خطبة الجمعة (51) 9 محرم 1423هـ – 22-3-2002م
مواضيع الخطبة:
سوء الظن – عاشوراء حلقة لوصول بين الماضي والمستقبل
عاشوراء فيها الوعي الرسالي النقي، والقيادة الإلهية المرضية، وإخلاص القائد للدين والأمة والإنسانية،وضرب المثل الأعلى للعطاء المفتوح على كل التضحيات السخية الشريفة من قبل القيادة، والسمو الأخلاقي في المحنة
الخطبة الأولى
الحمد لله خير من سُئل، وأكرم من قُصد، وأجود من أعطى. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فاز من وحّده، وخاب من جحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله }…بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ{33/ التوبة. الله صلّ وسلّم عليه وآله أجمعين.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، وأن يكون سباقنا في طاعته، وتنافسنا في سبيل دينه، وطمعنا في مرضاته، وأن نسدّ أبواب الفتنة بين المؤمنين ما وجدنا لذلك سبيلا، وأن يكون المسلم مع أخيه المسلم يدا على الباطل، والمؤمن مع أخيه المؤمن كالبنيان المرصوص، وأخوك من عمل بطاعة الله وإن بَعُد، وليس أخ لك في التعاون على الخير والبر والتقوى من عصى الله وإن قَرُب، وإن جند الشيطان ليلتقون على الشر على تباعدهم، فكيف بجند الرحمن لا يلتقون على الخير على تقاربهم؟!
ألا فتوحّدوا على الخير تجدوا من الله عوناً وتوفيقاً، ولا تتفرّق بكم السبل عن سبيله فتبوء بخسران وعذاب.
أما بعد فمما يبتلي به المؤمنون فيما بينهم سوء الظن الذي يفرّق الجماعة، ويزرع الفتن، وكلما كاد بنيان أن يتمّ أتى عليه سوء الظن فحطّمه، وكثيرا ما يعترض هذا البلاء بناء الخير في أول الطريق فلا يقوم حجر على حجر، فما أحرى بالمؤمنين أن يكونوا من سوء الظن على حذر، هذا والموارد ليست واحدة، فلا يكون الحكم في سوء الظن واحدا، فربما قَبُح سوء الظن في موقع وحَسُن في آخر، ربما كان حسن الظن خلقا كريما، وربما كان شيئا مشينا وقصورا يمنع من الكفاءة.
وهذه نصوص ووقفة في الموضوع عاجلة:-
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ…{12/ الحجرات.
فهمٌ للآية الكريمة يذهب إلى أنه وإن كان ما هو إثم هو بعض الظن، وليس كل الظن، ولكن في سبيل أن يجتنب هذا الإثم الكبير يجب أن يجتنب من الظن الكثير، فنحن نجتنب كثيرا من الظن لئلا نقع في إثم كبير يتمثّل في بعض الظن.
والظن أمر من فعل النفس لا نملك إلى منعه سبيلا، قد لا نملك إلى منعه سبيلا إلا بمعنى خاص يأتي ذكره، وما لا يملك الإنسان بإرادته أن يمنعه أو يفعله لا يتحمّل مسؤوليته أمام الله سبحانه وتعالى.
سوء الظن قد يحصل لك قهراً، ولكنّ سوء الظن بالمؤمن وإن حصل قهرا يجب عليك أن لا تُرتِّب عليه أثراً، فتذهب بسمعته في الناس، وتكيد به، لأنك أسأت الظن به، ما دام الظن السيء قلبيا لم يتعدَّ إلى ترتيب الأثر فأنت قد لا تتحمّل مسؤوليته، أما إذا رتّبت عليه الأثر وهو ظنّ رتّبت عليه أثراً سيئاً فأنت هنا تتحمّل المسؤولية.
