خطبة الجمعة (7) 24 صفر 1422 هـ – 18-5-2001 م
مواضيع الخطبة:
جهاد النفس – الثقافة
النجاح في بعض المعارك خارج النفس لا يضمن لنا النجاح في المعركة مع النفس صحيح إن نجاحك في موقف من المواقف أمام شهوة الجنس ، أمام أغراء المال ، أمام إغراء المنصب ، أمام الرهب ، أمام الرغب ، يعطي صموداً لك في معركتك مع النفس ويجعلك تقف موقفاً ناجحاً في خوض المعركة مع النفس
الخطبة الاولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق فسوّى ، والذي قدّر فهدى ، والذي أمات وأحيا ، والذي أمرض وأشفى . أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يميت الأحياء ويحيي الموتى ، ويغني الفقير ويفقر الغني ، ويعز ويذل ، وتجري المقادير بمشيئته ، وتحول الأحوال ، ويتعاقب الليل والنهار ، وتنضبط مسارات الأشياء ، ويتم تصريف الأمور في الخلق كله بإرادته ، لا يخرج شيء عن سلطانه ولا يُخترق شيء من قوانينه ، ولا تبديل لسننه ، ولا غنى عن مننه . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أدّى ما حمّل ، وبلّغ ما أومن غير قاصر ولا مقصر ، ما تجاوز وما تقوّل ، وما غيّر وما بدّل ، وما أنقص عن عمد ولا نسيان ، وما تخلل دعوته الهوى ، وما حاد يوماً عن الهدى .
اللهم صل وسلم على البر التقي النقي الزكي الهدي المرضي محمد رسولك وحبيبك المصطفى وعلى آله المنتجبين المهدين بهداه الناهضين بأعباء الإمامة بعده ، الداعين للعباد إلى نهجه .
اللهم اغسل ذنوبنا بمغفرتك ، واستر عيوبنا بعفوك ، وكفر عنا سيئاتنا برحمتك ، وقولنا برعايتك وكفايتك ، وسدّدنا بهداك ، وباعد بيننا وبين الخطايا بعصمتك يا وليّ الأمر كله يا أرحم الراحمين .
عباد الله اتقوا الله والزموا طريق طاعته ، وفروا بأنفسكم عن مواطن معصيته فإنه ليس أصدق من الله وعدا ، ولا أكثر جزاء ، وأعظم أجرا . وليس أقرب منه وعيداً ، وأشد أخذاً ، وأرعب عذابا .
بسم الله الرحمن الرحيم * وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ *
أهم جهاد هو جهاد النفس وهو الجهاد الأكبر وإن النفس بين جنبينا وتحدثنا بسوء ليل نهار وفي كل لحظة من لحظاتنا الشيطان من جهة ، وتزيين النفس وضعفها من جهة .فالنفس شهواتها دوافعها المادية التي تضغط في اتجاه الانحراف ، وتأخذ بخطى الإنسان بعيدا عن الجادة ، وعن طريق الله سبحانه وتعالى . النفس طفل في داخلنا ، طفل كثير الدلال ، طفل كثير المشتهيات ، طفل لا يملك رؤية صائبة ، طفل طائش ، طفل دائماً يحتاج إلى التوجيه ، دائماً يحتاج إلى التبصير ، دائماً يحتاج إلى الهداية ، دائماً يحتاج إلى الضبط ، دائماً يحتاج إلى المراقبة ، دائماً يحتاج إلى المحاسبة .
هذه النفس إما أن تنقذها من النار حين تستحضر عقلك وتستحضر ضميرك وتستحضر دينك في المواقف المختلفة ، عند الرهب والرغب ، عند الشدة والرخاء ، عند الفقر والغنى ، عند المفاتن والمشتهيات ، عند المنعطفات الخطيرة . حين يستحضر أحدنا عقله ودينه وضميره ويعطي الفاعلية لهذه الأبعاد من ذاته متوكلا على الله سبحانه وتعالى متعلقا برحمته مستمطرا عونه فإنه لا يقف ضعيفا أمام النفس ومشتهياتها وضغطها و التي يقف معها جند كثير ، جنّدهم الشيطان وأتباعه وأبناؤه . وشياطين الجن والإنس كثير ، والخطط التخريبية من الإعلام العالمي الفاسد وما يستهدف الإنسان المسلم في ضميره ودينه وتفكيره وسلوكه ، لا يعد ولا يحصى .
