خطبة الجمعة (86) 17 رمضان 1423هـ – 22-11-2002م

مواضيع الخطبة:

رضا العبد بالرب –  واقعة بدر – الإمام الحسن (ع)

هناك يقين بكمال الله وعدله ولطفه وعلمه وحكمته وتنزهه لا تناله التشكيكات الشيطانية بالاهتزاز في حالات الرخاء ولكنه قد يهتز في حالات البلاء الشديد. وهذا يقين بدرجة من الدرجات، ولكن اليقين الأعلى والأرسخ هو ما كان ثابتاً وقوياً ومتمكناً في أشد لحظات الامتحان وعند أكبر المصائب والآلام.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا يفتقر إلى أحد، ولا يستغني عنه أحد، ولا يشبهه أحد، واحدٌ أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. أشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، ولا معبود بالحق سواه.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ تحمَّل ما أنزل، وبلَّغ ما حمل، وأدَّى ما كُلِّف. صلى الله عليه وآله، وسلّم تسليما كثيرا.

عباد الله علينا بتقوى الله ، وأن نشفق على أنفسنا من التعرض إلى سخطه، ونجدَّ كل الجد في طلب مرضاته. وما لكثير الخدر من سخط المخلوق لا يحذر من سخط الخالق؟! ولكثير الحرص على رضا المملوك لا يحرص على رضا المالك؟! ولا يستوي سخط مخلوق وخالق، ولا رضا مملوك ومالك. وماذا يَنالُ الساخطون من المرء ما لم يقدِّر الخالق؟! وماذا يملك الراضون له ما لم يأذن المالك؟!

والله سبحانه وتعالى لا يرضيه إلا الحَسَن، ولا يُسخطه إلَّا القبيح، وجلَّ أن تنالَ منه معصية سوءاً، أو ينتظرَ من طاعة خيراً، وهو القوي العزيز، الغني الحميد.

ومن لم يدر متى يوافيه الأجل، وينقطع منه الأمل، كان الأحرى به أن يستثمر المهل، ولا يسوِّف العمل. ومن منّا يدري متى الرحيل؟ ومتى ينادى به في عتمة أو ضحى، أو صباحٍ أو أصيل؟! ومن منَّا يمنع الأمر إذا وصل، والقضاءَ إذا نزل؟!

ألا فلنعلم أن وراء كلِّ نَفَسٍ، بل قبل أن يستتم، يمكن أن يكون الرحيل، فكيفَ والحال هذا بالتسويف بالتوبة، والانتظار الطويل؟!

اللهم صلّ على محمد وآل محمد وأحينا محيا محمد وآل محمد، وأمتنا مماتهم، وابعثنا مبعثهم واخلطنا بهم يوم النشور، ويوم يُجزى المحسنون بالإحسان، والمُسيئون بالإساءة.

أما بعد أيّها المؤمنون والمؤمنات..
فالحديث عن رضا العبد بالرب، وأكثر العبيد – وهم مخلوقون مرزوقون مرحومون- ساخِطون على الخالق الرازق الرَّحمن الرحيم. وكما يُسخِطُ الطفلَ على والده جهلُه، ووالدُه عليه شفيق، وبمصلحته خبير، وبتدبير شؤونه بصير، كذلك جهلُ العباد يُسخِطُهم على الله، وكثيراً ما يريدون ما لا يريد، ويقضون في الأمور بما لا يقضي، ويقترحون الخطأ الذي لو كان لفسدت الأمور،وانهدّت السماوات والأرض، ولكن لا يكون إلا ما يريد، ولا يجري إلَّا ما يقضي، ولا يكون لاقتراحهم في التدبير شأن، فيُسخِطُهم الحقُّ الذي يعلم اللهُ ويجهلون، ويغضبهم القضاء الصالح الذي لا يدركون، ويستثيرهم التدبير الذي لا يعلمون، ويستزِلُّهم الشيطان فيجترئون على القَدَر العادل الذي لا إحاطة لهم به، والتشريع الدقيق الذي لا فهم عندهم لِحكمته، ولا سبيل لهم لعلّته.

