته. ما صرفه عن الدعاء الاستكبارُ، إنما الذي صرفه عن الدعاء، وعن ذكر حاجاته ذكرُ الله.
وعنه صلى الله عليه وآله: (من شغلته عبادة الله عن مسألته أعطاه الله أفضل ما يعطي السائلين). أبلغ دعاء لك سيعطيك الله أكثر مما أمَّلته في هذا الدعاء لو شغلك عنه ذكرُ الله.
وعنه صلى الله عليه وآله: (قال الله تعالى: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته قبل أن يسألني)، ولا تهافت هنا أصلاً، لأن الذاكر غير مستكبر، وموضوع الوعيد في الآية الأولى هو الاستكبار على الله. وإن الذاكر مشتغل بالنظر إلى عظمة الله، عن النظر إلى حاجته، والداعي ناظر إلى الأمرين معا، فلا غرو أن يقدم الأول عند الله على الثاني.

اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، ولا تجعلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات ممن يستكبر عن عبادتك، أو يلتفت في حاجاته إلى غيرك، أو يشتغل بذكر شيء عن ذكرك، وأدخلنا في الذاكرين الشاكرين لك، واغفر لنا جميعاً، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا، وكل ذي حق خاص علينا من أهل ملتك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ)

الخطبة الثانية

الحمد لله فالق الإصباح، باعث النور بعد الظلام، فاطر العقول على معرفته، مؤنس القلوب بذكره، مربِّي النفوس بعبادته، مزكِّيها بتقواه، ذي المنِّ والطول والقوّة والحول، لا غالب إلا وهو مغلوب لأمره سبحانه، ولا قاهر إلا وهو مقهور لقهره، ولا جبّار إلا وهو متضعضعٌ لجبروته.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، فاز من تابعه، وخاب من فارقه، لا هدى لمن باينه، ولا نور لمن ناوأه، صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وسلاما.

عباد الله علينا بتقوى الله، والحذر من إهمالها، ولينظر المستخف بالتقوى إلى قوله تعالى: } وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَاد {(206/ البقرة) وكيف لعبد أو أَمَةٍ أن يستكبرا على الله، وأن يهملا أمره ونهيه، ويقدما غيره عليه من هوى النفس، أو شيطان مريد، أو غوي رجيم.

ولا أحد من نفسه أو غيره يملك له من أمره شيئاً من دون الله، وكل نفعه وضره بيده سبحانه، وكل قوامه بنعمه، ولا بقاء له إلا بفيضه.

إنَّ من عَقِلَ اتقى، ولا يطغى ولا يفجر إلا جاهل، وإنَّ من عرف شأن ربّه لم يعصه، وما عصى إلا ذو ضلال، وقد خُلقنا مهديين، والضلال عند الإنسان بما كسبت يداه.
اللهم اهدنا ولا تضلّنا، وذكرك لا تنسِنا، وتقواك لا تحرمنا.
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على خاتم النبيين والمرسلين، ورحمتك للعالمين محمد وعلى آله الطاهرين. اللهم صل وسلم على عليٍّ أمير المؤمنين، وإمام المتقين. اللهم صل وسلم على أَمَتِك المهدية، فاطمة الزهراء النقية التقية. اللهم صلّ وسلم على الإمامين الهاديين، والسبطين الكريمين؛ الحسن بن علي وأخيه الحسين.

اللهم صل وسلم على القادة الميامين، والأئمة المعصومين؛ علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الخلفاء الراشدين.

اللهم صلّ وسلم على ولي العصر، والقائد إلى النصر، وارث علم الكتاب، ومحيي الدين في العباد والبلاد، موقظ الغافل والنائم محمد بن الحسن القائم.
اللهم عجل فرجه، وسهل مخرجه، وانصره نصرا عزيزا، وافتح له فتحا يسيرا. اللهم قوِّ أركان دولته، وأطل في الحكم بقاءه، وأذهب به سقم العقول، ورجس النفوس، يا علي يا عظيم، يا رؤوف يا رحيم.

اللهم الموالي له، السالك منهجه، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الأخيار، والمجاهدين الغيارى، والعاملين في سبيلك ادرأ عنهم، واكفهم، وسدد خطاهم، وأجرِ النصر على أيديهم يا قوي يا عزيز، يا فعّال لما تريد.

