خطبة الجمعة (569) 29 شوال 1434هـ – 6 سبتمبر 2013م
مواضيع الخطبة :
الخطبة الاولى : كلمة في الدّين
الخطبة الثانية : شعبُ السلمية والجهاد – عارٌ فاحذروه
الخطبة الأولى
الحمد لله ذي المُلك الدَّائم، والسُّلطان الكامل، والقُدرة النَّافذة، والعلم المحيط، والنِّعمة القائمة. غنيٌّ لا تعرِضه الحاجة، ولا ينقُصُ غِناه، وخيرُ كلِّ شيء من عنده، غنيٌّ بذاته، وما غَنِيَ شيءٌ إلّا به، ولا يجِدُ شيء عطاءً إلّا منه.
أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله إنَّ للدّنيا سكرةً تُنسي الكثيرين من أبنائها الحقّ وتُضلِّهم فيخسرون، وهي سكرةٌ شديدة السَّطو تحتاج إلى احتراسٍ من فِكرٍ وتأمُّل، ومجاهدةٍ للشهوات.
وأمَّا الخروج من هذه السَّكرة وقد أفَقَدَتْ من البصيرة الكثير، وأطفأت من نور القلب ما أطفأت، وأَتَتْ من سلامة التفكير على ما أتت، وأضرَّت بالإرادة الضَّرر البالغ، وبالقدرة على المقاومة حتّى أنهكتها فإنّه أمرٌ في العادة يحتاج إلى مُنبِّهٍ استثنائي يهزُّ النفس هزًّا عنيفًا، ويُثير فيها عاصفةً من الشعور المؤلم لعلّه يبعث فيها اليَقَظَة، وينقلها للصّحوة، ليتغيّر ما بها من حال، ويكون لها نهوض. وقد تستولي على النفس سَكرتُها فتفقِدها القدرةَ على العودة إلى الطريق.
فلنحذرْ عبادَ الله مما تفعله الدُّنيا بأهلها من سُكر وضلال، وجُنون وخسار.
والحذرُ، والوقايةُ، وكلُّ الأمن والسلامة في الأخذ بتقوى الله العليّ العظيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعلنا ممن استعسل الدّنيا فألهَته عن الآخرة، وانخدع بها فأنسَته نفسَه، وأَخَذَت به إلى أسوأ المصير، وفضائح الأولى والآخرة.
أمّا بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فهذه كلمة في الدّين:
الإيمان يخلق شخصيَّة، والكفر يخلق شخصيّة أخرى، ونوع شخصية يخلقها هذا غير نوع شخصية يخلقها ذاك، وإنّ للإيمان أثرَه في الإنسان والحياة وأوضاعهما، وللكفر أثرَه، وهما أثران لا يلتقيان.
القوّة والهدى والصَّلاح والاستقامة وسموّ الخُلُق، ورفعة الذّات، وتواضعها، والأخذ بالعدل، والصّبر والشُّكر والرّضا سِمات الإيمان، وما كان على خِلاف ذلك فإنما هو من رَحِم الكفر وعطائه.
الإيمانُ واقعٌ من الانشداد الرّوحي والعقلي والقلبي الذي يعيشه الإنسان المؤمن تجاهَ ربّه العظيم، ورؤيةٌ لعظمة البارئ سبحانه وتعالى تجذب النفس وتستقطبها فتُبغضُ القبيح، وتنفِر من الوضاعة، وتتعالى على النواقص، وتخلُص لطلب الكمال.
والكفر بُعدٌ وانفصال عن الله سبحانه. ولا تجد نفسٌ في بعدها عن الله وانفصالها أُنسًا بجلال وجمال، ولا تشهدُ شيئًا من ذلك، ولا تنشدُّ إلّا لما خسّ ووضع وكان من القبيح.
ومن أين تجد نفس جلالًا وجمالًا في توجُّهها لغير الله سبحانه، وفي غير انشدادها إليه؟!
