خطبة الجمعة (535) 14 صفر 1434 هـ ـ 28 ديسمبر 2012م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: تكملة لموضوع: الأمانة
الخطبة الثانية: عالمنا والأمن – الحوار والإصلاح – درس في الإهانة – أخلاق رفيعة
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي ما من شيء في الكون إلا وهو آية من آياته، وبيّنةٍ من بيّناته. في كل شيء من خلقه دليل على علمه، وبرهان على حكمته، وعظيم قدرته، وجميل امتنانه ورحمته.
كل الموجودات من عطائه، وكل ما لها من أثر تحت هيمنته، ولا يخرج عن إرادته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله ما أوجب تقوى الله. ولقد سعد من أخذ بها، وشقي من تخلّى عنها حيث لا طريق لفلاح على خلافها، وليس من مهرب عن الشقاء لمن صدّ عنها.
ومن اتقى الله اجتنب ظلم العباد، ونأى عن البغي في الأرض، فالله سبحانه يُبغض الظلم، ولم يرخّص فيه لأحد أبدا، وهو العدلً الذي لا يعدِل عدلَه عدل عادل.
وكيف يقدم على الظلم من يتقى الله وهو يقرأ قوله تعالى: ” وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ. لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ. قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ. فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ” (1).
وقوله تعالى: “الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ” (2) ؟!
وهل لقلب يعمر بتقوى الله أن يجد ميلا لظلم، ويسهل عليه الاثم ؟! إنه لا يقيم على الظلم إلا قلب فارق التقوى، ولا يَقْربُه إلا من غفل عن ذكر الله.
وإن الظلمَ ليلاحِقُ بِعارِه، ودماره، وعذابه، وسوء عاقبته الظالم في الدّنيا والآخرة، ولا يفوتُ ظالماً خزيُ ما ظلم.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم نزهنا من الظلم، ولا تجعل لنا مقارفة له، ولا مشاركة فيه، وجنبنا الإثم كله، وادفع عنا ظلم كل ظالم، وإثم كلّ آثم، وعدوان كل معتد يا قويّ يا عزيز، يا رؤوف يا رحيم.
أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فهذه متابعة للحيث في موضوع:
الأمانة:
مايورث الأمانة:
لتحلّي النفس الانسانية أو تخليها عن الصفات الجميلة، والملكات الجليلة، وما هو جمال لها ورفعة وسمو أسباب يكون الإنسان مسؤولا عن الكثير منها.
فإرادة الانسان ليست معزولة عن صوغ ذاته، وصناعة مستواه في حدود ما آتاه الله من مواهب وإدراك وقدرة وإرادة.
والأمانة واحدة من جلائل صفات النفس، وكمالاتها، وهي من أبرز سمات النماذج الانسانية العالية كالأنبياء والأئمة الحقّ عليهم السلام.
ومن أسباب الأمانة ما يأتي:
1. الايمان الحق:
” قدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ. (3)
عن الامام علي عليه السلام: ” كنٌا جلوسناً مع رسول الله صلى الله عليه وآله فطلع علينا رجل من أهل العالية فقال: يا رسول الله أخبرني بأشدِ شيء في هذا الدًين و ألينه (4).
قال صلًى اللَه عليه و آله: ألينه شهادة أن لا إله إلا اللَه، و أن محمداً عبده و رسوله. و أشدًه- يا أخا العالية- الأمانة. إنه لا دين لمن لا أمانة له” (5). وعنه صلى الله عليه و آله “لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم و صومهم، و كثرة الحج والمعروف، و طنطنتهم بالليل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة”.
وعن الامام عليّ عليه السلام ” من صحّت ديانته، قويت أمانته” (6).
والإنسان مسؤول بما اتيح له من أسباب العلم والتفكير والتدبّر، وتنقية النفس، وتطهير الوجدان، وبما أعطي من إرادة عن ضعف إيمانه، وتقويته، وصدقه، وتعمّقه.
2. القدوة الحسنة:(8)
اتخاذ القدوة الحسنة سبب هداية، وطريق كمال، وانعكاساتها الكريمة المباركة على من اقتدى بها ظاهرة بيّنة.
ورسول الله صلى اله عيه وآله، وأهل بيته عليهم السلام جميعا القدوة الأولى لهذه الأمة المرحومة في كل كمال، وسبقٍ للخير والصلاح.
والاقتداء بهم يصنع الرجال الصالحين والمستويات الانسانية الرفيعة المتقدمة.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله: “ليس منا من أخلف بالأمانة” (9).
عن الإمام الباقر عليه السلام: “والله ما شيعتنا إلاّ من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون -يا جابر- إلاّ بالتواضع والتخشع، والأمانة، وكثرة ذكر الله …..” (10).
عن الإمام الصادق عليه السلام: “إنّ أصحاب عليّ عليه السلام كانوا المنظور إليهم في القبائل (11)، وكانوا أصحاب الودائع (12)، مرضيين عند الناس، سُهار الليل مصابيح النهار”.
3. العقل والتعقل:
عن الإمام الصادق عليه السلام في بيان جنود العقل بعد أن عدّد منها ماعدّد: “والأمانة، وضدها الخيانة”.
4. الإستعانة بالله في طلب الكمال:
رسول الله صلى الله عليه وآله مما كان يدعو به: “اللهم إني أسالك الصحة، والعفّة، والأمانة وحسن الخُلُق، والرضا بالقدر” (13).
عن الإمام الصادق عليه السلام: “اللهم صلّ على محمّد وآل محمد، ولا تدع لي ذنبا إلا غفرته ….. ولا أمانة إلا أديتها”.
والتربية الذاتية هي صاحبة الدور الأكبر بعد مرحلة الطفولة وما قبل التكليف في تكميل الذات والأخذ بها في اتجاه الآفاق الخُلقيَّة الرفيعة (14).
ويبقى لرقابة الرقباء في المحيط الاجتماعي، وأصحاب الإشراف الوظيفي دور في الالتزام الأمانة والصدق وحسن التعامل ونظافة السيرة.
الإمام علي عليه السلام في عهده لمالك الأشتر: “ثم أنظر في أمور عمالك ….. ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم؛ فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوةٌ على استعمال الأمانة والرِّفق بالرعية”.
ففي المراقبة من الصالح الأمين ممن لكلمته وموقفه تأثير على مصلحة المراقب باعث له على الأخذ بالأمانة، والتزام الانضباط بما فيه وفاء بما تتطلبه الوظيفة. اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا أنك أنت التواب الرحيم.
نستودعك اللهم ديننا وأماناتنا، وخواتيم عملنا، ووجّهنا للخير حيث ما توجّهنا، وارزقنا التقوى، وأغفر لنا الذنوب (15).
اللهم افعل بنا ما أنت أهله في أمور ديننا ودنيانا وآخرتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (16).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا يملك عقل إلا أن يسجد لعظمته صعقا إذا وقف على ما اكتشفه العلم من بديع الصنع، ودقيق التكوين، وأسرار الخلق، وغوامض تركيب الموجوادت، هذا والعلم لا يمكن له أن يقف على كل الأسرار، ويستقرئ كل الدقائق.
والعقل عاجز عن إدراك كنه ذاته، وسرّ إدراكه، فأنى له أن يدرك حقيقة ربّه، وكمال خالقه؟! وهو عاجز عن إدراك كنه ما يصل إليه، فكيف يدرك حقيقة الكثير مما خلق الله ممن لا يصل إليه.
الحمد لله الذي يمتنع بجلاله وجماله وكماله عن أن يدرك كنهه نبيٌّ مرسل، أو ملك مقرب. بعيد عن الأنظار، خفيٌ عن الأفكار، قائمة به كلّ الآثار، مدبّر لكل الأحوال.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله اتقوا الله أبصرَ الناظرين، وأسمعَ السامعين، الذي لا يخرج علنٌ من عبد من عبيده ولا سر عن علمه، ولا يخفى عن اطلاعه (17)، ولا ينسى ما أحاط به علمه، وكل شيء حاضر لديه لا فرق بين ما هو قائم، وماض، وقادم.
فلا يَغُرّنّ أحدًا عن نفسه أن يضِلَّ الضّالون، ويلهوَ اللاهون، وينحرف من ينحرف، ويطغى من يطغى؛ ولا يُنسيّنه ذلك شأنَ نفسه، وما تصير إليه يوم تُلاقي عدل الله.
وهو الذي لا تقاوم قدرته، ولا يُدافع قَدَرُه، ولا يُحتمل عذابه، ولا يُرَدّ قهره، ولا طاقة لنفس بأليم عقابه.
عباد الله لنرغب في التقوى أستر ستر، وأحصن حصن، وأعظم وقاية وهي السبيل بعد فضل الله والتعلّق به للنجاة والفوز والفلاح.
أعذنا ربنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات من كلّ ما يبعّد عنك وينسينا ذكرك، ويبغضّنا عندك، ويحرمنا من رحمتك، واجمع لنا خير الدنيا والآخرة وعافيتهما يا رحمن، يا رحيم، يا كريم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصّدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزّكي، والحسين بن علي الشّهيد، وعليّ بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصّادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعليّ بن موسى الرّضا، ومحمد بن علي الجواد، وعليّ بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً دائماً قائماً.
أما بعد أيها الأحبّة في الله فإلى هذه العناوين:
عالمنا والأمن:
عالمنا على مستوى حكوماته الكبرى، والكثير الكثير من سائر حكوماته، على مستوى شركاته الرأسمالية العملاقة، والكثير الكثير من سائر شركاته، على مستوى أحزابه الواسعة والكثير الكثير من احزابه على مستوى كم ضخم من جماهيره يفتقد الإيمان الصادق العميق بالله سبحانه وتعالى، بحضوره، برقابته، بفاعليته، وهيمنته، وعطائه وجميله، وقيمة وعده ووعيده. يفتقد رُوحَ التَّديَّن التي تجعل إرادته في هدفه وسلوكه في طريق ما يريد الله عز وجل له، ويرضى به دينه، وتقضي شريعته.
عالم لا يخشى الله جهلا وغرورا، وتنطلق حركته في الحياة من هوى النفس، والنظرة المقدّسة للمادة، والمقتصرة على الدُّنيا في سباق محوم مجنون على ثرواتها، ومواقعها، وأسباب السيطرة فيها في غياب من معرفة منه لله سبحانه، ومالكيته، وربوبيته، وإحاطة علمه، وهيمنته، ونفاذ إرادته وقهر سلطانه.
وعالم بلا خوف الله، لا تقوم فيه ثقة بين أبعاضه، وحيث لا ثقة لا أمن.
حب دنيا عارم، شهوات طاغية، وتطلع شديد للمواقع، ولعٌ بالزعامة والسيطرة، فُرصٌ سانحة للاستحواذ والهيمنة على ثروات الشعوب والأفراد، وحتّى لقمة المستضعف، وللظهور والتعملق وفرض الذات، وسيادة الرأي، واستعباد الآخر، وقلب لا يراقب الله. كل ذلك مجتمع، ونتيجته انهدام الثقة، وتوقع كل طرف الشر، والمكر السيء، والكيد الضّار من الآخر، والاحتراس منه، والسعي لاضعافه. لا ثقة من دولة في دولة أخرى، ولا من حكومة فيما بين أطرافها، ولا من حزب في حزب، ولا من حاكم في محكوم، ولا من محكوم في حاكم (18).
الكل يخاف من الآخر، يحذر الآخر، سيء الظنِّ بالآخر، متوقع الشر من الآخر، يكيد بالآخر، يعمل على تتبع الآخر، وإضعاف الآخر.
كل طرف يبذل ما يبذل من الأموال الطائلة، ويرصد الموازنات الضخمة، ويشتري ما يستطيع من الضمائر، وما يمكنه من الخبرات، ويعمل على امتلاك أدقّ أجهزة الرصد وأعقدها وأغلاها، ولا يتوقف عن طلب تطوير الآت المراقبة عله يصدُّ عن نفسه كيدا، أو يوقعُ الآخر في مكيدة.
هذا هو الجو السيء القلق المخوف المرعب الذي يحكم عالم اليوم، ويحرُمُه الأمن، ولا يسمح بأرضية للاستقرار، ويثير الحروب، ويعادي بين الانسان والانسان، ويفتك براحة النّاس وثروتهم وإنسانيتهم والحياة التي يعتزون بها، ويدفعهم حبها المفصول عن معرفة الله وخشيته وتقواه، وانشدادهم للمغريات الدنيوية لكل هذا السوء.
الحوار والاصلاح:
1. موضوع الحوار مسألة غامضة يتوقع لتداول الآراء أن يكشف غموضها، ويزيل عنها الغبار، ويُجلّي أمرها.
وموضوع آخر الحوار أن يكون لكل طرفان لكل منهما فيما يرى حقا على الآخر، أو أنهما مسلّمان بذلك، ويدخلان في النقاش في محاولة التوصل إلى حل وسط يقوم على تنازل كل منهما للآخر من شيء مما هو له في ذمته.
وقد لا يكون الحق إلا لطرف على أخر، أصبح عاجزا عن أداء الحق لصاحبه فيطلب منه أن يتنازل عما لا يستطيع أداءه من هذا الحق.
أما الفساد العام سياسيا كان، أو اقتصاديا، أو ثقافيا، أو اجتماعيا، أو دينيا، أو أخلاقيا فلا تنتظر الجهة القادرة على الاصلاح، المالكةُ لأسبابه،والمسؤولة عنه الدخول في حوار من اجل إنهائه، ولا تضع شروطا لتخليص الناس منه، والاتجاه بالأوضاع إلى نصابها الصحيح الذي يقضي به الحق، ويتطلبه العدل، ويرضاه الضمير، وتستقيم به الحياة (19).
2. ومعارضة الفساد منتفية حال انتفاء الفساد الذي هو موضوعها، وسببها، ولا يتصور أن يكون لها وجود بدونه.
وكل لون من ألوان الفساد يرتفع بلواه عن الناس يرتفع اعتراضهم ومواجهتهم له، وكل لون من ألوان الفساد، يستجدّ أو يكون اصرار على بقائه يدفع الناس لانكاره، ومعارضته، ومواجهته.
والفساد شر كله، وكلما بقي زاد خطرا على مصالح الأوطان والمجتمع، وأضر بالموازين العادلة للحياة، وانحراف بها عن أهدافها المطلوبة، وخطها القويم.
فلا يأتي في ضوء هذا الواقع، ولا في دين، ولا ضمير، ولا مصلحة وطن، ولا عرف انساني أن عليك أن تعترف راضيا مختارا بلون أو أكثر من ألوان الفساد ثمناً لاصلاح شيء منه (20). فالفساد إنما يؤسس للفساد، ويفتح الباب لانطلاقته الواسعة المدمِّرة. الفساد والظلم حالة يُقهر الناس السكوت عليها أحيانا تحت ضغط البطش، وليست من الحالات التي يقبلون بها مختارين، ولا يكون السكوت عليها نتيجة للحوار إنما هو ظلم قد تفرضه القوة.
3. لا ملازمة بين الحوار والاصلاح، فإذا وجدت الارادة الاصلاحية عند القادرين على الاصلاح، المالكين لأسبابه انفذوه بلا حاجة إلى الحوار، وسدوا بذلك أبواب الفتن، وإذا غابت الإرادة الاصلاحية فلا جدوى في ألف حوار ولا في مليون حوار.
وقد يتخذ الحوار وسيلة للاعتذار عن الاصلاح والتنصل منه، أو لتسويفه، وتطويل عمره.
وإذا كان الحوار سيخلق حالة حرجية للمُطالبِ بالإصلاح تُصعِب عليه تجاوزه وتسويفه فإنه هنا سيحاول ما استطاع غلق باب الحوار (21).
فهل نحن أمام هذه الحالة من موقف السلطة من قضية الاصلاح؟ لو عرض السؤال على الواقع الخارجي لأجاب بنعم، ونعم، ونعم لا غير.
وفي كل مرة يرفع شعار الحوار ليتوارى بسرعة، أو يتنكر له من السلطة التي رفعته ليعلن عن عدم جديته أساسا، وإنما كان لمناسبة سياسية معينة، وغرض إعلامي، ولإحراج المعارضة، والتخفيف من ضغط الخارج يقلل من قيمته حتى يعود هذا الشعار لا يُلفت النظر، ولا يُستقبل بأي اهتمام من قبل الشعب، وقد يتجه البحث عن خلفيته الاعلامية، والغرض السياسي الموقت الذي يقف وراءه، ويحرِّكه.
درس في الإهانة:
شاب يمشي في طريقه حاملا طفله على ذراعة آمنا مسالما، وطفل وديع يعيش حنان الأبوة في كنف والده، وطريق لا اعتصام فيه ولا مظاهرة، ولا تصادمات، والمكان قرب بيت الخالة المقصود زيارتها. في هذا المكان وفي هذا الجو الآمن المطمئن لو كان للمواطن أمان يتلقى الشاب من رجل الأمن صفعة على وجهه على منظر من فلذة كبده لتسحق كرامة الأب في ظلم صارخ، وبشاعة بالغة، وتداس عزته، ويهان فيه اسلامه، وانسانيته، ومواطنته، ويهان من خلاله كل مسلم، وكل إنسان، وكل مواطن، ويعطى كل ذي نفس كريمة هنا درساً في الإهانة البالغة والاذلال المر (22)ّ.
صفعة أرادت أن تغتال براءة الطفولة الغضة، وترعب طفلا في عمر البراعم، وتحطم نفسيته، وتعقّدَ مستقبله، وتهز كل كيانه هزا. وكم واجهت الطفولة البريئة داخل البيوت في ساعات الليل والنهار وفي السيارات والأماكن المختلفة من مشاهدِ العنف والقسوة التي تمارس في حق الآباء والأمهات فأرعبتها، لتترك في نفسية جيل المستقبل آثارا مدمرة مما يخلف صدمات عنيفه؟!
ظرف صعب، واقع حرج، معاناة مّرة لا تسمح لهذا الشعب التوّاق للحرية، الشاعر بكرامته، المعتز بقيمة إيمانه، المقدر لانسانيته أن يفكر ولو لحظة واحدة في التنازل عن مطلب الإصلاح الجدّي الذي يُؤَمِن له الحرية والكرامة، ويقدر له انتماءه الايماني وإنسانيته، ويحفظ حقوقه، ويعترف له عملاً بموقعه.
أخلاق رفيعة:
يشكو البعض بأنهم بتعرضون من شباب من شباب المعارضة إلى الاتهام بالتجسس، والسعي بهم عند السلطة، وأنهم يحصل لهم إتلاف في المال كإضرار بسيارة أو ما شابه.
وبغض النظر عن صدق هذا الأمر وعدم صدقه، فإن المطلوب من شباب المعارضة أن يعطوا مثلاً في التقوى والالتزام الديني، ولأ يتهموا أحد بلا دليل، وان لا يسرعوا في إساءة الظن.
وإذا ساء ظنهم في أحد ألا يرتبوا على ذلك استباحة دم أو مال. مطلوب كف الأذى، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وأن تكونوا نماذج في الأخلاق الرائعة الرفيعة.
بارك الله فيكم من شباب مؤمن وحقق أملكم في الأمن والسلام ونيل الحقوق، والتمتع بالحرية، والاعتراف لكم بالعزة والكرامة.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أصلح سوء حالنا بحسن حالك، وافعل بنا ما أنت أهله، وادفع عنا كل سوء ، يا رحمن، يا كريم.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، واشف جرحانا ومرضانا، وفكّ أسرانا وسجناءنا، ورد غرباءنا في خير وسلامة يا رحمان، يا رحيم، يا كريم.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، واشف جرحانا ومرضانا، وفكّ أسرانا وسجناءنا، ورُدَّ غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (23).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – سورة الأنبياء: من الآية 11 إلى 15.
2 – سورة غافر: الآيتين 17-18.
3 – سورة المؤمنون: الآيات من 1 إلى 8.
4 -يقصد أسهله.
5 -وشهادة أن لا إله إلا الله سهلة بما هي كلمة على اللسان، وهي ثقيلة في الميزان، وكل ما يُقصِّر فيه الانسان إنما هو مسئوليات مترتبة على شهادة “أن لا إله إلا الله”، فكل ما يصعب على نفس هذا الإنسان إنما هو التزامه في كل حياته بمقتضى “أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له”.
6 – استطاع أن يتحمل الأمانة.
7 – بمقدوره أن يكون مؤمنا أمينا، وهو وقادر على أن يخسر إيمانه وقدرته على الأمانة.
8- من الأسباب المساعدة على أن تبني الأمانة في النفس، وترفع مستوى النفس إلى حد تحمل الأمانات ما صغر منها وما كبر..
9 – تكتشف أن الشخص ليس من أهل البيت، وليس من مدرستهم، وليس من أتباعها الحقيقين، أن لا يكون أمينا.
10 – فالشيعي كان معروفا في أهله ومحيطه ممن قد يخالفونه بأنه قدوة حسنة، وكان محل الأمانة.
11 – كانوا محل نظر في القبائل لتمتّعهم بالتقوى والصلاح والأمانة.
12 – لثقة الناس بهم.
13 – رسول الله نموذج فريد وكل إمكانته المعنوية فوق مستويات الآخرين، وكل ذلك مواهب من الله عز وجل ولكنه لا بجده أبدا يستغني عن الله عز وجل في طلب وجوده، كماله، حياته، هداه، وقايته.
14 – هناك تربية الأهل في الصغر، وهناك تربية محيط اجتماعي تستمر معك ولكن تبقى أنت بعد بلوغك وتكليفيك المسئول الأول عن تكميل ذاتك.
15 – الدعاء مستفاد من دعاء مروي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذا ودّع رجلا.
16- سورة التوحيد.
17 – وهو المحيط بكل شيء علما.
18 – ويصل اهتزاز الثقة حتى إلى داخل العائلة الواحدة.
19 – إنه انتظار في غير مكانه، وهو في نفسه فساد.
20 – أصلح لك شيئا من الفساد على أن تعترف وتذعن راضيا مختارا بلون آخر من الفساد أو أكثر من لون؟!
21 – قد توجد ظروف خارجية ضاغطة تجعل من الحوار وسيلة لشيء من الاصلاح، فهنا إذا كان القادر على الاصلاح لا نية له في ذلك يتهرب من مقدمة الحوار، ويحاول أن يهرب منها هروبا من الاصلاح نفسه.
22- هتاف المصلين: هيهات منا الذلة
23 – 90/ النحل.