خطبة الجمعة (3) 26 محرم 1422 هـ – 20-4-2001 م
مواضيع الخطبة:
التقوى (1) – إسرائيل اللقيطة-
المسألة السياسية في الإسلام (2)
البعداء عن الإسلام والمعادون له يتفوهون
بمثل هذا وهم ، يخافون من تجربة عالم الدين ، ومن إعطائه الرؤية الموضوعية الصارخة
التي تساعده على تغيير في كثير من بقع العالم التي تعاني من سلبية الوضع السياسي.
الخطبة الأولى
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل ، المخرج من الظلمات إلى النور ، باعث من في القبور ، العليم بما في الصدور ، وهو بكل شيءٍ محيط . أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جلّ عن التقدير ، وتنزه عن التحديد ، واحتجب في كنهه عن العقول ، وخسأت الأوهام أن تصل إليه والأخيلة أن تناله ولا ينال محدودٌ من لا حد له ، ولا منقطعٌ ما لا نهاية له .وأشهد أن محمداً عبده ورسوله لم ينطق عن الله إلا بحق ، ولم يبلغ عنه إلا بصدق ، و ما كان في شريعته باطل ، ولا في سنته صلى الله عليه وآله فاشل ، وأن الهدى هدى الله ثم هدى رسوله والميامين المعصومين من أهل بيته صلى الله عليه وعليهم أجمعين ، أنوار الله في أرضه وحججه على عباده ، وخزنة وحيه ، والقادة إلى سبيله .
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله ، وأن تذو ذو ا النفس عن ما قد تغفو إليه في غفلاتها من مشتهيات فيها سخط الجبار ، ومن سفاسف أمور فيها هلاكها ، ومضلات فتنٍ فيها انطفاء نورها واضمحلال هداها وإيمانها .
لقد كانت لنا وقفةُ الأسبوع الماضي ، مع شيء من حديثٍ تفصيلي في مسألة التقوى ، ووصل بنا الحديث إلى منطلقات التقوى ودوافعها في الإنسان ، وأن أشرف منطلقٍ لها في ظل معرفة الله سبحانه ، حب التأهل للمزيد من معرفته ، وطلب رضاه ، والتخلّق بخلقه .
ولننتقل بعد هذا إلى ما عليه شأن التقوى ومكانتها في كتاب الله العزيز الحميد ، فمن مكانتها أنها غرض تنزيل القرآن ووعيده ، تقول الآية الكريمة (( وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون ، أو يُحدث لهم ذكرى )) ، القرآن العظيم الذي لطف الله سبحانه وتعالى على عباده ، وهو خاتم الكتب السماوية والمهيمن عليها ، وبعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء ، وآخر عظيمٍ في قافلة المرسلين ، كل ذلك وما امتلأ به القرآن وما زخر به القرآن الكريم من وعيدٍ للعباد إنما هو لأجل أن تأخذ التقوى مكانتها في قلوب العباد ,أن تأخذ العباد تقوىً من الله ، فالتقوى جاءت في الآية الكريمة هدفاًُ للرسالات ، وهدفاً للكتب التقوى إذن وما أجلّ قدرها عند الله سبحانه وتعالى .
والتقوى أيضاً غرض العبادة (( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون )) ، العبادة من صلاةٍ وصومٍ ، ودعاءٍ ، تهجدٍ ، جهادٍ ، وخمسٍ ، وكل عبادة من العبادات تحمل هذا الهدف الواحد : أن تزرع التقوى في القلوب ، أن تنبت التقوى في القلوب ، أن ترعرع التقوى في القلوب ، أن تبني القلوب بالتقوى ، وتشدها بالتقوى ، وتزينها بالتقوى ،وتنورها بالتقوى .
(( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )) ، والصوم عبادةٌ من أهم العبادات ، وغرضها الكبير هو أن تعطي للقلوب تقواها ، وضموا إلى ذلك قوله عز من قائل ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )) ، الغرض من خلق الجن والإنس أن يعبد هؤلاء كلهم ربهم الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، ليكملوا وتتنضج إنسانيتهم ، ويأتوا ملائكة في الأرض من صناعة خط الله سبحانه وتعالى ، لأنه لا طريق إلى كمال هذا الإنسان ، ولا سبيل إلى سعادته ، إلا أن يعبد الله عز وجلّ ويخلص له العبادة ، ويسعى على طريقه ، ويسعى على ضوء أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى ، لذلك كانت العبادة غرض الخلق ، وأن ليس من غرض عند الله سبحانه وتعالى إلا أن يعبد العبد ربه منفعةً للعبد ، وأخذاً به على طريق كماله ، والله غنيٌ عن عباده ، ولا شيء يصله من عبادةِ عباده إلا أن يتأهلوا إلى فيضٍ أكبر ، وإلى عطاء أزيد .
