مقال آية الله قاسم: رسالة الأربعين
بسم الله الرَّحمان الرَّحيم
الحمد لله أكمل الحمد وأتمّه وأدومه، وصلّى الله على خاتم أنبيائه ورسله محمد وآله الطّاهرين.
رسالة الأربعين
رسالة من أربعين الإمام الحسين سبط رسول الله صلّى الله عليه وآله لنا جميعاً من مؤمنين ومؤمنات. رسالة من وحي الذكرى، ووحي أجواء كربلاء التي تعجّ هذه الأيام بملايين الزائرين من عشّاق الحسين عليه السلام.
رسالة نستوحيها من يوم الشهادة الخالد، ومن يوم الأربعين لهذه الشهادة المباركة… من كل قطرة دم زاكٍ تعطّرت أرض الطف منها بأريج دم الإمام الشهيد، واحتضنتها مدرسة حيّة لا تموت لتربية الأجيال، وتوجيه حياة الأمة ومواجهة عوامل الضعف والانحدار… من وحي آلام الحسين عليه السلام وجراحاته، وآلام أهل بيته وأنصاره وتضحياته وثورته.
رسالة إلى أهل الإيمان ومودة العترة الطّاهرة والشهيد المثل في كربلاء معشوق القلوب المؤمنة المقدّسة للإسلام.
رسالة بمثل هذا الخطاب:
انظروا ما الذي أحببتم في إمامكم فجعله محل عشقكم الكبير، ولولاه ما كنتم تحبونه كل هذا الحبّ المعنويّ وتذوبون فيه. ثم خذوا مما أحببتم فيه فجعلكم من حبكم له تبذلون من أجله الحياة.
خذوا منه لأنّ ما كان فيه سرّ جمال الحسين عليه السلام… الجمال الجذّاب، الأخّاذ هو سرّ جمال كل نفس الذي لا سرَّ لجمال نفس غيرَه. فكل جمال لنفس منه، وبمقدار لها من نعمته من نصيب.
وكيف لا تطلب نفس إنسان الجمال، وما هو السِرّ له، والسبب لغناها به، ونفس بلا جمال ولا ضياء لا سعادة لها ؟
وهل تصدّق أن في القبح يسود النفس، والظلام يلفّها بيئة ترتاح في جوّها الأرواح والنفوس، وتنال سعادتها ؟!
لا أرى أنّ أحداً يوافقه عقله إذا كان صاحياً، ووجدانه إذا كان حيّاً على توهم أن الراحة في القبح، والسعادة في قبر الظلام.
إذن فلابدَّ لنفس تريد الراحة، وتعشق السعادة أن تطلب النور والضياء والجمال ؛ النور الذي تشرق به آفاق داخلها، والضياء الذي ترى به الحقَّ وتأنس به، والجمال الذي يهنئها أن ترى توفرها عليه.
والسؤال من أين كان للحسين عليه السلام ضياؤه وسناؤه، وما كانت عليه نفسه من جمال وكمال صار يستهوي الملايين من مختلف القرون والأمم ويستقطبها، وتنشدّ في لهف إليه، حتّى صار المضحّون من أجله بالحياة في تهافت على الوصول إلى مرقده الشريف ليعلنوا ولاءهم له والإنضواء حتى الموت أو الشهادة تحت رايته ؟
دعونا نطرح هذا السؤال حتى نأخذ لأنفسنا بالسرِّ الذي وراء جمال الحسين عليه السلام ليكون لأنفسنا من ذلك الجمال مقدار، وبقدره تكون لنا سعادة.
والسرّ هو أنَّ للنفس الإنسانية كما خلقها الله تبارك من خالق جمالَ فطرة من فيضه وكرمه. وهي فطرة معرفة به لا أنس لنفس ولا ضياء بدونها، ولا وحشة لها في جوّها، وفطرة منابتَ للخلق الكريم الوضيء، إذا كان لنفس شعرت بكرامتها وفي ذلك أنس وسعادة لها.
وهذا رصيد تتوفر عليه في الأصل كلُّ نفس، وما فقد فاعليته في نفس وما غيّبه عنها إلا سوء تصرف وتغييب له بإرادتها.
وهذا الرصيد يمكن أن يخفت ويتوارى حتّى كأن لا وجود له فعلاً في النفس حيث لا تراه لما قام فيها بسوء إرادتها من حاجز يحجزها عن رؤيته والشعوربالأنس لوجوده لها وإن كانت الفطرة لا تنمحي من النفس في أعماقها ولا تنسلخ النفس عن وجوده في وجودها.
تبقى الفطرة في باطن النفس التي يمنعها خبثها عن الالتفات لها، وكأنها بذلك في غيبوبة عنها. وتأتي مواقف بالغة الحرج تضيق بها هذه النفس في هذه الحياة تجعلها في حالة من الضعف وفقد الحيلة وكلِّ أسباب النجاة المتطورة والمتصَّورة لها، فتضيق للحظات عابرة على رؤية نور الفطرة المغمورة في داخلها، وسماع ندائها فتتوجه بالاستغاثة من الأعماق إلى الله عزَّ وجلّ من ضيقها وخناقها.
