خطبة الجمعة (92) 29 شوال 1423هـ – 3-1-2003م

مواضيع الخطبة:

النفس  –  العرف الاجتماعي (مكوناته ، الاختلاف في تطوره ، تغيره )- أحداث شارع المعارض

نريد ما يضمن تحقيقا عادلاً حياديا في هذه الأحداث ليجنب البلد تكرار مثل هذا النمط الإجرامي والفوضوي من السلوك. وندين في نفس الوقت الميل الفاحش للتربية العامة من خلال التلفزيون، والإذاعة، والصحافة، والجامعة، والمدارس عن الخط الإسلامي الصحيح الذي يضمن توازناً، ويضمن عقلانية، ويضمن انضباطا في سلوك المواطن كل مواطن.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا يستشير أحداً في أمره، ولا يستعين بأحد في صنعه، ولا تعقيب لأحدٍ على حكمه، ولا يشركه أحد في تدبيره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وبارك عليهم كثيراً كثيراً.

عباد الله أوصيكم ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، فهي خير ساتر من العيوب، وصائنٍ للعرض والشرف، وحافظ للسمعة، ومانعٍ من الفضيحة، لا يساويها لباس سَتْراً، ولا زينةٌ جمالاً؛ تمنعُ ما لا تمنعه الثياب من السقوط في الرذيلة، وتحفظ ما لا تحفظه الأستار من الكرامة. قال تعالى في كتابه العزيز “يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير”.

وعن أبي جعفر عليه السلام في تفسير الآية ( فأما اللباس فالثياب التي يلبسون، وأمَّا الريّاش فالمتاع والمال، وأمَّا لباس التقوى فالعفاف، لأن العفيف لا تبدو له عورة وإن كان عارياً من الثياب، والفاجر بادي العورة وإن كان كاسياً من الثياب.

يقول – أي الله تبارك وتعالى- “ولباس التقوى ذلك خير” يقول: العفاف خير). (انتهى الحديث)
التقوى تصنع العفاف الذي يترفع بالنفس عن الدنايا، ويحميها من السقوط والتبذل والانهيار الخلقي وإن عريَ الجسد من ثيابه اضطراراً، أما الفجور فيُبقِي أبواب النفس كلَّها مفتوحة على الرذيلة والتهتك وكثرةِ المعايب الخُلقيَّة وإن سترت الجسم ثيابُه. وما أسهل على الفجور اطّراحُ اللباس، وما أشدَّ فاعلية التقوى، وما أستر العفافَ وإن أرقَّ الفقرُ الثياب.

ولو نظرتم لوجدتم أنّ مجتمعات عديدة كانت أكثر حصانة بالتقوى على حرمانها وقلة ما تجد من اللباس، منها باللباس وكثرته حين نال تقواها الانحسار.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وألبسنا والمؤمنين والمؤمنات أجمعين لباس التقوى، وزيّنا بالعفاف، ولا تثلم لنا شرفاً ولا تهتك لنا ستراً، ولا توقعنا في فضيحة يا رحيم يا كريم.

أما بعد فلا أقرب للإنسان من نفسه، ولا شيء أغلى عليه منها، وليس أحدٌ يتحمل مسؤوليتها أكثر منه، ولا يهنأ أحدٌ مثل ما يهنأ هو بصلاحها، ولا يشقى غيرُه كما يشقى هو بفسادِها. ولو صلح من صلح وهو فاسدٌ لم يُجْدِهِ، ولو فسد من فسد وهو صالح لم يتحمل وزرَه. والحياة هي المدى الموهوب للإنسان أن يرتفع بنفسه قبل نهايته، وحين ينتهي لا حيلة بيد الإنسان. والكريم من كرم على الله، واللئيم من كان عند الله سبحانه كذلك.

وليكن الحديث في موضوع النفس على ضوء هذه النصوص القليلة الكريمة:
قوله تعالى: “ونفس وما سوّاها. فألهمها فجورها وتقواها” 7،8/ الشمس.

1. نفسٌ خلقها بارئها سويَّة محسوبة القوى مُهيَّئة للرِّفعة باختيار من صاحبها. لم يجبر على طاعة أو معصيَّة. وهي ذات شأن كبير إذا لم يسئ الإنسان الاختيار، ويفسد منابع الخير فيها.

