خطبة الجمعة (623) 6 محرم 1436 هـ – 31 أكتوبر 2014م
الخطبة الأولى: الآمال الدنيوية
الخطبة الثانية: كربلاء.. نصرًا وهزيمة – ماذا تقول الأحداث؟
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي تفضّل على عباده بالدين القويم، والمنهج الحكيم، وتكفّل بحفظه، وجعل من صالحي العباد في الأرض والذين اصطفاهم بعلمه قوّامًا للدين، وحرّاسًا له. لا يغلى عندهم شيء غلاءه، وأكرمهم بذلك إكرامًا عظيما، وشرّفهم تشريفًا كبيرا.
وله المنّ على من أطاعه، وله الشكر على من ضحّى في سبيله، وما ثبتت قدم عبد على طريق طاعته إلّا لتثبيته، وما ضحّى أحد في سبيله إلّا بتوفيقه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله من صحّ عقله لم يتخلّف عن عبادة ربّه، ولم يستكثر ما أعطى في سبيله، ولم يقدّم دنياه على آخرته. وقد أُعطي العباد العقل الذي لا يأذن بالتخلّف عن عبادة الله، ولا يستكثر العبدُ معه ما أعطى في سبيله، ولا يُقدّم دنياه على آخرته.
وما غيّب صوت هذا العقل عند إنسان إلّا تربية مضلّلة، وتراكم للذنوب والآثام.
فلنحذر من أن نُغيِّب صوت العقل فينا، ونطمس نور القلب بالكسب السّيء، وارتكاب الآثام فنصير إلى عمى تامّ، وضلال مبين.
فالإنسان بما يكسب من سيئات يفتح قلبه على مصراعيه للشيطان، ويمكّنه منه؛ فيزيده فسادًا ويضلّه {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ([1])}([2]).
وانظر ماذا تفعل الذنوب والآثام من ضلال قلب الإنسان، وإلى أيّ حدٍّ تفقده هداه {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ([3])، كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}([4]).
وعلى خلاف ما تسببه ممارسة الآثام من انغلاق القلب، وعماه عن الهدى، ومن ضلاله تعمل التقوى على يقظة القلب ونباهته، وتذكُّره لله سبحانه، ورفضه الاستجابة لوسوسة الشيطان {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}([5]).
فالتقوى التقوى أيها المؤمنون حمايةً وزيادةً في البصيرة، وحفظًا للقلب من العمى، ووقاية لصاحبها من النار. وهي طريق الجنّة والمصير السعيد.
ربنا هب لنا من تقواك ما يحمينا من كلّ سوء، ويسترنا من كلّ عيب، ويعود علينا بالخير، ويدفع عنّا الشرّ، ويقرّبنا إليك يا كريم يا رحيم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أما بعد أيها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فالكلام في:
الآمال الدنيوية:
سبق أن لابدّ من الأمل لإعمار الدنيا أو الآخرة، وما حذّر منه الإسلام من الآمال الدنيوية هو أن يُبالَغ فيها، ويُتجاوَز بها عن حدّها النافع، وأن تُمثِّل حالة انشداد بالدنيا، واقتناع بها، وانكباب عليها، وأن تستبدّ باهتمام الإنسان، وتقتل فيه همّ الآخرة، ويحلّ الطموح فيها محلّ الطموح في حياة الخلود.
وتكثُّف الآمال الدنيوية وتعاظمُها، والانسياق وراء زينة هذه الحياة بأيّ لونٍ من ألوانها لا يُبقي من بقيّة في النفس فيما يتعلّق بالحياة الأخرى، ويُعطي الركض وراء هذه الزينة أن تستغرق العمر كلّه ليخرج الإنسان في الأخير من دنياه وقد باع كلّ عمره عليها، وانتهى إلى ما تنتهي إليه حياة الحشرات، لكنّه مع تحمُّل مسؤولية ثقيلة لا تتحمّلها تلك المخلوقات.
ولنأخذ من حديث المعصومين عليهم السلام ما يُعطي صورة واضحة عن رأي الإسلام في الإسراف في الآمال الدنيوية، والتعلُّق بها.
- عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: من خطبته في حجّة الوداع:“فواعجباه لقوم ألهتهم أموالهم، وطالت آمالهم، وقصرت آجالهم، وهم يطمعون في مجاورة مولاهم([6])، ولا يصلون إلى ذلك إلّا بالعمل، ولا يتمّ العمل إلّا بالعقل”([7]).
الآمال التي يعيشها هؤلاء القوم ليست طبيعية، فهي آمال من الآمال المتعلّقة بالدنيا وفوق حاجتها، وقد تكون أكبر مما تتسع له هذه الحياة، وما يمكن أن يتحقّق فيها، وهي وما يجتمع لهم من مال وزينة في الدنيا مستحوذة على كلّ اهتمامهم، صارفة لهم عن الالتفات إلى غاية الحياة، والمستقبل من بعدها.
والمفارقة الكبيرة عند هؤلاء أنهم يرجون خير الآخرة، ويمتدّ تطلّعهم إلى الفوز فيها، والتشرّف برضا المولى الحقّ تبارك وتعالى مع ما هم عليه من انصراف للدنيا. وإذا كانت الدنيا لا يُنال خيرها إلا بالعمل لخير الآخرة فلا سبيل إليه من التساهل بأمرها، وترك السعي في سبيلها.
ومن طول أمل المرء أن يتعلّق بالجمع من الدنيا لعمر المئات من السنين، وهو في التسعين من عمره، وقد هدّت جسمه العلل، وحتّى لو كان في العشرين من العمر ومتمتّعًا بصحّته وفتوّته.
- عن الإمام عليّ عليه السلام:“رب طمع كاذب، وأمل خائب”([8]).
ما أكثر من تكون له أطماع من أطماع هذه الدنيا فوق مقدوره بمرّات، أو فوق سعيه وبذله في سبيلها، وهذه مطامع كاذبة بالقياس إلى ما تسمح به طبيعة الواقع؛ والآمالُ المتعلّقة بها لابد أن تخيب. وإذا كثرت خيبة آمال نفس أصابها من خيبتها تلك يأس قاتل، وقنوط بئيس، وألمّت بها الأسقام.
- وعنه عليه السلام:“أنفاس المرء خطاه إلى أجله، وأمله خادع له عن عمله”([9]).
من الآمال ما لا يجدي في تحقيقه سعيٌ ولو جدّ، ولا محاولة وإن عظمت كأمل أن يُعمّر أحدنا ألف سنة وألفين، ومثل هذا الأمل الممتدّ لا يجعل صاحبه يبادر للتوبة، أو يخرج من تقصيره وإسرافه على نفسه متداركًا للأمر، جادًّا في طلب الآخرة.
وأمل البقاء لأيّ مدة، والتعويل عليه يجعل كثيرًا من الناس والنفوس متساهلة بشأن السعي للآخرة، والاستعداد الفوريّ لها ما دام في البين مهلة من العمر حسب تصوّر هذا المرء.
وكيف لنفس يقظة عاقلة حكيمة أن تستسلم هذا الاستسلام لآمال لا تملك من أمرها شيئا([10]).
وتُنبّهنا الكلمة عن عليّ عليه السلام على سخف هذا الاستسلام فعنه عليه السلام:“معاشر الناس (المسلمين) اتقوا الله فكم من مؤمّل ما لا يبلغه، وبان ما لا يسكنه([11])، وجامع ما سوف يتركه، ولعله من باطل جمعه، ومن حقّ منعه. أصابه حرامًا، واحتمل به آثاما، فباء بوزره، وقدم على ربه آسفًا لاهفًا قد {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}([12])“([13]).
وفي هذه الكلمة التفاتة لها أهميتها؛ ذلك أننا جميعًا مودّعون للدنيا، خارجون منها، مخلّفين كلّ ما فيها يستوي من الناس في هذا مؤمن وكافر، ومتّق وفاجر.
فإذا كانت الدنيا تعني البقاء على الحياة فيها، والتمتّع بزينتها، وما النظر إلّا إليها فالكلّ ملاقٍ خسارتها، واقع فيها([14]).
ولكنّ الدنيا إنما قيمتها في الإعداد لربح الآخرة، وإذا كانت كذلك فإن الخاسر الوحيد لها من كفر وفجر([15])، لأنه لم يعدّ نفسه لآخرته، وبذلك يخسر كلًّا من الدارين؛ وذلك هو الخسران المبين.