لكن كل هذا الجند يكون ضعيفاً ، وكل هذا الجند يمكن أن يرتد خائباً حين يستحضر أحدنا عقله وضميره وفطرته وهداه وحين يستحضر حكم الله و يستحضر مراقبه الله حين يتذكر جلال الله و يتذكر جمال الله و يتذكر عظمة الله حين يستحضر الحصيلة الكبيرة من الصبر والعظات التي تراكمت عنده طوال حياته الخمسين أو طوال حياته الستين أو حتى طوال حياته العشرين أما أن أحدنا حين يستحضر كل ذلك يستطيع أن يملك زمام نفسه ويستطيع أن يضع نفسه على الطريق الصحيح ويستطيع أن يصعد بهذه النفس للتخلق بأخلاق الله والتربي بتربية الله ولأن تعيش من جمال الله ما يغنيها وما يشغلها . و يرتفع بها عن كل التفاهات و يشغلها عن كل جمال ادعائي مزخرف .
أيها الأخوة المؤمنون لأحوج ما تحتاج إليه في معركة الذات وفي المعركة الحياتية الشاملة في مواجهاتنا لكل طرف من أطراف الحرب التي تخوضها الذات الإنسانية في هذه الجولة من الوجود لأحوج ما نحتاج في كل معاركنا أن نملك نفساً منضبطة ، أن نمتلك نفسا تترفع على الشهوات أن نمتلك نفساً تتفوق على الضعف ، تقف مع العقل ، تقف مع الضمير تقف مع الدين حيث يشير الضمير ، و يرضى الضمير ، وحيث يشير العقل ، وحيث يريد الحكم الشرعي ، وحيث يقضى الله سبحانه وتعالى . لأحوج ما نحتاج إليه هو أن نمتلك هذه النفس التي تربت على خلق الله ، وتمثلت من جمال الله عز وجل ومن جلال الله سبحانه وتعالى ما يجعلها لألاءة ، وما يجعلها نظيفة وما يجعلها مترفعة , وما يجعلها شامخة , وما يجعلها قادرة , وما يجعلها مريدة بإرادة الخير . لنا معركة مع الذات ، لنا معركة مع الولد ، لنا معركة مع الزوج ، لنا معركة مع زينة الحياة ، لنا معركة مع أعداء الله في الأرض ، لنا معركة مع كل هذه الأشياء وغيرها . لا نستطيع أن نخرج بنجاح في أي معركة من هذه المعارك وغيرها إلا أن نربي النفس ، إلا أن نهذب النفس ، إلا أن نقّوم النفس ، إلا أن نرتفع بمستوى النفس ، ولن نخسر في أي معركة من المعارك ، ولن ندحر في أي معركة من المعارك ، ولن نتراجع في أي معركة من المعارك ، وسنكون أصلب من الجبال ، اشمخ من القمم حين تنقاد النفس لقضاء العقل ، وحين تنقاد النفس لإرشاد الضمير ، وحين تسلك النفس طريق الله ، والنفس التي تسلك طريق الله ليست إلا المترفعة ، ليست إلا النفس المرباة ، ليست إلا النفس التي ربيت على التقوى ، ربيت على الهدى ، ربيت على الخير ، ربيت على الصلاح ، ربيت على مماشاة الحكم الشرعي والصبر عليه .