2. الإنسان قادرٌ على رؤية الفجور واختياره عارفاً بأنه فجورٌ ومعصيةٌ وتكبُّرٌ على الله، وقادرٌ على التقوى واختيارِها عارفاً بها، وبأنها تأخذُ إلى الله، وتقرِّب منه بما تزيد من خير النفس وهُداها ونموِّها وسموِّها. فهو ملهمٌ هذا وذاك، ولا يسلك أحد الطرفين غير عارف بما عليه طبيعته، وما يعنيه من نوع العلاقة بالعلي القدير، العزيز الحميد.

3. ومن اختار الفجور أعطى لهواه أن يُمْليَ عليه، وأخذ بما تشتهيه دوافع الحيوان مطلقاً، وكان من حزب الشيطان الرجيم، وجنده الغاوين يزيدُ حزبَه ويزيدونه غواية وضلالاً، معادياً لمنهج الله، مناصراً لمنهج أعدائه.
(عن الرسول صلَّى الله عليه وآله) عن أمير المؤمنين عليه السلام:
“النفوس طلقة ولكن أيدي العقول تمسك أعنتها عن النحوس”.

النحوس جمع نحس، والنحس الضر، وقد يصل الضر إلى الهلكة والفوات.
وفي النفس قوة لا يستهان بها وهي ذات دور فعال في حرف الإنسان عن الخط، وهي قوة الدوافع المادية والشهوات الحيوانية التي تنطلق بهيمية جنونية ملتهبة وراء اللذة والمتعة بلا حساب. وهي في كلمة الإمام عليٍّ عليه السلام فرس جموح لا يأمن راكبها، ممن أسلم القياد إليها. واليد التي يمكن أن تتحكم في هذا الفرس الجامح وترده إلى الطريق، وتسلك به إلى الغاية هي يد عقل له حضور وفاعلية، وبيده مرجعية القرار. والعقل لا يسلك إلا إلى الله، ولا يرتضى إلا هداه، ولا يطلب إلا رضاه.

وعنه عليه السلام:” إن النفس لجوهرةٌ ثمينةٌ من صانها رفعها، ومن ابتذلها وضعها”.
من حق النفس على صاحبها بما أُهِّلت له أن ترفع لأنها خلقت للرحمة والسعادة والمرتبة العظيمة، وهذا يتطلب رفعتها. وبصونها عن مواطن الخسة والهوان والمعصية والرذيلة والقبيح تجد طريقها إلى الرفعة، ويتحقق لها عظيم المنزلة، وتزداد حظَّاً وافراً من الكمال على الأيام.

وابتذال النفس، وترك حفظها عن الرذائل يفقدها المعنوية، ويسقط بها عن مقامها الرفيع، ويجعلها رخيصة في نظرها، هيّنة عند غيرها، لا تحمل همَّاً كريماً، ولا تهدف هدفاً نبيلاً، ولا تقبل حقّاً مبيناً، ولا تتبوأ شرفاً مكيناً.
وعنه عليه السلام: “ليس على وجه الأرض أكرم على الله سبحانه من النفس المطيعة لأمرة”.
الله جميل يحب الجمال، كامل لا يرضيه إلا الكمال، والنفس المطيعة له المتربية في ضوء صفاته العليا، المقتبسة من نور أسمائه الحسنى هي أكثر شيء جمالاً في الأرض، وكمالاً من بين أشيائها فلا يعدلها مسجد ولا كعبة على شرف المسجد والكعبة وقيمتهما العالية.

ورب النفس الكريمة عليه، المحبوبة من لدنه، المتزينة بطاعته، المكملة بتربية منهجه المختار له – الإسلام – لا يعدلها عنده مال الأرض ولا ملكُها، ولا يرضى لها أن تُباع بالدنيا، وهو يعطيها وعيَها حتى لا تفعل ذلك، ويجعلها متعززة بعزه حتى لا ينال منها أحد ذلك.

لذا أنت واجدٌ أن فقيراً مؤمناً لا يمكن أن يساوم على دينه، أو يُشترى شرفه، ولا يقبل أن تتأثر علاقته بالله العظيم سلباً لحظة، وإن أُعطي الدُّنيا كملاً. وليس كالمؤمن في هذا غيره ممن يعبد المادة، ويرى فيها أمنيته، ولا يعرف لنفسه قدراً إلا بما ملكت منها من أسباب لذة عابرة، ومتعة فانية، وظهور كاذب، وشهرة تافهة.

