خطبة الجمعة (89) 8 شوّال 1423هـ – 13-12-2002م
مواضيع الخطبة:
رحمة الله – التغريب اللغوي – شياطين الاختلاط – حرب وأعصاب باردة – سياحة بلا قيم
ويجب أن نعرف جميعاً بأن الأمة التي تُستهدف حضارتها، تستهدف لغتها؛ ومسخ اللغة وسيلة فاعلة لمسخ الحضارة.والمسلمون جميعاً يتحمَّلون مسؤولية كبيرة في الحفاظ على لغة القرآن والسنة…. لغة الوحي والقيم والأصالة، وفي إنقاذ اللغة العربية من كونها لغة في معرض الضَياع.
الخطبة الأولى
الحمد لله أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشدِّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة، سبقت رحمتُه عضبَه، وتقدَّمَ إحسانُه عقابَه. لا يصيب غضبُه إلَّا المستكبرَ على رحمته، ولا يحلُّ عقابُه إلَّا على المفرِّط في إحسانه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً.
عباد الله علينا أن نتقيَ الله الذي لا تقوم لغضبه السماوات والأرض، ولا يطيق عذابَه جبارٌ عنيد، ولا شيطان مريد. وهو الذي لا يفوت عِلمَه شيءٌ، ولا مفرَّ لأحد من قدرته، وقد يُمهل ولا يُهمِل. ومن عذابه الذي أعدَّه لعُصاةٍ من عباده ما قال عنه الكتاب الكريم ” “إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ” (49) / الدَّخان.
أما المتقون فقد قال عنهم سبحانه “إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” (57) / الدّخان.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد ونجِّنا من النار، واجعل مأوانا الجنّة، في ملأ المتقين المقربين المكرمين، في مقام أمين.
أيها الأخوة والأخوات في الإيمان: هذا حديث في رحمة الله، ورحمته وسعت كل شيء، والخاسرُ من فرَّ من رحمة الله، والتي لا يفرّ منها أحدٌ إلَّا إلى غضبه، ولا رحمةَ أبداً من دون رحمته.
ولو سألتَ أين رحمة الله؟ لجاءك ” وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ” (156) / الأعراف.
فما من شيء في هذا الكون مما كان أو يكون إلا وهو قائم برحمة من الله، فله تبارك وتعالى رحمة عامة بها قِوام الكون كله، وله رحمة خاصَّة، وعناية مخصوصة بعباده المتقين الذين يُؤتون الزكاة والذين هم بآيات الله يؤمنون.
ولسعة الرحمة الإلهية قال الإمام علي بن الحسين عليهما السلام في ما أتى عنه “أنا أقول: ليس العجب ممن نجا كيف نجا، العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله”.
لا يهلك هالكٌ وقد عمّت رحمة الله كل شيء إلا أنه أسقط نفسيته عن الشيئية، ولسوء تباعده عن الله، وتصفية منابع الخير في ذاته، وتحوله شيطانا مريدا، لا يحمل إلا شرا، ولا يمتص من الخير أبدا، ولا تقبل ذاته نورا. هنا يكون قد حرم نفسه من رحمة الله، ولا يفعل ذلك فاعل بنفسه إلا شاذ في الخلق، ساقط الذوق، أعمى لا يعرف مصلحة نفسه.
نعم العجب ليس أن يدخل الكثير الجنة، وليس بعملهم وإنما برحمة الله سبحانه وتعالى، العجب أن يوجد الإنسان الذي لا يبقي من نفسه خيرا، ولا يُبقي لها قابلية الاستفادة من الخير، ويأتي عليها بالظلمة حتى تتراكم الظلمة طبقات فلا تقبل نفسه النور. العجب أن يوجد هذا الإنسان الذي يخرج نفسه من رحمة الله على عمومها وشمولها.