أيها الأخوة المؤمنون : لقد أوصى الإسلام بتربية النفس وبمجاهدة النفس بما لم يوصي من مجاهدة الغير ، ذلك ليس استسهالاً بمواجهة الغير ، لا من حيث القيمة ، ولا من حيث ما يتطلب الموقف من صمود وشموخ ورجولة ، وإنما ربما كان السر في ذلك هو أن من نجح في معركته مع النفس نجح في كل معركة أخرى ، وأن النجاح في بعض المعارك خارج النفس لا يضمن لنا النجاح في المعركة مع النفس صحيح إن نجاحك في موقف من المواقف أمام شهوة الجنس ، أمام أغراء المال ، أمام إغراء المنصب ، أمام الرهب ، أمام الرغب ، يعطي صموداً لك في معركتك مع النفس ويجعلك تقف موقفاً ناجحاً في خوض المعركة مع النفس ، وما من نجاح في معركة خارجية إلا وراءه نجاح في معركة الإنسان مع النفس ، أنا لا أستطيع أن أقف موقف مخلصاً لله سبحانه وتعالى في أي معركة من المعارك حتى انتصر على النفس ، وأما المواقف التي ترى كبيرة وترى عظيمة وترى فيها الصمود وترى فيها الرجولة من غير ما يكون وراءها إخلاص ومن دون أن يكون وراءها نفس راقية نقية ، فهذه على النفس وليس للنفس ، وهذه إنما تمثل في الحق هزيمة للنفس ، لا انتصاراً لنفس ولا انتصار على النفس ، * وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ * .
ليس عليك إلا أن تضع خطوتك على الطريق ، وأن تعزم العزم الأكيد الراسخ ، على أن تخوض معركة جادة مع النفس وأن تبدأ هذه المعركة عملياً ، حينئذً يتولى الله أمرك ، حينئذ يقود الله خطاك ، حينئذٍ بأخذ الله عز وجل بيدك ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )هداية تعم العقل ، وتعم النفس ، تعم الضمير تعم كل جنبة من جنبات الذات التي لها تأثير في الفعل فيأتي الفعل صائباً ، ويأتي الفعل رشيدا ويأتي الفعل مطابقاً لإرادة الله سبحانه وتعالى . ليس من عذر أحد أن تغلبه نفسه ، لأن الله عز وجل أعطانا من الأدوات والإمكانات من الوسائل , ومن الهدايات ، ومن الدروس والصبر والعظات ، والآيات البينات ما يكفي عدة لأن نخوض به معركة حامية مع النفس . عندكم الضمير ، عندكم الفطرة النقية عندكم العقل الهادي ، عندكم مخزون الرسالات ، عندكم آيات الكون ، عندكم آيات الأنفس ، عندكم ما ترون من حياة وموت ، عندكم ما ترون من فقر وغنى ، عندكم ما ترون من مرض وشفاء ، عندكم ملايين الآيات والبينات ، وهذا كله يمثل عدة ناجحة وكبيرة ، ورصيداً ضخماً في خوض المعركة مع النفس .
اللهم اجعلنا في درعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد ، وبصّرنا بكيد أعدائنا ، واجعلنا ممن لا ينخدع بتزيين الشياطين من الجن والإنس ، ولا يستبدل عن هداك بضلال أعدائك ، ولا عن طريق دينك وأخلاق أوليائك ، برذائل الضُلاّل من شرار خلقك ، والمنحرفين عن صراطك ، والكائدين بعبادك وإمائك .
اللهم أعد للأمة المؤمنة شعورها بعزتها وكرامتها ودورها الكبير في الأعمار والبناء وإحياء الإنسان والأرض ، وهداية الأمم وترشيد المجتمعات ، ووفقها لأن تكون القائدة الرائدة المتبوعة في الهدى والخير والصلاح ، لا التابعة في الضلال والشر والفساد والمهالك ، اللهم إنا نسألك المغفرة والرحمة والعفو والعافية يا ارحم الراحمين .