أما من آمن واتقى فيكون قد ربح الدنيا وربح الآخرة؛ ربح الدنيا لأنه توفّر على هدفها، وربح الآخرة لأنه سعد بها.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الأخيار الأطهار، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعلنا عبيدًا للدنيا وآمالها، ولا تفقرنا من خيرها، ولا تحوجنا إلى لئيم فيها، ولا تجعل لنا شحًّا بها، ولا تكالبًا منّا عليها، وهب لنا الرشد فيها، ولا تخرجنا منها إلّا وقد كتبتنا من أهل السعادة في الآخرة.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([16]).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي كتب بإحسانه ورحمته المثوبة العظيمة لمن أطاعه، وحكم بعدله بالعقوبة على من عصاه، وبشّر بالثواب، وأنذر بالعقاب، وأكثر الوعد، وبالغ في النصيحة، وضرب الأمثال، وذكّر بما جرى في الدنيا لأقوام ممن عتوا وعاندوا بغيًا واستكبارًا من آيات نقمته، وما يؤول إليه المحسنون والمسيئون من مصير السعادة الأبدية أو الشقاء المقيم، كل ذلك تقريبًا لعباده للطاعة التي فيها فوزهم، وتحذيرًا من المعصية التي فيها هلكتهم، وإنه لشفيق رحيم بعباده.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله ما استخفّ بحقّ عباد الله إلّا من استخفّ بحقّ الله، والعارفون بحقوق العباد هم العارفون بحقوق الله قبل ذلك، وما من عارفٍ بحقوقه سبحانه إلّا وعرف حقّ من خلق، وما حقّ المخلوقين إلّا من حقّ خالقهم، وما يملك أحد أن يكتب حقًّا على أحد لم يكتبه الله عليه.
فلنعرف حقّ الله سبحانه لنعرف حقّ المخلوقين، ولنؤدّ حقّ الله لنؤدّي حقّ عباده، ومن اتّق الله عباده لم يظلم أحدا، ولم يضيّع حقًّا لأحد.
عباد الله لنقم حياتنا على تقواه نهتد، ونكن في مأمن من ظلم بعضنا لبعض، ومن تضييع حقٍّ لأحدنا على الآخر.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس يا ربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي لك، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا مقيمًا.
أما بعد أيها الأحبة في الله من مؤمنين ومؤمنات فإلى عنوان:
كربلاء.. نصرًا وهزيمة:
على المستوى العسكري انتصر جيشُ يزيد، بل قضى على جيش الحسين عليه السلام.
وانتصار معسكر يزيد هذا النوع من النصر إنّما هو لكثرة عددٍ وعدّة، وماكان القضاء على معسكر الإمام عليه السلام عن ضعفٍ أو انهزامٍ، أو لقلّة صمودٍ وبسالة؛ فلقد كان ذلك المعسكرُ الأبيّ من أروع أمثلة العساكر الإيمانيّة الرساليّة في تاريخ الدّين الحقّ كلِّه صمودًا وبسالة، وتضحيةً وفداء.
وقد أعطت بطولاتُه دروسًا عالية للآتين بعده في الشّجاعة، والإقدام، والتفوّق في الروح القتالية، وفاعليّتها العمليّة.
وقائد معسكر الحسين هو الإمام الحسين عليه السلام نفسه، ومن تحت قيادته أخوه العباس ابن عليٍّ عليهم السلام جميعًا.
والشّجاعة، والصّمود، والقدرة القتالية للحسين عليه السلام فوق أنْ تُوصَف، ويأتي العبّاس عليه السلام صورةً عن الإمام في الشجاعة، والقوّة، والفداء، والثبات، والصمود بدرجةٍ عالية.
ما كان وراء القضاء على معسكر الحقّ تحت قيادة الحسين عليه السلام، والقضاء على الحسين هو قِلّةٌ من عددٍ وعدّة، وخذلانُ أمّةٍ كانت في أشدّ انتكاسةٍ لها يوم كربلاء دينًا وبصيرةً وإرادة.