وإذا كانت العبادة غرض الخلق ، وكانت التقوى غرض العبادة ، صار لنا أن هذا الخلق : أن يتقي هذا الإنسان ربه ، وتقواه ربه معناه أنه يكتمل ، معناه انه ينمو ، معناه أنه وصل درجةٍ يرضاه الله والله إنما يرضى الحسن .
وللتقوى أيها الأخوة والأخوات ثمراتُ في النفوس ،و أوضاع الخارج ، وفي الدنيا والآخرة ولنتتبع ذلك في آي الذكر الحكيم .
أولاً : التقوى تدفع كيد الشيطان …(( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون )).التقوى زادٌ كبيرٌ في القلوب وخير الزاد التقوى ، التقوى نور ، التقوى هدىً ، التقوى كمال ، في لحظة من لحظات الغفلة التي قد تمس النفوس ويطوف طائفٌ من الشيطان ، هنا إما أن تكون انتكاسة ، وإما أن يكون استعلاء ونهوض و تنبهٌ والتفات ويقظةٌ ومواجهه ..
من لم تكن له تقوى أر تكس ، وسمع نداء الشيطان ، وانجذب إلى تزيينه ، ومن كانت له تقوى رجع إلى زاده ، انتبه إلى ما هو عليه من خطٍ صائب ، وقام عمودٌ من نورٍ في ذاته ، يرد كيد الشيطان ، ويوجهه ضربة قاصمةً للشيطان من خلال موقف مواجهة صلبة صامدة يقفها هذا المؤمن ومن ورائه خلفية الإيمان ، وخلفية التقوى ، فالتقوى هنا ترد كيد الشيطان ..
وهي أيضاً : تثري الأوضاع المعنوية والمادية للإنسان (( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض )) ، بركاتٍ تعمر الأرض ، وبركاتٍ تعمر من قبل ذلك النفس ، وتهدى العقل وتعطي للإنسان الحكمة ، بركاتٍ تجعله موصولاً بخط الله ، بركاتٍ تذيقه حلاوة الأمن والثقة والاطمئنان من داخله ، تجعله لا يخاف ولا يحسد ،ولا يقلق ، بركاتٍ تصحح الذات ، وتنمو لها الذات ، بركاتٍ تقضي على الفقر ، وتقضي على الجهل ، وتقضي على كل تخلف ، هذا لو كانت تقوى ، أما العلاقة بين التقوى وكل هذه العطاءات واكثر من هذه العطاءات ، فهو موضوع يحتاج إلى تفصيلٍ خاص .
والتقوى أيضاً : تخرج من المضائق والأزمات وتفتح سبل النجاح (( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا )) وفي آية أخرى أيضاً (( ويرزقه من حيث لا يحتسب )) ، أنت في ضائقة اجتماعية ، ضائقة سياسية ، ضائقة اقتصادية ، أي ضائقة أخرى فليكن هنا لك لجأ ، ولا يكن لك لجأٌ إلا الله سبحانه وتعالى ، وليكن منك طلب حلٍ لمشكلتك ، لكن لا يكن لك طلب حلٍ على غير طريق الله ، وفي غير مرضاة الله ، قد تتراء لك سبل الحرام مفتوحةً مشرّعة ، ولكن لو انتبهت فإن سبل الحرام لا تسلك بك إلا إلى مضيق ، ولا تنتهي بك إلى أزمة ، عندك طريقٌ واحدُ سالك هو طريق التقوى ، طريق التقيًد بالحكم الشرعي ، والخضوع إلى إرادة الله سبحانه وتعالى ، في الرخاء والشدة ، لا تطلب النصر إلا من طريق يرضاه الله ، ولا تطلب الغنى إلا من طريق يرضاه الله ، ولا تطلب لحل مشكلتك أياً كانت إلا من طريق الله سبحانه وتعالى ، والله يأمر بالسعي ولكن السعي الذي يرضاه ، ويتقيّد بأحكامه وشريعته ومقررات دينه (( ومن يتق الله يجعل له مخرجا)) .
والتقوى تعيد للذات الإنسانية حيويتها (( ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا )) ، الذات قد تتلوث ، الذات قد تنحرف ، الذات قد تنحط عن مستواها ، الذات قد يدخلها السوء ويهبط بقيمتها ، كيف نعيد للذات التي سقمت عافيتها ؟ كيف تستعيد للذات قوتها وموقعها الصحيح على خط الله سبحانه وتعالى، على خط فطرتها وهداها ؟ ..أن نتقي الله ، أن نتوب إلى الله والتوبة تقوى لله سبحانه وتعالى ، هذه التقوى تكفر السيئات ، تغسل الذات ، ما معنى تكفير السيئات ؟ السيئة ليست معنىً خارجاً عن ذواتنا ، السيئة والحسنة شيء منا وفينا ، فهي إما شيءٌ سلبي ، وإما بناءٌ إيجابيٌ للذات ، أنا ارتكب السيئة فأهدم من نفسي ، أهدم من ضميري ، اهدم من طهر وجداني ، أهدم من موضوعية تفكيري ، اهدم من حكمتي ، اهدم من صفاء ذاتي ، وفي صفاء ذاتي قرب الله ، في صفاء ذاتي الدنو من الله ، أنا بالسيئة أثلم ذاتي ، وبالحسنة أزيد من ذاتي الحسنة ، أن أنا إذا جئت بحسنة رفعت من رصيد فطرتي ، رفعت من رصيد هداي ، اقتربت إلى الله ، فالسيئة تهدم الذات ، والحسنة تبني الذات ، ليس أن شرب الخمر معناه أنه أرتكب شيئاً خارجياً مفصولاً عن التأثير على ذاته ، حينما يشر ب الخمر وهو يعاند الله في هذا الشرب ، أو يتساهل في نهيه الله سبحانه وتعالى عن هذا الشرب ، هو ينفصل مسافةًًًًًًًًً عن الله ، شرب الخمر في هذه اللحظة يفصل ما بين الإنسان وبين الله مسافة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ، النظرة الحرام يرتكبها المرء فتحدث فاصلة هائلة ممتدة بينه وبين هدى الله ، بينه وبين رحمة الله ، بينه وبين رضوان الله سبحانه وتعالى ن والحسنة يأتيها صاحبها الموفق إلى طاعة الله ، فيقترب ويرتفع مستوى ذاته ، وتتصحح ذاته ، وتتأهل بقدر كبير جديد بأن تقرب من الله سبحانه وتعالى ، فالسئيات هدم للذوات ، والحسنات بناء لها أيها الاخوة الكرام .وإذا ما ظلمنا أنفسنا , وأسأنا إليها ، اقتحمنا المعصية ، اخترقنا حريم الله سبحانه وتعالى ، فعندئذٍ تهبط النفوس ، وتسقط الذوات ولا بد لنا من إعادة إلى خط العافية وإعطائها الصحوة من جديد (( ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا))، ولأجرٌ يمس ذاتك هو اكبر من اجر في مسكنٍ في الجنة ، الأجر بمعنى تصحيح الذات ، رفع مستوى الذات ، إعادة البناء للذات ، إعادة الذات لخط الله ، هذا الأجر لو التفتنا .. لهو أجرٌ أعظم من جنات الخلد أيها المؤمنون ، ((ويعظم له أجرا)) ,أول ما يعظم له أجراً في ذاته ، يصححها له ، ويخرجها من بلواها وسقمها ..
وهي مقدمة وعيٍ ورشدٍ وهدىً وبصيرة (( يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ))..(( إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون )) ..(( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين )) فالتقوى نور ، والتقوى هدى ، والتقوى ترفع قابلية فهم واستيعاب الدروس ، وتعطي ثمرة المطالعات الكونية ، وفي آيات الأنفس والأفاق ،حين نطالع آيات الأنفس والآفاق بروحٍ من التقوى ، ودافع الوصول إلى الله ، نستوعب ما تستوعبه النظرة العلمية الجامدة ، حين نقبل على دروس الآيات في الأنفس والآفاق بروح منفتحةٍ على الله ، تطلب هداه ، تطلب الدنو من رحمته ولطفه ، تريد أن تعرفه ، فهذه الانطلاقة من هذه الروح تعطي وعياً ، تعطي استلهاما ، تعطي معرفةً جديدةً كبيرةً هائلةً ، أيها الإخوان ..التقوى تعطي هذا الوعي تعطي القابلية لامتصاص الدرس درس الحكمة النظرية ، ودرس الحكمة العملية ..