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أكرمنا بنور معرفته ، وحبّب إلى قلوبنا دينه وطاعته ، وجعلنا ممن لا يقدّم ما أبدعته يد الإثم من سفاسف الأمور على كنوز شريعته ، ولا يتخذ من أعدائه من مردة الكفر ، وطواغيت الفساد والشر أولياء من دونه ، ولا مما تمليه أهواؤهم من سوء مصدراً للتشريع من غير وحيه . أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، لا عليم ولا سميع ولا خبير ، ولا حكيم مثله ، ولا خير لأحد إلا من عنده ، ولا هدى بيد أحد إلا من فيضه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أنزل عليه آياته ، وبيّن له منهاجه ، وأوضح له دينا قيّما ، وشرعاً منقذاً ، وملّة نواراء ، وطريقة غراء ، وتكفّل له يحفظ ما أوحي إليه ، وتحمّل ما بلغ ، وأعانه على تبليغ ما حمّل وإيصال ما أودع . فوعي وهدى وبلّغ وأضاء ، وحكم بما أراه الله ، وأظهر عدل الدين في الحكم والقضاء ، وعطاء المنهج الحق ثراً في العقول والنفوس وأوضاع الدين والدنيا ، ونشر من العلوم ما نمّى وزكى ، وأورث خزائن الوحي النازل عليه من ربه المصطفين من آله فكانوا الهداة الصادقين ، والقادة المرضيين ، والمرجع لطلاب الحق والباحثين . اللهم صل وسلم عليه وعلى آله الميامين صلاة زاكية نامية متواصلة ، وزد في أفضاله ، وبارك له في نعمائك عنده ، وكرامتك عليه .
اللهم صل وسلم على فلذة كبد الرسول ، وقرة عينه البتول فاطمة الزهراء والإنسية الحوراء أم السبطين الحسن والحسين .
اللهم صل وسلم على عبدك ووليك ووصي رسولك ، وفارس دينك ومجاهد عدوك والفاروق بين المؤمنين الثابتين والمغيرين المبدلين المارقين كما تشهد النهروان وصفين على ابن ابي طالب أمير المؤمنين .
اللهم صل وسلم على البدرين التامين ، والقمرين النيرين أمامي الحق والعدل الحسن والحسين ، اللهم صل وسلم على أهل العصمة من ولد الحسين ، والأئمة الهادين المهديين من رب العالمين علي بن الحسين زين العابدين ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق وموسى الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري حججك على عبادك والقادة إلى مرضاتك الذين ألزمت بطاعتهم وفرضت على الناس ولايتهم .
اللهم صل وسلم على الحجة المنتظر المذخور لعز الدين وفخر المؤمنين ونكال الظالمين ، من يملأ الأرض عدلا وقسطا بعد ما ملئت ظلما وجورا ، الذي يعيد للدين ظهور كلمته ، وللشريعة علوّ حكمها في الأرض وعدلَه وقدرتَه ، حبيب الأفئدة التقية ، وأمل القلوب النقية ، والنفوس الزكية ، والضمائر المرضية محمد بن الحسن القائم ، اللهم اجعل ظهوره قريباً ، ونصره عزيزاً وكلمته ماضية ، وأمره نافذا ، وناصره قوّياً وعدوه مهزوماً مخرياً .
اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين وأحلل غضبك بالقوم الكافرين والمنافقين ممن يكيدون بدينك ، ويسعون بالأذى والشر لأوليائك . اللهم من كان في عزّه عز المؤمنين فأعزه ، وانصره وأيده وادفع عنه وانتصر به لدينك وشريعتك ، ومن كان في عزّه ذل المؤمنين وأذاهم وضلال الناس فلا تمكنه وردّ كيده عليه وأبدله عن عزه ذلا ، ومن قوته وهنا وضعفاً يا قوي يا عزيز .
عباد الله اتقوا الله ففي تقوى الله المخرج إلى الفرح وربح الدنيا وفوز الآخرة . اللهم ارزقنا تقواك واجعلنا ممن يفوز برضاك وباعد بيننا وبين ما يبعد عنك ويدنينا من الشيطان الرجيم وأصحابه الغاوين . اللهم انا نستغفرك ونستهديك ونؤمن بك ونتوكل عليك .