وما دام النفوذ لمشيئة الله وحده، والحكم لإرادته لا لإرادة من سواه فنصيب من لم يرض عن الله النَّصَبُ، وتمزق المشاعر، والقلق والعصاب والرهق.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام “من رضي من الله بما قسم له استراح بدنه”،وفي كلمة أخرى عنه عليه السلام “نِعم طاردٌ للهم الرضا بالقضاء”، وعن الصادق عليه السلام “الروح والراحة في الرضا واليقين، والهمُّ والحزن في الشك والسخط”.

من رضي عن الله عز وجل رأى أن كل ما يحدث عليه مما لم تكتسبه يده فبقدر خالص من الله، وبتدبيره وحكمته، أما ما يحدث علينا مما يكون فعلنا مقدمة له، والشرور التي تصيبنا وقد جلبناها لأنفسنا وإن كان ذلك لا يخرج عن قضاء الله وقدره ولكن تحمل مسؤوليته علينا، وإذا أردنا أن نلوم فعلينا أن نلوم أنفسنا، فمن أهمل جانب الصحة ولم يقدِّر للوقاية شأنها فأصابه ما اصابه من اعتلال في صحته فصحيح أن هذا كله بقدر الله عز وجل وأن المقدمة والنتيجة لم تأتيا على خلاف ما يريد الله بمعنى أن العبد لم يقهر الله فيما يريد، وليس العبد بقادر على أن يقهر الله سبحانه وتعالى فيما يريد، فلو أراد الله سبحانه أن يشل يد هذا العبد لأشلَّها، ولو أراد أن يضعه قهرا على طريق الوقابة لوضعه، ولو أراد أن يمنع نتيجة الإهمال الوقائي لمنع نتيجة الإهمال الوقائي، ولكن قدر الله ربط بين الأسباب والمسببات وأعطاك الفرصة أنت أن تكون هذا السبب أو ذاك، فحين يكون سوء واعتلال في الصحة أو في الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي بما كسبت أيدي الناس فذلك شأنهم وعليهم تبعته، أما مثل الحوادث الطبيعية وما يجري فوق إرادة الإنسان وبلا دخل له أصلا فذلك من تقدير الله الخالص، نقول هذا من تقدير الله الخالص لنقابل به التقدير الذي يقع الإنسان سببا ومقدمة من أسباب النتيجة في الأمر.

كلما اختاره الله سبحانه للعبيد وكل تقديرٍ – مثلا قدر الله سبحانه وتعالى أن تكون في الحياة أمراض، أن يكون في الحياة فقر وغنى، صحة ومرض، أن يكون موت وحياة، أن تكون ريح باردة، أن تكون درجة حرارية معينة، أن تكون ظروف بيئية تناسب حينا في نظر العبد ولا تناسب حينا آخر، جعل الثروة السمكية، جعل أشياء كثيرة في هذا الكون، كل هذا التقدير وغيره من الله سبحانه وتعالى قد لا نعلم فلسفته. نعم قد لا نعلم تفاصيل فلسفة الأشياء ولا نستطيع أن ندرك عللها بالكامل، ولكن هنا نظرتان: هل تعرف الله أو لا تعرفه؟ من عرف الله سبحانه وتعالى حيا، قيوما، قديرا، عالما، خبيراً، لطيفا، رحيما، عادلاً، حكيما، قال بأن الأمر لا يجري إلَّا وفق الحكمة، ووفق العلم ووفق اللطف والرحمة، ومن لم يعرف الله سبحانه وتعالى وأعطى الله عز وجل صفات العبيد أخطأ في التقدير واتهم الله سبحانه وتعالى؛ حيث لا يعلم هو فلسفة الأشياء، والله عالم بكل دقيقة من دقائق هذا الكون، عالم بكل علة من علل الأشياء.