أما بعد فللحديث محوران:-

1. مقولة في الصحافة.

2. والحرب الدائرة.

أولاً: المقولة:
مفادها: أن صحوة الدين غير صحوة الفكر، وأن الحديث عن الأولى لا يعني حديثاً عن الثانية، فقد تستيقظ الأمة من ناحية دينية ولكنها تبقى في سُبات من ناحية فكرية، وقد يكون العكس كما ترمي إليه هذه المقولة.

المدعى هنا هو الإنفكاك بين الصحوة من حيث الفكر، وبين الصحوة من حيث الدين، فقد تجد الأمة متقدمة فكرياً على مختلف الأصعدة بينما تجدها متأخرة على المستوى الديني، وقد تجدها متقدمة على المستوى الديني، عشّاقة للدين، منصهرة به، مستوعبة لأبعاده ومفاهيمه ورؤاه، بينما هي على جمود فكري.

هذه المقولة لو حاسبناها أنجدها دقيقة؟ أو أننا سنجدها من الفكر المغلوط؟
نسأل: المعني هنا في انفصال الصحوة الدينية عن الصحوة الفكرية هو الفكر الذي يعالج أوضاع المادة وتطويرها؟ أم المعني أيضا ما يعالج الأوضاع الإنسانية ويقوِّمها ويثريها؟

هناك فكران؛ فكر يتجه لمعالجة الناحية المادية والتقدم بها، وفكرٌ يتجه لإصلاح حال الإنسان من حيث إنسانيته، فكرٌ يتوفر على فهم دقيق للأولويات، وترتيب الأمور من حيث المدى الأبدي، ومن حيث ما يتصل بتقويم إنسانية الإنسان، وما يتقدم بإنسانيته إلى حدِّ الرقي الكبير، ذاك فكر وهذا فكر.

إذا كان المعني هو الفكر المادي فإن، هذه المقولة قد تستقيم حيث إن التقدم المادي ليس مربوطا دائما بصحوة الدين. إثراء الحالة الاقتصادية، التقدم التكنولوجي، تقدم الزراعة والصناعة، كل ذلك يحتاج إلى أسس منها ما هي أسس الدين، ولو انهدمت أسس الدين لما اخضرّ عود للحياة أبدا في أي جنبة من جنباتها، لكن هذه المساحة من العلم، ومن التقدم الفكري لاتتصل مباشرة بصحوة الدين بالمعنى الذي نريد، لكن من جهة أخرى لا معاداة، ولا مفاصلة بين التقدم الفكري على المسار المادي، وبين الصحوة الدينية، بل على العكس فإن الصحوة الدينية تفجر الفكر على المسار المادي، وتصلح الحياة المادية، ونحن لا نحتاج إلى شواهد كثيرة فإن التقدم العلمي المادي في المجتمعات البشرية بدأ في خطواته الواسعة في أحضان الإسلام، وفي ظل الإسلام. وإن الصحوة في هذا المسار بالخصوص إنما وصلت الغرب الحديث عن طريق الإسلام.

أما إذا عُني بالصحوة الفكرية هنا الصحوة الفكرية التي تُصحح مسار الإنسان، وتضمن له نماء إنسانيته، وتخلق منه المجتمع القوي، المجتمع المتراص؛ مجتمع العدل، والأمن، والسلام، ومجتمع الرقي الروحي، ومجتمع الرقي العلمي في كل المسارات، فمثل هذه الصحوة الفكرية نقول جازمين بأن تحقّقها في غير فرض صحوة الدين من المستحيلات.

وهناك قدرة على إثبات هذا الأمر في المواضع التي تسمح بالتفصيل.
الصحوة ما هي؟

إذا كانت الصحوة هي التنبه الأولى على أهمية الدين ولو عن طريق الشعور الفطري؛ فهذا مستوى من الصحوة الدينية، قد لا تصحبه صحوة فكرية، أما إذا كانت الصحوة المعنية هي بمستوى تبلور الفهم الديني، وتوقد الإيمان بقيمة الدين، والالتحام بالدين التحاماً عمليا فإنه على هذا الفرض لا يمكن أن تتحقق صحوة دينية بلا تحقّق صحوة فكرية، وكذلك العكس. هما صحوتان متلازمتان، لا تحصل إحداهما إلا وتحصل الأخرى. -ويؤسفني أن الشرح غير ممكن لضيق الوقت -.