وليطمع المؤمنون كثيراً في رحمة الله غير ناسين غضبه ونقمته. ولكن طمعك في رحمة الله لا يأخذ بك إلى حد الجرأة على الله سبحانه وتعالى وإلى حد التهاون في أمره، فعن الكاظم عليه السلام “… ما ظنُّك بالرؤوف الرحيم الذي يتودد إلى من يؤذيه بأوليائه، فكيف بمن يُؤذى فيه، وما ظنك بالتوّاب الرحيم الذي يتوب على من يعاديه، فكيف بمن يترضَّاه ويختار عداوة الخلق فيه”.
إذا كنت على خير، إذا كنت على طاعة، إذا كنت ممن يجد حبا لله في نفسه، وبغضا لأعداء الله في قلبه فاطمع كثيرا كثيرا في رحمة الله، وطمعك في رحمة الله ليكن لك مغريا في الزيادة في الطاعة، لا آخذا لك في التساهل في أمر الله سبحانه وتعالى.
الإمام الكاظم عليه السلام في ما تنقله الكلمة عنه ينبه العقول والنفوس المؤمنة بأن من حق أعداء الله أن يطمعوا في رحمة الله لسعة رحمته، وأن شأن الله عز وجل أن يتحبب ويتودد إلى عدوه، ويناديه بالأوبة والتوبة رحمة به، فكيف بك وأنت على حظ من الإيمان، وعلى قسط من الطاعة؟! فلا يدخل في قلبك اليأس من رحمة الله أبداً.
الذين يؤذونك عداوة لله، هؤلاء يتوب الله عليهم لو تابوا، فكيف بك أنت الذي تؤذى من أجل الله، وتصر مع الأذى على طريق الله؟! كيف لا يتوب عليك لو هفوت؟!
إذاً، لا تأخذ بك الهفوة على طريق المعصية، ولا تكن لك بداية للإنحراف الكبير. عاجل الهفوة بالتوبة، فإنّ الله توّابٌ رحيم.
عدو الله يقصِد أولياء الله بالأذى عداوة له سبحانه، واللهُ رحمةً منه، وتعطفاً على العبد المعادي له يتوددُ إليه، ويدعوه إلى رحمته، والإقلاع عن معصيته. هذه رحمة الله لعبده المعاند له، فكيف برحمته بالعبد المؤمن المطِيع لأمره المنتهي بنهيه، الصابر على الأذى في سبيله الذي إنما يؤذى من أجله. وهنيئاً لمن يتقلبون في رحمة الله ممن يؤذون في سبيل الله.
وإذا كان الأول يسعه الأوبة، وتشمله التوبة، فكيف بالثاني؟! فلا بد له أن يكبر عنده الأمل في الرحمة، وتتمتّن الثقة في العفو والتجاوز، ويطمع في الإحسان والتفضُّل، على ألا يجره الطمع في المغفرة إلى التمادي في الخطيئة، ولا يوقعه رجاء العفو والإحسان في التجري وسوء الأدب مع المولى، فإن الله شديد العقاب قويٌ متين.
والمؤمنُ ثقةً بربه العليّ القدير، العليم الخبير، الرحيم الودود اللطيف المتمنن يستغني به عمن سواه، ولا يجد فقداً وهو يجده، ولا وحشةً وهو يراه؛ ففي الدعاء عن زين العابدين عليه السلام “يا من هو أبرُّ بي من الوالد الشفيق، وأقربُ إلي من الصاحب اللزيق أنت موضع أُنسي في الخلوة إذا أوحشني المكان، ولفظتني الأوطان….”.
ولذلك، لا يعادي المؤمنُ ربَّه في أحد، ويعادي المؤمنُ كلَّ أحد في الله.
ولمن يكون اللجأ؟! وبمن يكون الأنس والغنى والاطمئنان إذا لم يكن بأقوى قوي، وأغنى غني وأرحم راحم وأكرم المعطين؟!
وليس على العبد إلَّا أن يحسن، ولا يظلم نفسه بظلم الآخرين، ومعصية الله ليكون من أهل رحمة الله الأقربين “… إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ” (56) / الأعراف.
ومما تُستنزل به الرحمة أمور منها ما تتضمنه هذه النصوص:
تريد رحمة الله؟ تشعر من نفسك بالحاجة الشديدة إلى عناية الله، وأن ينقذك الله؟ أن يحول سوء حالك إلى أحسن حال؟ اسلك طرقا هذه منها:
” فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (175) / النساء.
“بذكر الله تستنزل الرحمة”، أكثر من ذكر الله يرحمك الله، “بالعفو تستنزل الرحمة”، اعف عن المسيئين، اعف عمن تراه قد أساء لك، وقد نتوهم كثيراً الإساءة من الآخرين، ولا إساءة، ولو كانت إساءة حقا فلتعف يعفو الله عنك. ارحم أخاك بعفوك عنه يرحمْك الله ويرفع عن ظهرك أوزارك، والأحمال الثقال.
“رحمة الضعفاء تستنزل الرحمةَ”، “أبلغ ما تستنزل به الرحمة أن تضمر لجميع النَّاس الرحمة” فالفقير يحتاج إلى الرحمة، والجاهل يحتاج إلى الرحمة، والضال في أشد الحاجة إليها، ومن أساء إليك محتاج للرحمة منك، والرحمة في كل مورد بحسَبِه.
وفي الرواية قال رجل للنبي صلى الله عليه وآله: أحبّ أن يرحمني ربي. قال –صلى الله عليه وآله وسلّم- ارحم نفسك، وارحم خلق الله يرحمْك الله”.
ومصاديق رحمة الله لا نبلغ لها عدّاً، وكثير منها لا يدركها الغارقون في الحِسّ، المصابون بالعمى عن المعنى. ومن هذا الكثير الذي لا يقع عليه بصر القاصرين ما تُلفت النظر إليه هذه الكلمات الراقية عن الهادين عليهم أفضل الصلاة والسلام:
“رحم الله امرءاً عرف قدره ولم يتعدّ طوره”
“رحم الله امرءاً عرف قدره ولم يتعدّ طوره” هذا من رحمة الله، أن يعرف أحدنا قدره ولا يتعدى طوره. ومن النَّاس من ينسحق حتى يرى نفسه أمام الآخرين، ورغم نِعَمِ الله عنده وفي نفسه صفراً، ومنهم من يطغى به الغرور جهلاً فيرى من نفسه ربَّاً. وكلا الأمرين مصيبة.
“رحم الله عبداً راقب ذنبه، وخاف ربه” أنت مرحوم من الله، وعندك نعمة كبيرة من الله، لو كنت تراقب ذنبك وتخاف ربك، أنت أغنى من ذي المال، أنت أغنى من ذي الجاه، فهل تشكر؟!. “رحم الله عبداً راقب ذنبه، وخاف ربه” ومثل هذا المرء سيكون بانيا لنفسه البناء المتقن الرصين، مرتقيا بها في مدارج الكمال، حافظا لها مما يَحطُّ ويُهلِك.
“رحم الله امرءاً أخذ من حياة لموت، ومن فناء لبقاء، ومن ذاهب لدائم” –أيهم أكثر رحمة: أخوك الذي يفني عمره في تشييد العمارات، وفي زرع الحقول، وفي اقتناء أغلى ما يقتنى، أو أنت الذي تأخذ من الدنيا بقدر ما يصلح أمرك فيها، وتنفق الأكثر من عمرك في بناء ذاتك؟! ذاك يبني عمارات، وأنت تبني الذات، ذاك يملك سيارات وأنت تملك عقلاً نيّراً، وقلباً زكيّاً، أيكم أغنى؟!. “رحم الله امرءاً أخذ من حياة لموت، ومن فناء لبقاء ومن ذاهب لدائم ” أمّا مَنْ دونه فقد أذهب حياتَه رخيصة، ونظر إلى ذاته حقيرة، وضيع الفرصة الكبيرة.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واجعلنا واخواننا المؤمنين والمؤمنات ومن يعنينا أمره من ذوي الرحم وجيراننا ومن له حق خاص علينا من مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة من أهل رحمتك ومغفرتك، وارزقنا خير الدنيا والآخرة، واكفنا شرّ الدنيا والآخرة يا أكرم من سئل، وأجود من أعطى.