إنّك لا تستطيع أن تفسّر تصرفات كثيرة من تصرفات المهندس، ولا تصرفات كثيرة من تصرفات الطبيب، ولا تصرفات كثيرة من تصرفات الطيّار، ولا تصرفات كثيرة من تصرفات أيّ فنّيٍّ خبير، وأيّ عالمٍ دقيقٍ في علمه، ذلك لماذا؟ لأنّك لم تبلغ علمه، ولم تصل إلى خبرته، ولا يمكن أن يستوي عالم وجاهل، وهل يمتلك الطفل تعليلاً كاملاً لكل تصرفات أبويه؟! وهل يستحسن من أبيه أن يضربه ولو ضربة خفيفة تأديبة، هل يستحسن من أبيه أن يمنعه من اللعب بالنار؟ الطفل يؤلمه أن يمنعه أبوه من اللعب بالنار، بينما لو تركه يلعب بالنار لهلك، والعبيد ماذا يساوون في علمهم من علم الله عزّ وجل؟! هل ترى أن الفارق بين علم العبد وحكمته وفهمه وخبرته وبين علم الله وحكمته هو نفس الفارق بين علم الطفل وعلم الأب؟! الفارق بين علم الطفل وعلم الأب فارق محدود، والفارق بين علم العبد وعلم الرب فارق غير محدود، وليست له مسافة تنتهي، فكيف يعرف العبيد فلسفة كل ما خلق الله، وفلسفة كل ما أراد الله سبحانه وتعالى، نحن لا نستطيع أن نعلل ونفسّر تصرفات الحكماء الكبار، والفلاسفة العظماء، والسياسيين الحاذقين، فكيف نستطيع بأن نقف على حكمة الأشياء من خلق الله، وعلى علل التشريعات التي شرّع الله سبحانه وتعالى.

لذا كان هناك ارتباط بالعلم بالله والرضا.

ولنقف عند أمور في موضوع الرضا:

1. العلم والرضا:-

تقول الآية الكريمة:”إنما يخشى الله من عباده العلماءُ”

وتقول الآية الأخرى:”…رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه” 8/ البينة.
الخشية تقوم على العلم، والرضا يقوم على الخشية، فلا رضا لمن لا يخشى الله..

الذي لم يصل إلى درجة الخشية لا يصل إلى درجة الرضا، الرضا درجة في الظاهر أعلى بكثير من درجة الخشية. الخشية تكفي فيها معرفة محدودة لاسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، والرضا يحتاج إلى معرفة أسماء الله الحسنى، وأنّه منزّه عن كل نقص الممكنات.

“إن أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله”(1)

بقدر ما يكون الإنسان عارفاً بربّه سبحانه وتعالى، عظيماً جليلاً، كاملاً متقدّسا… بقدر ما يعرف من الله عزّ وجل، ومن أسمائه الحسنى، يكون راضيا عن الله عزّ وجل في يوم غناه، ويوم فقره، يوم صحته، ويوم مرضه، يوم أن يفقد الحبيب، ويوم أن تحلّ به الكارثة.

“أصل الرضا حسن الثقة بالله”.

وكيف تكون الثقة بالله؟ لا تكون الثقة بالله حتى تعرفه، حتى تعيش نفسك الشعور الصادق، بل اليقين التام بأنّ الله سبحانه وتعالى كاملٌ منزّه عن الظلم، منزه عن الخلل في الحكمة، منزه عن كل نقص.

2. منزلة الرضا؟

“أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا” الرضا يبتدئ من أعلى درجة في اليقين، ثم يأخذ هو في درجات متصاعدة، فمن لم يكن له يقين كامل يجده في حال رخائه، يجده في حال سعته فكيف يكون له الرضا في حال محنته؟! الذي لا يعيش يقينا بعدل الله، وبحكمة الله، ولطف الله، وحسن تدبير الله، وغنى الله عن ظلم العباد في حالاته العادية فكيف إذا ألمّت به المحنة.
المحنة تهز، المحنة تقتلع الجبال الراسيات، المحنة تقتلع الأشجار الباسقات من جذورها المتعمّقة الضاربة في تخوم الأرض، وإذا كنت في الحالات العادية لا أملك يقيناً بعدل الله، وبلطف الله ورحمته، فكيف إذا فقدت العزيز الذي ليس في حسباني أن أفقده، وكيف إذا صرت بين عشية وضحاها فقيرا بعد الغنى، وكيف إذا وجدت في جسدي المرض العضال؟! عندئذ وأهل درجات كبيرة من الإيمان يمكن أن أو يعصف بهم الحدث، فكيف بي وأنا الذي لا أملك من الإيمان إلا الدرجة الخفيفة؟! فيقول الحديث “أعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا..”