ونصرٌ كان ليزيد ما أعقب إلّا خزيًا للمنتصر، وجيشه المرتزِق، ووصمةَ عارٍ في تاريخ الأمّة، وإذلالًا لها، وتفشّيًا في الظلم على يد حكّامها، وخسارةً للدين الذي يمثّل روح الحياة الحقيقيّة في الأرض، والنور الذي يهتدي به الإنسان، وبهداه يقيم حضارته الراقية، وتتحقّق له الغاية الكريمة من هذه الحياة([17]).
أعقب انتصار يزيد مآسي للأمّة لم تنقطع ولا زالت تعيشها حتّى اليوم، وستبقى جاثمة على صدرها حتّى يأتيَ يومٌ ينتصر فيه سليل الإمام عليه السلام وعجّل الله فرجه الشريف، ويسكت صوت الباطل في الأرض.
وفي مقابل نصرٍ عسكريٍّ تحقَّق ليزيد، وتصفيةٍ جسديّةٍ لجيش الإمام عليه السلام بعد بطولاتٍ عجيبةٍ مذهلةٍ أتعبت أعداء ذلك الجيش ممّا سجّله ذلك الجيش وإمامه المعصوم، وبعد روحٍ مَثَلٍ([18]) هناك نصرٌعظيمٌ للإمام عليه السلام، وهزيمة فاضحة ليزيد.
كان فتحٌ ونصرٌ للحسين عليه السلام؛ لخطه، لمدرسته، لهدفه، للدين الذي كان كلّ كفاحه من أجله.
هو النصر الذي بشَّر عليه السلام به كلَّ من سيلتحق به، ويستشهد بين يديه، وحذَّر كلَّ من يتخلّف عنه بخسارته، وأنه لا يبلغه المتخلّف مع من سواه([19]).
([20]) إنّه النصر على شوائب الأرض في النفس؛ حيث تكون عالقةً معيقةً لها عن القرب الإلهي.
ونصرُ تحقيق قفزةٍ عاليةٍ للرّوحِ في الشهادة بين يديّ الحسين الطاهرتين عليه السلام.
وإنه نصرٌ بالإبقاء على الصورة الأصيلة الصِّدْق لدين الله.
ونصرُ الإسقاط لأيّ قيمةٍ كاذبة يدّعيها الإعلام الضالّ لكلّ ما يقابل الدّين ويناقضه([21]).
ونصر الاستعادة للإرادة الرساليّة الحرّة للأمّة، ونصرُ الإعداد الناجح لنصرٍ شاملٍ عظيمٍ كاسح يقضي على حكم الطواغيت في الأرض، وعبادة كلّ الأوثان، ويعُمّ العالم كلّه بالخيرات والبركات.
وهو نصرٌ خطَّطَ له الإسلام، وخطَّطت له ثورةُ كربلاء، ولا بدّ أنْ يكون هذا النصر على يد قائم آل محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، وعجَّل فرج وليّه المنتظر.
وهو النصر المقصود أوّلًا لثورة الإمام الحسين عليه السلام، كان معه نصرٌ عسكريّ أو كانت هزيمة، وهو نصرٌ قد تحقّق للثورة المباركة، ومن آياته ودلائله البيِّنة هذه الصحوة الإسلاميّة المنتشرة في أوساط أهل الإيمان، والأوساط الشبابيّة منها على الأخصّ، والانشداد العظيم للإمام المنتظَر عليه السلام، والاستعداد للتضحية بين يديه الكريمتين.
ومن آيات ذلك النصر هذا الرفض الواعي لكلّ الأطروحات الأرضيّة المجافية للإسلام.
ومن هزيمة يزيد أنْ بدأت ثورات الرفض للحكم الأموي بعد وقتٍ قصيرٍ من يوم الطفّ، ومذبحة كربلاء، ولم يقوَ ذلك الحكم في الأخير على الصمود، ونشطت الروح الرساليّة الثورية في نُخَبٍ من الأمّة، وانهدم حاجز الخوف، وانحسرت روح فقد الثقة والهزيمة.
وصار أيُّ حكمٍ بعد الحكم الأموي مما يمثّل امتداداً له فيه تزويرٌ للإسلام، وافتراءٌ عليه، وإنْ تسمّى باسمه، ورفع شعار الأخذ به التفافًا على وعي الأمّة غير قادرٍ على إقناعها، وتغييب صوت الحقّ الرافض لذلك الحكم فيها([22]).
كانت هزيمةٌ نكراء ليزيد فيما أراده من محو ذكر أهل البيت عليهم السلام الذين في محو ذكرهم محوٌ للإسلام، وفي حياة ذكرهم حياةٌ له حقَّ الحياة. فذكر أهل البيت عليهم السلام يكاد اليوم يُغطّي الأرض، ويَعُمّ العالم بأكمله، وذكرهم الجميل صار ينفذ بقوّة وسرعةٍ فائقتَين إلى أفئدة الناس المتطلّعين إلى الحقّ والجمال مِمَّن لم يخسروا عقولهم.
ونوعُ حكمٍ أراد له يزيد أن يبقى مهيمنًا على الأمة، وجَهِد من أجل بقائه الكثيرون فَقَدَ كلَّ مكانته في وعيها، وصار يواجه بوعي رافضٍ شديد من كل الأوساط على مستوى الأمة والعالم([23]).
إنّ الإمام الحسين عليه السلام وصحبه -وهم عددٌ قليل- والذين استُشهدوا في كربلاء وقُتلوا على يد الجيش اليزيدي لهمُ المنتصرون حقًّا. وإنّ المهزوم في معركة الطفّ على المدى القريب والطويل إنّما هو يزيد المنتصر عسكريًّا ومرتزقته الصِّغار اللئام.
انتهت معركة كربلاء لِتُعقِبَ عِزًّا ومجدًا وفخرًا للإسلام الذي ضحّى من أجله الحسين عليه السلام، ودرجةً عالية ومقامًا كريماً متميّزًا في جنّة الخلد، ورضواناً من الله، وقربًا قريبًا منه سبحانه لا جائزة تعدله للإمام الحقّ ولكلّ أنصار الحسين عليه السلام([24]).
وانتهت معركة كربلاء لتعقب خزيًا وهوانًا في الدنيا والآخرة، ومصير شقاءٍ وعذابٍ ليزيد ومن ناصره يوم المعاد.
ولتتعلّم أجيال الأمّة من كربلاء ونتيجتها ألّا تقاتل إلّا في مرضاة الله، وهدى أحكام شريعته، وإلّا فإنّ كلّ نصر، وكلّ ما يحقِّق ذلك النصر، وكلّ ما ينتج عنه لا يُمثّل إلّا هزيمة، ولا يعني إلّا خسارةً من حيث يأتي على حساب دين الله مخالفًا لأهدافه.
وإنّ أيّ نصرٍ يعود بالأمّة إلى الظلم والفساد والأثَرَة مِمَّا واجهته ثورتها، وكانت من أجل طيّ صفحته، والقضاء عليه هو فشلٌ وعارٌ وخسارةٌ وخيانةٌ للأمّة، ومحاربةٌ لله العزيز الجبّار.
ماذا تقول الأحداث؟
تقول لنا فيما أنشأته دول ذات أنانية قذرة من خارج الأمة وداخلها من كيانات وقوى إرهابية مدمّرة احتماءًا بها من توحُّد الأمة ضد تلك السياسة، وإشغالًا للشعوب فيها بالفتن الطائفية البغضية، وقضاء على الحركات التحررية، والدول التي تصر على استقلالها بأن من ينفقون المال لزعزعة الأوضاع الآمنة للناس، ودعمًا للباطل، وإجهاضًا للحق، وتركيزًا للظلم، ومن أجل الفساد في الأرض ستذهب من يدهم الأموال الطائلة، والثروات الضخمة، والنتيجة لذلك أن تكون عليهم أموالهم هذه حسرةً، وحصادهم منها الندامة.
هذه النتيجة المرّة بشقَّيْها يجدونها في الدنيا، ومن لم يجدها فيها فهو واجدٌ لها في الآخرة. وكلّ شرٍّ في الدنيا يهون وإنْ عظُم أمام شرٍّ آتٍ يوم القيام.
والحكومات التي بنت الإرهاب في هذه الأمة، وغذته بالخبراء والجهود والمال والسلاح والتدريب، أفزعها الخطر الذي يتهدّدها من قوى الإرهاب التي تمرّدت على إرادتها ففزعت تُجيّش الجيوش، وتبذل المليارات، وتشن الحرب على كيانات بنتها بيدها، وهكذا تُبذّر ثروات الأمة في بناءٍ يهدم الأمن ويقوض الاستقرار، وينشر الرعب والهلاك، وتُنفقها ثانيًا لدرء الخطر لا عن الشعوب وإنما عن كيانات تلك الأنظمة.
وما حدث في مصر من ذهاب حكم الإخوان المسلمين، وفي تونس من تراجعٍ في موقع حزب النهضة في الانتخابات النيابيّة الأخيرة؛ واقعٌ يقول لنا:
بأنّ الشعوب ترتقب من أيّ حزبٍ سياسيّ، ومن أيّ نظامٍ حاكم الصِّدْقَ العمليّ في وعوده المعسولة، وإخلاصه لها، وعدله فيها، وتحسينه ما استطاع للأوضاع القائمة، وعقلانيّته، ورشده، وأمانته، ونزاهته، فإن رأت منه ذلك كانت معه، وكانت يدًا تحميه، وعينًا تحرسه، ولسانًا يدافع عنه، وإنْ أخلفها الوعد، ورأت منه ما ينكره وما عهده من مظالمَ سبقت من سلفه، أو عدم تعقّلٍ وخروجًا على الواقع بما لا ينبغي بدأ تخلّيها عنه، وبَدَأ انقلاب فئات من الشعب عليه قد تؤخّر موقعه أو تسقطه.
الشعوب اليوم لا تُقاد قود الأغنام، ولا تستسلم للإعلام والدعاية، وأخذت على نفسها أن تقاوم انحراف الأنظمة السياسية قديمةً كانت أو حديثة، حكمت هذه الأنظمة باسم العلمانية أو الدين أو الديمقراطية؛ فضلًا عن أساس حكمٍ يقوم على الوراثة.
أخذت على نفسها الشعوب أنْ تكافح لنيل حقوقها حتّى تصل إليها ولو على المدى البعيد. وكلّ وسائل التلاعب بعقليّة الشعوب ونفسيّتها مِمَّا تجدها الحكومات وتبحث عنها في غير مقدورها أنْ تُخدّر الشعوب، وتسلبها وعيها، وتشلّ إرادتها الناهضة المندفعة القويّة.
السياسة الجارية على أرض البحرين مُعْلِنة بصراحة من خلال واقعها بأنها سياسة لقطع الأواصر، لتهديم الجسور، لترسيخ الفجوة بينها وبين الشعب، للتخلي عن شعرة معاوية بن أبي سفيان في سياسته.
فبإزاء كلِّ ما تمارسه في حقِّ الغالبية السياسية من تهميش، وحرمان، وإقصاء، وسجن، وسحب جنسية، وتهجير، وتعذيب، وقتل مما شهدته الساحة طوال سنوات؛ تهدم المساجد، تعتدي على الحسينيات، تطارد الشعائر، تمنع إقامة الصلاة في أراضي مساجد هدّمتها، تغلق المؤسسات الدينية والمؤسسات السياسية، تلاحق الخطباء وأئمة الجماعة بالاستدعاءات وللتحقيقات، وكَيْلِ التهم، والمنع من الخطابة لكلمة حقٍّ قالها خطيب، والقائمة في هذا طويلة.
إنها سياسةٌ تقول للشعب لستُ في حاجة لك، اعتمادي على الخارج لا عليك، لا أطلب ولا يهمني رضاك.
سياسة تقول للشعب هذا فراقٌ لا لقاء بعده بيني وبينك. هكذا تقول هذه السياسة بطبيعتها، بوقائعها، بأحداثها اليومية والمستمرّة.
وسياسة من هذا النوع فاقدة للحكمة حتى الحكمة التي تحافظ على مصلحتها القريبة ودنياها.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نظلم أو نستكبر أو تأسرنا أثرة، وتنسينا الحقّ، أو نتبّع الشرّ، أو نَركب مراكب الجهل والضلال فنقع في ضلّ معصيتك، ونُحرم شرف طاعتك.
ربنا ارحم شهداءنا وموتانا وموتى المؤمنين والمؤمنات أجمعين، فكّ أسرانا وسجناءنا، اشف جرحانا ومرضانا، ردّ غرباءنا سالمين غانمين في عزّ وكرامة.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([25]).
[1]– كان مدخل الشيطان إلى قلوبهم بما كسبوا.
[2]– 155/ آل عمران.
[3]– من أين هذا كله؟
[4]– 11-14/ المطففين.
[5]– 201/ الأعراف.
[6]– المولى الحقّ تبارك وتعالى.
[7]– بحار الأنوار ج 52ص264 ط3 المصححة.
[8]– بحار الأنوار ج75 ص91، 92 ط2 المصححة.
[9]– أعيان الشيعة ج3 ص168.
[10]– أنا لو أمّلت أن أعيش خمسة دقائق إضافية فوق ما أنا عليه الآن هل أملك أن أعيش؟ هل يملك أحد لي أن أعيش؟ كيف أربط مصيري بما لا أملك منه شيئا؟! أنا أردت خمس دقائق مهلة حتى أبدأ توبتي، فليس بيدي أن أبقى خمس أو ست دقائق.
[11]– أأجزم الجزم كله أن الدار التي أبنيها أسكنها؟!
[12]– 11/ الحج.
[13]– نهج البلاغة ج4 ص80 ط1.
[14]– أنا خاسر للدنيا بهذا اللحاظ، الكافر خاسر للدنيا، من هو متق خاسر للدنيا، من هو فاجر خاسر للدنيا. بهذا اللحاظ النبيّ صلّى الله عليه وآله قد خسر الدنيا؛ حيث ودّعها ولم يحمل من زينتها شيئا، وكل لذاتها قد انقضت من حياته.
[15]– بهذا اللحاظ يكون الخاسر الوحيد للدنيا هو الكافر والفاجر. أما المؤمن فقد ربحها كلّ الربح.
[16]– سورة التوحيد.
[17]– نصر يزيد؛ ذلك النصر السخيف كم أفقد الدين من روعته، ومن نوره؟ وكم طمس من الحقّ؟ وكم أحدث من تجفيف منابع الخير في هذه الأمّة؟ وكم قسى عليها وعلى الإنسانيّة جمعاء؟
[18]– بعد أنْ ضربوا مثالاً للروح العالية السبّاقة للتضحية والفداء في سبيل الله، كانت على يد الشابّ والشيخ الطاعن في السنّ من كلّ من ضمّ ذلك الجيش.
[19]– تأتي قيادات مؤمنة ثائرة على خطّ الحقّ، ومن أجل الحقّ، هذه القيادات السيرُ وراءها رشيد، ولكن لنْ تُحقّق النصر والفتح الذي حقّقته ثورة الحسين عليه السلام؛ حتّى يأتي يوم القائم، اليوم الكاسح للظلم في الأرض.
[20]– ماذا كان نصر الإمام عليه السلام؟
[21] ما أكثر الدعوات بأنّ هذا الحكم يمثّل الدّين؛ حكم بني أميّة كان قد ادّعى له بأنّه يمثّل الدين، حكم بني العبّاس، حكم العثمانيين، الأحكام الفاسدة الظالمة الباغية الآن كلّها تدّعي بأنّها تمثّل الإسلام، وتنتصر للإسلام، وتمثّل هويّة الأمّة، وتدافع عنها. هذا كلّه سقط، كلّه صار شيئًا تافهًا في وعي الأمّة بفضل ثورة الإمام الحسين عليه السلام على مثل هذا النوع من الحكم المتلصّص كذبًا على الإسلام المدّعي له زورًا.
[22]– هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
[23]– أراد يزيد للحكم الوراثي أن يكون الوريث الوحيد لحكم الإسلام الحق العادل، وليس أنكر اليوم في نظر العالم، وفي نظر الأمة من هذا النوع من الحكم. صار الحكم الوراثي في نظر العالم وفي نظر الأمة حكمًا منكرًا.
[24]– انتهت بأن أعقبت كلّ ذلك للإمام الحسين عليه السلام ولأنصاره الذين ضحّوا بين يديه بدرجةٍ وأخرى.
[25]– 90/ النحل.