رفْعُ الله شأن المؤمن في نفسه، وإن لم يكن له من متاع الحياة ما يلحظ من أجله، إكرامٌ له في هذه الحياة بما جعل له من نفس عزيزة لا يسلب شعورَها بالعز فقر ولا ضعف ولا مرض، ولا أي شيء مما يُذل الآخرين فقدُه من متاع الحياة وزينتها التي يَكبر بها وهماً كثير من النفوس. إن عزَّ المؤمن ثابت ما ثبت على الإيمان، ورضاه عن نفسه وحياته باقٍ ما بقيت له علاقة العبودية بالله، صادقة حقّة، وهو لا يجد لنفسه ثمناً لعزتها من الدنيا كلها، والثمن الوحيد الذي يسترخص نفسه أمامه إنما هو رضوان الله، ولو كان في الجنة غضب ربَّه لما قبل بها ثمناً لنفسه. إنَّ نظر المؤمن لنفسه بهذا النظر هو من إعزاز الله له، وكرامته عنده، وله كرامة أخرى أن حباه الآخرة وهي الحيوان ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

اللهم صل على محمد وآل محمد، وأكرمنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين بمعرفتك، وشرفنا بالتوفيق إلى طاعتك، واجعلنا من أهل الكرامة عليك، وأهل الحُظوة لديك، واغفر لنا ولهم جميعاً ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا ومن كان له حق خاص علينا من أهل ملتك يا كريم يا رحيم.

بسم الله الرحمن الرحيم
(إنا أعطيناك الكوثر، فصلّ لربك وانحر، إنا شانئك هو الأبتر)

الخطبة الثانية

الحمد لله أزلاً وأبداً، لم يتِّخذ ربُّنا صاحبةً ولا ولداً، ولم يكن له وليٌّ من الذّل وكبره تكبيراً. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله رسالته خاتمة، وشريعته مهيمنة. صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تسليماً كثيراً كثيراً.

عباد الله اتقوا الله وقابلوا مِنَنَهُ بالحمد، ونِعمَه بالشكر، وأحكامه بالطاعة، واطمعوا في ما وعد به المطيعين، وارهبوا مما توعَّد به العاصين فإنكم عبادُه المملوكون له، المدبَّرون بتدبيره، القائمون بتقديره، ولا ربَّ لكم سواه، ولا رازق لكم عداه، ولا سبيل لطلب الخير، ودرأ الشر إلا سبيله، وكلُّ ما يقوم به أمر العباد، ويستمر الوجود، وتتواصل الحياة من عنده. تعرفون هذا في الحياة ما أفقتم، وبعد مماتٍ ينكشف الغطاء فلا يدخل في نفس عبد أنَّ مع الله من يملك نفعاً أو ضرّاً من دون إذنه أبداً.
اللهم اكشف غشاوة الدنيا عن بصائرنا، وارزقنا يقين المعرفة، وصدق الطاعة، واجعلنا من أهل التقوى الذي لا ينظرون في فعلٍ أو تركٍ إلى سواك.

اللهم صلّ وسلّم على البشير النذير، والسراج المنير، محمد الهادي الأمين، وآله الطاهرين. اللهم صلّ وسلّم على الولي النقي علي بن أبي الطالب الإمام الوصيّ. اللهم صلّ وسلّم على العابدة الصابرة، فاطمة الزهراء المرضية الطاهرة. اللهم صلّ وسلّم على الإمامين الهاديين، والوليين الصادقين، الحسن بن علي بن أبي طالب وأخيه الحسين. اللهم صلّ وسلّم على أئمة المسلمين والرحمة في العالمين، علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الراضين المرضيين.

اللهم صلّ وسلّم على ولي العصر، والموعود بالنصر، المنتظر والمؤتمن، الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن. اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً مبيناً، واملأ به الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.
اللهم الموالي له، المناصر لقضيته، الممهد لدولته أيّده وسدده وانصره وانتصر به، والفقهاء العدول، والعلماء الصالحين، والذائدين عن دينك، والمجاهدين في سبيلك أيدهم وسددهم وادفع بهم شبهات الغاوين، وذد بهم عن حمى المسلمين يا كريم يا رحيم، يا أقوى من كل قوي، ويا أعز من كل عزيز.

أيّها المؤمنون والمؤمنات هذا حديث في حركة الأعراف الاجتماعية وهو حديث مقتضب وغير مستوعب لضيق المقام:
تمتاز المجتمعات بأعرافها الخاصة وإن كانت من أمة واحدة، على أنّ عصر الاتصالات المتطورة يعمل بسرعة على تذويب الفواصل، وإلغاء الفوارق بما يُعطي للأقوى من المجتمعات أن يفرض نفسه على الآخرين في مختلف الميادين، ومن ذلك الأعراف والتقاليد كما هو واضح.