((يجعل لكم فرقانا)) يجعلكم تميزون به بين الحق والباطل في المواقف الصغيرة والكبيرة ، في الموقف السياسي ، في الموقف الاجتماعي ، في علاقتك مع الأسرة ومع نفسك ، في علاقاتك مع الآخرين ..أكتفي بهذا القدر من القسم الأول من الخطبة وأستغفر الله لي ولكم ولوالدي ووالديكم أجمعين ..
اللهم أصلح لنا شأن ديننا ودنيانا ، اجمع كلمتنا على التقوى وباعد بيننا وبين الشيطان الرجيم ، وأهل الغواية والضلالة من جنوده وأنصاره ، واجعل كلمة الحق هي العليا ، وثبتنا على دينك يا كريم…اللهم ارزقنا رحمتك ولطفك ورأفتك ، ,اجعلنا من أهل عفوك ، وصفحك ، غفارنك ، يا جوادا بالنعم ..
بسم الله الرحمن الرحيم
(( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)))
..والحمد لله رب العالمين .
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي دلّ عل ذاته بذاته ، وتنزه عن مجانسة مخلوقاته ، و أتقن الصنع ، واحكم التدبير ، ودعا عباده إلى موائد شرعه ، والاستكمال بمنهاجه ، والتأدب بأحكامه رحمةً منه بالعالمين .أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا معبود بالحق سواه ، ولا رب من دونه لا حكم إلا له ، ولا تشريع إلا تشريعه ، ولا نجاة إلا باتباع رسله وأوليائه , واشهد أن محمداً عبده ورسوله ، بلّغ ، واحسن التبليغ ونصح وبالغ في النصيحة ، وحكم في الناس بالعدل ، واقام فيهم القسط ، ,اخذ بهم إلى النجاة ورباهم على الخلق القويم
اللهم صل على حبيبك المصطفى ، أمينك على وحيك ، وخزانة علم كتابك ، ورسولك إلى الأدنى والأقصى ، من عبادك و امائك ، محمد بن عبد الله ، وعلى خليفتك بعد رسولك بلا فصل أمير المؤمنين ، وارث علم الرسول ، وزوج الصديقة البتول ، وعلى أمتك الطاهرة ، أم الحجج الظاهرة ، وعلى الإمامين العلمين السيدين الحسن والحسين ، وعلى زين العابدين علي بن الحسين ، ومحمد بن علي الباقر ، ، وجعفر بن محمد الصادق ، وموسى بن جعفر الكاظم ، وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد ، وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري عليهم الصلاة والسلام.
اللهم صل وسلم على أمل المؤمنين ، وذخيرة المتقين ، ومنقذ المستضعفين ، الإمام المنتظر القائم ، اللهم عجل فرجه ، وسهل مخرجه ، واجعلنا من الممهدين ليوم نصره وعزه وحكومته ، حكومة الحق الظاهر ، و العدل الزاهر ، والهدى المبين .اللهم سدد وأيد وانصر كل من هو حاميةٌ لدينك ، ومدافعٌ عن حريم شريعتك ، وعاملٌ بأحكام كتابك ، وسنة نبيك وخلفائه المعصومين الهادين ، المهديين عليهم السلام .
اللهم إنا نستغفرك ونستهديك ، ونستهديك ، ونعوذ بك من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ومن كيد الكائدين ، وبغي الظالمين .
أما بعد فإن هنا كلمة .أقول : هناك وجودٌ فتّاكٌ في المنطقة في حربه وسلمه ، وجودٌ عدوانيٌ ، ومتوسعٌ من كل أعداء الإسلام ومصالح العرب ، هذا الوجود هو إسرائيل المغتصبة اللقيطة ، الحربة الغائرة في خاصرة امتنا ، وهناك مهزومٌ مشلولٌ قاصرٌ ، يقفه الوجود العربي الرسمي في اكثر ، والوجود الرسمي الإسلامي في أكثره كذلك ، وينسحب الشلل والهزيمة والقصور على الموقف الشعبي في تعاطيه مع القضية ، على المستوى الأوسع من شعور الأمة وتفكيرها وهمها .