وأطرح ثلاثة أمور بصورة عاجلة للتعرف على علاقة الدين بالفكر:

1. ما هو المدخل للدين؟ المدخل إلى الدين الفطرة الصادقة الصافية، وهي أدق ميزان فكري وديني؛ أدق ميزان على مستوى استقامة الروح وانحرافها، وأدق ميزان على مستوى استقامة الفكر وانحرافه… المدخل إلى الدين هو الفطرة الصادقة الصافية قبل أن تُلوث وتُغبّش. وهي تمثل بمضمونها المرتكزات الأساسية للفكر السليم عامة، ومنه الفكر الديني القويم.

2. نعرف من الإسلام وبصورة قطعية، – وعلى ذلك العديد من النصوص – أنه يحتضن المنهجة العلمية الصارمة في طلب المعرفة، وتتقوّم بأمرين:

الشك والظن غير مقبولين في البناء الفكري والعقيدي، – هذه نقطة رئيسة، والنقطة الثانية الرئيسة: جرمٌ وانحطاطٌ أن يكون علم ويُرد. أمران: لا يقبل غير العلم، والعلم لا بد أن يقبل. الإسلام يحتضن منهجة علمية عليها شاهدٌ من نصوص كثيرة تؤكد هاتين الجنبتين؛ جنبة أنه لا قيمة لغير العلم، وأنه من الظلم الذي يجب أن يحارب أن يُردَّ العلم.

3. معروف موقف الإسلام من الحركة العلمية المستندة إلى الأسس السليمة، والمنهج القويم. فالحركة العلمية العقلية، والحركة العلمية التجريبية، والحركة العلمية الاستشراقية نمت نموّاً واضحاً جدّاً في ظل الإسلام، والأحداث التاريخية، والنصوص التاريخية، ونصوص من الكتاب والسنة تؤكد لكم هذه الحقيقة.
هذه ثلاث حقائق ثابتة: الإسلام واحتضانه العلم، ودفعه بالحركة العلميَّة، والإسلام في منبعه ومدخله وهو الفطرة الصافية، والإسلام ومنهجيته العلميّة الصارمة.

وهذه الحقائق الثلاث ترفض بمقتضاها رفضا تامّاً التفريق بين الصحوة الفكرية والصحوة الدينية. والموضوع يحتاج إلى توسع كبير.

أما الحرب الدائرة فلا كلام لي فيها لضيق الوقت.
اللهم صلى على محمد وآل محمد، ولا تدع لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات ذنباً إلا غفرته، ولا عيباً إلا سترته، ولا ضُرّاً إلا كفيته، ولا كربا إلا كشفته، ولا هما إلا أذهبته.

اللهم أخرج إخواننا من أهل الإيمان والإسلام المظلومين في العراق وفي فلسطين وفي كل مكان من محنتهم قريبا عاجلا، ولا تجعل لكافر ولا ظالم علينا يدا، ولا لأذانا سبيلا، ولا تُمكن من رقاب المؤمنين والمسلمين وأموالهم وأعراضهم طاغية أيّاً كان.
اللهم وارأف بكل المؤمنين والمسلمين والمستضعفين في كلّ مكان، واغفر لنا ولكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة، ومن كان له حق خاص علينا منهم، ووالدينا وأرحامنا وجيراننا يا أقوى من كلّ قوي، ويا أكرم من كل كريم، ويا أرحم من كلّ رحيم.

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) 90 النحل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مرة يقتضي الحال أن يعترف الفرد بضعفه إلى الله سبحانه وتعالى، ويتذلل بين يديه، ومرة لابد أن تعترف الجماعة بكل كيانها الاجتماعي بضعفها ومسكنتها إلى بارئها ومدبرها.
2- فهي دعاء من الوجود الاجتماعي لقضاء ضرورات هذا الوجود كله. وعلى هذا الوجود كله أن يعترف إلى ربه بعجزه ووهنه وحاجته.

ملحوظة: الخطبتان دخلهما شيء من التغيير.

زر الذهاب إلى الأعلى