خبطة الجمعة (72) 8 جمادى الثاني 1423هـ – 16-8-2002م
مواضيع الخطبة:
سلامة النظام التكويني – اليسر في الإسلام – الهجمة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني – المبعدين
إنهاء للظروف الصعبة التي يعاني منها أولئك المواطنون، في حنينهم للعودة للوطن الذي تربوا فيه صغاراً وترعرعوا على أرضه حتى صاروا كباراً، وليس ينسونه ليلاً ولا نهارا.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي تُسبّح له الأشياء كلُّها موحِّدة، ناطقة بعظمته؛ تُسبّح له وتوحده أن أوجدها بعد عدمها، وأغناها بعد فقرها، وأعطاها نَظْمها بعد أن لم يكن لها النَْظم من نفسها لا في انفرادها ولا في اجتماعها.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنشأ الخلق مبدعاً، ودبّر الأمر متفرّداً، وبسط الرزق متكرِّماً، ليس له معين ولا ظهير، ولا ندّ ولا ضدّ، ولا شبيه ولا نظير. غني عمن عداه، وما عداه، وكلُّ شيء إليه فقير.
وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، أدَّى الأمانة شاكراً، وبلّغ الرسالة حامداً، لم تأخذه في الله لومة لائم. صلّى عليه وآله وسلَّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي -التي أسأل الله العون عليها- بتقوى الله في الأمر الكبير والصغير، في السّرّ والعلن، والسّرّاء والضّرّاء، وعلى كلّ حال، فإنّ تقوى الله فيها سلامةُ القصد، ورقيُّ النّفس، وسدادُ الخطى، والبعدُ عن أذى الخلق، ونُجحُ السعي، وحسنُ العاقبة. فمن اتقى كانت الجنة مثواه، ومن طغى واستكبر لم يكن له من النار مفر، ولم يجد من دونها من مصير.
الله صلّ على محمد وآل محمد، وباعدنا عن لهب النيران، وأنزلنا في الجنّة منازل المتقين الأبرار يا كريم يا رحيم.
أما بعد أيُّها المؤمنون والمؤمنات..
فإنّ الإنسان وقد خلقه الله مريداً ليتحمّل مسؤولية ضخمة في صلاح أوضاعه وفسادها، وعمران الأرض وخرابها، وسعادة الحياة وشقائها، وإن مساحة الفعل الإرادي عند الإنسان لتؤثّر سلباً وإيجاباً بإقدار من العزيز الحكيم على مساحة معيّنة من التكوين، وأن تحوّل الحياة على وجه الأرض إلى جنَّة راقية، أو نار حامية.
وسلامة النظام التكويني على الأرض وما يتصل بها، وإن كانت راجعة إلى دقّة القوانين التكوينية التي تحكم هذا النظام، وكونها تشكِّلُ منظومة متناسقة متكاملة، تنحفظ من خلالها البنية التي بني عليها، إلا أنّ النظام التشريعي الصالح الذي يحكم كيفية التعامل عند الإنسان فرداً ومجتمعاً على مستوى مختلف العلاقات في حياتهما، ومنها علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقته بالبيئة إنّ لذلك أثراً ملحوظاً في سلامة النظام الكوني في مساحة الأرض، وما يتصل بها، إذ يمثل الخروج على النظام التشريعي الصحيح الذي ينظّم هذه العلاقات تنظيماً حكيماً هادفاً عادلاً ضرراً بالنظام الكوني في حدود ما تطاله تصرفات الإنسان، وبالأهداف الحكيمة التي يخدمها ذلك النظام.
وتمثل الاستقامة على خط التشريع الإلهي العادل الذي ينظّم تلك العلاقات حركة إنمائية مباركة صالحة للإنسان والبيئة، ودوراً إعمارياً رشيداً على يد الإنسان.
وتُستعرض هنا بعض النصوص في الربط بين انحراف الإنسان عن خط الشريعة الإلهية العادلة والدين القويم، وبين تردّي الأوضاع الاجتماعية، وفساد البيئة التكوينية، وحدوث الكوارث والأمراض، فحينما يتعامل الناس مع الطبيعة، وفيما بينهم بعيداً عن الهدايات الإلهية الفطرية، والعقلية، والتشريعية، يفتقدون حالة التناسق القائمة بين قوانين التكوين وقوانين التشريع من صنع الله العليم الحكيم، ويظهر ذلك بالفساد والتخلفات والتشوهات على أوضاعهم الحياتية، وعلاقاتهم الإنسانية، وعلى المساحة التكوينية التي تمتد إليها مواقفهم الإرادية.
ولك بعض النصوص التي تعرض للخلل والفساد الذي يصيب الإنسان والحياة
والبيئة بسبب الانحراف عن خط الله والفطرة والدين:
الانحراف وتردّي الأوضاع:
يقول الله سبحانه:”ذلك بأنّ الله لم يكُ مغيّراً نعمة أنعمها على قومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم” 53/الأنفال. يبتدأ الانقلاب من حسن الحالة إلى سوء الحال في الحياة الاجتماعية، وفي الأوضاع الاقتصادية والسياسية والتربوية وغيره، من انحراف ينطلق من داخل الإنسان ويظهر على مواقفه وتعامله مع شريعة الله سبحانه وتعالى، هذا التغيير السلبي بداخل النفس البشرية والذي يمثل درجة من الانحراف عن الخط الإلهي هو أول مصيبة تطرأ على الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها فكل انحراف في أي جنبة من جنبات الحياة في المجتمع الإنساني يرجع هذا الانحراف إلى انحراف عن خط الله سبحانه وتعالى وإلى تخلّ جزئي أو كليّ عن شريعة الله، قانون هنا، هذا القانون يقول أنتم لا تخرجون في حياتكم من الحالة الإيجابية إلى الحالة السلبية إلا من خلال موقفكم من خط الله وشريعته، “ذلك بأنّ الله لم يكُ مغيّراً نعمة أنعمها على قومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم” وإذا كان الانحراف عن خط الله هو مفتاح الشر، فإن العودة إلى خط الله عز وجل هي مفتاح الخير، فإذا ما ضقتم أيها المؤمنون بأوضاع الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للأمة كل الأمة، وللأرض كل الأرض وفكرتم في أن تصححوا أوضاع الحياة فلا بد أن تصححوا مواقفكم، ولا بد من قبل ذلك أن تصحح فكركم ومشاعركم، وتصحيح كلّ ذلك إنما هو بالعودة إلى خط الله، خط الرسل والأنبياء والقرآن والسنة.
الإنحراف والكوارث:
“وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير” 30/الشورى.
الكوارث والمصائب البيئية والاجتماعية على المستوى الصحي، على المستوى العقلي، على مستوى الأمن، على مستوى الاقتصاد، على كل المستويات تقول الآية الكريمة منشأها إنما هو ما كسبت أيديكم، وتعني الآية الكريمة بذلك ما كسبت الأيدي من سوء، ما كسبت الأيدي من ذنب، ما تحمل الإنسان من معصية بانحرافه عن خط الله، هذا الذي ترون من مصائب ليس هو الجزاء الكامل لما أتيتم من انحراف، لأن الله عز وجل يعفو عن كثير، ولو لا عفو الله عن الكثير لرأيتم مردود انحرافكم عن خط الله هلكة تامة.
الانحراف وفساد البيئة:
“ظهر الفساد في البّرّ والبحر بما كسبت أيدي النَّاس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلَّهم يرجعون” 41/الروم.
التسمم البيئي، تضرر الثروة السمكية، تضرر الثروة الحيوانية، انتشار الأوبئة بسبب ما يدخل من تسمم على البيئة كل ذلك بما كسبت أيدي الناس. الخيانة، التغلغل الروح التجارية التي لا تبالي بالقيم، انحطاط قيمة الإنسان في نفس الإنسان، نسيان الإنسان ربه سبحانه وتعالى، يبيح لهذه النفس، أن ترتكب كلّ جريمة من أجل الربح المادي الآني، يتيح لها ومن غير شعور بأيّ ألم لمصير الآخرين وبكوارث الآخرين أن تدمر البيئة وتلوث البيئة وتنقض أسباب الحياة.
التخلّي عن قيم السماء يؤدي إلى حروب نووية، جرثومية،وكيماوية –وإلى التلاعب بجرثومة الجمرة الخبيثة- إلى غشٍّ قتال في السلع التجارية.. إلى تصحّر مدمّر، كلّ ذلك فساد في البر ومثله فساد في البحر وذلك بما كسبت أيدي الناس…. إلخ.