وقبل التحدّث عن بعض أبعاد هذا الموضوع لا كلِّها يُسأل ما هو العرف الاجتماعي؟ ويمكن أن يقال عنه بأنه قواعد سلوكيّة، ومعايير خلقية وفكرية، واستحسان لقضايا، واستهجان لأخرى من وحي ذلك، ووحي مجموعة من العادات والتقاليد، والذائقة الاجتماعية الخاصَّة، والوجدان المشترك المحلِّي عند مجتمع معين.

وما أريد التحدُّث عنه من أبعاد هذا الموضوع بما يناسب المقام ما يأتي:-

1. مكونات العرف الاجتماعي:-

يدخل في تكوين الأعراف الاجتماعية أمور عديدة منها قضايا العقل والدين، والأمورُ العاطفية، والموروثات الاجتماعية، وتأثير التربية بأنماطها المختلفة، ومستجدات التفاعل الحضاري والاجتماعي، وما يصبُّ في المجتمع الواحد من هذا التفاعل من أنواع العادات والتقاليد المختلفة، وما يجدُّ عليه من رؤى وتقييمات اجتماعية وافدة.
وكلُّ التغييرات الدينية والفكرية والمادية والسياسية وغيرها يمكن أن تشارك في صياغة العرف الاجتماعي من جديد، وتُدخل عليه تعديلات بالزيادة والحذف.

2. الاختلاف في تطور العرف الاجتماعي:-

لا يكاد يبقى عرف اجتماعي في حالة استقرار دائم، ولكن تختلف المجتمعات بل المجتمع الواحد في سرعة التغيُّر الذي يتعرض إليه العرف الاجتماعي ويعود ذلك لعدة أسباب منها:-

1. مدى الانفتاح والانغلاق الاجتماعي على المجتمعات الأخرى.

2. صلابة مرتكزات العرف الاجتماعي للمجتمع وهشاشتها.

3. التعرض للهزات والانقلابات والثورات الاجتماعية والسياسية والدينية وغيرها.

4. تبلور الهوية الحضارية عند المجتمع ومتانة الارتباط بالخط الحضاري الخاص وضعفه، ودرجة احترام الذات الحضارية.
5. استهداف المجتمع من قبل مجتمعات أخرى لتغييره.

6. استهداف المجتمع من قوىً داخلية تريد التغيير.

7. الغزارة والضَحالة الفكرية عند المجتمع.

8. نوع القوى الاجتماعية المهيمنة على التوجه الثقافي والسلوكي.
هذه بعض الأسباب.

3. تغيُّر الأعراف يُغير الأديان:-

لا شك أن الدين له دور فعّال جدّاً في صياغة العرف الاجتماعي وامتداده، وأنه على الأقل من أقوى روافد هذا العرف وإمداده، ولكنّ عمليّات التغيير في الأعراف الاجتماعية إذا كانت مضادّة وخاصة ما جاء منها مقصوداً ومخططاً تطال الدين بالتغيير وتُحدث ابتعاداً هائلاً في حياة النّاس عن مفاهيمه وقيمه وعقائده. والدين يحرص على خلق أعراف اجتماعية موافقة لأن ما يبقى في حياة الناس العملية من الدين في الغالب هو ما دخل في نسيج العرف لا ما يكون خارجه، ولأن مفارقة العرف للدين تحدث غربة للدين عند أهله، وتنتهي بهم إلى استثقاله وحتى استنكاره
.
ولذا تجد المعادين للدين يسعون جادِّين لتغيير الأعراف الاجتماعية المرتبطة به، وتجد الغيارى على الدين يحرصون شديداً على تركيز الدين في الأعراف، والاقتراب بها من تعاليمه وقيمه. ومن هنا يتوجب على المؤمنين أن يُفرِّقوا بين عرف جاهلي قديم أو حديث، وبين عرف من الأعراف الإسلامية الصالحة السابقة أو المستجدَّة، فيكون تمسكهم بالصالح من هذه الأعراف تمسكَّهم بالدين، ونبذُهم للطالح الفاسد منها نبذَهم للجاهلية.

وحياتنا اليوم تشهد تسللاً خفيّاً، وهجوماً صارخاً من أعراف حضارية شتى في حالة غزو هائل للساحة الإسلامية الشاملة المهدَّدة بالذوبان. وفي ذوبانها أمام الأعراف الجاهلية التي تكتسح بلاد المسلمين كلَّها انفصالُها عن الإسلام، ونهايتها الحضارية المخزية.