أيها الأخوة في الله : تواجهنا كلمة الثقافة كثيراً في أيامنا وليالينا ، تحملها لنا الإذاعات وكل قنوات البث والصحافة ونسمعها في المجالس الخاصة والمجالس العامة والندوات . أنا لا أريد أن أكون غربياً في مصطلحاتي ، دعونا نبحث في معنى الثقافة في اللغة العربية ، ثقف الرمح : معناه قوّمه وعدله ، الرمح يميل ، يعرضه الاعوجاج ، عملية تقويمه وتعديله وتسويته حتى يأتي مستقيماً ، يأتي صائباً ، هذه العملية تسمى عملية تثقيف فعملية التثقيف تكون بتقويمه وتعديله وتسويته . والعقول قد يعرضها الزلل ، والنفوس قد يطرأ عليها الهوى فتنحرف ، والضمائر قد تغبر ويتكدر صفو جوها ، الذات الإنسانية في كل أبعادها وهي في الأصل نقية طاهرة قد تتلوث ، قد تخفت قوى الخير في النفس ، وقد تذبل ، وقد تقارب الموت وهي في كل مرحلة من هذه المراحل تحتاج إلى العودة بها إلى الصواب ، تحتاج إلى التعديل ، رؤانا تزيغ ، أنظارنا تخطئ ، مشاعرنا تتلوث ، ذواتنا تتكدر ، ثم نجد أنفسنا ، لا ننهض بخير ، ولا نتحمل درب الخير وتبعاته ومسؤولياته ، نجد أنفسنا من بعد حين أنها أميل لطرائق الكفر من طرائق الإيمان ، وإنها أميل إلى طروحات الكفر من طروحات الإيمان ، وأنها أميل إلى خلق الكفر والوضاعة من خلق الإيمان والرفعة ومرد هذا كله هو انحراف أصاب النفس ، زيغ طرأ على العقل ، تلوث كدر صفو الجو بذات الإنسان ، فهنا الذات تحتاج إلى تقويم والذات دائماً وبما هي ذات بشرية مهما بلغت من درجة السمو ومهما كان لها من صواب النظر ومهما كانت على الجادة ووجدت نفسها صبورة على هذه الطريق إلا أنها وبما أنها نفس بشرية محدودة تحتاج إلى متابعة في المراقبة في المحاسبة في التقويم خاصة النفوس الغير المعصومة ، لاشك أنها تحتاج إلى تقويم تحتاج إلى ترشيد تحتاج إلى الاهتمام تحتاج إلى المراقبة تحتاج إلى المحاسبة . المعصوم كما سبق أمامه مسافات فوق مستوى العصمة وهو يقود نفسه الشريفة على ذلك الطريق ، وعلى ذلك المعراج الذي لا ينتهي مداه . الله عز وجل وكمال الله لا يدرك ، يُطلب ويُرّبي ويهدي وينعكس على الذات منه ما تستطيع ، لكنه لا يُدرَك ، أما ذاوتنا غير المعصومة التي كثيراً ما يصيبها التلوث ، يصيبها الجحود ، يصيبها الزيغ في النظر ، يصيبها تأثير الإعلام الضال المضلل ، ضمائرنا التي تكدرها الشهوات ، قلوبنا التي تغبر مرآتها ، تحتاج إلى جلاء .
ما الثقافة ؟ الثقافة فكرة ، خاطرة ، موقف ، مرأىً ، عرض ، صورة ، كلمة تقرأها ، كلمة تسمعها ، معاشرة تعيشها ، أي ممارسة من الممارسات ، وضع اجتماعي ، وضع اقتصادي ، وضع نفسي ، وضع سياسي . كل ذلك مما يدخل بالتأثير .