الإصلاح في الدين القيم والشريعة العادلة:
عن ميسّر قال: قلت قول الله عز وجل ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) يعرض سؤالا عن الآية على الإمام الباقر عليه السلام. هذا الرجل يعرض سؤالا عن الآية الكريمة )ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) على الإمام الباقر عليه السلام. قال أي ميسّر: فقال يا ميسر إن الأرض كانت فاسدة فأصلحها الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وآله، فقال – أي الله عز وجل-:
(ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) أيّ نظام آخر، رضيت أم لم ترض، غير النظام الإسلامي يمثّل حالة إفساد رضي وعيكم الديموقراطي أم لم يرض، الحاكمية لله سبحانه وتعالى، والشريعة الحقّة شريعة الله سبحانه وتعالى، نعم، تصلح الديموقراطية طريقاً لإصرار الاختيار الشعوب وإصرارها على الرجوع إلى شريعة الله سبحانه وتعالى، أما الحاكمية فهي لله وليس للشعب أن يختار هذا النظام أو ذلك النظام، هذا الأمر أو ذاك الأمر، لا خيار إلا لله فاتقوا الله. إن الأرض كانت فاسدة فأصلحها الله عز وجل، في الفترة بين عيسى عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله حيث بعدت الأرض عن خط الله، ورجعت إلى نظم وضعية أو نظم خليط بين حق وباطل في تلك الفترة كانت الأرض فاسدة، متى صلحت؟ صلحت بالأطروحة الإلهية، وبالقائد الإلهي، بالإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وآله، كانت فاسدة فأصلحها الله سبحانه وتعالى بنبيه صلى الله عليه وآله فقال:
(ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) الآن أصلحت لكم الأرض بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وآله فلا تعودوا للإفساد في الأرض بأن تركبوا مركبا آخر غير مركب الإسلام.
الإفساد والمنهج الفرعوني:
“إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين” 4/القصص.
الله رب الجميع وغني عن الجميع، فلا يستضعف طائفة من الناس لينتصر بطائفة، لا يقرب طائفة ينتصر بها ولا يستضعف طائفة يتخلص من ما يحذره منها، أما غير الله ممن لا يسير على درب الله فمنهجه دائما فرعوني، والمنهج الفرعوني لا يمكن أن يصلح، هذه سمة ومعلم رئيس من معالم المنهج الرعوني، ما هو هذا المعلم؟ “إن فرعون علا في الأرض..” الرأي له لا لله، ومن رأى أن الرأي له لا لله فهو ممن علا في الأرض واستكبر، كان في الموقع الكبير أو كان في الموقع الصغير، وحتى لو كان فاقداً لأيّ موقع.
“إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين” 4/القصص. منهج إفسادي والقائم عليه مفسد.
الإفساد وطغيان رأس المال:
“إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إنَّ مفاتحه لتنوء بالقُصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين. وابتغ في ما آتاك اللهُ الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين” 76،77/القصص.
كان واحداً من قوم موسى، وقوم موسى مستضعفون، وقوم موسى منهم الصالحون، أو كان من قوم موسى من جملة قوم موسى سواء من أبناء إسرائيل أو غير إسرائيل أي ممن أُرسل إليهم موسى عليه السلام. فرح الاستكبارِ والطغيان البطر والاعتماد على المال دون الله، وهذا الرجل كان يستعمل المال للإستكبار والبطش والحاكمية الظالمة وكان يسند حكم فرعون ويسير معه في درب واحد. ” وابتغ في ما آتاك اللهُ الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين” طغيان رأس المال، وحاكمية رأس المال، وكون القرار بيد رأس المال، وتلاعب الطبقة الرأسمالية في مصائر الناس من الإفساد، هذا والمنهج الفرعوني وهما متقارنان منهجان إفساديان.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واجعلنا مصلحين لا مفسدين، وهداة لا مضلّين، واهدنا بهدى المتقين، واكفنا عذاب يوم الدين، واغفر لنا ولإخواننا وأخواتنا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا ومن له حقّ خاص علينا من المسلمين والمسلمات يا رحمن يا رحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
الخطبة الثانية
الحمد الله الذي فتح للنَّاس سبل معرفته، ودلّهم على طرق رضوانه، ووعاهم إلى موائد جِنانه، وذادهم عن أذى نيرانه، وكلّفهم دون ما يطيقون، وجزاهم فوق ما يؤمّلون.
أشهد أن لا اله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله قد طُهّرت ذاته، وطاب مولده ووفاته، وتباركت حياته، وخلدت عطاؤاوته وهداياته.
صلى الله عليه وآله وزادهم جميعاً تحية وسلاماً، ورفعة ومقاما.
عباد الله عليَّ وعليكم بتقوى الله، وأن لا نقدم أو نؤخر إلا باذنه، وأن لا نقول ما يخالف رضاه، وأن لا نفعل ما حرّم، ولا نرخّص في ما منع، ولا نمنع ما رخّص، وأن يكون دليلَنا دينُه لا ما تفوّه به المبطلون، واستساغه الكافرون.
اللهم اجعلنا لا نعدل عن رضاك، ولا نبتغي ربَّاً سواك. اللهم صلّ وسلّم على رسولك في الأميين، ومبعوث رحمتك للعالمين، وخاتم النبيين والمرسلين محمد الهادي الأمين، وعلى آله الطاهرين. اللهم صلّ وسلّم على خليفة الرسول، وزوج البتول، إمام المتقين، عليٍّ أمير المؤمنين. اللهم صلّ وسلّم على كريمة الرسول أمتك الطاهرة فاطمة الزهراء البتول. اللهم صلّ وسلّم إمامي المسلمين والرحمة من رب العالمين عبديك الحسن والحسين. الله صلّ وسلّم على الأولياء الأتقياء والأئمة السعداء علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري النجباء الأصفياء.
اللهم صلّ وسلّم على من يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، الإمام المرضي محمد بن الحسن المهدي. اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وانصره النصر المكين، وافتح له الفتح المبين، ونكِّل به الكافرين والظالمين.
اللهم عبدك الموالي له ، المنتصر لمنهجه، الممهد لدولته احفظه، وأيّده، وقوِّ على طريقك عزيمته ، وثبت في الحق قدمه ، واملأ بالطمأنينة جنانه . والفقهاء الصلحاء أيدهم ، وبارك خطاهم ، وادرأ عنهم ، وانصر العلماء والمجاهدين ، واهزم بهم أعداء دينك ، ومريدي الفساد في بلادك وعبادك يا قوي يا عزيز.
أما بعد أيها الأحبة في الله :
فمتابعة للحديث عن اليسر في الإسلام أطرح هذا السؤال للإجابة عليه إجابة مقتضبة :
كيف يحول الدين كله الصعب سهلاً ؟
يشارك الدين كله عقيدة ونظاماً تشريعياً متكاملاً ، ومنهجاً تربوياً وقيماً أخلاقية ، بعملين متكاملين لمساعدة الإنسان على تحمل التكاليف الجادّة ، ذلك بإيجاد البيئة التشريعية المناسبة التي تسهّل التكليف ، وتوفر الشروط الموضوعية ، والمناخ المساعد لتطبيقه ، هذا من جهة ومن جهة أخرى يرتفع الدين في جملته بقدرة التحمّل في النفس البشرية ويدفع بمستواها على طريق الصلابة والصمود إلى الأمام بحيث تتخلص من حالة الرخاوة والإسترخاء والكسل المميت ، والتميّع القاتل ، ويشتد عودها وتقوى عزيمتها وليكن التوضيح من خلال التمثيل : حرّم الإسلام الفرار من الزحف ، والسرقة ، والزنا. ويأتي هذا التحريم في ظل عقيدة يرسخها الإسلام في نفس الإنسان المسلم بكل قوة بتقدم الآخرة قيمة على الدنيا، وتربية على الشجاعة والإقدام والتضحية والفداء ترعى الناشئ في سنّ الصبا ، وتصاحبه في كل مراحل العمر، وتواجه فيه روح الترف والسرف والإستغراق في اللذة والإستسلام لغلو الشهوات ، ويأتي –أي هذا التحريم- في ظل نظام اقتصادي يطارد الفقر مطاردة، ويقتحم عليه كل مواقعه، ويسد كل منافذه ، وفي ظل نظام تربوي يحفل بالقيم، وبناء أسري شامخ ، يتعلم فيه المسلم الخلق الكريم ، ويتشبع بروح العفة والشهامة والفضيلة والعزة والشرف والحفاظ على الدماء والأعراض والأموال للآخرين ، وجوّ اجتماعي –أي مما يأتي فيه التحريم- نظيف يلفظ جانباً بكل شاذ وقبيح –ويرمي به-، ويكرم الإلتزام وأهله، ويرفض التسيب وذويه ، في ظل نظام تشريعي يحرم اللمس والنظر من الأجنبي إلى الأجنبية عدا ما استثني ، والخلوة مع الريبة كما في الفتوى ، ويأمر بالحجاب وينهى عن التهتك ، ويدعو إلى الزواج المبكر ، ويوفر أسبابه ، ويفتح طرقه ، ويرفع عوائقه .. نظام تشريعي يضع العقوبة الرادعة الدنيوية والأخروية على الجريمة ، ونظام قيمي يخلق ذوقاً اجتماعياً يحذر المجرم أن يرفض اجتماعياً بسببه .
قارن بين قدرة المكلف على تحمل هذه التكاليف الثلاثة وغيرها من محرمات وواجبات في ظل الأوضاع العقيدية والتشريعية والخلقية والاجتماعية من صنع الإسلام، وبين قدرته على تحملها في ظل أوضاع مناوئة تماماً .. أوضاع تسقط قيمة الآخرة وثوابها في نفس الإنسان المسلم، وتجعل همه دنياه ، وتستثير فيه شهواته إلى أقصى حد ، وتملأ ساحته العملية بالمغريات الحرام التي تحاصر مشاعره ، وتلهب دوافعه … أوضاع تميع إرداته ، وتذيب عزيمته ، وتسقط مقاومته .. تحرمه من فرص العمل .. وتقتل فيه الأمل وتؤيسه من الوصول إلى الزواج والمسكن، وكل حلال ، وتهدم أسس التربية الخلقية في بيئته ومجتمعه ، وتغريه لبيع نفسه ودينه بالجنس الحرام والدرهم الحرام ، وتقدم له من العروض ما يعلّمه فن الجريمة ، وكيفية ابتزاز المال ، وهتك الأعراض والولوغ في المحرمات . كل ذلك وما يزيد عليه أضعافاً مضاعفة تفعله الأوضاع المصوغة صياغة جاهلية في البلاد الإسلامية الطاهرة لتدنيس العقول والنفوس والأرواح .
وفي هذا الوسط الذي ينحدر بقيمة الإنسان ويسقط قواه المقاومة، ويحوّله إلى هم بطن وفرج ، والذي يُفقد التكاليف كل شروطها الموضوعية الملائمة ، ويخلق مناخات مضادة لها يصعب التكليف ، وتعسر الأحكام الشرعية ، ويثقل الإسلام على الناس ليتركوه … وهذا ما يريده الظالمون في الأرض بالإنسان ، يريدونه أن يترك الإسلام ليكون مطية الأغراض الدنيئة بخسارته الإسلام .
ومن هنا يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر في يده ليكون ملكاً كريماً ، ورسولاً أميناً ، وعبداً مصطفى ، ورجلاً محظوظاً عظيماً.
ولا شك أن ثبات المسلم ، وتحمله عبء التكاليف بصبر وجلد في غمار الأوضاع المنحرفة المصنوعة لإسقاط الإسلام ، وفرض الخناق على المسلم ، وتذويب عزيمته الإسلامية ليعني جهاداً من جهاد الرسل والأئمة عليهم السلام ويستتبع أجراً عظيماً عند الله فوق ما تستتبعه قضية الإلتزام في الظروف المناسبة ، وخاصة إذا صحب ذلك التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يعنيه ذلك من مضاعفة الكلفة والزيادة من حجم الضريبة التي يدفعها الإنسان في هذه الميادين .
وإذا كان إسقاط الإسلام هدفاً للجاهلية ، -وهو كذلك- فلا بد أن يكون إسقاط الرموز والدعاة والمبلغين هدفاً لها على الطريق نفسه . و لا بد أن تكون جملة الإغواءات والإغراءات والوعود والعروض والوعيد والتوعد أكثر تركزاً وكثافة ودقة وحياكة في توجهها إليهم منه لعموم الناس، ولذلك يتطلب ثباتهم في مواقعهم الإيمانية ، والعملية المجاهدة ، مزيداً من متانة النفس، ورباطة الجأش، وعمق الإيمان، وتبلور الوعي، سمو الهدف، بحيث لا يذوبون أمام وعد أو وعيده ، أو أمام إقبال أوادبار من العبيد ، ولا ترفعهم ولا تضعهم في أنفسهم كلمات الآخرين التي قد تتجاوز فيهم الخطأ والصواب ، وترفع بما هو وضيع عند الله ، وتضع بما هو كريم عنده سبحانه.
وعن الحدثين الساخنين في الساحة العالمية والإسلامية والعربية أعني : تصاعد العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينين ، والتهديد الأمريكي بإجتياح العراق فلا غموض عند أحد فيما يرميان إليه من إحكام القبضة على المنطقة بكاملها ، واستنزاف خيراتها واستعباد شعوبها ، وتركيبها لإرادة الغازي، وذوبانها الحضاري فيه، لكن الغامض مع غض النظر عن الشعارات المرفوعة والاعتراضات الإعلامية هو الموقف الحقيقي عند عدد من الأنظمة في المحيط العربي الذي تتجاذبه مخاوف الآثار التدميرية للغزو، وسنة تبديل الانظمة على المكشوف بالقوة مما يتطلب سباقا شديدا من الأنظمة على استرضاء المارد الأمريكي بما قد يكون غير مقدور، أو يقزم بطبيعته مكاسب السلطات المحلية للرؤوساء العرب والعوائل الحاكمة، ومخاوف أن يقع شبر تتجاذبه الأنظمة من أرض الإسلام في فلسطين، أو العراق بيد الإسلاميين لو ظل الصراع على طبيعته الحالية من غير إنهاء الانتفاضة في فلسطين، واستبدال النظام القائم في العراق بنظام أمريكي صريح. أما الخوف من ديموقراطية العراق فغير وارد، لأن المطلوب من غزوه هو السيطرة والنفوذ الأمريكي، لا ديموقراطية وطنية تخرج أمريكا من العراق من الباب السهل، بعد أن دخت من الباب الصعب، وبالثمن المكلف.
وعلى كل حال فإن وضع كثير من الدول التي يمسها شأن الغزو، وهو وضع مُستسلم للإرادة الأمريكية من ناحية عملية يقودها من هذه الناحية نفسها إلى أن تكون في خندق واحد مع أمريكا ضد العرب والمسلمين، وعليها أن تتحمل نفقات الحرب ، وتفتح لتسهيلاتها كل أراضيها.
وهذه هي أمة العرب والمسلمين في القرن الخامس عشر الهجري فليشهد التاريخ، والله خير شاهد.
ومع هذا يقال لك: لا تطالب أبداً بأي تغيير سلمي يمكن أن يحسن من وضع الأنظمة والحياة السياسية المعاشة، لأن الموجود هو الأفضل والأحسن على الإطلاق، أو أن التطوير لا تحتمله الأجيال الحاضرة ويحتاج إلى أن تتعاقب أجيال وأجيال قبل أن يبدأ التطوير مساره.
وداخلياً قالت الصحافة أن مشروع قانون السياحة سيعرض على التجار قبل أن يمر بالمراحل الرسمية المعتادة في طريقه إلى أن يصبح قانوناً ساري المفعول، وهو أمر حسن، ولكن هل سيمر بخبراء في الشريعة كذلك ليوائموا بينه وبين أحكامها لأن الإسلام الذي يتحتم عقيدياً عند كل مسلم أن يكون المصدر الوحيد للتشريع هو دستورياً مصدر رئيس من مصادر التشريع؟!
من جهة أخرى للمواطنين البحرينيين ولادةً وآباءً وأجداداً وأقارب آخرين ممن أُبعدوا إلى الخارج بمن فيهم المتواجدون في الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن يتوقعوا، ونتوقع معهم أن يعودوا للوطن من عودة ملك البلاد من زيارته الموفقة إن شاء الله إلى إيران، إلى الوطن العزيز إنهاء للظروف الصعبة التي يعاني منها أولئك المواطنون، في حنينهم للعودة للوطن الذي تربوا فيه صغاراً وترعرعوا على أرضه حتى صاروا كباراً، وليس ينسونه ليلاً ولا نهارا.
اللهم صل وسلم على حبيبك المصطفى وآله، أهل الوفاء واحفظ بلاد المسلمين من كيد الأعداء، وردّ كيدهم في نحورهم، وادفع عن المؤمنين أذاهم. اللهم واغفر لنا ولوالدينا وأهلينا وذوي الحقوق الخاصة علينا من أهل الإيمان والإسلام، ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين يا غفور يا رحيم، يا تواب يا كريم.
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}