الفقرة الآتية سقطت في الإلقاء:

وهذا لا يستوجب المقاطعة الحضارية الشاملة، على أنها غير ممكنة عملاً، وإنما يتطلب عناية تربوية فائقة، وإعلاماً رشيداً هادفاً، وتركيزاً للقيم الحضارية السليمة، وانتقاءً للنظيف ما أمكن مما نستورد من أعراف. وحرية الانتقاء هامشها ضيق جدّاً بحكم الظروف العالمية القائمة، وتحول الأرض من الناحية الإعلامية إلى قرية صغيرة بل إلى غرفة ضيقة يُرى فيها المشهد الخفي، وتسمع الكلمة الخافتة.

وبعد هذا لا بد أن نقف أمام أحداث شارع المعارض ليلة نهاية السنة الميلادية المنصرمة قريبا:-

ليست لدي معلومات عن الأحداث إلا عن طريق الصحافة مقروءة مباشرة أو بالواسطة. الأحداث -كما وصفت- لا شك أنها أحداث مريرة، ومسيئة وتحمل طابعا خاصّاً ينذر بانفلات كبير، إذا استمرت الحالة على ما هي عليه من طبيعة هذه الأحداث وحجمها، وهو انفلات حضاري واجتماعي وسياسي وأمني.

هذه الأحداث تسيء إلى الجميع ويقع أمرها على مسؤولية الجميع، وهي ذات خلفية خطيرة جداً مهما قيل عن أسبابها القريبة إذا كانت لها أسباب قريبة خاصة. الخلفية الحقيقية لمثل هذه الأحداث هو ميل الخط التربوي في البلد عن صوابية التربية وعن الخط الحضاري الإسلامي بما يهدد الوضع كله. لا يمكن أن يكون هناك انتشار خمرة، ورقص، وسرقات، وزنا، وممارسات لا أخلاقية، وعروض غير أخلاقية سينمائية في المدارس، وحفلات نسائية تنكرية، وألوان من هذا الفسق والفجور؛ ثم لا يكون هناك شباب منفلت وضايع، وشباب إجرامي، وشباب متهور، وشباب لا يرجع إلى عقل ولا دين ولا قيم. وضعنا التربوي يصنع حالة متفاقمة من الفوضى كلما ابتعد عن قيم السماء، وكلما انفصل عن منطلقات الدين.

ونحن ندين الأحداث هذه بقوة، وندعو إلى تحقيق عادل حيادي لا يستثني الرسميين من هذا التحقيق. كل الجهات المظنونة، وكل الجهات الممكن أن تكون لها يد في مثل هذه الأحداث يجب أن يطالها التحقيق العادل الحيادي، لكن من يضمن ذلك؟! وهنا محط الكلام.

نريد ما يضمن تحقيقا عادلاً حياديا في هذه الأحداث ليجنب البلد تكرار مثل هذا النمط الإجرامي والفوضوي من السلوك. وندين في نفس الوقت الميل الفاحش للتربية العامة من خلال التلفزيون، والإذاعة، والصحافة، والجامعة، والمدارس عن الخط الإسلامي الصحيح الذي يضمن توازناً، ويضمن عقلانية، ويضمن انضباطا في سلوك المواطن كل مواطن. من دون أن تكون تربية صالحة، ومن دون أن يكون توجيه صالح، ومن دون أن تحل المشاكل الجذرية يحدث جنون، ويحدث انفلات، ويحدث ضياع، ويحدث تمزق للمجتمع. وفي نفس الوقت ندين الكتابات المغرضة والتي تنطلق من الحقد، وتنطلق من روح الفرقة، وتنطلق من روح التأليب لتمزّق هذا المجتمع إربا إربا، ولتفتت الصف المسلم الواحد، ولتخلق هوة سحيقة بين الحكومة والشعب وهي تركز على طائفة معينة من ناحية مسؤولية الأحداث، وتعطي حكما مسبقا قبل أي تحقيق في الحادث على أن فئة معينة هي المسؤولة عن الأحداث. ونحن هنا لا نريد أن نحكم أي حكمٍ مسبّق من حيث مسؤولية هذه الأحداث، ولكننا نطالب وبكل قوّة أن يكون هناك تحقيق عادل حيادي لا تتولاه جهة واحدة قد لا تكون بكبار مسؤوليها هي العنصر الرئيس في الحادث ولكن قد تكون عنصراً مهماً في مثل هذه الأحداث ببعض الذيول والزعانف.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واكفنا شر الفتن، ووحد صفوف المؤمنين والمسلمين على التقوى، واهدنا جميعاً إلى سواء السبيل، واغفر لنا ولكل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن له حق خاص علينا من أهل الإيمان والإسلام يا غفور يا رحيم، يا تواب يا كريم.

(إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)

زر الذهاب إلى الأعلى