مما يدخل بالتأثير على الذات ، إما بالتقويم أو بالحرف كل هذا يعني في مفهوم اليوم ثقافة أمّا الصحيح من معنى الثقافة ومما يتناسب مع هذه المادة في اللغة العربية وما أعطيت من معنى في هذه اللغة هو أن الثقافة خصوص ما يقّوِم دون ما يهدم ، خصوص ما يعيد النفس إلى الطريق الصحيح .. خصوص ما يقدم رؤية صائبة …ما يجعل عقلي في حضور وفاعلية …ما يجعل ضميري حياً ، ما يجعل قلبي صافياً ، ما يجعل نيتي سليمة ، ما يجعل قلبي محباً للغير ، ومحباً للخير للغير ، ما يجعلني أسعى بالخير . مقوّم العقل ، مقوّم الضمير ، مقّوم الإرادة ، مقّوم الشعور ، مقّوم الوجدان ، مقوم السلوك هو الثقافة ، سواء كان فكراً أو كان موقفاً عملياً… كانت صورة ، كان علما ، كان أي شيء ، ثم أين ما يقّوم الذات الإنسانية ؟ الله عز وجل خاطب نبيه الكريم “ص” أو عناه بقوله تبارك وتعالى : “* وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ *” ( الحاقة )
النفس الأطهر ، النفس الأزكى ، العقل الأكبر ، الضمير الأطهر ، الذات الأسمى من بين الناس ، لم يوكل إليها أمر هداية الناس بالأصل ، لابد أن نتلقى الهدى من الله ، لابد أن نتلقى الوحي من الله . من بعد رسول الله ، من بعد هديه من بعد عقله الكبير ، من بعد ضميره الطاهر ، من بعد قلبه الزكي من بعد ذاته المتألقة التي لم يعطها الله سبحانه وتعالى حق التشريع بالأصل ، يعطي حق التشريع بالأصل ، حق الأطروحة أطروحة الحياة بكاملها ، تقديم الرؤية الكونية صياغة النفس البشرية يُعطي هذا الحق لكافر ؟! نعطيه لم نسي نفسه و ربه؟! نعطيه لمن لا يدرك من نفسه إلا كتلة اللحم والدم والعصب ، ولا ينظر لنفسه إلا مجموعة شهوات ؟! أعطي إذاعات الغرب أعطي إذاعات الشرق والإذاعات التابعة وقنوات البث في كل مكان ، تلك القنوات التي تستقي من منبع واحد قذر جائف هو منبع الحضارة المادية أعطي حق التشريع وحق الصياغة لولدي ولبيتي ولنفسي ولأمتي هذه القنوات من أين تتلقى الثقافة ؟ الثقافة التي تقّوم الثقافة التي تصنع الإنسان إنساناً ، وترتقي بالإنسان إلى حد الملك وتؤهل الإنسان إلى أن يعيش حياة الأبد مستقيماً لا يعرف الرذيلة ، التربية التي ترتقي بالإنسان إلى حد أنه يبغض الرذيلة بكل صوَرها وأشكالها ، تصنع الإنسان الذي يرتقي إلى خلق النبيين إلى خلق المرسلين الإنسان المؤهل لأن يجالس رسول الله “ص” فلا تقع عين رسول الله “ص” منه على أمر مسيء ، ولا تقع عين الله عز وجل الرقيبة على شيء منه لا يرضاه ، هذا الإنسان أي مدرسة تخرجه ؟ أي تربية تخرجه ؟ أي ثقافة تصنعه ؟ ليست هي إلا الثقافة المتلقاة من الله سبحانه وتعالى ، الله العليم بك بكل دقيقة في ذاتك بكل ما تختلج به نفسك بكل منعطف من منعطفاتها بكل تشابكاتها ، بكل تداخلاتها بكل ما تشتمل عليه تشابكاتها وتلاقياتها وتوافياتها . الله العليم الخبير بك وبأخيك وبكل بشر وبكل شيء في هذا الكون وأنت لو فتحت عينك لوجدت أن ذاتك ترتبط بملايين من العلاقات ، ملايين من العلاقات تربطك بالغير ، بالأرض والسماء وبما في الأرض والسماء . هذه ملايين العلاقات وبلايين العلاقات والتي تدخل في وزنك وفي تقديرك وفي ما يصلحك وفي ما يفسدك من يعلمها إلا الله وأي مشرع يستطيع أن يستحضرها لحظة تشريعه بكاملها ، المشرع الذي يستطيع أن يستحضر بلايين العلاقات التي تربط الذات الإنسانية الواحدة في ماضيها ، في حاضرها ، في مستقبلها ليشرع لهذا الإنسان من هو ؟ عقلية رسول الله “ص” لم يوكل إليها أمر التشريع بصورة مطلقة ، ولو علم الله عز وجل أن رسوله “ص” بذاته المقدسة قادر أصلاً على وضع التشريع الكامل للإنسان لأرسله وأوكل له مهمة وضع التشريع من غير وحي آخر .
