خطبة الجمعة (532) 22 محرم 1434هـ ـ 7 ديسمبر 2012م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: الأسوة
الخطبة الثانية: وقفات قصيرة: حساسية مفرطة – المهزّة أم القاهرة؟ – ملفّان
الخطبة الأولى
الحمد لله بارئ النَّسم، مُجري الفلك، مسخّر الرّياح، فالق الإصباح، القاضي بالدّين، ربِّ العالمين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله بِئْسَ العبدُ من شَغَلَه النّظر في عيب غيره عن النّظر في عيب نفسه، وتفقّد عورات الآخرين وخَفِيَت عليه عوراتُه، فظلّ ينقصُ في دينه من جهتين: تفتيشه عن عيوب غيره، وكشف ما لهم من عورات، ومن جهةِ إهمالِ نفسه، وتراكُم ما يعتريها من عيوب، ويأتي عليها من نواقص بإهماله لها، وتخلّيه عن تقويمها وإصلاحها.
وما أجملَ بالعبد أن يَشغلَه عيبُ نفسه عن تَتبُّع عيوب غيره، وأن لا يترك لعيب من عيوبه أن يتمكّن فيها، أو يأخذ أيَّ مكث في أجوائها، بل أن لا يدعَ لعيبٍ أن يتسلّل إليها، ولا لسوء خُلُقٍ أن يُكدّر صفوها.
والقلبُ الحيُّ الذي يحضره تقوى الله، ويحكمه ذكره قلبٌ لا تجد له العيوبُ والانتكاسات سبيلًا.
اللهم إنّا نعوذ بك من قلبٍ تسوده الغفلة، وتقطنه الظُّلمة، ويحكمه الهوى، ومن نفسٍ مفتوحة الأبواب على الضّلال، مستهواةٍ للذنوب، مأسورة للعيوب.
اللهم لا تُفقِدنا نورَ معرفتك، ولا تحرمنا أُنس ذكرك، ولا تجعل لنا اشتغالًا بغير طاعتك يا كريم، يا رؤوف، يا رحيم .
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطف محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا ومن علّمنا علمًا نافعًا من مؤمن ومؤمنة، ولجميع المؤمنين والمؤمنات، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرّحيم.
أمّا بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فهذا حديث موضوع:
الأسوة:
والأُسوة هي القدوة. وللإئتساء والاقتداء خلفيّة من الاقتناع الفكري، والإعجاب النفسي، والعِشق الشّعوري الذي يجعل صاحبه منشدًّا لمن يرى فيه قدوةً له، ومثالًا يصوغ شخصيّته في ضوء ما يتعشّقه من معالم شخصيّته، ويأخذ على نفسه أن يلتحق أو يقرب من مستوى ما هو عليه من فكر، أو صفة، أو دور.
ويدخل في تحديد القدوة واختيارها مستوى ما عليه الإنسان من فكر، وخبرة، وما هو عليه من توجُّهٍ نفسي، وواقع خُلُقي، ونَمَطٍ سلوكي، وطُهْر روحيّ، ودرجة إيمان، وهدف للحياة.
فهذه المضامين كلّها تشارك في اختيار القدوة، وتبعث في اتجاهها؛ فلأصحاب النظرة المادية في الحياة، وعُشّاق الدّنيا قدوةٌ تختلف كلّ الاختلاف عن قدوة يقع عليها اختيار أصحاب الرّؤية الإيمانية، ومن تستقطبهم حياة الرُّوح، ويعلو في تقديرهم شأنُ إنسانيتهم على جانب حيوانيتهم. وقد قيل: إن الطيور على أشكالها تقع.
والقدوة التي تحتلُّ مكانة كبيرة في نفس المرء تدخل بصورة مؤثّرة إلى حدٍّ بعيد في تشكيل شخصيّته، وصَوغِ ذاته، ويُعينه شوقه إليها على قطع مسافة ما بين صفاته وصفاته، وسلوكه وسلوكه مما أعجبه منه، واجتذب نظره.
وتُقدِّم القدوةُ وسيلةَ إيضاحٍ نفسيٍّ للمقتدين بها بشأن الفكرة التي يُقدّرونها، ويرون فيها أنها فوق مقدروهم بكثير لتدفع بهم في طريق التحرّك في اتجاهها، وينظروا إليها أنها ليست فوق الإرادة الجادّة، والتصميم الحازم، أو أنَّ تجسيدها في حياة الإنسان ممتنع بكلّ مستوياته، وأنها بعيدة كلّ البُعد عن مقدوره، وأنها ضرب من الخيال(1).
وللدّور الكبير للأسوة فقد أولاها الإسلامُ اهتمامًا بالغًا، وللفرق الكبير بين دور الأسوة الحسنة وما لها من أثر نافع في صناعة الأفراد والجماعات والأُمم، وما للأسوة السّيئة من دور هدّام، وآثار ضارّة مدمِّرة دعا الإسلام بقوّة وتركيز لاتخاذ القدوة الحسنة، وحذَّر بشدّة من اتباع القدوة السيئة.
في أهمية القدوة، وتنوّعها نقرأ ما عن الرسول صلَّى الله عليه وآله:”وإنَّ أئِمَّتَكُم قادَتُكُم إلَى اللّهِ عز وجل، فَانظُروا بِمَن تَقتَدونَ في دينِكُم وصَلاتِكُم”(2).
وما عن أمير المؤمنين عليه السلام:”النّاسُ بِاُمَرائِهِم أشبَهُ مِنهُم بِآبائِهِم”(3).
فمن اتَّخذ إمامًا، أو أميرًا، ورأى فيه قدوتَه ومثالَه دَخَلَت شخصيته في محاكاة لشخصيّته، وجاء في ذاته صورةً من ذاته، فإن كان إمامه إمام هدى أخذ من هداه، واقتربت شخصيّته من وعي وطهر وعظمة شخصيته، وإن كان إمام ضلال أخذ من ضلاله، وانعكس السّقوط الذي تُعاني منه شخصية إمامه على شخصيته.
وقد تختفي إشعاعاتُ الفكرة الرَّاقية على كثيرٍ من العقول، ويصعب هضم إيحاءاتها ودروسها، ولكنّ تجسيدَها في شخصية القدوة ومواقفها وعلاقاتها يكشف عن كثيرٍ من الغموض، ويُجلي الكثير من الأبعاد الثرّة التي تكتنزها.
فمن صعب عليه أن يفهم الكثير من عظمة الإسلام وأبعاد حقّانيّته وقدرته على تخريج الإنسان الكامل سَهُلَ عليه أن يفهم ذلك من خلال تجسُّد الإسلام في الرّسول صلّى الله عليه وآله والأئمة علهيم السلام.
ولقد تواكب في حياة الإسلام الحقّ منذ آدم حتى خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بما يستوعب واقع الرِّسالة الإلاهية في كلّ تنزّلاتها، وواقع الأنبياء جميعًا عليهم السلام أمران؛ عظمة الرِّسالة وعظمة الرّسول… عظمة الفِكرة، وعظمة القدوة(4).
فما أغنى تاريخ هذا الدّين الحقّ بالقدوات الصالحة، والقِمَم الإنسانية العالية:
نقرأ هنا:
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاءُ مِنكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ…}(5).
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْاخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(6).
وعن الإمام عليّ عليه السلام:”اِقتَدوا بِهَديِ نَبِيِّكُم(7) فَإِنَّهُ أفضَلُ الهَديِ، وَاستَنّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّها أهدَى السُّنَنِ”(8).
وعنه عليه السلام:”( ـ في خُطبَتِهِ الَّتي تُسَمّى بِالقاصِعَةِ ـ): ولَقَد قَرَنَ اللّهُ بِهِ صلى الله عليه وآله مِن لَدُن أن كانَ فَطيما أعظَمَ مَلَكٍ مِن مَلائِكَتِهِ، يَسلُكُ بِهِ طَريقَ المَكارِمِ، ومَحاسِنَ أخلاقِ العالَمِ، لَيلَهُ ونَهارَهُ، ولَقَد كُنتُ أتَّبِعُهُ اتِّباعَ الفَصيلِ أثَرَ اُمِّهِ(9)، يَرفَعُ لي في كُلِّ يومٍ مِن أخلاقِهِ عَلَما، ويَأمُرُني بِالاِقتِداءِ بِهِ”(10).
وبهذا يكون الإمام عليّ عليه السلام قد تلقّى الإسلام في مدرسة الرَّسول صلّى الله عليه وآله وعلى يده الكريمة فِكرًا وعملًا، وقرأه من الكتاب الكريم، والحديث النبويّ الشريف، ومُجَسَّدًا في حياة الرسول صلّى الله عليه وآله أكمل تجسيد ليتخرّج أكمل مسلم، وأعظم شخصية بعد رسول ربِّ العالمين صلوات الله وسلامه عليه وآله.
ومصير المقتدين من مصير قدوتهم فعن الإمام عليّ عليه السلام:”النّاسُ أتباعُ مَنِ اتَّبَعوهُ مِن أئِمَّةِ الحَقِّ وأئِمَّةِ الباطِلِ(11)، قالَ اللّهُ عزَّ وجلَّ:{يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَ لَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}(12) ، فَمَنِ ائتَمَّ بِالصّادِقينَ حُشِرَ مَعَهُم، ومَنِ ائتَمَّ بِالمُنافِقينَ حُشِرَ مَعَهُم، قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه وآله:”يُحشَرُ المَرءُ مَعَ مَن أحَبَّ”، قالَ إبراهيمُ عليه السلام:{فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى}( 13)”(14).
وبهذا ينكشف ما على الإنسان من واجب الاهتمام والتدقيق والدِّراسة في مسألة الاختيار للقدوة لنفسه، ومن يختاره قدوةً لمن تشملهم تربيتُه(15)، ومن يرتبط بهم طفله، ويستقي منهم الفكر والقول والسلوك، ويأنس لهم في كلّ ذلك.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين و المرسلين، وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرّحيم.
اللهم ارزقنا بصيرة الدّين والدّنيا، وأصلح شأننا كلّه، واجعلنا من أهل القدوة الصّالحة لعبادك يا كريم، يا متفضِّل، يا رحمان، يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}(16).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أنشأ الخَلْق، وأبدع الصّنع، وأحكم التقدير، وأحسن التدبير، وهو المحيط بكلِّ مَن خَلَقَ وما خَلَقَ علمًا، القاضي في كلّ شيء حكمُه العادل، المهيمن على كلّ شيء بقدرته المطلقة، وإرادته النّافذة.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله من طمع في رحمة الله فليجتنِبْ معصيته، وليستجِب لدعوة طاعته، ويوالِ أولياءَه، ويعادِ أعداءَه، ولا يسأم من التضرّع إليه، وإبداء مسكنتِه أمامَ عظمته، والتوسّل إليه بجوده وكرمه.
ولتنقطع الآمال من غير الله(17)، ولا يكُن تعويلٌ إلاّ عليه، أما الأخذ بالأسباب وهي لا سببيّة لها إلا بتسبيبه فمِمَّا أمر به سبحانه، وجعله وسيلة إلى عطائه ورحمته(18)، وإنَّ للعبد وسيلةً من دعاء القلب واللسان، ووسيلةً من العمل والأخذ بالأسباب الأُخرى حسبما أَذِنَ الله سبحانه في طلب الخير من عنده، والمزيد من رحمته، ولا تنفي إحداهما الأُخرى، والدّين يطلب الجمع بينهما. والفاعلُ الحقّ، والمفيض للعطاء للخير هو الله وحده.
وهو الذي يُرجَى، ويُحمد، ويُشكر ويُخاف، ولا يُشرك في عبادة، ولا طاعة.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوَّاب الرحيم.
اللهم لا تُسْلِم لنا عقلًا، ولا قلبًا، ولا نفسًا لظلمة من الظُّلَم، ولا تُوقِع لنا شيئًا من ذلك كُلّه في لحظةٍ من لحظات الزّيغ والضّلال، واجعلنا دائمًا على نور من عندك، وهدى من فضلك، وفي عافيةٍ شاملةٍ دائمةٍ وافيةٍ كافيةٍ يا ذا المنِّ العظيم، والفضل الجسيم، والإحسان القديم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصَّادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتّقين، وعلى فاطمة الزّهراء الصّدّيقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك وأمنائك في بلادك: الحسن بن عليّ الزّكي، والحسين بن عليّ الشّهيد، وعليّ بن الحسين زين العابدين، ومحمّد بن عليٍّ الباقر، وجعفر بن محمد الصّادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعليّ بن موسى الرِّضا، ومحمد بن عليّ الجواد، وعليّ بن محمد الهادي، والحسن بن عليّ العسكري، ومحمّد بن الحسن المهديّ المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرَّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا يا كريم يا رحمن يا رحيم.
أما بعد أيّها الإخوة والأخوات في الله فعنوان هذا الحديث:
وقفات قصيرة:
أولًا: حساسيّة مفرطة:
عاد الوضعُ لِيُبَرهِن عمليًّا وبصورة علنيّة سافرة على استمرار الجرأة من الجانب الرّسمي على هدم المساجد، وهي جرأة على الله سبحانه أوّلًا وعلى دينه، والثابٍت من شريعته، ثمّ إنها تحدٍّ وإئلامٌ واستفزازٌ للضّمير المسلمم الذي يحتفظ ولو بشيء من الحيويّة والاحترام لمقدّسات الشّريعة.
ولا يُدرَى لماذا هذه الحساسيّة المفرطة عند السّلطة من المساجد أصلًا، ومن مواقع خاصّة لها بدرجة مُضاعفة.
هدمُ المساجد، والإقدام على ذلك المرة تلو المرَّة إعلان صارخ، وإصرار قبيح لا يليق بمتديّن فضلًا عمَّن يُدين بالإسلام على انتهاك المقدّسات الإلهية، والعبث بمقدَّرات الدّين.
هذا من جهةٍ دينية، ومن جهة حقِّ المواطن فإنّ في هدم المساجد تنكّرًا واضحاً لقيمة هذا الحقّ، وأصل هذا الحقّ، واستخفافاً به، وإمعاناً في الاعتداء عليه لما يمثّله هذا العدوان من نقض لحقّ المواطن في الحريّة الدّينية، وممارسة شعائر دينه، وحمايتها من قبل السُّلطة.
ثانيًا: المهزّة أم القاهرة؟
كم هي مساحة المهزّة؟
كم هم سُكّانها؟
كم هم المطلوبون بسبب جرائم القتل والحرق وهتك الأعراض، والإخلال الأمنيّ المقوِّض لأمن الوطن من أبنائها؟(19)
كم أُخٍذ من أبنائها في المداهمات التي طالتها؟ ما هي المدّة التي استمرّ فيها اقتحام بيوت هذه القرية في جُنْح الظلام؟
ما هي الجرائم التي ستقدّمها نتائج التحقيق الموضوعيّ والنّزيه، والأدلّةُ الشّرعية الواضحة، والعلميّة الدّقيقة مما اتُّهِم به أبناء القرية؟
قرية صغيرة… أسابيع من المداهمات والاقتحامات الليلية مع تكسير أبوابٍ ونشر رعب… عدد المنازل المداهمة – حسب النائب البلدي المقال عن جزيرة سترة كما في موقع الوفاق، الإثنين 3 ديسمبر – كما نقلت المتابعات بلغ 330 منزلًا…. والمعتلقون بلغوا أكثر من تسعين مواطنًا – حسب المصدر نفسه – لا زال بعضهم قيد الاعتقال… هذا ولا تعليق على المستوى الرسمي على الحدث الجلل(20).
والسؤال أمام المدّة التي استغرقتها المداهمات، وعدد المنازل التي طالتها، وعدد المعتقلين الذين زجَّت بهم في السّجون أنحن نتحدّث عن المهزّة القرية الصغيرة أم عن القاهرة عاصمة مصر بملايينها وتعقيداتها الكثيرة؟(21)
أهو تفتيش عن مطلوبين، عن شيء آخر أم استهداف سافر لأمن المواطنين وكرامتهم، وتقديم أمثلة صارخة في العقوبة الجماعية، وأساليب قاسية ضاربة بالدين والقانون وكرامة الإنسان عرض الحائط من أجل إسكات صوت الحرية، ونسيان الحق، والقبول بالظلم؟(22)
جواب لسان الحال أبلغ من جواب لسان المقال.
ثالثًا: ملفّان:
ملفّان مهمَّان يُعانيان من تدهورٍ لا يُحتمل يؤرّقان الشعب، ولا رحمةَ فيهما للوطن، ولا حسابَ لإنسانية الإنسان، وكرامة المواطن، وحقّ المواطنة، وتجاوزهما واسع لأحكام الدّين، ومخالفتهما واضحة للتوجّه العالميّ وحتى التوجُّه في المنطقة العربيّة، وللغة العصر، والمواثيق العامة وحتى الميثاق المحلّي، ومستوى الإنسان في هذه الأرض.
ملفٌّ سياسيّ لا يُعير أيّ أهمية لرأي الشعب، إرادته، شعوره، حرّيته، تطلُّعه. يُعامله معاملة الطّفل الذي لا يدرك من أمر صلاحه وفساده شيئًا، ولا دور لإرادته في تقرير مصيره… الذي يُختار له ولا يَختار، وتُرسَم له خارطة حياته أينما أدّى به هذا الطّريق المرسوم من الغير.
والملفُّ الثّاني ملفّ حقوقيّ تعرَّى خطره للقريب والبعيد، وشَهِد بفظاعة انتهاكاته الشّهودُ المحايدون، وشهود ممن اختارتهم السلطة، ودول حليفة. وصدرت نداءات مُتكرِّرة من منظّمات حقوقية، ومجامع دولية، ودول صديقة بضرورة معالجته لكنّه لا زال يزداد سوءًا، وينضاف إليه جديد من الانتهاك لحقوق الإنسان والمواطنة.
فأيُّ الملفّين يمكن للشعب أن يلهوَ عنه، أو ينساه، أو يتساهل في أمره، وكلٌّ منهما نارٌ تحت قدمه، وتهدّد معناه وأصل حياته، وتُذيقه ألوان العذاب؟
لا سياسة الإرهاب، ولا سياسة المراوغة، ولا التزوير الإعلامي، ولا طول عمر الأزمة يستطيع أن يُلهيَ الشعب أو ينسيه محنته ومعاناتَه وعذابه، أو يثنيَه عن حراكه السّلميّ في المطالبة بحرّيته، وكرامته، وعزّته، وحقّه، وموقعيته(23).
وأحد الملفّين وتفاقم المحنة من جهته هو كذلك لا يُمكن له أن يصرف الشعب عن الملف الآخر، وما يعنيه حل مشكلته لحياته.
ما الذي يجعل الشعب ينهي مطالبته بحقوقه وقد زاد مستوى الانتهاك للحقوق ووصل هذا الأمر إلى سلب الجنسية، ومنع التظاهر السِّلميّ، وارتفع المستوى في عدد الشّهداء والجرحى والمعوّقين، ولا زال الشّوزن يُمزّق أجسام الشباب، ويخسف وجوههم النضرة كما في حالة الشّاب عقيل عبد المحسن، ولا زال الغاز الخانق يقضي على حياة الأبرياء.
ما الذي يجعل الشّعب يُنهي مطالبته بحقوقه، ويرجع مطمئنًّا هادئ البال إلى المنازل وهذا حال الحقوق؟!(24)
وما الذي يجعل مأساة الحقوق تُنسي الشعب أو تُلهيَه عن الملف السياسي، والفسادُ السياسيُّ منبع كل الفساد، والخللُ السياسيُّ مصدر كل الخلل؟
وإذا كان الشعب لا كلمةَ له في سياسته ولا رأي، ولا إرادة، ولا اعتبار فمن أين يكون له ضمان حقوقه، والاطمئنان لسلامة أمنه، وتَمتُّعه بكرامته؟!(25)
ملفان لا يسمح أحدهما بالتنازل عنه، ولا بالتنازل عن الآخر.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربّنا لا تؤاخذنا بما أخطأنا، وأسرفنا على أنفسنا، أو بما كان منّا من خلل في النيّة أو تقصير في العمل، وتجاوز عنّا وانصرنا نصرًا عزيزًا قريبًا مبينًا يا عليّ يا قدير، يا رحمان، يا رحيم.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، واشف جرحانا ومرضانا، وفكّ أسرانا وسجناءنا، وردّ غرباءنا في عزٍّ وكرامة برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (26).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المقتدي قد يُعجب بالفكرة، ولكنّه يراها أنها فوق مستواه بكثير، وأنّه من المستحيل عليه أن يقرب من أفقها. إلا أن قدوته تجسّد له أن هذه الفكرة ليست ممتنعة على المقدور الإنساني، والإرادة الإنسانية الجادّة مما يدفع بالمقتدي في اتجاه طلب الوصول إلى أفق من آفاق تلك الفكرة.
2- كمال الدين وتمام النعمة ص221.
3- تحف العقول ص208 ط2.
4- وبهذا تتمّ المدرسة النظرية والعملية لتعليم الإنسان وتربيته.
5- 4/ الممتحنة.
6- 21/ الأحزاب.
7- سيرته، هيئته، طريقته.
8- نهج البلاغة ج1 ص216 ط1.
9- صغير الناقة بعد أن يُفطم.
10-المصدر السابق ج2 ص157.
11-كما اتّبعوهم في المقدّمات يتبعونهم في النتيجة. الطريق هو نفس الطريق، والنهاية هي نفس النهاية.
12- 71/ لإسراء.
13 – 36/ إبراهيم.
14 – بحار الأنوار ج66 ص81 ط3 المصححة.
15 – علينا أن نختار قدوة الولد من ابن وبنت، وقدوة كلّ من نُربّي.
16 – سورة الكوثر.
17 – فمن غير الله يملك لأحد نفعًا أو ضرًّا. وهو لا يملك حتى لنفسه شيئًا من ذلك؟!
18 – للعبد دعاءان: دعاء العمل، ودعاء القلب واللسان، بكل منهما يستمطر رحمة ربه، ويطلب المزيد منها.
19 – من هم الذين ارتكبوا ذلك، وكم هم؟
20 – الذي لو كان وراء الأكمة خلفية لزلزلت هذا البلد زلزالًا شديدًا.
21 – هذا التفتيش، هذا العدد، هذه الضجّة القائمة تُناسب مدينة في حجم القاهرة، ولا تُناسب المهزّة التي هي قرية صغيرة.
22 – هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
23 – للشعب موقع، للشعب حقّ، هذا الحقّ لا ينساه صاحب الحقّ، هذا الموقع لا يتنازل عنه صاحب الموقع.
24 – هتاف جموع المصلين (لا تراجع لا تراجع).
25 – إنّ بقاء الفساد السياسي يعني بقاء الفساد كلّه، والخلل كلّه، والمأساة كلّها.
– 90/ النحل.