تفعيل مقدمات سؤ الظن مسبب له:
نعم، نحن نملك من جهة أخرى سبيلا لمنع الظن السيئ بمعنى أن لا نفعل المقدّمات التي تسببه، قد يرتكب الإنسان بعض المقدّمات بأن يبغض فلانا، بأن يغش فلانا، بأن يتنافس مع فلان، إذا تنافست مع فلان على الدنيا كان ذلك سبيلا لسوء الظن به، فمن تنافسي معه على الدنيا ومن بغضي لأن يتبوأ موقعا يدخلني سوء الظن بأقواله وأفعاله وشخصيته وهنا أتحمّل وزر هذا السوء من الظن لأنّي فعلته بفعل مقدّماته.
ضع أمر أخيك على أحسنه – أخيك المؤمن – حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا.
من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق فلا يسمعنّ فيه أقاويل الناس، أما أنّه قد يرمي الرامي وقد تخطئ السهام، كما يرمي الرامي الطير والحيوان يريد اصطياده فتخطئ سهامه كذلك يرمي أحدنا الآخرين بكلمات هي قد لا تكون مصيبة، فلا تدخل كل كلمة سوء تسمعها من أحد عن أخيك نفسك لتكوِّن قناعة لك في داخلك فإن ذلك من الغفلة، وإن ذلك من السذاجة.
إذا كان المؤمن قد بدا منه ما يبرهن على إيمانه، عرفتَ منه الخير، لا ترفع يدك عن ظن الخير بأخيك الذي عرفت منه خيرا حتى ينقلب علمك هذا إلى علم معاكس.
اطرحوا سوء الظن بينكم فإن الله عز وجل نهى عن ذلك، اطرحوه عملا، واطرحوه بأن تمتنعوا عن المقدمات التي تُحصِّلُه.
فهنا أصل؛ الأصل بين المؤمن والمؤمن الآخر هو عدم سوء الظن بل حسن الظن به.
الآثار المترتبة على سؤ الظن:
سوء الظن له آثار، سوء الظن يفسد الأمور، ويبعث على الشرور. البنيان الاجتماعي يفسده سوء الظن بين من يتحدون على هذا العمل، ومن يعزمون على هذا العمل، سوء الظن يثير فتنا غلاظا، ويشعل نار الفتنة إشعالا، سوء الظن مع التسرُّع في ترتيب الأثر يعني فتناً كبرى فلنجتنب ذلك.
إنّهُ هناك جناية على النفس أنت مسؤول عن شخصيتك وسمعتك، كما أنت مسؤول عن عقلك وجسمك وسلامتك، وينبغي للمؤمن أن تكون سمعته وشرفه هو أكبر في الحرص عليه من جسده ومصالحه المادية، هذه الشخصية والسمعة والشرف أنت مسؤول عنها.
الكلمات المنقولة عنهم عليه السلام تقول: (من وقف نفسه موضع التهم فلا يلومنّ من أساء الظن به). الآخرون مطالبون بحفظ سمعتك، والحفاظ على شرفك وأنت أولى بهذه المسؤولية وتحمّلها من غيرك.
(من دخل مداخل السوء اتُّهم، من عرض نفسه التُّهمَ – جعل التهمة تعرض نفسه – فلا يلومن من أساء به الظن) على أن لحسن الظن مواقع، ولسوء الظن مواقع فلا ينبغي الخلط، كلّ في موقعه.
ترتيب أثر على سؤ الظن يخضع لمعايير محددة:
(احترسوا من الناس بسوء الظن).
التفتوا لتعابير الأحاديث في مورد حسن الظن تعبّر الأحاديث بالأخ، أن لا نسيء الظن بالأخ من أخواننا، والمؤمنون إخوة، في مورد الاحتراس بسوء الظن التعبير بكلمة الناس، (احترسوا من الناس بسوء الظن) الآخرون غير المؤمنين ومن لم تجرِّب عليك أن تحترس منه بسوء الظن، الإيمان يوفِّر درجة من الموضوعية لحسن الظن، والإيمان مع التجربة يؤكّدان أرضية يقوم عليها حسن الظن، أما الجهل بالآخرين يثلم من هذه الموضوعية، عدم الإيمان هو موضوع لسوء الظن.