وما أيسر أن يعرف أحدُنا صدق إيمانه وكذبه، وجدّه وهزله، وعمقه وسطحيّته!! فمن نَفَرَت نفسه من القبيح في نظر العقل والدّين كان المؤمن الحقَّ دون ممن هَفَت نفسه له. ومن لم يستمسك أمام القبيح برهَنَ على مزيد من ضعف الإيمان، وسُقمِ معرفته بالله العظيم وذكره له([1]).
ولو خَلَت نفس من جميل الفطرة والعقل والدين، وخلُصَت لما قابله من قبيح لتمحّضت للشرّ، وأقفرت نهائيًّا من الخير.
فلو صار أبناء بيت أو مجتمع أو أمة لمثل ذلك لما استقرّت لهم الحياة بضع دقائق.
فالحياة لا تقوم إلا بالارتباط بالله سبحانه وما قضى به دينُه. وليس للعقل والفطرة حكمٌ على خلاف الدين، فكلُّ ذلك حكمه واحد، ومصدره واحد، وهو الله العليم الحكيم وبذلك يكون الإيمان والدّين الحقُّ حاجةَ الدّنيا قبل أن يكون حاجةَ الآخرة.
وما حارب محارِبٌ دينَ الله إلّا وقد حارب الإنسانيةَ في دنياها وآخرتها، واستهدف بحربه القاعدةَ الصلبة التي تقوم عليها الحياة، ولا وجودَ للحياة إلّا بها.
ولم يستهدف الإنسانيةَ أحد بضرر أو شرّ أبلغ وأوسع وأشدّ وأبقى أو يبلغُ ما استهدفه بها من ذلك محارِبٌ لها في الدّين([2]). لا يقرب الشك من ذلك بعد أن كان الاستهداف استهدافًا للقاعدة التي يقوم عليها وجود الناس وصلاحهم في الأولى، ولا سعادة لهم في الآخرة إلا بسلامتها.
وعندئذ يكون المدافعون عن الدّين مدافعين عن دنيا الإنسانية وآخرتها، والمضحّون عنه فداءً لها كلِّها.
وكما أن الدّين الحقَّ ضرورةُ الحياة الدُّنيا والآخرة، فإن الدّين في صورته المحرّفة الخارجة به عن هدفه وأخلاقه ومنهجه، والمستبيحة لما لم يُبح، والمحرِّمة لما لم يُحرِّمْ لأشدُّ خطرًا لما يأتي على أيديهم وأكبر ضررًا على يد الحاملين لرايته، والمغرَّرين به من كثير من صور الفِسْق والفجور المُتعمَّد، ويسعون به من فساد في الأرض.
وإذا تملّك هذا الدّينُ المنحرف المزوَّر نفوس قوم كانت له قوةُ الدفع والتحريك للدّين الحقّ القويم، وأَرْخَصَت النفوس في سبيله فساقها إلى أبشع المنكرات، وأفظع الجرائم، وأشدِّ أنواع الظلم والاستخفاف بالأموال والأرواح والأعراض وإلى الفساد في الأرض بغير حساب وبكل ارتياح من النفس.
والمعركة مستمرة بين الدّين الحق والدّين في صوره المحرَّفة وهي مع تعدُّدها تشترك في الخطر المحدق بما هو صِدْقُ الدّين.
وكلُّ الذين يتربّصون بالدّين الدوائر يسرّهم أن يُحرَّف عن واقعه، ويُخرَجَ عن صفائه وأصالته، ويصير إلى صورة مشوّهة تسيء إليه في نظر العقل، والفطرة، والخُلُق الطّاهر، ومصلحة الحياة، والحكمة، والمشاعر الإنسانية النبيلة.
ويسعى هؤلاء إلى استغلال الصور المزوَّرة عن الدين واحتضان دعاتها وأصحابها بمقدار ما يُحقِّق لهم أهدافهم المعادية له وللدّين ويوصِلهم إلى أغراضهم السّيئة، ويُمكّنهم في الأرض بصورة راسخة واسعة. ولا تبخل الجبهةُ المناهضة للدّين الحقِّ على الحركات والجهات ذاتِ الفكر الديني المنحرف المشوِّه لما هو الدّين الحقّ بكل ما تمدُّ به الفكر الكافر من دعم مادّي ومعنوي ما دامت قادرة على توظيفها في مصلحتها.
ومن هذا كلّه تتبيّن القيمة العالية للمعركة الفكرية التي يخوضها أهل الدّين الصِّدق مع أعدائه، وما يجب على القادرين من المؤمنين في هذا المجال من دورٍ كبير تحتاجه سلامة الدّين، وتتطلّبه المصلحة الإنسانية في دائرتها الواسعة.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، والباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، وبصِّرنا دينك الحقَّ، واجعلنا من مبلِّغيه ودعاته، والذائدين عنه وحماته يا حنّان، يا منّان، يا محسن، يا متفضّل، يا جواد يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([3]).
الخطبة الثانية
الحمد لله مسبِّب الأسباب، مالك نواصي العباد. يسجد له سوادُ الليل وبياضُ النهار، يحكم الأقدارَ ولا تحكمه الأقدار، ما من شيءٍ إلا ويُسبّح بحمده، ويشهد بعظمتِه، وهو مستجيبٌ له، خاضِعٌ لقضائه وقدره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله ما من خير إلّا وقد دلَّ عليه دينُ الله، ودعا إليه، وما من شرّ إلّا وقد بيّنه ونهى عنه. فمن أَخَذَ بهدى الدّين، ولم يخرج عليه في شيءٍ لا يأتي إلّا بما فيه خيره وخير الآخرين، ولا يقع في شر مما يضرّ به ويضرّ بالآخرين.
وما فارق امرؤٌ منهج الله في شيء إلا وفاتَه خير، أو أتى لنفسه شرًّا.
ومن طلب اتِّباع منهج الرب سبحانه وتعالى لعبيده فليطلب العلمَ به، وليُقدِّم السؤال عن رأي الدّين قبل أيّ فعل يأتيه، ولا يُقدِمْ حتى يتحصّل الإجابة عليه.
وما أقدم مؤمن صادقُ الإيمان على فعلٍ قبل أن يتبيّن أمرَ الدّين فيه حتى لا يقع في خلاف ما عليه رأي دينه.
ومن أبعدُ عن الورطة، وأسدُّ طريقًا، وأوفر خيرًا، وأحسن عاقبة ممن كان دأبُه كذلك؟!
وما حصل صِدقٌ للتقوى من أحد يفعل ما يفعل، ويترك ما يترك كما يذهب إليه رأيُه من غير مراجعة الدين. فلنتّق الله عبادَ الله، فلا يكن لنا إقدامٌ على فعل أو ترك له حسب رأينا، وعلى معزل من رأي الدّين، وقبل التبيّن لما عليه الشريعة الإلهية الهادية.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا من أهدى من هَدَيت، ولم يُهْمِل شيئًا من دينك، أو يتساهل في شيء من أمر طاعتك، أو يُضلّه الشيطان عن صراطك، أو يمِلْ به الهوى عن دينك فتتيه به السُّبُل، ويبعدَ عن الغاية، ويقعَ في سخطك، ويحِقَ عليه عذابك.
اللهم افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله يالله يا أكرم الأكرمين.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصِّدّيقة الطّاهرة المعصومة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيها الأحبّة في الله فإلى بعض كلمات:
شعبُ السلمية والجهاد:
شعب اختار السلمية بلا عدول عنها شعبٌ أخذ بما هو أرشد، وشعبٌ قرّر أن يواصل جهادَه حتّى تحقيق مطالبه العادلة بلا تراجع شعبٌ لن يُغلَبَ على أمره، ولن يرجع خائبًا بإذن الله.
قَسَت الظروف أو لانت، اشتدّت الصِّعاب أو خفّت فالنتيجة في الأخير واحدة، وأنَّ الشعب لابد أن يُنصف، ولا بد أن يُصبح رأيُه هو المنطلقَ الأولَ للسياسة التي تحكمه، وترسمُ مصيرَه، وهو المرجع الذي لا يتعدّاه خطُّ السياسة، ولا يخرج على ما يذهب إليه.
وهذا هو الطبيعيُّ من بين صورتين؛ صورة أن تكون الشعوب المرجع في السياسة التي تحكم وضعها، وتدير شؤونها، وصورة أن يُفرض عليها نوع سياسةٍ قهرًا من قِبَل بعض أبنائها، وبمحض رأي هذا البعض.
ولا تردُّدَ في أنَّ الصورة الثانية فيها شطط شديد، ومصادمة واضحة للعدل، ولا يمكن أن يُلتمس لها شيء من المبرّرات([4]).
وما سادت سياسةُ الظلم بيتًا إلَّا أتت عليه، ولا مجتمعًا إلا دمَّرته، ولا وطنًا إلّا فكّكت عُراه، وسلكت به إلى ذهاب.
الظلم لا يقوم عليه بناءٌ صالح، ولا يستقيم معه بناء. وكلُّ مبرراته زائفة مثلُه وساقطة القيمة، ولا تُعطيه صلاحية الوجود، ولا تخلق له أثرًا غيرَ أثره، ولا يمكن أن تُمكِّن له في نفس المظلوم ولا غير المظلوم، ولا تُوجِد له احترامًا حقيقيًّا حتى في نفسِ من يُمارسه.
وما مُمارستُه له إلا لغَلَبَة الهوى، وسلطان المصالح المادية الضيقة، وللانسياق وراء دافعٍ من دوافع الأرض التي قد تستبدُّ بالتحكّم في نفس الإنسان، فتُنسيه كلّ شيء آخر، وتُفقده توازنَه.
قد يرتفع صوت الظلم عاليًا، وتُناصره أيدٍ وألسنٌ كثيرة إلا أنَّ القلوب تنكره، وحتّى الكثيرَ من قلوب مناصِريه الذين لا زالت تعيش بعضَ نبضها الإنسانيّ ليست معه، وإن كانت مأسورة لهوى الظلم تحت ضغط الأنانية والجاهلية التي يعيشها داخلُ هذه الجماعة أو تلك.
ارتفاع صوت الظلم مرتبط بقوة الخارج، وبدعم البطش والعنف والإرهاب، وإلا فإنه لا رصيد له في ضمير الإنسان، ولا في منطق الكون الذي لو ساد نظامَه الظلمُ لحظةً واحدةً لهدمه، فإنَّ الكون كلّه لا شيء فيه كبُر أو صغُر، ولا مجرَّةَ ولا ذرةَ في الوجود إلّا وقوامها العدل، ولو عَرَضَ نظامَ الوجود الظلمُ لانتهى، وما كان له وجود.
والذين يمارسون الظلم ومن يناصرونهم يَنْسَون أنهم مرهونون في وجودهم للنظام العادل([5])، والتدبير الإلهي العادل، وإلا لم يكن لهم وجود ولا أثر، وأنهم بهذا الموقف الذي يرفضه النظام الكوني وعدل الله سبحانه يُؤسّسون لقانون مضادٍّ للقانون الذي وُجدوا به، ويحافظ لهم على ما لهم من حظّ الوجود، وحظّ الحياة.
وما سادَ بلدًا عنفُ شعب أو دولة إلا قضى عليها([6])، وقبل ذلك يُحيل حياة أهلها إلى مأساة ويغرقها في العذاب. ولقد قالوا قولًا حكيمًا بأن العنف يولّد العنف، ولكن لا صمود لدين ولا حكمة، ولا تماسك من إرادة أمام بعض حالات الجموح التي تعتري نفس هذا الإنسان، وتملك عليها كلَّ أقطارها وتنسيها كل حق وحكمة وعدل. ولكثيرًا ما هزمت مواقعُ السلطة إرادة أهلها.
عارٌ فاحذروه:
كفى السياسةَ من تجاوزها لحقوق الإنسان والمرأة بخصوصها، والتجاسر على قِيَم الدين والخلق الكريم، والمألوف الحميد ما تكرَّر في حقِّها من هدر لحرمتها سجَّل عارًا على تاريخ هذا البلد لا ينسى.
فلا تزد السياسة هذا العار عارًا، ولا تُضِفْ إليه في كل يوم من نوع جديد.
وقهر امرأة مؤمنة عفيفة في بلد الإسلام بأن تضع جنينَها في السجن أو في المستشفى تحت الحراسة العسكرية عار شنيع يجمع بين سوءتين تتباريان قُبْحًا وشناعة: هدر كرامة هذه المؤمنة وفيه هدر كرامة كلِّ نساء الوطن والمرأة المسلمة، والانتقام من بريءٍ كلَّ البراءة وهو للتوّ يستقبل الحياة.
ما أجمل التعقُّل:
ظلمُ أي شعب مسلم من قبل السلطة الحاكمة له لا يصح إقرارُه من الأمة المسلمة، ويتوجّب إنكاره ودفعه. لا فرق في ذلك بين حكومة وأخرى، ولا شعب وآخر.
وعندما يكون المنطلقُ للأمة في إنكارها للظلم هو الدّين والضمير والغَيرة على الحقّ، واحترامُ حقوق الإنسان لا تُفرِّق بين حكومة وحكومة تُشاركها اقتراف الظلم، ولا بين شعبٍ وشعب يتعرّضان لصور من صوره.
والأمّة كلّ الأمة تعرف أنَّ حربًا تُشنّ من خارجها وممن تعاني من مظالمهم ما تُعاني، وتُقهَر على أيديهم، ويُعطّلون حركتها الحضارية، وينازلون دينها لا يُمكن أن تستهدف أن تحرير بلدٍ لهم، أو تنقذ منهم شعبا، أو تستردّ لهم كرامة، وتُحقِّق لهم الحرية.
وعندئذ لا يكون هذا الحدث مرحّبًا به من أمّة واعية، تعتزّ بهُويّتها، وتحرِص على حرّيتها وكرامتها.
مِثْلُ هذه الحرب حين يُرحّب بها من أمّة فإن الترحيب بها لا ينمّ عن وعي، أو غيرة حقيقية. إنها حرب لا يمكن أن تلتقي مع مصلحة الأمة، ولا مع كرامتها، وحريتها، واستقلالها. وهي حرب لا يمكن أن ينمُّ الترحيب بها عن وعي، ولا عن شعور بالكرامة، والعزة والحرية والحرص على المصلحة. ولا يمكن أن يُمثّل الترحيب بها نصرة للحق والعدل، فالرقص لها من البعض طربا، وأن يطير أحدنا فرحة لمجرد أن تصلنا إنذارات حرب على بلد مسلم من قوى أجنبية لا ترحم الأمة ولا تستهدف إلا تحقيق مصالحها والتمكين لوجودها الانتهازي القاهر المذل في أرض الإسلام، وإملاءَ إرادتها على إرادة الحاكمين فيها، واستغلالها للإنسان والثروة إنما هو أمرٌ في شدّة الغباء، وفي شدة غياب الغَيرة على الأمة.
وهي حرب لا ندري ماذا يكون لها من امتدادات، وماذا تفعل من انفجارات مدمِّرة محتملة في الوضع الأمنيّ الشّامل للأمة كلّ الأمة، حرب لا يُدرى عن مدى ما تأتي عليه من البُنية التحتية للبلد المستهدَف وهي بنية لا يخصّ الإضرار بها وتحطيمها طرفًا فيه دون طرف، ولا يُدرى على من تأتي على حياته ممن نحب أو لا نحب([7])، وما هو العدد الذي ستُذهِبُ بحياته رخيصة ولمصلحة الأجنبي أولًا وبالذات.
هذه الحرب التي يفرح لها البعض انتصارًا فيما يرى للمعارضة وفي ذلك توهُّمٌ شديد على أقلِّ تقدير يرفع قسمٌ من المعارضة نفسِها عقيرتَه برفضها، والتحذير من مغبّتها، والجامعةُ العربية منقسمة حولها.
لا نكون دقيقين إسلاميًّا، ولا على غيرة واعية على الأمة، ولا من حُماة الدّين، ولا ممن تهمه مصلحة الأمة ويرعاها حق رعايتها، ولا محتاطين لأمننا القومي العام، ولا مخلصين لأهلنا في البلد المستهدف، ولا حريصين على حرية أبنائه وكرامتهم حين تسرُّنا حرب أجنبية على بلد من بلداننا لا تعرف هذه القوة الغربية الغازية لها حرمة ولا كرامة؛ حربٌ تجري على يد حكومات من الخارج معروفة النوايا السيئة، والطموحات المادية المجنونة من قِبَل شعوبها فضلًا عما نعرفه ونعانيه نحن من هذه النوايا والطموحات المادية المنفلتة.
الظلم الذي تُمارسه أي سلطة ضدَّ شعبها يستوجب من الأمة أن تقف في وجهه، بما يُصلح وضع البلد الذي يعيش المشكلة، لا بتدميره؛ واجتثاث بنيته التحتية، وجعل كل من فيه وما فيه رهن إرادة الأجنبي وتحت تصرُّفه، وعلى الأمة أن تنتصر لهذا الشعب المظلوم في هذا البلد لتخرجه من محنته، ومن بحر الفتن، لا ليواصل المحنة بعد المحنة والفتنة بعد الفتنة كما هو الحال في نتائج ما اصطُلِح عليه بالربيع العربي حين لعبت أيدي الأجنبي في أحداثه، وأوجدت مكانًا لها فيه([8]).
ومصيبة أكبرُ في فرحة البعض بالحرب المشؤومة أن تنطلق هذه الفرحة العارمة والاستبشار الكبير بها من أملِ أن تقضيَ بآثارها المُدمّرة على الطموحات العادلة لهذا الشعب أو ذلك الشعب من شعوب الأمة في التخلُّص من حالة الظلم والاضطهاد([9]) الممارسة ضدّه من السلطة التي تحكمه مع التماثل الكبير في المعاناة بين شعب البلد الذي تستهدفه الحرب، والشعب الآخر الذي يتمنى هؤلاء قهر إرادته، وسدّ كل باب من أبواب الإصلاح الذي ينقله من مأساته أو يُخفّفها.
سذاجة كبيرة في أمنية هؤلاء بشنّ حرب مدمِّرة ضارة بالشعب الذي يدّعون حبَّه، وسوء كبير في أمنيتهم يمحق المعارضة للشعب الآخر مع اشتراك الإثنين في صفة الإسلام والمظلومية([10]).
الصحيح ألّا نُقِرّ ظلم هنا أو هناك ولا لأيّ شعب من شعوب الأمة، وأن تتجه الجهود كلُّها صادقة في إصلاح الأوضاع بالطرق السلمية في كلِّ الوطن العربي والإسلامي الكبير، وإعطاءِ الشعوب حقَّ اعتبارِها، وحرّيتها وكرامتها والاعترافِ لها بدورها السياسي الفاعل، لا أن نستصرخ حكومات أجنبية لا ترى لنا كرامة، ولا لديننا حرمة، وترى أنَّ أرضنا مزرعة لها، وإنساننا مستخدمٌ لمصالحها لكي تشنّ الحروب على بلداننا، وتُثبِّت أقدامها بصورة أرسخ وآكد وأوسع في أرض هذه الأمة.
ولو صدقت الغالبية من حكومات العرب المسلمين، والجماعات الحزبية فيهما بأنها لا تُقِرُّ ظلمًا، ولا تناصر ظالما، ولا تخذل عدلًا ولا تُناقضه، وأنّها ذات غَيرة حقيقية على الدّين والإنسان وكيان الأمة ومصلحتها لما وسِع البعض القليل من الحكومات بعد ذلك أن يظلم ويبطش ويستبد من غير حساب ويستمر هذا البعض آمنًا في ظلمه وبغيه، ثم إنّه حتى لو شذّ شاذّ من هذا البعض القليل فأقدم على ذلك لما أمكنه إلّا أن يرتدع أمام شدّة النكير عليه، أو خطوات الضغط السياسي الأولى التي يواجَه بها من قِبل أكثرية الأمة.
ولكنّ الخروج على العدل، وممارسة الظلم، والاستبداد في الحكم، واضطهاد الشعوب، والاستئثار بالثروة، وإذلال أبناء الأمة هو السائد الذي عليه واقع الغالبية العظمى من حكومات العرب والمسلمين وفي هذا أسف شديد بالغ.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تحملنا على عدلك، واحملنا على عفوك، وتجاوز عنا، والطف بنا، وقنا شرّ ما نحذر، وما لا نحذر، ولقِّنا خير ما نرجو، وما لا نرجو، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، واشف جرحانا ومرضانا، وفك أسرانا وسجناءنا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([11]).
[1]– قلبٌ يرى الله لا يمكن أن يميل إلى القبيح.
[2]– تُحارب الإنسان في ماله، في حياته أقل ضررًا وخطرًا من أن تُحاربه في دينه الحقّ، وتعدل به عنه. وكذلك بالنسبة للتعامل مع المجتمعات.
[3]– سورة التوحيد.
[4]– وهي خارج منطق الدّين، وخارج منطق العدل والحقّ والسياسة العالمية التي يتّجه إليها العالم اليوم بجدّ.
[5]– أنت لا تقوم في وجودك، ولا تستمر في حياتك إلا على أساس قاعدة النظام العادل. لو اختلّ النظام الكوني، مال قليلا عن العدل لما كنت ولما كانت لك حياتك، وما كان لك أثر.
[6]– عنفٌ من فئة من فئات الشعب ضدّ فئة، عنفٌ يسود الشعب كله، عنف من حكومة لشعب، لفئة من شعب كل ذلك يؤول بتلك البلد إلى انتهاء.
[7]– ممن تحب أنت أو لا تحب.
[8]– الربيع العربي إذا شارك فيه مشارك أجنبي طامع في الأمة، وكان له الدور الكبير الملحوظ فالنصر له لا للأمة.
[9]– نريد حربًا في سوريا من أجل أن ننتصر هنا. هذا خطأ. تريد أن تنتصر موالاة، أو أن تنتصر معارضة، تريد فرجك على حساب الآخرين! تريد إنقاذ نفسك بإهلاك الآخرين؟ هل هذه الشيمة العربية، هل هذه الشيمة الإسلامية؟ الصحيح أن لا يأتي من المعارضة مثل هذا الأمر ولا من الموالاة. وقد سمعنا أصواتا تستبشر بالحرب الأمريكية والحرب الغربية في سوريا من أجل أن يُذلّ الشعب هنا. وهذا فظيع!!
[10]– تتمنى حربا من أجنبيلتنتصر المعارضة في بلد لتهزم المعارضة في بلد آخر يتماثلان إسلاما، ويتماثلان مأساة، وهما من إطار واحد وهو إطار الأمة العربية؟!
[11]– 90/ النحل.