هذا القصور والهزيمة والشلل في الموقف ، خاصةً على المستوى الرسمي ، من قصور ذاتي أم من تقصيرٍِ في الأمة ؟هذا هو السؤال . أسأل : الأمة مجتمعةً فاقدةً لأي لون من ألوان الضغط السياسي المشترك والضغط الاقتصادي المؤثر في أمريكا مدللة إسرائيل وعلى إسرائيل نفسها ؟الأمة لا تستطيع أن تمارس هذا الضغط ؟تفتقده؟ أم إنها فرقة الكيانات المصلحية المتناحرة ؟ والمتاجرة لتثبيت الكراسي المهزوزة ، وبعثرة أموال الأمة وطاقاتها ، وممارسة تمييع الإرداة عند إنسان الأمة ، والفاصلة الكبيرة بين كثير من الأنظمة وشعوبها ، من يلجأ إلى استقرار الوضع الأمني بالقوة إلى طلب رضا العدو الخارجي الذي يحتضن إسرائيل ويمدها بأسباب القوة والصمود ، أو لم يمر وقتٌ طويل على القضية نهضت فيه أمم وشعوب ، الأمة الإسلامية تراوح في مكانها ، أو تتراجع القهقرة بالقياس إلى حالة التقدم السريع في العالم ، في أسباب النمو العسكري والاقتصادي والصناعي والزراعي وثورة المعلومات إلى آخر هذه الأمور..
الهند أقل في ثراوتها الطبيعية أم العالم الإسلامي ؟ أيهما يخاف الآن بدرجة أكبر من ناحية عسكرية ؟ أكثر بلدان العالم الإسلامي أو الهند ؟ ..الهند ..ولماذا ؟ لأن الأخيرة تصر بدرجة ما على إرادة التحرر من قبضة الآخرين ، وتراهن على شعبها وتقدمه ، وتفجير قابلياته وطاقته ، واكثر حكام أمتنا تحول الشعوب والأرض والمقدرات والمقدورات إلى أعداء الأمة ، من أجل الاستقرار الذي يعني تكبيل الأمة وإلغاءها ، وتقزيمها ، وكأنه لا استقرار إلا بهذا ، ولا أمن إلا بأن تعذب الآخرين و وتكبت فيهم أي نبضٍ للحرية .
أعود من جديدٍ لمتابعة .. المسألة السياسية في رأي الإسلام، وإمكان الكلام من منطلق إسلامي في المسألة السياسية ..
أطرح في هذا المجال ، هذا السؤال : هل لعلماء الدين وفي مقدمتهم الفقهاء أن يتحدثوا في الشأن السياسي ؟- وقد تستغرب من هذا السؤال –
كثيرون هم الذين يعترفون لكل المثقفين ولكل الاختصاصات بحق التدخل في المسألة السياسية وإبداء الرأي . هذا اختصاصه هندسة وهذا اختصاصه في الطب ، وذاك اختصاصه في الزراعة ، وذاك اختصاصه في البيطرة ،وذاك اختصاصه في الذرة ..كل هؤلاء وغيرهم لهم حق التدخل في المسألة السياسية وإبداء الرأي ، أما عالم الدين ..كيف يتدخل في مسألة السياسة …عجباه ؟ كيف يتدخل من يدرس الدين ومن يدعوا لتقوى الله ومن لا يعرف إلا الثقافة الدينية ، كيف له أن يتدخل في السياسة ؟
وهناك نداءان ، نداء من خارج الصف المؤمن وهو يعي ما يقول ، ويلتفت إلى ما يقول ، ويلتفت إلى المغالطة إلى ما يقول ، وهو يدري أن عالم الدين هو واحد من الآخرين الذين لهم القدرة على ابداء الرأي في المسألة السياسية ، على أن المسألة السياسية ذات مستويين.. المستوى الأول : هو مستوى التنظير على مستوى العالم ، مستوى تقديم الأطروحة السياسية المنقذة للعالم غير المربوطة بالظروف الآنية المتقلبة ، يأتي الكلام مرة على مستوى وصول الأطروحة السياسية الثابتة على مستوى حكومة الإنسان ، وللمسألة السياسية في عالم الإنسان ، ما هي الأعمدة الثابتة والمحاور الثابتة في الاطروحة الثابتة لعالم الإنسان ؟ هذا المستوى لا يُؤهل إليه أحدٌ ، وللكلام فيه ..كما يُؤهلُ عالم الدين الحقيقي حين تكون لديه دراسة للإسلام شاملة ً معمقةً ، وعلى مستوى الرؤية الاجتهادية .
ليس من اختصاصٍ بقادرٍ على أن يقدم اصول الاطروحة السياسية الثابتة على مر الزمن ، والتي ينبغي أن تكون هي المرجع في رسم السياسات الآنية وتقديم المشاريع السياسية التي قد تختلف بين زمنٍ وآخر ..