أقرأ الحديث حسبما جاء بضبطه من البحار وإن كانت فيه ملاحظة (إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن يُظنّ بأحد سوءا حتى يُعلم بذلك منه وإذا كان زمان الجور فيه أغلب من العدل فليس لأحد أن يظنّ بأحد خيرا ما لم يعلم ذلك منه) الزمان زمانان؛ زمان يسود فيه العدل، يحكم فيه الإيمان، تتغلغل الأخلاقية الإسلامية الإيمانية إلى أعماق النفس تُطهِّر درنها، تشيع فيها حب الخير وتقوى الله، في مثل هذا الزمان يأتي البناء على الظن الحسن بالناس في المعاملات التجارية ومختلف المعاملات الاجتماعية، فيمن تخطبها، فيمن تقبل خطبته وما إلى ذلك، أما الزمن الثاني وهو زمن الجور، وزمن الجور زمان الفساد، فساد الضمير، وفساد الخلق، وخراب النفس البشرية، في زمان الجور؛ في زمان تتردّى فيه الأخلاق الإنسانية في ظلّ الحكم الجائر يأتي البناء على سوء الظن، القاعدة في الغالب هي سوء الظن إلا في موارد التجربة، وفي موارد امتحان الإيمان.
(لا تثقن بأخيك كل الثقة فإن صرعة الاسترسال لا تستقال) وهذه كلمة تخاطب من تسود عقليته الغفلة، ومن يسرف في حسن الظن إلى حد أن موقفا واحدا من حسن السلوك يكفيه لأن يستأمن صاحبه حتى عرضه، والاستئمان على العرض أخطر شيء.
من هذه الغفلات ما يفعله الكثيرون من الدفع بالفتيات والنساء من مختلف الأعمار مع رؤساء القوافل للحج للزيارة وما إلى ذلك، إنه استرسال مع حسن الظن والثقة إلى حدٍّ فيه تجاوز خطير. لابد من تجربة كافية ولا بد من احتياط شديد خاصة في مسألة الأعراض.
اللهم صل وسلم على حبيبك المصطفى، وآله الشرفاء، واغفر لنا، وتب علينا إنك أنت التواب الكريم. واغفر لإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن كان له حقّ خاص علينا من أهل الإيمان والإسلام وارزقنا حسن الخلق، وسلامة النية، وصدق اليقين، وأصلح أحوالنا كلها، وادفع عنّا كيد الشيطان الرجيم، وجنده الغاوين، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
(قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)6/ الكافرون
الخطبة الثانية
الحمد لله موضع كلّ شكوى، سامع كل نجوى، عالم كل خفية، دافع ما شاء من بلية، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هادي من لا هادي له، مؤوي من لا مؤوي له، عليم خبير، سميع بصير، على كل شيء شهيد. وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله عرج بعبوديته إلى الكمال، وهدى برسالته الأنام، ما ضلّ وما غوى، وما كان ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
اللهم صلّ وسلم على البشير النذير، والسراج المنير، خاتم المرسلين محمد وآله الطاهرين. اللهم صلّ وسلم على أمير المؤمنين، وإمام المتقين، علي وصي رسول رب العالمين. اللهم صل وسلم على كريمة الرسول، فاطمة الزهراء البتول. اللهم صل وسلم على الحسن الزكي. اللهم صل وسلم على الحسين الشهيد الأبي. اللهم صلّ وسلم على الأئمة الهادين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الهداة المهديين.
اللهم صل وسلم على وارث علم النبيين، والموعود بالنصر المبين، الإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن المنتظر.
اللهم عجِّل فرجه، وسهّل مخرجه، وانصره نصراً عزيزا، وافتح له فتحا قريبا، وافتح به على المؤمنين المكروبين المقهورين المضطهدين، يا علي يا عظيم، يا رحيم يا كريم.
اللهم المؤمن بولايته، الممهد لحكومته انصره وأعزّه، وامنع عنه شرّ الأشرار، وكيد الكفار، وانصر وأيّد وسدّد خطى فقهاء الأمة وعلمائها، ووفقهم لخدمة دينك، والوفاء بأماناتك يا معين يا كريم.
أيام عاشوراء رَواء لا عطش بعده:
أما بعدُ فهذه أيام عاشوراء؛ أيام الصلابة الإيمانية التي لا ترتدُّ أمام رهبة الموت، وصنوف الأذى، وألوان المحن، وجسامة التضحيات، وعربدة الظلم والقهر، لأنها تنطلق من إرادة الصعود على طريق اللقاء بالله سبحانه، لقاء روح بهرها أنها مؤهلة لأن تكبر قبسة النور فيها أو تتبلور هي شديدا عبر حركتها الصاعدة، وانفتاحها بما قُدِّر لها من طاقة ذات حدّ محدود، على النور الإلهي غير المحدود وهذا هو معنى أن تلتقي بالله، وإلا فلا وصول من ممكن إلى المطلق الذي لا يحدُّه شيء من الحدود.
هذه أيام عاشوراء؛ أيام عزّة بالله لا تُقهر، وإباء لا يُذلّ، وكرامة لا تهون، أيام هيئها الله سبحانه لهذه الأمة، تعبُّ منها الشعور بالعزّة والكرامة والشموخ، وفخر الانتماء، وتتوضأ فيها نفسية الإنسان المؤمن من رواسب الغزو الإعلامي لداخل النفس لغرس المهانة والضعة والانسحاق والعبودية للعبيد، هذه أيام الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وآله، ومجسد فولاذية شخصيته الكريمة، وثباته، ورباطة جأشه، وفوران غيرته على دين الله وحرماته وحدوده، ورأفته بالمؤمنين، ومكابرته للظلم والظالمين، أيام تفتح لنا مدرسة الحسين عليه السلام على كل كنوزها ليعبّ منها الفكر والروح، وتتربى في أجوائها الإرادة، ويصلب العزم، ويترسّخ الإباء، وتتصحّحَ النية، ويشتدّ الالتفاف بالقيادة التي يرضاها الله سبحانه وتعالى.
بعاشوراء تحيا الأمم:
ويتساءل المتسائلون لماذا الاهتمام بعاشوراء؟
والجواب: أننا محتاجون لكل ما في عاشوراء، وأن في عاشوراء كل ما نحتاجه. عاشوراء فيها الوعي الرسالي النقي، والقيادة الإلهية المرضية، وإخلاص القائد للدين والأمة والإنسانية، وضرب المثل الأعلى للعطاء المفتوح على كل التضحيات السخية الشريفة من قبل القيادة، والسمو الأخلاقي في المحنة، والمضي على الدرب المختار برشد إلى النَّفَسِ الأخير، والقرار الحديديُّ المدروس والقائم على التقوى، وفيها بصيرة المواجهة السياسية والعسكرية، وفنّ اختيار التضحية في وقتها ومختلف ظروفها المناسبة.
وفي عاشوراء حنان القيادة وشفقتها، وعشق النخبة والقاعدة وإن كانت صغيرة، وذوبان الجميع في الهدف، وتنوّع المضحين، واجتماع ألوان التضحيات، ووضوح الهوية الإسلامية النقية في الكلمة والموقف عند الكبير والصغير.
والدخول في معركة لا يرجى فيها نصر عسكري، لا عن تهوّر وانفعال وإنما من منطلق البصيرة الدينية المحكمة، والرأي السياسي الدقيق، والرؤية المستقبلية الصادقة، كلّ ذلك وغيره الكثير الكثير في كربلاء، وكل ذلك نحتاجه في صحراء هذه الحياة، وفي ظروف محرقة القيم، وقتل الرجولة وتخويف الأمة، وتمييع إرادتها، وشلّ عزيمتها، وإسقاط ثقتها بنفسها، هذه المحرقة التي تُشعلها حضارة المادة، والتخريب الذي يُمارس من خارج الأمة وداخلها.