الكلمة تقول عن الإمام الحسين عليه السلام: “رضا الله رضانا أهل البيت” يكفي أن نعرف أن هذا فيه رضا الله فترضى به..تشريع صعب، محنة قاسية، جريان ما لم يكن في الحسبان، يكفي لأن نرضى به، ولا ننتظر في رضانا أي شيء أن نعرف أنه مما يرضي الله سبحانه وتعالى.

هذه الدرجة من الرضا، درجة تجاوزت أعلى درجات اليقين التي تبتدئ منها. اليقين الذي نجده في حال الرخاء وفي حال السعة هذا الرضا أكبر منه بكثير. اليقين في حالات الرخاء وإن كان نابتا ثابتا مترسخا لا ينتج أعلى درجات الرضا إنما يمكن أن ينتج أدنى درجات الرضا، والحسين عليه السلام يتمتع بأعلى درجات الرضا التي تتطلب يقيناً راسخاً ثابتاً في حال المحنة الشدة والغموض.

“الرضا بمكروه القضاء من أعلى درجات اليقين” عن الصادق (ع).
هناك يقين بكمال الله وعدله ولطفه وعلمه وحكمته وتنزهه لا تناله التشكيكات الشيطانية بالاهتزاز في حالات الرخاء ولكنه قد يهتز في حالات البلاء الشديد. وهذا يقين بدرجة من الدرجات، ولكن اليقين الأعلى والأرسخ هو ما كان ثابتاً وقوياً ومتمكناً في أشد لحظات الامتحان وعند أكبر المصائب والآلام.

3. زن إيمانك بنفسك:-

}فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا{ (65)/ النساء.

يعرف أحدنا إيمانه من خلال درجة التسليم للتشريع، ومن خلال درجة التسليم للقضاء الشرعي، ومن خلال درجة التسليم والرضا للحوادث الكونية، بعضهم لا يرضى بالمطر، وبعضهم لا يرضى بالجفاف، بعضهم لا يرضى بالشتاء، وبعضهم لا يرضى بالصيف، ونحن على أهواء متفاوتة، ولو جاء هوى مطابقا للقدر، فإنّ هوى آخر لا يأتي مطابقاً للقدر.
أما المؤمنون فليس ما يتحكم فيهم الهوى، إنما لا ينتظرون إلا أن يعرفوا أنّ في هذا التشريع، في هذا الحكم، في هذه الحادثة الكونية، في نشوب حرب، في عدم نشوب حرب، رضا لله سبحانه وتعالى.

الحسين عليه السلام لم ير في واقعة كربلاء التي ستأتي على الأكثرية الغالبة من أهل بيته عليهم السلام مصيبة كبرى “رضا الله رضانا أهل البيت” “خير مصرع أنا لاقيه”، يعبّر عن مصرعه الشريف بأنه خير مصرع أنا لاقيه.
“اعلموا أنه لن يؤمن عبد من عبيده، حتى يرضى عن الله فيما صنع الله إليه وصنع به على ما أحب وكره” عن الصادق (ع). البحار ج 78 من 217.

هناك درجات إيمان لم تبلغ هذه الدرجة لكن الإيمان الحقيقي التام إنما يكون هو الإيمان الذي يكسب الرضا، وينبت على أرضيته الرضا بما قسم الله سبحانه وتعالى.

“أجدر الأشياء بصدق الإيمان الرضا والتسليم” (ع،ع) الغرر.
“من لم يرض بما قسم الله عز وجل اتهم الله تعالى في قضائه” عن الصادق (ع) البحار ج 78 ص 202.
وهنا تجدون الترابط بين الإيمان والرضا. إذا كنت أعيش حالة عدم رضا بحادثة شخصية، أو بحادثة اجتماعية قدّرها الله فكيف أكون مؤمناً بكمال الله؟! إذا ولد لأحد ولد مشوّه لم يكن يعلم أنّه قد ارتكب تفريطا في الطريق إلى هذا الولد أدّى إلى مثل هذا التشويه، هنا إما أن يرضى وإما أن يسخط، يرضى ليس بمعنى أن يسر، ليس بمعنى أن يفرح، يرضى بمعنى أن يكون متيقناً بأن هذا الأمر لم يحدث من غير حكمة، ولم يأت ظلما، ولم يأت عبثا، إنما أتى ليعبر عن حكمة لله، ربّما تكون هذه الحكمة هي التربية، الامتحان، امتحان نفس الأب، نفس العائلة إلخ. الرضا بمعنى أن لم يأت هذا الفعل ظلما من الله، ولم يأت عن خلل في علم الله، أو خلل في قدرته، أو خلل في رحمته، أو خلل في حكمته، إما أن يكون الشعور هذا الشعور وإما أن يكون الشعور هو الآخر، وأنّ هذا التشوّه لهذا الولد جاء من عدم إحاطة الله عزّ وجل للأمور الإحاطة التامة، وعدم سلطنته الكاملة المسيطرة على الأشياء، أو من ظلم فيه سبحانه وتعالى. وهل يجتمع هذا الشعور مع الإيمان بالله؟ أنت على هذا الفرض تؤمن برب لكن تؤمن بربٍّ ظالم، والله ليس بظالم، ربما تؤمن برب بطّاش، وليس عادلاً أو ليس عالماً، وهل الله هو كذلك؟!
فإذاً حيث يفتقد الرضا لا بد أن يكون هناك خلل في الإيمان، ومن هنا نكتشف مستوياتنا الإيمانية ولكنّ الله غفور رحيم.
لو لم يدخل الجنّة إلا أصحاب الرضا كالأنبياء والأئمة عليهم السلام كان حتّى مثل المقداد وحتى مثل مالك الأشتر ربما لا ينالان الجنّة، والله العالم.

رحمة الله وسعت كلّ شيء، ونحن لا ندخل الجنّة بأعمالنا وإنما ندخلها بمغفرة الله، ولكن فلنتعلم حتى لا يصيبنا الغرور.

4. نتائج:- يترتب على ما تقدّم:

1) أنما يطمع العاقل في دخول الجنة سعة رحمة الله ولطفه وعفوه لا إيمانه وعمله.

2) لا ينبغي أن نطمع في رضا الناس، وكثير منهم لم يرض عن الله سبحانه وتعالى وهو خالقه وكافله.

الناس لا يرضون عن الله وهو خالقهم ورازقهم وكافلهم، فكيف يرضون عنّي؟! وكيف يرضون عنك؟! إذا لم يكن من الممكن عملا أن يرضى الناس كل الناس عن الله عزّ وجل، وحتى نفوس عالية ربما دخلها الشعور بالسخط من قضاء الله، فكيف يطمع أحدنا أن يلتف حوله جمهور من مئات الألوف أو من الملايين ويرضونه؟! إنّ هذا الالتفاف التفاف عادي يدفع إليه الحماس، والنظرة الأولية، أما في مواقف معيّنة فلا يمكن أن يرضى عنك كلّ الناس، وهل عرف الناس كل الناس فلسفة مواقف النبي صلى الله عليه وآله وسلّم حتى ترضيهم كلّ مواقفه؟! الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أتراهم أنهم يرضون من رسول الله كل ما فعل؟ يوم أن خصّ رسول الله صلى الله عليه وآله بعض الغنائم بالمهاجرين ومنع منها الأنصار لحكمة هل سكت الأنصار؟! لم يسكت الأنصار ولو كان التسليم كاملا، ومعرفة الرسول تامّة، ومن هو الرسول (ص)، لرضي الأنصار قبل أن ينطق رسول الله بالحجة.

3) من أجل أن نحقق درجة من الرضا بقيادة المعصوم عليه السلام أو غيره لا بد من معرفته.

4) وهذه نقطة ضرورية جداً، فلا بد أن تسبق معرفة القيادة اتخاذها قيادة لأن لا قيادة بلا طاعة ولا طاعة اختياراً بلا رضا، والرضا يحتاج إلى المعرفة والثقة، أو الوقوف على كل دقائق القرار الذي تتخذه القيادة، والثاني غير عملي أصلا، وهو يعني انتفاء القيادة أساسا.

إذاً لابد أن نتعرف على القيادة أوّلاً حتى نختارها قيادة في المؤسسة الصغيرة، وفي المؤسسة الكبيرة، وفي المجتمع وعلى مستوى الأمّة.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وارزقنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين يقيناً يكسبنا التسليم بحكمك، والرضا بقضائك وقدرك، والتصديقَ بما وعدت، واغفر لنا ولهم ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن كان له حق خاص علينا من أهل الإيمان والإسلام يا غافر الذنب، ويا ساتر العيب يا رحمن يا رحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

الخطبة الثانية

الحمد لله ولي الصالحين، ملجأ الهاربين، غياث المستغيثين، صريخ المستصرخين، منتهى أمل الآملين. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله؛ بُعث رحمة للعالمين، وهُدى للمتقين، صلّى الله عليه وآله الطاهرين.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله، والأوبةِ إليه، ما دامت الفسحة قائمة، والفرصة متاحة، قبل أن يَنقطع النفس، ويُستوفى الأجل، ويمتنع العمل، وعندئذ تَعظمُ الحسرة، وتشتد الكربة، ولا يُنقذ النفسَ من غمِّها الدائم، وعذابها المقيم كثيرُ ما كسبَته للدنيا، وعظيم ما كان لها فيها من لذة ومال وجاه وأهل وبنين.

اللهم وفِّقنا قبل الممات لتوبة خالصة، تغفر بها ما سلف من ذنوبنا، وتعصمنا في بقية أعمارنا، وتحي قلوبنا، ولا تجعل للشيطان علينا سبيلاً أبداً يا رؤوف يا رحيم.

اللهم صلّ وسلّم على عبدك المسدّد، ورسولك المؤيَّد خاتم النبيين والمرسلين؛ محمد وآله الطاهرين. اللهم صلّ وسلّم على عليٍّ أمير المؤمنين وأوّل الوصيين. اللهم صلّ وسلِّم على فاطمةَ النوراء الزهراء. اللهم صلّ وسلِّم على الحسنين الزكيين، والإمامين الهاديين. اللهم صلّ وسلِّم على أئمة المسلمين، وعزِّ المؤمنين: علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري العابدين الزاهدين المتقين.

اللهم صلّ وسلّم على إمام العصر، والقائد بالنصر؛ محمد بن الحسن المنتظر والمؤتمن.
اللهم عجِّل فرجه، وسهِّل مخرجه، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً يسيراً، وأزهق به الباطل، وأقم الحق، وانشر العدل، ومكِّن له تمكيناً يا قوي يا عزيز.

اللهم عبدك الموالي له، المحامي عن قضيته، الممهد لدولته، والفقهاء الأتقياء، والعلماء العاملين الصلحاء، والمجاهدين المضحّين الغيارى، وسائر العاملين في سبيل الله، المدافعين عن حريم الإسلام من المؤمنين والمؤمنات أيدهم وسددهم ووفقهم لصالح العمل، وحقق لهم الأمل من ظهور الدين القويم، وعزّ عبادك المؤمنين يا رحيم يا كريم.

أما بعد فلهذا الحديث محطَّاتٌ ثلاث:-

الأولى: درس من واقعة بدر الكبرى:-

‌أ- طائفة من الآيات نقرأها تحت ألف:”إذ يغشِّيكم النُّعاس أمنةً منه وينزّل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام”.

“إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب….”

“وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً، ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولا….”.

هذه الطائفة تركز على تدخل غيبي في حسم النصر لصالح المسلمين في تلك المعركة التي تمثل منعطفا تاريخيا كبيرا في خط الجهاد الإسلامي وفي حياة الإسلام.

هذا تدخل غيبي واضح جدا من الله سبحانه وتعالى وإن كان بعضه متنزلا في صورة حسية مشهودة كإنزال المطر، هل الدور هو هذا الدور فقط؟ هل حسمت معركة بدر لصالح المسلمين بالدور الغيبي فقط؟ أو أن هناك دورا آخر أيضا؟
الطائفة أخرى:

‌ب- “يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار” فكان هناك زحف من المسلمين من القلة المسلمة وكان صمود، ومواجهة عنيدة، وكانت ملاقاة الموت لا ترد المسلم إلى الخلف، فما كانوا يولون الادبار، هذا موقف كانت له دخالته في النصر.

اختيار الموقع والذي ربما أشارت إليه الآية الكريمة:

“إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى…” ونحن نعرف أن الجماعة المسلمة بقيادة رسول الله صلى الله عليه وآله خططت أن تسبق للماء، وخططت أن تسبق للموقع الجغرافي الذي يمثل موقعا ملائما للدخول في المعركة.

“وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين” عنصر آخر يبرز هنا في حسم المعركة لصالح المسلمين والإسلام، وهو الطاعة للقيادة، وعدم مناقشة القيادة في اللحظات الحاسمة حيث القرار لا يحتمل مناقشة ولا يحتمل استشارة، على أن الرسول صلى الله عليه وآله والمعصوم عموما لا يمكن مناقشته على الإطلاق، ومن ناقش المعصوم في قراراته فهو من خلل في الإيمان. “وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا…” فإذا لم يكن اختلاف مع القيادة، ولم يكن اختلاف في الصفوف مثل ذلك عنصراً من العناصر المطلوبة، وذات الفاعلية في تحقيق النصر.

“يا أيها النبيّ حرّض المؤمنين على القتال….” الناحية الإعلامية، وناحية خلق روح الحماس، وروح الاندفاع، عنصر آخر يبرز هنا ليشارك في تحقيق النصر.

هذه الآية الكريمة جاءت في سورة الأنفال والتي فيها تعقيبات كثيرة على واقعة بدر والتي ترسم خط تحقيق النصر:”وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم….” وكل هذا الإعداد وكل هذه العناصر ليست لحاجة الله سبحانه وتعالى إلى مدد من الأرض وإلى اعتماد على الإنسان، ولكن التجربة هي تجربة الإنسان، المطلوب أن يتربى الإنسان من خلال تجربته الأرضية، فلا بد أن تكون له مشاركة، ولا بد أن يكون له جهد، ولا بد أن يكون له تفكير، تخطيط، وتدبير وبناء سياسي واجتماعي واقتصادي، وهو من خلال هذه التجربة والحركة يتربى وينصنع لذلك كتبت هذه العوامل على كل مؤمن وهو يطلب تحقيق النصر ولذلك جاء “إن تنصروا الله ينصركم…” ولم يتبرع الغيب بالنصر ابتداءا، وإنما جعل مقدمة الفيض بالنصر هو ان ينصر الناسُ الله، أي دين الله، ينصروا الحق يقوموا بواجبهم، يجاهدوا ما أمكنهم الجهاد.

نجد مزاوجة بين الغيب والواقع في وعي الإنسان المسلم وشعوره وكل حياته، هكذا ربى القرآن المسلم، بأن زاوج في وعيه بين الواقع والغيب، وأن إيمانه بالغيب لا يعفيه عن الحركة في الواقع، وان حركته في الواقع لا تمثل علة الأشياء وعلّة تحقيق النصر، وإنما تنتهي كل الأمور إلى الله سبحانه وتعالى.
المسلم وهو يعطي كل ما في نفسه، وكل ما في وسعه لا يعتقد بأنه حقق النصر بنفسه، وإنما الذي يرمي الله، ترمي يد النبي صلى الله عليه وآله ظاهرا وأصل الرمي بيد الله عز وجل، ذلك لأن يد النبي إنما هي مظهر من مظاهر فاعلية الله سبحانه وتعالى، القوى البشرية وكل القوى الكونية إنما هي مظهر من قوة الله، ومظهر من فاعلية الله ولذلك يكون الفاعل الحق، الفاعل الأصل هو الله سبحانه وتعالى.

لا بد أن نعيش هذه المزاوجة بين الحس الغيبي في داخلنا وأن لا إله إلا الله، وأن لا فاعل غيره وبين أن نبذل كل الجهد ونحن نتحرك على طريق النتائج الصغيرة والكبيرة.

الممكن في هذه المعادلة، يتحمله الإنسان، وما فوق المقدور يوفره الله سبحانه. النصر يأتي هكذا بأن يبذل الإنسان ما في وسعه، وأن ما يمكن له أن يوفره من أسباب النصر فعليه أن يوفره، وباقي الامر لله سبحانه وتعالى وهنا يأتي وعد الله بهذه الصورة: “إن تنصروا الله ينصركم…” ومن اعطى ما في وسعه – الفرد الذي يعطي ما في وسعه، كالحسين عليه السلام، الأمة التي تعطي ما في وسعها يكون قد نصر الله سبحانه وتعالى فلا بد أن يرتقب النصر.

فالإيمان بالغيب لا ينعكس سلبية عند الإنسان المسلم وتعطيلا لدوره الفاعل وسعيه ونشاطه والواقعية لا تنسيه ربه، ولا تجعله يستغني عنه.

ونحن نجد أنه قد عاد التاريخ ليُسجل هذا التزاوج في نفوس المجاهدين قوة واندفاعة حماسية واعية، وإيمانا ملتهبا، ليعطي نجاحات مشهودةَ على الأرض على أيديهم المؤمنة في فلسطين وجنوب لبنان في دفاعهم عن الحق والأرض.
الثانية: الإمام الحسن عليه السلام رجل الحرب والسلم:-

حارب الإمام الحسن عليه السلام مرة وصالح أخرى، ومنطلقه في حربه وسلمه مصلحة الإسلام، وكان المبدئيَّ والأخلاقي والرسالي في المرتين. وما كان في صلحه الذي لم يراع فيه إلَّّا الله ناسياً للدماء الزكية لشهداء الإسلام- والصلح لا يعني دائما نسيان دماء شهداء الإسلام- ولا لمصلحة الأمة. كما لم يكن في حربه المتهوّرَ الذي ينطلق من فوران العاطفة والحماس المتفجر بلا حسابات سياسية وعسكرية وقيميَّة دقيقة.

ولو كان الإمام الحسن عليه السلام ممن يتملكه الخوف -كما يفترى- لما دعا للحرب مختاراً، وافتتح حكمه بمجاهدة معاوية، وكان الشديد في مكاتباته معه، ولو كان الذي يتهور -وحاشاه- لما أهمل صوت المطالبين بمواصلة القتال عندما كان القتال سرفاً بلا طائل من نصر عاجل أو آجل، حتّى لقد كان من متحمسين يصرون على عدم الصلح أن غلب حماسُهم ثقتهم فيه وإيمانهم الدينيَّ به فواجهوه بيا مذِلّ المؤمنين، وما يماثل أو يشابه هذه الكلمة.

ومن عظمة المعصوم عليه السلام أن حماسه للإسلام، وليس أشدَّ منه، لا يغلب عقله، ولا يعكِّر تفكيره في الموقف الذي يتناسب والدرجة العالية من مصلحة الإسلام، وأن عقله، وحرصه على دماء الخلق، وتفكيره في المصالح والمفاسد لا يعطِّل حماسه، ويسلبه شجاعته.

وكلما اقتربت القيادة من هذا التوازن كلما كانت أجدر بتحمل الأمانة مع علم بدنيا ودين، وتقوى من الله وورع شديد.(2)
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وافتح علينا وعلى المؤمنين والمؤمنات أجمعين أبواب رحمتك واغلق عنا ابواب سخطك، وسلّم لنا ديننا ودنيانا، وأسعدنا في آخرتنا وأولانا، واغفر لنا ولهم ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن له حق خاص علينا من أهل الإيمان والإسلام يا كريم يا رحيم.

(إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الكلمة بإنَّ أو بدونها.
2-ألغي الكلام عن الموضوع الثالث لضيق الوقت.

زر الذهاب إلى الأعلى