لكنه قال له ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ )، نعم يأتي من رسول الله “ص” التوجيه وقد يأتي الحكم أيضاً في مورد من الموارد لكنه بهدى من ربه سبحانه وتعالى . مرة ينزل عليه جبرئيل ومرة لا ينزل عليه جبرئيل ولكن كله وحي يتلقاه “ص” من عند ربه ولا ينسب شيء مما جاء به “ص” إلى ذاته ما يلزمنا جميعاً أن نؤكد عليه بالنسبة لأنفسنا وبالنسبة لأهلينا وبالنسبة لمجتمعنا وبالنسبة لأمتنا وبالنسبة للعالم هو هذا الأمر . يعني أن يكون مرد أمر هذا الإنسان ، مرد أمر تشريعه ، ومرد أمر توجيهه ، ومرد أمر تربيته ، ومرد أمر قيادته لله سبحانه وتعالى وذلك بأن يتلقى الهدى منه عن طريق رسوله الأكرم “ص” وميراث الوحي الذي لم يورث رسول الله “ص” أحداً من هذه الأمة مهما كان مثلما ورثه أهل بيته المعصومين “ع” فعندهم هدى الله ، وعندهم كلمة الله . عندهم منهج الله عندهم شرع الله عندهم الأطروحة المنقذة عندهم النظام الذي يبحث عنه العالم ، ويشرق ويغرب هنا وهناك ويجمع فلاسفته ومفكريه فلا يجد عندهم النظام الذي لو طُبق لأسعد البشر دنياً وآخرة . فإلى هذا الهدى وإلى هذه المدرسة ولنعط عمرنا كله لهذه المدرسة ولاء وإخلاصاً وجهادا وتوعية وبثاً ونشرا والحمد لله رب العالمين .
اللهم اكفنا شر أعدائك وأعدائنا ورد كيدهم في نحورهم وارمهم بغضب منك يقمعهم ويركسهم في بلاء مقيم ، ومحنة ساحقة واجعلنا ممن لا يتخلق إلا بخلق دينك ، ولا يتبع إلا ما دل عليه منهجك ، ولا يستقي إلا من مدرسة وحيك ، وما استساغته شريعتك . واجعلنا من الدالين على طريقك ، العاملين على التمكين لكلمة أنبيائك ورسلك وأوليائك ، الموالين لهم المعادين لأعدائهم ، الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الآخذين بالخير المعادين للشر . يا أرحم من كل رحيم ويا أكرم من كل كريم .
اللهم اختم لنا بتوبة مقبولة وعمل مشكور ، ونية صالحة ، وإرادة خيرة ، واجعل قلوبنا مفعمة بحبك ، مشغولة بذكرك ،زاهرة بمعرفتك ، مأنوسة بمناجاتك ، متعلقة بأنوار قدسك ، مستجيبة لك ، منعّمة بألطافك .
اللهم لا تبقي لنا ذنبا إلا غفرته ، ولا عيباً إلا سترته ، ولا سوءاً إلا رفعته ، ولا ضراً إلا كشفته يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين .
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين .