خطبة الجمعة (595) 26 جمادى الأول 1435هـ – 28 مارس 2014م
مواضيع الخطبة :
الخطبة الاولى : معرفةُ الله
الخطبة الثانية : لا إسراف في حياة المؤمنين – إسرائيل خلا لكِ الجو فبيضي واصفري – القمة العربية الأخيرة
الخطبة الأولى
الحمد لله الستَّار الغفّار، التوّاب الرّحمان الرَّحيم الذي لا يَعْجِل في العقوبة لمن عصاه، ولا يظلم في عذابه من ناواه، ولا يأخذ بريئًا بمذنب، ولا يفعل إلّا عدلًا.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله نحن في دنيا فيها مُتَعٌ مغرية، ومصائبُ مُفجِعة، والناسُ إمّا قويّ أمام مُتَعها المُلذَّة، ومصائبها المُمِضّة، صابرٌ عما أضرَّ من لذّاتها، وعلى الممِضِّ من مصيباتها، أو منهار في الحالين، ناسٍ قيمة دينه، وما لنفسه من شأنٍ وكرامة.
والإيمانُ يتطلّب القوّةَ ويبنيها فمن كان على إيمانٍ حقّ، ودينٍ صادق اتَّسم بالصَّبر، والقوّة، والصّمود. ومن خسر الإيمان، وكان من عبيد الدّنيا وحَكَمَتْه الشهوة، وأهارته المصيبة. ولا يسعدُ من لا يصبر عن لذّة، ولا يثبت أمام مصيبة. والسَّعيدُ من آمن بالله واتّقاه فبناهُ الإيمانُ وتقوى الله.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا من أصدق أهل الإيمان والتقوى، وجنّبنا كلّ مصيبة نضعف أمامها، وكلّ لذّة نخسر بها شيئًا من ديننا أو صحّتنا، وارزقنا تمام السلامة والعافية عافيةِ الدُّنيا والآخرة يا رحمان يا رحيم يا كريم.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الأعزّاء فالحديث مستمر في موضوعنا السابق (معرفةُ الله سبحانه).
وقد وصل الحديث في سابقه إلى الطرق الثلاثة لهذه المعرفة الأهمّ من بين كلّ المعارف والأكثر ازدهاراً من القلوب بها، والتي مرَّ أنها معرفة النفس، والدّليل العقلي، والتزكية التربوية، والمجاهدة.
وكلّ العبادات الشّرعية مُربّية لنفس الإنسان على الهدى والخير والصلاح والقوة.
وتقدَّم في هذا الصدد ذِكْر عبادة الذِّكر والصلاة. ويأتي الآن بعضٌ آخر:
- الصوم:
البِطْنَةُ تُعرقِلُ النشاط الفكري، وتُعكِّر جوّ الرُّوح، وتنال من صفاء القلب. وذلك على عكس ما يفعله الجوع بالقَدَر الذي لا يضرّ، ولا يقعُدُ بالإنسان عن الحركة، ويَشغل عليه تفكيرَه.
وإذا كان الجوعُ في حدّ ذاته يُعطي أثرًا إيجابيًّا للنشاط الرّوحيّ والفكريّ وصفاء القلب، فإنَّ الجوع الهادف والمنطلق من وعيٍ وإرادة، وليس من ضرورة الفاقة والحاجة، ومن روح التقرُّب إلى الله جلّ وعزّ أعظم أثرًا، وأكثر بركة، وأطيبُ مردودًا.
ولا ينشط قلبٌ بذكر الله عزّ وجلّ، ولا يأنس به في حال بِطْنَةٍ يعاني منها البطن كما يكون له من ذلك في حال جوع لا يملك على الإنسان لشدّته مشاعره.
الإمام عليٌّ عليه السلام في ذِكْر حديث معراج النبيّ صلّى الله عليه وآله. قال صلّى الله عليه وآله:“يا رَبِّ ما ميراثُ([1]) الجوعِ؟ قالَ: الحِكمَةُ، وحِفظُ القَلبِ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَيَّ([2])…. الصَّومُ يُورِثُ الحِكْمَةَ، وَالحِكْمَةُ تُورِثُ المَعْرِفَةَ، وَالمَعْرِفَةُ تُورثُ اليَقينَ”([3]).
والجوعُ يُورِث الحكمة في قلب صاحبه كافرًا كان أو مؤمنًا وهي على الكافر حجّة ووبال، وفي قلب المؤمن نور وبرهان وشفاء ورحمة كما يذكر الحديث نفسه.
- حبّ الله:
حبُّ العبد ربَّه سبحانه يُكسبه معرفة به، وحبُّ الله للعبد يُنقذ قلبه من ظلماته حتّى يسطع بنور معرفته سبحانه.
وصحيح أنَّ معرفة العبد بربّه تجعله يحبُّه، وتزيد من شوقه إليه، وتعلُّقه بذكره ولكن هذا الحبّ الناشئ من المعرفة يُضيء القلب هو الآخر بمعرفة الله، ويزيد من قوّة المعرفة.
عن يونس بن ظبيان:“دَخَلتُ عَلَى الصّادِقِ جعفر بن مُحَمَّدٍ عليه السلام… فَقالَ: إِنَّما أُولُو الأَلبابِ الَّذينَ عَمِلوا بِالفِكرَةِ حَتّى وَرِثوا مِنهُ حُبَّ اللّهِ([4])؛ فَإنَّ حُبَّ اللّهِ إِذا وَرِثَهُ القَلبُ استَضاءَ وأَسرَعَ إِلَيهِ اللُّطفُ…. ثُمَّ قالَ: يا يونُسُ، إِذا أَرَدتَ العِلمَ الصَّحيحَ فَعِندَنا أَهلَ البَيتِ؛ فَإِنّا وَرِثناهُ، وأُوتينا شَرعَ الحِكمَةِ وفَصلَ الخِطابِ”([5]).
- الانقطاع إلى الله:
كلّما توقّف القلب عند قوّة المخلوق، وجماله، وغناه، وعلمه متوجّهًا برؤيته للمحدود، مشتغِلًّا بما لَهُ([6]) من مواهب بارئه، وما لا يستقل بشيء منه لا يعبر نظره إلى المفيض على العبد([7]) كلَّ ما عنده أعماه ذلك عن رؤية الحقّ تبارك وتعالى([8])، وانصرف به عن معاينة عظمته، وأنساه ذكره. وفي هذا موت القلب، وسُبات العقل، وأسْنُ الروح، وانسداد أفق المعرفة.
وكلّما كان اشتغال العبد بالنظر إلى عظمة الله عزّ وجلّ، ولم يستوقفه جمال شيء ولا قوته، ولا غناه عما وراءه من عطاء الله وفضله، وما عليه جليل عظمته وملكه وغناه وجماله مما لا حد ّله كُلّما شعَّ قلبه بمعرفة الله، واستضاءت بصيرته، وترقّى في قربه.
عن الإمام عليّ عليه السلام:“الوُصلَةُ بِاللّهِ تَعَالَى فِي الاِنقِطاعِ عَنِ النَّاسِ”([9]) والانقطاع هنا ليس مقاطعةً في تعامل وعشرة، وإنما هو عدمُ انحباس للتفكير والمشاعر والإعجاب والاندهاش في إطار المخلوق المحدود، والانطلاقُ بالتفكير والمشاعر والانبهار والاندهاش والخوف والرجاء والحبّ في اتجاه الخالق.
- ولاية أهل البيت عليهم السلام:
لا اللهُ عزّ وجلّ ولا أهلُ البيت عليهم السلام يرضَون لأحد من عباد الله أن يقف بنظره وولايته تقديره وتقديسه وحُبّه وخوفه ورجائه عند أحد من خلقه كانوا أهل بيت الرّسالة أو غيرهم من ملائكة الله المقرّبين إليه([10]).
ولكن لأنّ أهل البيت عليهم السلام معرفتهم طريق إلى معرفة الله سبحانه، ومحبّتهم تُنتج محبّته، وهي تعبير عن حُبِّه ومن إنتاج حبّه، وطاعتُهم كذلك، والنّصرةُ لهم نصرة لدين الله كانت مودتهم وولايتهم مُزكّية للنفس مُهذِّبة لها، مُوسِّعة لرؤية القلب، مُطهّرة له بما يُكسبه المزيد من معرفة الله ويُبقيها لديه، ويفتح عليه أبواب القرب الإلهي، والرّحمة من الله الجواد الكريم.
عن الإمام الرضا عليه السلام:“مَن سَرَّهُ أن يَنظُرَ إِلَى اللّهِ بِغَيرِ حِجابٍ، ويَنظُرَ اللّهُ إِلَيهِ بِغَيرِ حِجابٍ، فَليَتَوَلَّ آلَ مُحَمَّدٍ، وَليَتَبَرَّأ مِن عَدُوِّهِم، وليَأتَمَّ بِإِمامِ المُؤمِنينَ مِنهُم؛ فَإِنَّهُ إِذا كانَ يَومُ القِيامَةِ نَظَرَ اللّهُ إِلَيهِ بِغَيرِ حِجابٍ، ونَظَرَ إِلَى اللّهِ بِغَيرِ حِجابٍ”([11]).
وإنَّ العبد من عبيد الله ليُقيم من إسرافه في ذنبه وإثمه وإعراضه عن ربّه بينه وبين أن يرى الله وهو أظهر من كلّ ظاهر وأحضر من كل حاضر حجبًا دون هذه الرؤية.
وولاء أهل البيت عليهم السلام الذي يعود لولاء الله سبحانه الذي لا يخالفون إرادته ولا يخرجون عن طاعته يرفع هذه الحجب، ويُعيد للقلب طُهْرَه ونقاوته.
أمَّا الله سبحانه فيعلم بحال القلوب صحيحها وسليمها، ولكن نظرُ الرّحمة([12]) الخاصَّة منه إنما هو للقلوب التي لا تقبح بما هي عليه من ظلمة وزيغ عن الحق، وانحراف وضلال([13]).
ويبقى على العبيد للاحتفاظ بأيّ نعمة، والازدياد منها، ودفع أي نقِمة والتخلُّص منها أن يلجأ دائمًا إلى الله ولا ينقطع قلبًا ولسانًا وعملًا عن دعائه والاستعانة به.
فدوام المعرفة والتطلُّع إلى زيادتها وهي النعمة الكبرى على العبد مع عبادته ومجاهدته لتزكية نفسه أن يلجأ إلى الله، ويتعلَّق بمنِّه وكرمه.
عن الإمام الصادق عليه السلام من دعاء علَّمه زرارة:“اللهم عرّفني نفسك، فإنّك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف رسولك، اللهم عرّفني رسولك فإنك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجّتك، اللهم عرّفني حجتك فإنك إن لم تعرّفني حجتك ضللت عن ديني”([14]).
من لم يعرف أنَّ الله عزّ وجلّ عظيم عليم حكيم رحيم بعباده لم يعرف رسوله، أو لم يعرف ما هو وصف الرسول وعصمته، وشأن الرسول وحقّه، ووجوبَ الأخذ بكلّ ما جاء به وطاعته.
ومن لم يعرف الرسول وموقعه ومقامه ومهماته، وعصمته لم يعرف ماذا يُطلب فيمن يخلفه في إمامته وقيادته للأمة وللإنسانية جمعاء وعصمته([15])، وأمانته على دين الله، ولم يهتد له، وصار إلى من لا يليق بهذا المنصب الإلهي الشامخ ووظائفه الثقيلة.
ومن ضيَّع الطريق إلى حجة الله على خلقه بعد نبيّه صلّى الله عليه وآله ولم يهتدِ له، وصار إلى غيره ضَلَّ عن الدين وضيَّعه وفَلَتَ الدين من يده([16]).
وهنا يستعين الإمام عليه السلام بالله في معرفته ولا يتّكل على عقل وتزكية نفس ومجاهدة مما يجِدُّ فيه، ويرى عليه أن يأخذ به عارفًا بأنَّ كل الأسباب إنما هي بتسبيب الله سبحانه، وأن عطاءه فوق كل حساب.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين.
اللهم اجعلنا من السالكين طريق الأسباب لمزيد معرفتك، ولا تخلّ بيننا وبين أيّ سبب بلا توكُّل عليك، وامددنا بتوفيقك، ونوّر قلوبنا بنور معرفتك، وزدنا من فضلك يا كريم يا رحمان يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([17]).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي ما مَنَعَ عن عبداً من عباده هدى عامًّا يكون حجّة عليه، ولا هدى خاصًّا هو أهلٌ له، بما سعى إليه، وأعدّ ذاته لاستقباله، وما ضلّت نفس إلا بما كان منها من عمل السوء لا بتفريط منه سبحانه.
الحمد لله الذي يهدي عباده للحقّ، ويُبصّرهم بطرق الطاعة، ويوفّقهم لها، ويُقدرهم عليها رفعة لهم، ولطفًا بهم، ثم يُثيبهم على ما أتوا مما أقدرهم عليه، ووفّقهم له، وهو المثيب أضعافًا من غير أن ينتفع بطاعة المطيعين وعبادة العابدين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله يبدأ الإإنسان توديعه للحياة الدّنيا لأول لحظة يولد فيها، ويستمر مودّعًا لها في كل لحظة، وكل ساعة، وكل يوم، وكل عام حتى آخر الأجل ليُودع دنياه الفانية آخر وداع، ويستقبل الآخرة ببقائها، وما أعظم الفرق بين فانٍ وباق، وبين حياة تُودَّع وحياة تُستقبل وتدوم!!
فخطأٌ في العقل، وضلال في الرأي، وإضرار بالنفس، وإخلال بالمصلحة أن ينصرف الهمُّ إلى الدّنيا وتُنسى الآخرة. وأيُّ دنيا هي ؟ دنيا مختلِطٌ حلوُها بمرّها، وأنسها بوحشتها، ولذّتها بألمها، وكلُّ أهلها في تهديد دائم بالرّحيل.
عبادَ الله علينا بتقوى الله، وتذكّرِ اليوم الآخر وما هو عن نفس ببعيد.
اللهم اجعل حياتنا حياة الصالحين من عبادك، ونيّتنا نيّتهم، وعملنا عملهم، واهتمامنا اهتمامهم، واجعلنا من السابقين لعمل الصالحات، واقبل منا يسير طاعتنا لك، واغفر لنا كثير ما عصيناك، وارزقنا ما أبقيتنا ملازمةَ طاعتك، ومفارقة معصيتك يا وليّ التوفيق يا محسن يا متفضّل يا كريم.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، وصلّ وسلم على وليّك الإمام أمير المؤمنين وإما المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصِّدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائما.
أما بعد أيّها الأحبّة في الله فهذه بعض عناوين:
لا إسراف في حياة المؤمنين:
غير المؤمن قد يَنصح ويُنصح ولا ينتصح، أمَّا المؤمن فيسرع للأخذ بالنصيحة الحق من أين أتت على أنه لا نصيحة لأحد من الناس لم يسبق إليها الدين القويم.
والمؤمن يطلب النصيحة من دينه ويسعى لتحصيلها غير منتظر لأن تأتيَه النصيحة من الغير.
ويكثر الكلام اليوم على مستوى الدول والمهتمين بشأن البيئة والثروات الطبيعية بمسألة المياه وأهميتها، وما يُهدِّد البشرية من كوارث وحروب إذا زاد شُحّها بسبب سوء التصرُّف فيها وعدم القسمة العادلة لها، والإسراف في استعمالها.
والإسراف منهيٌّ عنه في الإسلام الذي يهتم بكلِّ ثروة أولية وثانوية، طبيعية ومنتَجة، خاصة أو عامة.
الإسلام لا يرضى لأهله أن يُرمى بنواة تمرة فيها نفع لإنسان أو حيوان، ويعتبر إنفاق الفَلْس الواحد محلًّا للمحاسبة، ويحافظ على سلامة البيئة وعلى الثروات الطبيعية أتمّ الحفاظ. وقضية الماء قضية موت أو حياة. والاستخفاف بالنعم بزيلها، ولا استخفاف بها كالإسراف والهدر، ولا أشدّ منه إلا أن توضع في المعصية والفساد والإضرار بالناس.
للطهارة الشرعية من وضوء وغسل حدود حتّى في مائها، وللطّهارة العرفية وغَسْل الأيدي والوجوه وكلّ الجسم مقدارٌ من الماء حسبما عليه العرف فلا يكن تجاوز، ومن أجل وضوء أو غسل يد لأكل مثلًا لا يفتح الماء ونحن في تشاغل عنه ولا يُستفاد منه وكان يكفي لهذا الغسل شيءٌ أقلّ من ذلك([18]).
وليس من رشد استخدام الماء أن تكون الحاجة لنصف كأس لشربه فيُملأ الكاس ملأً ليُرمى بباقيه.
المؤمنون أولى من غيرهم بكلّ رشد، وكلّ نأي عن السرف، وأولى بالاقتصاد وتقدير النعم والمحافظة على أسباب الحياة.
ولا فرق في ذلك بين مالٍ خاصٍّ أو عام، ثروة شخصية أو اجتماعية.
وكلُّ هذا لله قبل أن يكون للنّاس([19]).
إسرائيل خلا لكِ الجو فبيضي واصفري:
الساحة الإسلامية والعربية مشغولة بمشاكلها الداخلية والبينية على مستوى دولها، وعلى مستوى جماعاتها وأحزابها.
وهو جوٌّ شديد التناسب مع أعداء الأمة والهوى الإسرائيلي والتفرّد بأي هدف مستهدف لها أولًا بين دول الأمة وجماعاتها وإن كانت الأمة كلّها محلًّا لاستهدافها.
وهي اليوم تختارُ ضرب أهدافها وقت تشاء وفي ارتياح تام حتى من الضجة الإعلامية الفارغة المعتادة في مثل هذه المناسبات.
هذا الوضع المأساوي الذي تعيشه الأمة ويُقدِّم لإسرائيل الفرصةَ السانحة لتنفيذ ما تريد وهي قد تلقى التشجيع أحيانًا من بعض الدول والجهات العربية فضلًا عن خذلان الأخ العربي لأخيه العربي في المعركة، وتُقابَلُ ضرباتها الموجعة لبعض البلاد الإسلامية مثل غزّة وغيرها بفرحة ظاهرة أو مكتومة من بعض أوساط الأمة([20]).
هذا الوضع هل هو من تخطيط صديق لدول عربية كثيرة من خارج الأمة، أو من تخطيط جهة أو أكثر من الداخل، أو من تخطيط مشترك؟
أيًّا كان فيا إسرائيل خلا لك الجوّ فبيضي واصفري.
ولتذهب غزّة، وليذهب القدس، ولتذهب فلسطين كلها والعرب لاهون بنزاعاتهم ومؤامراتهم البينية وحروبهم.
شكرًا أيها الشعب الكريم:
شكرًا أيها الشعب العزيز من سنّة وشيعة شكرًا لوعيكم ويقظتكم، شكرًا لرعايتكم حرمةَ الإنسان المسلم وعدم استباحة حرمته من غير حقّ، شكرًا لعدم تأثّركم وانجراركم لما يريده لكم إعلام الفتنة مرئيّة ومسموعة ومقروءة، بمقالاته وخطبه وبياناته وشعره وصوره وأباطيله وأراجيفه.
شكرًا لاحترامكم ما يربطكم من روابط كثيرة أوّلها الأخوّة الإسلامية، ومنها الأخوّة الوطنية.
إنه إعلام الكراهية، وزرع روح الفتنة، وإشعال نارها، ومَدِّها بوقود من الحقد وتخويف الأخ من أخيه ومن روح الإثارة والتأجيج.
إعلامٌ لا يرتاح حتى تقتتلوا، وحتى يدخل الرعب والفزع في كلِّ دار من دُوركم، وكلّ حجرة وغرفة، حتّى تسيل الدماء الغزيرة منكم جميعًا، وتبقى بينكم روح العداوة مئات السنين لتكون رصيدًا بيد السياسة الظالمة تستفيد منها في أيّ وقت قررت ذلك، وقنبلة جاهزة لتفجيرها متى ترى، وضمانة لاستمرارها في الاستبداد.
إعلامٌ غرضه الرئيس أن لا يكون لهذا الشعب صوت قويّ موحّد لاسترداد حقوقه، وأن يكون قوتين تتصارعان لصالح هذه السياسة وليستعين بهذه على تلك، وبتلك على هذه وقت شاء، ووقت اقتضى مزاجه، ورأى في ذلك مصلحته لإحكام قبضة التسلّط المطلق على الجميع([21]).
كنتم أوعى من السياسة فلم تستجيبوا لها، فابقوا على وعيكم، وازدادوا وعيًا ويقظة لأن أساليب المكر والخداع وإثارة الفتن لا تكاد تنتهي عند حدّ عند من يريد الفتن، والسياساتُ الظالمة لا تَعِفُّ عن سيءّ مقيت، ولا تتورع. وليعلم الإخوة السنة أنَّ واعيًا من الشيعة ومتدينيهم لا يحمل حقدًا عليهم رغم ما تمارسه السلطة الظالمة لهم، المميِّزة تمييزًا ضارًّا بهم هو مشهود ودائم وقائم لا يخفى على عين([22]).
القمة العربية الأخيرة:
لا يَسرُّ أن تعقد القمة العربية في ظروف الانقسامات والانشطارات والتمزُّق الذي تعيشه الأمة على أكثر من صعيد ومن ذلك ما بين الدول العربية على مستوى علاقتها البينية المتوترة بل اللاهبة.
والمخلص لأمّته يتمنى أن لا تكون أصلًا متشرذمة في عديد من الدول، ثم وهي تعيش هذا الخطأ خطأ التعدد والتشرذم والكيانات الصغيرة لا أقل من أن يكون بينها تنسيق وتعاون مشترك، ومصيبة كبرى ألا يكون هذا ولا ذاك ولا علاقة حتى من مستوى التصالح وحسن الجوار، وإنما عداوات وتمزّقات وتشظّيات.
ثم إنَّ أيَّ تعاون على الشرّ هو أشرّ من الفُرقة، وأشدَّ خطرًا على الأمة.
التعاون المطلوب والمُفرح لأبناء الأمة إنما هو التعاون لخيرها واستقلالها وعزّتها وقوتها، تعاون ناهض بمستوى شعوبها، هادف لنشر العدل والمساواة ولإقامة القسمة المنصفة وتركيز قيم الإخاء والاحترام والحب والأمن والكرامة في ربوعها تعاون من أجل عزّة الدين الحقّ وسيادته وظهوره.
أمّا التعاون المضاد فهو مرفوض من دين الأمة ووعيها وضميرها وما تنشده لنفسها ويقتضيه انتماؤها من التمسُّك بالكرامة وروح التحرُّر والاعتزاز.
وإذا كانت القمة العربية تدين الإرهاب فلابد أنها تدين التكفير الذي يمثّل المنبع الأخطر للإرهاب والمغذّي الدائم لاستمراره، والوقود الأشد لإشعال ناره وامتدادها في كل الاتجاهات على مستوى الأمة بكاملها.
ونرجو أن تكون الإدانة والتبرّؤ من الإرهاب ودعوات التكفير وفتاواه السوداء صادقًا. والموقف العملي من الإرهاب والتكفير محلَّه ليس القول وإنما العمل.
ثم إن القمة العربية حتى تُصدِقَ القول، وتُصدَّق في إدانتها للإرهاب عليها فعلًا ومن خلال إعلامها وسياستها العملية أن تدين إرهاب أيّ دولة من دولها ضد شعبها، وأن تُساند أي شعب من شعوب الأمة بلا تمييز عندما يتعرّض لممارسة دولته الإرهاب الظالم في حقه، وتنزل بأبنائه أشد العقوبات وألوان التنكيل لمجرد مطالبته بحقوقه المسلوبة منه على يدها.
ومن دون ذلك لا تكون القمة العربية صادقة فيما تقول ولا مصدَّقة.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تسلبنا هداك، ولا تحرمنا توفيقك، ولا تمنع عنّا نصرك، ولا تُبطئ به عنّا، ولا تذقنا مرارة خذلانك.
ربّنا نستدفع كل سوء مما نحذر وما لا نحذر، برحمتك وقدرتك، ونحتمي بعزتك.
بك تحصُّننا وامتناعنا، وإليك لجأنا يا قويُّ يا عزيز، يا عليّ يا قدير، يا من هو بالمؤمنين رؤوف رحيم.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([23]).
[1]– وفي نقل : ميزات بدل ميراث.
[2]– أي إلى الله عزّ وجل.
فالجوع يُعطي فرصة للانفتاح على الأمر الأهمّ في حياة الإنسان وهو طلب التقرّب إلى الله، ولا يكون ذلك إلا عن معرفة وفي صفاء روح.
[3]– موسوعة الكتاب والسنة ج3 ص373 ط1.
[4]– من ذلك العمل بالفكرة.
[5]– المصدر نفسه ص375.
[6]– أي بما للمخلوق.
[7]– كل نظره إلى عظمة المخلوق، وإلى جمال المخلوق، منقطعًا عن رؤية من وراء المخلوق، وما وراء المخلوق من العظمة غير المحدودة للخالق. هذه نظرة وهي النظرة السائدة عندنا وفي الكثير.
[8]– يعميه ويزيد في عماه.
[9]– عيون الحكم والمواعظ ص52 ط1.
[10]– هذا أمر يرفضه أهل البيت عليهم السلام.
[11]– المحاسن ج1 ص60.
[12]– يرفع الحجاب بين الله والعبد من الجهتين، نعرف كيف يرتفع الحجاب بمقدار من جهة العبد عن الله عز وجل، لكن كيف يرتفع الحجاب من جهة الله عن العبد؟! الله على علم كامل بالعبد.
[13]– ما يرتفع من جهة الله عن رؤيته العبد هو مانع الذنب عن النظر إليه بعين الرحمة الخاصّة.
[14]– الكافي ج1 ص337 ط5.
[15]– هو لا يعرف أن الرسول معصوم، لا يعرف ما هي مهمّات الرسول صلّى الله عليه وآله، لا يعرف شروط إمامته، أهل سيُقدّر من هو الإمام، وبأي مواصفات هو الإمام؟
فمن جرؤ على سلب العصمة مثلا عن النبي صلّى الله عليه وآله هل يرى أن الإمام لابد أن يكون معصوما؟! لا.
[16]– دينٌ بلا إمام حقّ ناقص، ولا بد أن يشوّه، ولابد أن يضلّ أتباع الدين في غياب الأخذ بهدى الإمام الحق.
[17]– سورة التوحيد.
[18]– لا يصح هدر قطرة من الماء بسبب فتح الماء بقوة واندفاعة وتدفّق يساوي أضعاف ما يُستفاد منه.
[19]– صحيح أنك تلاحظ أن المنادين بالاقتصاد في الماء والاقتصاد في الكهرباء من مسؤولين كبار هم أسرف الناس في الثروة العامة والخاصة، ولكن ليسوا هم قدوتنا، وإنما كل أخذنا بدين الله، ونصيحة الله تبارك وتعالى، ونحن يجب أن نكون أوّل من يأخذ بدينه سبحانه وتعالى.
[20]– هتاف جموع المصلين (الموت لإسرائيل).
[21]– فيما أنتم تقتتلون وتنتحرون وتتعادون وتتقاطعون.
هتاف جموع المصلين (وحدة وحدة إسلامية).
[22]– هتاف جموع المصلين (إخوان سنّة وشيعة، هذا الوطن ما نبيعه).
[23]– 90/ النحل.