ويتساءل متسائلون ثانية: لماذا التركيز على الإمام الحسين عليه السلام وعاشوراء والرسل كثيرون وكلهم مدارس عملاقة، والأولياء متعددون وكلهم عطاء؟
وعلى هؤلاء المتسائلين أن يلتفتوا إلى الوجوه التالية لهذا التركيز على خصوص الحسين عليه السلام وخصوص عاشوراء:-
أولاً: عاشوراء حلقة لوصول بين الماضي والمستقبل:
الثورة الحسينية هي خاتمة الثورات المعصومة في تاريخ الأنبياء والمرسلين عليهم أفضل الصلاة والسلام، وهي الحلقة الواصلة بين ثورات هذا الخط سابقا، وثورة الإمام المنتظر عجل الله فرجه المرتقبة من الثورات التي فجّرها ويفجّرها المعصومون عليهم السلام ويتولون قيادتها.
وهذا يعطيها ومن خلال تجسيدها لكل سابقاتها من ثورات هذا الخط الكريم هدفا وأخلاقية وإخلاصا، وصدقا وثباتا وقيما أهمية في ذاكرة الحاضر، وفيما يعنيه الاهتمام بالمستقبل. الالتحام بكربلاء التحامٌ بكل ثورات الرسل والأنبياء. الاسترفاد بكربلاء التي تتضمّن كل الدروس لثورات الأنبياء وتحافظ على ميراث الأنبياء استرفاد من كل الرسل والأنبياء. الارتباط بكربلاء ارتباط بآخر حلقة من حلقات الرسالة المتنزلة من السماء، وبآخر كلمة وحي تنزّلت على رسول الله صلى الله عليه وآله الارتباط بهذا…. امتداد لخط الأنبياء، كربلاء تتمثل قيم كل الرسالات، وتتمثل ثورات الأنبياء كُلَّها، وبذلك يكون البقاء لكربلاء هو بقاء لتاريخ الإسلام الذي جاء على يد آدم وامتدّ حتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنك حين تقف بالرسالة عند النبي صلى الله عليه وآله بعطاءات الوحي، بمدرسة الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وآله، أو حتى عند أمير المؤمنين عليه السلام تبقى ثلمة، سيأتي ذكر هذه الثلمة.
الإسلام كاملا نستطيع أن نتوفر عليه بالارتباط بمسيرة الأنبياء من أوّلهم إلى آخرهم حتى نصل إلى الإمام السبط أبي عبد الله عليه السلام ونرتبط به.
ثانياً: عاشوراء بقاء للتشريع وحفظ لصفوه:
هذه الملحمة الكبرى توّجت جهاد أمير المؤمنين عليه السلام لحماية الإسلام من التحريف السياسي الداخلي المستتبع للتحريف الشامل، وسحبت البساط من تحت الشرعيات المزعومة كذباً على الشريعة، نلتفت هنا، وإذا كان أمير المؤمنين عليه السلام قد أعطى الدرس الخالد في مقاتلة البغاة فقد أعطت ثورة كربلاء الدرس الآخر الخالد الذي يحتاج التشريع إلى أن يغنى به عمليا ليبقى حجة لا تنكر وهو مقاتلة الطغاة.
فهناك ثلاثة ألوان من القتال لابد أن يضمّها التشريع بين دفّتيه، إذا نقص التشريع لونا من هذه الألوان الثلاثة كان مثلوماً.