“بسم الله الرحمن الرحيم.
( إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توّاباً)
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا يُبدَّل سلطانه، ولا يُنتقص ملكُه، ولا يُنقَضُ حكمه، ولا تنقضي حكومته، ولا يعرض ظلمٌ عدلَه، ولا خوفٌ أمانَه.
أشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وزادهم تحيّةً وسلاماً.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، واتخاذه ربّاً من دون الأرباب، إذ لا ربَّ بالحقّ سواه، ولا لأحد على أحد سلطان مطلق من دونه، ولا تدبير، ولا رزق، ولا حماية ولا نفع، ولا خير من أحد لأحد إلا بإذنه. فربوبيته تبارك وتعالى وهي ربوبية مطلقة شاملة دائمة حقٌّ، وربوبية من سواه من الباطل الذي لا يغني عن الحق شيئاً. فالباطل عدم والعدم لا يخلق ولا يرزق، ولا يدبّر، ولا يحمي ولا يكفي. والله هو الوجود الحقُّ المطلق الحيُّ العليم الخبير المريد الفعَّال القدير المدبِّر المحيي الرزَّاق ذو القوة المتين. وليكن توكُّلنا على الله صادقاً، وانقطاعنا إليه كاملاً ثابتاً، ومن توكّل على الله وانقطع إليه أغناه وحماه وكفاه وقرَّبه وأسعده، وليس لله بديل يُخاف ويُرجى، ويُفزع إليه، ويركن إلى قوَّته، ويطمع في حماه.
اللهم اجعل يقيننا بك وتوكلنا عليك، وانقطاعنا إليك، ورجاءنا فيك، وخوفنا منك. اللهم صلّ وسلّم على البشير النذير، والسراج المنير، خاتم النبيين والمرسلين، محمد الهادي الأمين وآله الطاهرين. اللهم صلّ وسلّم على التقي النقي، والإمام الوصي، علي بن أبي طالب الزكي وعلى زوجه البتول، فاطمة المعصومة بنت الرسول، (ص) وعلى أولادهما المعصومين أئمة المسلمين وهداة المؤمنين، وقدوات العالمين الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهديِّ القائم المنتظر.
اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وانصره نصراً مبيناً، وافتح له فتحاً قريباً، وطهِّر به الأرض من رجس الكفر والشرك والنفاق، وادفع به الظلم، وانشر به العدل، ومكِّن له تمكيناً يا قوي يا عزيز.
اللهم عبدك المهتدي بهداه، السائر على خطاه، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والعاملين في سبيل الله أيّدهم وسدّدهم واجمع كلمتهم على التقوى، وانتصر بهم لدينك، والمستضعفين من عبادك يا من هو على كل شيء قدير.
يا أخوة الإيمان: هذه قضايا تهمّنا:-
القضية الأولى: التغريب اللغوي:
الأمة التي تتغرب لغوياً تتغرب ثقافياً، لأن التغرب اللغوي يباعد عن ثقافة الأمة المحفوظة في وعاء لغتها، ويقارب من ثقافة الأمم الأخرى من خلال الأُنس والاستخدام للغاتها.
واللغة العربية وكلّما وهن أمر الأمة تتعرض ومنذ أمدٍ لعملية تغريب مقصود وتلقائي. ويصبُّ في جسم هذه اللغة يومياً الكثير من المفردات من لغات شتى على المستوى الرسمي والشعبي معاً. والسَبْق في هذه العملية كمّيّاً وكيفيّاً للغة الإنجليزية كما تعلمون. وتتعدى المسألة حدود المفردة الأجنبية إلى نمط التركيب اللغوي الغازي الذي قد يحل محل التراكيب العربية الأصيلة. وباستمرار العملية سيجد الكثير من أبناء لغة القرآن صعوبةً في فهم النص القرآني، ونصوص السنة، والأدب العربي، والميراث الثقافي الذي تسجله كتابات هذه الأمة العريقة.
ومسؤولية الشريحة المثقفة بإزاء هذا الواقع أن تحاول جادَّة أن يكون إنتاجها المكتوب والمنطوق مستغنياً باللغة العربية، ملتصقاً بها وبأساليبها التعبيرية ومفرداتها ما استطيع، وأن لا تستهوي هذه الفئة رغبة التبعية للأقوى ماديّاً وتقليده في اللغة، وفي كل شيء.
ويجب أن نعرف جميعاً بأن الأمة التي تُستهدف حضارتها، تستهدف لغتها؛ ومسخ اللغة وسيلة فاعلة لمسخ الحضارة.
والمسلمون جميعاً يتحمَّلون مسؤولية كبيرة في الحفاظ على لغة القرآن والسنة…. لغة الوحي والقيم والأصالة، وفي إنقاذ اللغة العربية من كونها لغة في معرض الضَياع.
القضيَّة الثانية:- شياطين بين الصفوف:-
تصل الدناءةُ الخلقية عند البعض، وسوءُ النية، والكيدُ بالدين إلى حدّ الاندساس في الصفوف الدينية، والعمل باسم الدين، وحتى باسم العرفان والتقوى، والثورية والتغيير لأغراض جنسية ساقطة، والتوصل للفحشاء الصريحة المعنونة بعنوان الدين والشرعية.
وقد شاع الاختلاط بين الجنسين باسم العمل الإسلامي، وقيام بعض الشباب وهو في حالة من العنفوان الجنسي والشهوة الحيوانية الحادّة على رعاية الشابة والأكثر تربويّاً في المدَّعى مما يُسهِّل الانفراد والخلوة والتواصل شبه اليومي المفتوح على كل الأحاديث والقضايا والشؤون الشخصية والهموم الخاصة، وهمُّ الجنس كثيراً ما يكون في مقدَّمة هذه الهموم، والتطرق إليه هو مفتاح الغرض المطلوب أساساً من عددٍ من هذه العلاقات.
وكلمتي للآباء وأولياء الأمور وللأمهات أن يقفوا موقفاً حازماً وقويّاً وفاصلاً في المنع من مثل هذه العلاقات الاستغفالية الاستغلالية التي تُسقط شرف الفتاة، وتتخذ من الدين شبكة صيد شيطانية لأعراض النَّاس. وإلَّا فلا غَيْرَةَ ولا شرف ولا كرامة، وفي ذلك خيانة لله ورسوله وللمؤمنين، ولعبٌ بأمانة العرض والشرف الرفيع.
القضية الثالثة: حربٌ وأعصاب باردة:
إسرائيل ومنذ وضع قُدْر الحرب الغازية للعراق على النار، بل وقبل بكثير تستعد لمواجهة آثارها، وما يمكن أن يطال شعبها وسماءها وأرضها منها؛ أمَّا دول المنطقة التي ستجري الحرب على ساحتها وقد اقتربت ساعة الصفر منها، فتعيش حالة من برودة الأعصاب وكأنّ ساحة الحرب تبعد عنها ملايين الكيلومترات.
الدولة الإسرائيلية تعد لشعبها الملاجئ والكمامات والصواريخ المضادة وكلَّ ما يحافظ على سلامته، والدول هنا كأنها لا تدري بالحرب أبداً بالنسبة إلى هذا الجانب، أو لا تصدق بوقوعها.
ضبط الأعصاب في الحروب جيّد وهو سلاح من أسلحتها لكن الاسترخاء واللامبالاة تعني شيئاً آخر. وهل الفلسفة في هذا الأمر في فرضنا العملي أن الإنسان الإسرائيلي محترم عند حكومته، والإنسان العربي المسلم لا حساب له في نظر حكوماتنا؟! الشعوب يميل ظنها لمثل هذا الوجه، والحكومات لا تفصح عما في نفسها، على ما في المسألة من كونها مسألة موت أو حياة. أما شعب العراق فهو شعب موقع التآمر، شعب يراد له السحق والدمار.
وبالنسبة للوقاية الثقافية والحضارية من النتائج المدمرة للحرب على هذا الصعيد فأمرها مما يغصّ به الحلق، لأن المتدفق في الساحة فكرياً وعمليَّاً هو من الثقافة التي قد تُشنّ من أجلها الحرب، وتدخل في صياغة الإنسان صياغة مدروسة مركزة تُنهي ارتباطه بالإسلام، وتوسع الفاصلة بينه وبينه. المطلوب من الحرب القادمة هو أن يصنع إنسان هذه الأمة صناعة غربية غريبة على الإسلام، وأن ينتزع من قلبه حب الإسلام وفهمه والإنتماء إليه.
نحن بدل أن نواجه هذه الثقافة المرتقبة بثقافة وقائية نصبّ في ساحتنا الإسلامية من نوع الثقافة المطلوبة للغرب وقبل الحرب ليغرقها.
القضية الرابعة: سياحة بلا قيم:
ينادي البعض بتنشيط السياحة، وكونها سياحة بلا قيم… سياحة إباحية نفعية لا تلتفت إلا إلى المادة، ولا تقّدر إلا جمع المال،وأي جمع للمال هو؟ جمع للمال في جيوب خاصة مترفة. وقد يكون هدم القيم مطلباً أساساً لهذا البعض(1)، والإباحية محط النظر، أو أن يكون نشر الإباحية مطلباً توصليّاً يتقاضى عليه المال مباشرة، وتستحق المكافئات. أفسد تغن، الغرب مستعد أن يقول لأي مسلم اليوم أفسد وضع بلادك ودمره أخلاقيا نملأ جيبك.
ويأتي التباكي على اقتصاد البلد لو خُفّف من حالة الانفلات، وحُكِّمت بعض الضوابط، وهذّب جو السياحة، ودخلته الأخلاقية بمقدار.
ولابد أن يقال لهذا البعض بأن البلد الكريم لا يُتاجر من أجل الترف بالخلق والقيم، والدين القويم، والشرف الرفيع، والعفة والكرامة, ولا يحيا ليملأ البطون ولو من كسب الفروج.
على أن اقتصاد البلد لا تنعشه الرذيلة، ولا تضرُّ به الفضيلة. وما بنت الرذيلة يوما خيرا، وما هدمت الفضيلة يوما بناء سليما. وما تجره الفحشاء والخمرة من مكاسب مالية لفئة قليلة مترفة يقابله حالة فراغ قِيَمِي تنتشر في الشعب، وتقوِّض الأمن، وتثير الرعب بالقتل والسطو والاغتصاب والسرقة، وتسقط إرادة الخير، وعزم العمل المثمر، وتميِّع الإرادة، وتهدم الأسر، وتشعل الفتن، وتلوث البيئة الصحية، وتوسع من الأمراض السارية التي يجر إليها الجنس الحرام. وكل ذلك يتطلب مضاعفة في الميزانية على حساب المستضعفين والمحرومين.
وليس كالرذيلة هادماً للاقتصاد، وباعثاً على الرشاوى والسرقات، والتحايل على المال العام والاستغلال البشع، وليس كالفضيلة داعماً للاقتصاد، ومحافظاً على الثروة، وصائناً للحقوق، ومانعاً من هدر المال في ما يضرّ الفرد، وينشر الفوضى في المجتمع.
اللهم صل على محمد وآل محمد واجعلنا والمؤمنين والمؤمنات دعاة خير لا شر، وسبب هدى لا ضلال، ورحمة لا عذاب. واغفر لنا ولهم ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن له حق خاص علينا منهم يا كريم يا رحيم.
(إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- وليس وسيلة تجارية فحسب.