وهبةُ الفطرة الجليلةُ من الله سبحانه لكلِّ إنسان يمكن أن تقوى وتشتدّ، وأن تزداد حضوراً ودفعاً للخير وفاعليَّة، كما يمكن أن تغيّب وتطمر، وقد أعطي الإنسان الإرادة التي بها مع فطرته بالأسلوب الذي ينتج هذه الحالة أو تلك عندما أُعطي القدرة الإرادية على اختيار الطاعة لله ومعصيته، والأخذ في حياته بدينه ومفارقته.
وجمال الفطرة يشهد النماء والاتساع والازدهار في الأخذ بمنهج الله في هذه الحياة، ويصاب بالتواري والاختفاء حتى كأن النفس لا تغنى به ولا وجود فيها للسَّبب وراءه من هبة الفطرة ؛ وذلك حين يفارق هذا الإنسانُ منهجَ ربّه في حياته فتضل به السبل عن هداه.
التعامل مع الفطرة الهادية بما يحافظ عليها ويزيد في حضورها ويقوّي فاعليتها سرّ تمتّع النفس بالجمال واتساعه وتناميه فيها، وزيادة إشراقه.
والتعامل معها بما يطمس نورها، ويغيّب هداها يجعل النفس تخسر نور الفطرة وجمالها، فلا ترى من داخلها نوراً ولا جمالاً، ويسدّ عليها كل منفذ لما يدخل بالنور والجمال من الخارج من آية كونيَّة أو من آيات الوحي بيّنة مشرقة، فلا تجد ما تسير به إلى الله سبحانه على طريق الكمال، ولا يكون لها إلّا الانحدار.
والحسين عليه السلام عارف المعرفة بكل من الطريقين وما يترتب على هذا وذاك من نتيجة ؛ فكان كلّ جهاده الطويل في مساحة الحياة المكتوبة له ألّا يعطي من حياته الشريفة لحظة لطريق الهاوية والسقوط… لحظةً تصيب النفس بظلمة وحجاب، ولا يفرّط في لحظة من لحظات عمره الغالي بأن تذهب سدى من غير توظيف لها أجودَ توظيف، وأخلصَ توظيف في طاعة الله.
وبذلك كان للحسين عليه السلام نوره المشِع وجماله الجذَّاب الأخّاذ.
فإذا عرفت نفس ما يجتذبها للحسين عليه السلام وهو جماله اللئلاء الذي تغنى به نفسه الكريمة، وينعكس على كلّ سيرته ومواقفه في مختَلف ظروفِه، وطوال أيام حياته فتشهد فيه سمو النفس والإباء والغيرة الحميدة والعزة والشموخ، وتراه جمال كلمة، وجمال خلق، وجمال معاملة، وعمقَ إخلاص للحق، وثبات موقف في مكابرة الباطل، ومناصرة الحق، ومثلاً كجدّه صلَّى الله عليه وآله، وأبيه وأخيه عليهم السلام تتعلم منه الجرأة والشجاعة والفداء والتضحية في سبيل الله.
وتراه قوة إرادة، ومضاء عزيمة، واستعلاء في تواضع لله، ورحمة وطهر لسان وقلب وعمل، وسداد رأي، وعمق فكرة، وسَعةَ علمٍ، وصدقَ معرفة، واستقامة لا يعرضها انحراف، ولا يَمسّها ميل، وإخلاصاً ووفاء لله، ثمّ للخلق، واحتراماً لإنسانيّة الإنسان وشفقه عليه، وحرصاً على خيره وهداه، وبذلاً في سبيل إنقاذه ؛ إذا عرفت من الحسين عليه السلام كل هذا الجمال وعرفت سرَّ ما كان له منه من نصيب يجعله من صفِّ الأتمِّ كمالاً في الدّنيا كلّها من بني الإنسان حقّ عليها أن تطلب الغنى بجمال من ذلك الجمال.
لتكون سعيدة به في الدّنيا والآخرة مطمئنة راضية رغم كلّ الصعاب والتحديات ومشكلات الحياة، وأن تطلب التوفّر على السرّ وراء هذا الجمال، وليس من سرّ وراءه إلّا المعرفة بالله عزّ وجل والدؤوب والإخلاص والذوبان في طاعته وعبادته والمجاهدة على طريقه، والتضحية في سبيله، والصدق في الولاية له، ولأوليائه.
وكلّ شيء مما هو إحياء شرعاً لذكرى الشهادة الدامية للإمام الحسين عليه السلام، وذكرى الأربعين من يوم الشهادة، وعروج روحه الطاهرة إلى ربه الكريم، وكل الإسلام والتشريعات الإسلاميّة لا يبلغ غايته كما يريدها الإسلام نفسه، والقصد الذي قصده منه إلّا بأن تكون لنا عقلية من عقلية الحسين، وهدفٌ من هدفه، وطهرٌ من طهر روحه، ونقاءٌ من نقاء سريرته، وخلق من خلقه، وسيرة من سيرته، وجهاد وتضحية ووفاء وإخلاص مما كان له.
والطريق إلى هذا هو المجاهدة للنفس وإلزامها بإرداة قوية بخضوعها فيما تحبّ وتكره، وتفعل وتترك بمنهج الدين القويم ؛ الإسلام الذي لا رضى لله ولا قرب منه بدونه.
أصدق اللهم حبّنا لك، ولأهل ولايتك محمد بن عبد الله وأهل بيته الكرام صلّى الله عليه وعليهم أجمعين.
عيسى أحمد قاسم
19 صفر 1437هـ
الأربعاء 2 ديسمبر 2015