فهناك ثلاثة ألوان من القتال، – وثلاثة ألوان من الحفاظ على رسالات السماء، ثلاث محطات إذا أُغفلت محطة واحدة منها ضاعت كل رسالات السماء، إحدى المحطات الثلاثة هي محطة كربلاء – قتال على التنزيل، قاد مهماته الضخمة رسول الله صلى الله عليه وآله في وجه الوثنية والكفر والشرك المناهض لأصل الإيمان والتوحيد، وهذا لا ينكره المسلمون، ويأخذون به ويبنون عليه، وقتال على التأويل منه قسم تحمّل مهماته الصعبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في وجه البغاة الذين تمرّدوا على الشرعية الحقيقية، وحرفوا مفاهيم الكتاب وأحكامه ومعانيه، وهو القتال الذي قام به الإمام الحسن عليه السلام كذلك من موقع الحكم، ومن خلال مركز السلطة. وهذا القسم أيضاً يبني عليه المسلمون ولا ينكرونه، بل تستفيد منه الأنظمة الفاسدة؛ استفادة فيها تزوير، أما القسم الآخر فهو قتال الطغاة كيزيد بن معاوية الذي فرض نفسه على الأمة بقوة الحديد والنار من غير أي اعتبار لإرادة الأمة وإسلامها، وهو لون من القتال يحتاجه خط الرسالات للإبقاء على نقائه، وحماية له من التحريف من موقع القوة التي تحكم باسمه، وتخطط ضدّه هذا التحريف الذي بقي إلى اليوم يهدد الإسلام في أصل كيانه، وقد أوجد الحكم الأموي والعباسي رأيا فقهيا بحرمة الخروج على السلطان الجائر الذي لا يستمد شرعيته إلا من تغلُّبه بالقوة، وفرض سلطانه بالبطش، بلا رجوع منه لدين الأمة ولا رأيها.
مسألة مواجهة الحكم اليزيدي، الحكم الأموي والعباسي تحمّل مهماتها الإمام الحسين عليه السلام بكل كفاءة وجدارة، وهو درس لم يعطه الإسلام قبل عملياً، لم يتأكد هذا التشريع على يد معصوم قبل الإمام الحسين عليه السلام فكان لابد أن يتأكّد.
وهذه المحطة، وهذا التحدّي؛ تحدي الإسلام من موقع السلطة الجائرة هو التحدي الذي سيستمر مع الإسلام دائماً وأبدا حتى يأتي القائم عجل الله فرجه، تجدون أن مواجهة الكفر غير منكرة عند المسلمين وفقهاء المسلمين وحكام المسلمين ولو نظريا، وأن مواجهة البغاة أمر معروف أيضا عند كل المسلمين، أما مواجهة الحكم غير الشرعي كالحكم الأموي والعباسي فهي محل اختلاف وإنكار برغم ما سجّله دم الإمام الحسين عليه السلام من حجة شرعية بالغة لا ينكرها من استسلم الإسلام وسَلُمَ قلبُه.
إلا أنه لا يمكن له أن يصمًد إلى الأخير، وصار يذوب شيئاً فشيئاً أمام المثل الحي الصارخ لهذا اللون من الجهاد الذي مارسه الإمام الحسين عليه السلام وأجاد ممارسته على أكمل وجه وأوضح صورة الشيء الذي – نلتفت هنا – لا نعرف له مثالا في تاريخ الرسالات وإن وُجد له مثل فهو نادر جدّاً.
وإنّ إحياء ذكرى عاشوراء بالدرجة القوية والنشاط الديني الملوّن المكثّف بالصورة الملفتة للنظر يحتاجها بقاء التشريع الذي أكّده الإمام الحسين المعصوم عليه السلام – نقول هذا ونحن نردّ على المتسائلين عن التركيز على ثورة الإمام الحسين عليه السلام وإحيائها – بِكَمٍّ هائل من التضحيات والمواجهة العنيدة نظرا لحساسية هذا التشريع من ناحية عملية، ولاجتماع مصالح الطغاة من خارج الأمة وداخلها على تزويره وتغييبه.
ثالثاً: الحسين قدّم كلّه فخلد:
كربلاء تبرز لنا لونا خاصا من الدفاع المقدس، وهو الدفاع الذي لا يُرتقب له أن يُحقق نصراً عسكرياً عاجلا، وإنما يقوم على يقين الشهادة والتضحية بالنفس والأهل لإيقاظ إرادة الأمة وبعث فاعليتها، وقد كاد الشهيد الصدر أعلى الله مقامه أن يمارس هذا اللون من الكفاح بالخروج بشعب العراق من حالة الركود في وقت كاد الإسلام هناك أن يُغيَّبَ تماما من الساحة وهو رحمه الله بعد أن عدِل عن هذا الأسلوب في صورته الصارخة إلا أنّه قد أخذ به نفسه بصورة أقلّ بروزا وظهورا وصخباً، وكان ذلك منه اقتداءاً بالإمام المعصوم عليه السلام.
رابعاً: عاشوراء صون لجط الإمامة والنبوة:
النصوص والسيرة العملية لأكثر من معصوم التي ركَّزت على إحياء ذكرى عاشوراء دون غيرها، وأعطتها قيمة خاصّة ولعل ذلك بلحاظ أن الخطر الأكبر الذي كان سيواجه الإسلام في مسيرته التاريخية الطويلة في مستقبل الأجيال إنما هو من الانحراف عن خط الإمامة الصحيح، وكثرة التزوير، وتزوير الشرعية السياسية أو المخالَفة الصريحة لهذه الشرعية من قبل الوضع السياسي في الأمة، وأن خط الأنبياء والرسالات السماوية إنما يتهدده في مسيرته الطويلة هذا التحريف في مسألة الإمامة من الداخل بما لا يتهدده غيره، وذلك لاجتماع الدواعي والأطماع الدنيوية على اقتضائه، ولم تسلم حتى عصمة الأنبياء والعدل الإلهي عن الإنكار بانحراف خط الإمامة، ثم إنه ليُعجب من الاستياء والتبري من التحزّن بمصارع أولياء الله على أيد أعداء الله، واتخاذ أيام من أيام ذكريات فجائعهم موسما لإظهار السخط على الظلم والعدوان على الدين، ولشد الناس لخط الإسلام ونبيه صلى الله عليه وآله وتركيز حبه وحب آله المعصومين عليهم السلام، واستنهاض الإرادة الإيمانية واستثارت الضمير الصالح لتقريب الناس إلى الفضيلة، والبعد بهم عن الرذيلة، وهو موسم وإن كان باسم الإمام الحسين عليه السلام إلا أنه يحاول أن يغطّي ما يمكن من جنبات الإسلام المتعددة، ويستنير في طرحه بثقافة القرآن والسنة وتعاليم الرسالة على يد الأنبياء والرسل من غير استثناء وهي ثقافة تتجلى واضحة في مواقف الإمام الحسين عليه السلام وكلماته.
إنّ هذه الغيرة على الأنبياء والرسل التي يثيرها إحياء ذكرى الإمام الحسين عليه السلام عند البعض يبرأ منها كل الأنبياء والرسل الذين يسرّهم إحياء خطهم الكريم في موسم ديني حافل يعقد باسم ريحانة رسول الله الأعظم صلى الله عليه وآله، وأحد سبطيه وحبيبيه، ومحيي أمره.
والأعجب أن يأتي الاستياء من إحياء ذكرى الحسين عليه السلام بما يعنيه من إحياء الإسلام بصورة واضحة من بعض العلماء الذين يأخذون بالقياس والاستحسان، وهما – أي القياس والاستحسان – دليلان إذا صحّا أدّيا حتماً لتأكيد هذا الإحياء لما فيه من العوائد الكبرى على الإسلام.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وارزقنا الهدى، ووفقنا للتقوى، ومخالفة الهوى، واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن علّمنا علماً نافعا وكل ذي حقّ خاص علينا من المؤمنين والمؤمنات ولعموم أهل الإيمان فأنت أرحم استُرحم، وأكرم من سُئل، وأنت على كل شيء قدير.
“إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)” النحل.