اما المستوى الثاني في الحديث في المسألة السياسية فهو: الكلام في معالجة وضعٍ قائم في هذا الزمن أو في فترة أخرى
هل يستطيع عالم الدين أن يبدي وجهة نظر في المسألة السياسية ؟..مسكين عالم الدين ، على عينيه غشاوة وفي أذنه صمم ، وقلبه محجوب ، لا يسمع خبراً عن السياسة ، ولا يقرأ شيئاً ، وليست قدرة تحليلية ، ولم يعلم كيف يخرج من المقدمات إلى النتائج ، ولم يعرف كيف يحاور ، وما عاش تجربة في الحياة ، أنه معزول ودعوه في عزلته يعاني …
الجامعي له أن يتكلم ، وأنا أرى أن له يتكلم فهو إنسان في هذا المجتمع ، له أن يتكلم عن وضع سياسي قائم ، لكن أخاه عالم الدين والذي قطع مرحلة الجامعة وزاد على مرحلة الجامعة بما يساويه عشرات المرات ، ليس له أن يتكلم عن المسألة السياسية ،..البعداء عن الإسلام والمعادون له يتفوهون بمثل هذا وهم ، يخافون من تجربة عالم الدين ، ومن إعطائه الرؤية الموضوعية الصارخة التي تساعده على تغيير في كثير من بقع العالم التي تعاني من سلبية الوضع السياسي .
أما المؤمنون حين يقولون هذا الكلام فهم يقولون هذه الكلمات غفلةً ..ومع الأسف سذاجة ، وينبغي للوعي المؤمن أن يعرف أن عالم الدين على الأقل يساوي خريج بيطرة ..إن مستواه يساوي الشهادة الجامعية ،و انه في المجتمع يسمع أخباره ، ويعاني ما يعانيه الآخرون ، ربما كان لديه جهاز متصل بشبكة الاتصالات العالمية وعنده مذياع وعنده تلفاز ، لماذا يحجر على هذا أن يقول كلمة ؟؟
وهناك مستويان للمسألة السياسية : مسألة أصل الاطروحة الثابتة ، وأي أطروحة تنقذ العالم ، وهذا من شأن الفلاسفة الكبار ، , واكبر الساسة الذين لم يشتغلوا بالسياسة العملية فقط ، وإنما تكون لهم رؤية أيدلوجية ، رؤية مبدئية ، رؤية كونية ، وليس السياسي المحلي بقادر على أن يتحدث في الاطروحة السياسية التي تنقذ العالم ، والمؤهل لأن يتحدث في الاطروحة السياسية ، إما عالم دين متعمق ، و غنيٍ بالرؤية السياسية ، ويقدم الاطروحة السياسية لهذا العالم ، أو يكون فيلسوف سياسي فيستطيع أن يتحدث هذا الحديث ، ومن موقعه الأرضي ، ومن موقع معاناته وخبرته الفلسفية المحدودة ، وأما عالم دين يتكأ على الطرح الذي جاء من قبل الله سبحانه وتعالى ،واستيعاب هذا الطرح والجمع بين أبعاده ، أحد هذين الاثنين فقط ، هو المؤهل لتقديم رؤية سياسية عالمية لإنقاذ العالم .
أما الحديث العادي في السياسة ، وفي الأوضاع المحلية هنا أو هناك ، هذا حديث تستطيع أن تتحدث فيه المرأة والرجل والشاب في مقتبل عمره ، إذا كانت له معايشة وإذا كانت له خبرة ، وعالم الدين على الأقل واحد من هؤلاء .
أريد أن أكتفي بهذا واترك بقية الحديث للأسابيع القادمة وهو طويل ..
اللهم إنا نستغفرك ونستهديك ، ونعوذ بك من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ومن كيد الكائدين ، وبغي الظالمين ، وجهل الجاهلين .
اللهم ثبتنا على ولايتك ، وولاية رسولك المصطفى ، والأئمة النجباء ، واجعل رضانا بما ترضى ، وإنكارنا لما تنكر ، وحبنا لمن أحببت ، وبغضنا لمن أبغضت ، وبراءتنا من أعدائك ، وولايتنا لأوليائك ، واجعل إيماننا بدينك ، ونصرتنا لشريعتك ، وتمسكنا بمنهاجك ، يا أكرم من دعي ويا أجود من أجاب .
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين .