خطبة الجمعة (488) 3 ربيع الأول 1433هـ ـ 27 يناير 2012م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: العفّة
الخطبة الثانية: من نادى بالسلمية أكثر مما نادينا ؟!
الخطبة الأولى
الحمد لله المُبدئ المُعيد، الحميد المجيد، ذي العرش العظيم، الفعّال لما يريد، الرّحيم الودود، الجبّار القهّار العزيز القدير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أُوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله، والاستقامة على هدى الله وطاعته؛ فمن ضيّع هدى الله لم يجد هدى، ومن تخلّى عن طاعته كان وليُّه الشيطان، ومن سار على غير هدى كان إلى ضياع، ومن تولّى الشّيطان أمره كان أخاه في المصير.
فلندرأ عن أنفسنا بتقوى الله، ولنحمِها من شرّ الضّياع، وخلود النّار بطاعته.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنّك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم اجعلنا مهتدين بنور معرفتك، سائرين في ضوء دينك، مبتغين مرضاتك، ساعين إليك، مرحومين برحمتك، مشمولين لعفوك ومغفرتك، فائزين بجنّتك وكرامتك، والمنزلة الرَّفيعة عندك يا أجود من أعطى، ويا أكرم من سُئِل، يا أرحم الرَّاحمين.
أما بعد فموضوع هذا الحديث:
العِفَّة:
والعفّة الترفّع والامتناع عمّا فيه دناءة، وخِسَّة، وانحدار، وعن كلِّ ما لا يليق، وما يَنال من دين المرء، وشرفه، ويحطّ من قدره.
وتحتاج العفّة إلى رؤية صحيحة من الإنسان لقيمته، ودوره، وغايته، حتّى يشعر بكرامة نفسه، فيمتنع عليه في ضوء شعوره بالكرامة أن يهبط بمستواه، ويخس، ويدانيَ الرذائل، ويأتي ما فيه ذُلّه، وثَلْمَةٌ لشرفه.
تحتاج النفس من أجل عفّتها أن تكون قوية، لا تغلِبُها الرغبة، ولا تصرعها الشهوة، ولا تقودها الأهواء. ولا يتم للنفس شيء مما تحتاجه لخُلق العفّة من رؤية صحيحة، وشعور بالكرامة، وقوَّة واقية من الانحدار من غير الإيمان بالله، والانشداد العبوديّ الصَّادق إليه.
والعفّة على درجات، والنفوسُ أوزانٌ متفاوتة؛ فنفسٌ تعِفّ عن القبيح الكبير وإن أغرى بشدّة، ولا تملك حساسية العفّة عمّا دونه، ونفسٌ يهون عليها أو تبلُغَ ولو بمجاهدة أن تعِفّ عما قلّت شهوتها فيه دون ما نال الشديد من شهوتها(1)، وأخرى لا تتماسك أمام أيّ شهوة، ورابعة لا تنال من عفافها كلُّ الشهوات.
هذه مقدّمة، أمّا الاستضاءة الحقُّ فبنور ما قاله الكتاب الكريم، وأفاده المعصومون عليهم السلام:
إنّ من العفَّة ما وعد الله عليه مغفرة وأجراً عظيماً. تنتهي الآية الخامسة والثلاثون من سورة الأحزاب بعد تعدادها لسمات رئيسة للصالحين والصَّالحات، والتي منها {… وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ…} بقوله سبحانه:{… أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}(2).
والخروج عن هذه العفّة تجاوز لحدود الله، واقتحام لما حرَّم، وإيقاع للنفس في سخط الربّ، وتعريض لها للعقوبة الشرعيّة في الدّنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}(3).
وعن الباقر عليه السلام:”ما عُبِدَ اللهُ بشيء أفضل من عفّة بطن وفرج”(4).
وإن عفة البطن والفرج للون عظيم من ألوان الجهاد، والاستقامة على الدّين.
“عن أبي بصير قال: قال رجل لأبي جعفر عليه السلام: إني ضعيفُ العمل، قليل الصيام ولكنّي أرجو أن لا آكل إلا حلالاً. قال له: أيّ الاجتهاد أفضل من عفة وبطن وفرج؟!”(5) وفي لسان آخر:”وأي جهاد أفضل من عفّة بطن وفرج؟!”(6).
وشهوة البطن والفرج وهما شهوتان عارمتان لهما ضغط هائل على النفس، والتعفف في موردهما يحتاج إلى مدد من الدين والبصيرة، وقوة المقاومة، وتعوّد القناعة، ومن فقد بذلك سقط ضحيةً لهما، وخسر صحّته، وشخصيّته، ودينه.
ونجد في الحديث تخوُّف الرسول صلَّى الله عليه وآله على الأمة من هاتين الشهوتين اللّتين كثيراً ما تسبّبان الانهيار:”ثلاث أخافهُنّ على أمّتي من بعدي: الضلالةُ بعد المعرفة، ومضلات الفتن، وشهوةُ البطن والفرج”(7).
أسباب العفّة:
هذه جملة أسباب مذكورة عن غرر الحكم، والبحار والنهج لأمير المؤمنين عليه السلام:
1. “أصل العفاف القناعة…”(8).
النفس المقودة للطمع يُضعفها طمعها أمام المغريات، ويسلب إرادتها أمام أيّ شهوة بينما إذا قلّت رغائب النفس، وتطلّعها للشّهوات، ورضيت بما يَحِلُّ ويتيسّر، ولم تجد ميلاً ضاغطاً لما لا تجد كان لها في ذلك عونٌ كبير على العِفّة، وعصمةٌ عن التبذُّل والارتماء المَهين وراء المشتهيات.
2. “قدر الرجل على قدر هِمّته…. وعفّتُه على قدر غَيْرَته”(9).
فمن قدّّر شرفَ عرضه، وعزّ عنده، وشقَّ على نفسه أن يُنالَ منه، أدرك قيمة أعراض الآخرين عندهم، واعتزازهم بأعراضهم اعتزازَه بعرضه، واستعدادهم لحمايتها على حدِّ استعداده، وعمق جرحهم لمسِّها عُمقَ جرحه؛ فحمله ذلك على العفّة عن أعراض النّاس أو التعفُّف دون خدشها.
أمَّا الدنيء في نفسه، المسترخص لعرضه، الذي لا يبالي بتدنيس شرفه، فهو أكثر استرخاصاً لعرض الغير واستهتاراً في شأنه، واستخفافاً بقيمته.
3. “مَنْ عَقَلَ عَف”(10).
إذا غلب العقلُ الشهوة، وحضر الإنسانَ الفكرُ القويم عندها، ولم تُنْسِهِ عاقبة النزق، ووزرَ المعصية، ومآل السقطة استطاع أن يقاوم الشهوات المذِلّة، والسقطات المخزية، والمعاصي الموبقة.
أما إذا غاب العقل، وفُقِد التفكُّر، واستفردت بالنفس شهواتها فلا ماسك لها عن التهور والمعصية والفجور، وما يُذِلّ ويُهلك، ويُدمِّر، ويُخزي.
ثمرات العفّة:
وهذه كلمات أخرى عن الغرر للإمام علي عليه السلام في ثمرات العفّة:
“اَلعِفَّةُ تُضَعِّفُ الشَّهْوَةَ”(11).
تستثير الشهوةُ النفس، وإذا وَجَدَتْ نفساً ضعيفة سهل عليها أن تملكها وتذلها وتقودها إلى المهانة والجحيم.
وإذا كانت النفس قويّة، تعيش حالة واضحة من العِفّة، والإحساس بشرف الذّات اصطدمت الشهوة بجدار مانع من ذلك يسقط أمام صلابته سحرها وتأثيرها. وبمرّات متكررة من استعلاء النفس ورفضها للانزلاق تزيد قوة صمودها واستعلائها، حتى تقف الشهوات الضاغطة صاغرة أمام قوة النفس وشموخها، وتهِن، وتفقِد كل تأثيرها.
“ثَمَرَةُ العِفَّةِ القَناعَةُ”(12).
من الصفات ما يتبادل التأثير، وقد تقدَّم أن القناعة سبب للعفّة، وكما هو كذلك فإنَّ العفة تزيد في صفة القناعة، وتُركِّزها، لأنه بالتعالي على الشهوة، واكتساب النفس قوَّة الترفع على ما فيه إذلال لها من رغائبها تزهد في تلك الرغائب، وينصرف بالها عنها(13).
والعفّة تصون الشرف، وتُخفّف الوزر، وتُعْظِم القدر عند الله، وتكسب العز إلى غير ذلك من المنافع العظام.
نقرأ:
“مَنْ عَفَّ خَفَّ وِزْرُهُ، وَعَظُمَ عِنْدَ اللّهِ قَدْرُهُ”(14).
“ثَمَرَةُ العِفَّةِ الصِّيانَةُ”( 15).
“بِالعَفافِ تَزْكُو الأعْمالُ”( 16).
“مَنْ أُتْحِفَ العِفَّةَ وَالقَناعَةَ، حالَفَهُ العِزُّ”( 17).
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اغفر لنا ربنا ولوالدينا، وأرحامنا، وقراباتنا، وجيراننا، وأزواجنا، وكل من أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، ومن أفادنا علماً نافعاً في ديننا أو دنيانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك بلطفك ورحمتك ورأفتك أن تُطهّر قلوبنا من رجس الشِّرك، ونفوسنا من أن تتعلَّق بالمحرّمات، وجوارحنا من الدّنوّ منها، ونزّهنا من كلّ مبغوضك، وما يحطّ قدرنا عندك، وما يطمع فينا الشيطان الرّجيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}(18).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا يغيب عن علمه علمُ عالم، ولا جهلُ جاهل، ولا عدل عادل، ولا ظلم ظالم، ولا ظاهرٌ ولا خفيّ، ولا عَلَنٌ ولا سرٌّ، ولا كبير أو صغير.
برأ الأشياء وهي قائمة به، ولا استغناء لها عنه، ولا خروج لها عن قدرته، وتدبيرُها من عنده، وتقديرها بيده، ولا استمرار لها إلا بفيضه فكيف تغيب عنه أو تخفى عليه؟!.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله فلنتّق الله فآجالنا محدودة، وأنفاسُنا معدودة، وأعمالُنا مرصودة، وخواطرُنا معلومة، ونوايانا مكشوفة، وكلّنا علنٌ لله العليم الخبير. وعلم الله لا مغيِّر له، ولا يضيع عند الله عمل صالح، ولا مفرّ لمذنب من ربّه، وليس له منه من مجير.
أعذنا ربَّنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات من الغفلة عنك، ونسيان يوم الحساب؛ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاَّ من أتى الله بقلب سليم، وارزقنا أفهاماً حكيمة، وقلوباً سليمة، ونفوساً رزينة، وزدنا من نور هداك يا رؤوف يا رحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً دائماً مقيماً.
أمَّا بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى هذا الحديث:
التعصُّب للباطل لا يُبقي لصاحبه سمعاً ولا بصراً، وهناك من يتعصب ابتداءاً للحقّ، ثم يخرج به تعصّبه عن حدود الحقِّ ومقتضاه، ويتحوّل إلى عصبية للذات، يضيع بها النظر للحقّ، والتقيّد به، وتنصبُّ الرؤية عنده على رضى النفس، وتكون الاستجابة لهواها.
والتغالب السياسي الدنيوي من أشدّ ما يدعو للتعصّب الأعمى. والبقاء فيه مع الحقّ ولو كان ذلك التعصُّب لله ابتداءاً يحتاج إلى نفوس عالية، شديدة التورُّع، والتقوى(19).
ولذلك لا يَعْجب الإنسان من حالات الانفلات الإعلامي المسرف في البعد عن الأخلاق والدّين في هذه الصراعات ممن لا يرون وراء الدّنيا وزينتها شيئاً آخر، أو لا يحضر لهم من ذلك أيّ شعور.
ولأترك هذا الأمر وأذكر بعض النقاط:
1. السلميَّة هي الخيار الذي كرّرنا مناداتنا به، ولم نعدل عنه، ولا وجه للعدول عنه، ولا زلنا ندعو إليه.
وفي الوقت الذي كنا نُكرِّر فيه هذه الدعوة كنّا إرهابيين، ودعاةَ فتنة، ومتآمرين في إعلام الآخرين، وسيبقى هذا البهتان مستمرّاً ما دامت مُطالبة بالإصلاح والحقوق.
إنّ رفضنا للإرهاب الذي شهدته مناطق من السّاحة الإسلامية رفضنا للمنكرات الكبيرة، وأشدّ من إنكارنا لشرب الخمر، وأكل الميتة على فظاعتهما.
ومن نادى بالسلميَّة أكثر مما نادينا؟! ومن طالب بضبط الأعصاب أمام عنف السلطة أكثر مما طالبنا؟! وكم ساءت بنا الظنون من أعزاء لنا لشدَّة ما شدّدنا على نهج السلمية، وعدم الردّ على الاستفزازات القاسية الظالمة من السلطة؟!
وما كان ذلك ليواجَهَ إلا بالاتهام بالإرهاب والعنف والتآمر والعمالة. وكل ذلك لم يُغيّر من منهجنا، ولم نتعامل معه بردّة فعل غاضبة.
وكلّ ذلك لن يغيّر من إخلاصنا لهذه الأرض، وإنسانها، ولن يعدل بنا إلى سلوك آخر.
2. ولكن أَمِنَ الإرهاب، والخروج على السلميَّة، والانزلاق في العنف أن يُدافع الإنسان عن عِرضه الذي يشهد العدوان عليه.
وهل تعني السلميَّة أن ترى عرضك يُعتدى عليه فتبتسم لهذا العدوان، وتُصَافح فاعله، أو أن تسكت على انتهاكه وأنت قادر على الدفع عنه؟(20)
أعطوني شريعة سماوية، أو أرضية تقول بذلك. أعطوني دستوراً، أو قانوناً، أو عرفاً إنسانيّاً يُقِرُّ ذلك.
فليخرج مسؤول من المسؤولين الكبار في الدولة، أو عالم من علماء الأمة يأمر النّاس بأن عليكم لو شاهدتم من يعتدي على أعراضكم أن تحيّوه وتُكرموه، أو تسكتوا على عدوانه وقذارته وإن أمكنكم دفعُه(21).
هذا كلام لا يقوله إلا مسخٌ، ولا يمكن أن يقوله إنسان.
ماذا يفعل صاحب العرض لدفع العدوان عن عرضه؟
إنْ كفى الزجر اكتفى به، وإن لم يكفِ انتقل إلى ما يكفّ به العدوان عن عِرضه مما دون القتل من غير أن يزيد على المطلوب، وإذا لم يُجدِ مع يد العدوان إلاَّ قطعها تقطع(22).
وعن الكلمات الفاحشة، والاستهتار اللفظي بالأعراض، والقذف فإن لكلٍّ من ذلك حكمه، وأعراضُ المؤمنين ليست الشيء الرخيص الذي يُترك لبذاءة البذيء، وسخف السخيف، وجهل السافل، ويمر دون أدنى مواجهة(23).
3. يحتجّون بخروج المرأة في مسيرة، أو مشاركتها في اعتصام لتبرير ما يرتكب في حقّها من مساس بالشرف والكرامة.
وهل تُبيح مشاركة المرأة في مسيرة والاعتصام إنكاراً منها للمنكر، وأمراً بالمعروف، ومطالبة بالحقوق والعدل والإصلاح، وإنهاء الظلم، وسفح الدم الحرام، والاعتقالات الظالمة أن تُستباح حرمتها، ويُدنّس شرفها، وتهدر كرامتها؟(24)
لكأنكم تقولون أن على المرأة إما أن تسكت عن المطالبة بالحقِّ، وتتحوّل إلى حجر أصمّ، وشيطان أخرس، وتتخلّى عن كل مشاعر البنوّة والأخوّة والزوجية والأمومة فلا تُبالي بما يقع على أبيها وأخيها وزوجها وابنها من ظلم، وضيم، وقتل، وتعذيب، وسجن، وملاحقة، وفصل من العمل، والدراسة، وتتفرّج على مشاكل كلِّ أحبتها أو أن تقبل ويقبل كل هؤلاء الأحبّة أن تُترَك لألوان التعديات ومنها ما يمسّ شرفها، ويهدر كرامتها، وينتهك حرمتها.
أي منطق أكثر اعوجاجا من هذا المنطق؟!
وأي فكر أشدّ انحرافاً من هذا الفكر؟!
وأي سياسة أجهل من هذه السياسة؟!
وأي امتهان لكرامة الإنسان أقبح من هذا الامتهان؟!
وأي انتهاك للحقوق أفظع من هذا الانتهاك؟!(25)
ومن الذي يستخفّ بحرمة النساء، ويهدر كرامتهن: من يسكت على خروج المرأة في احتشامها تُنكر المنكر، وتأمر بالمعروف، وتطالب بالحقّ والكرامة، أو من يدفع بها إلى المراقص والحفلات الغنائية المثيرة المختلطة، ويسوّق للفنادق بسلعة الفجور؟(26)
وهل اقتصرت الكلمات النابية البذيئة والألفاظ الساقطة، والقذف والسبّ والشتم والتعديات الأخرى ممن تسمونهم برجال الأمن على المشارِكات في المسيرات والاعتصامات؟ كم نالت المرأة وهي في المنزل، وأمام زوجها، وفي الحسينية من هذه الشتائم والبذاءات؟!(27)
ولكن كل صدق النّاس كذب، وكل كذبكم صدق والبرهان عندكم هو لغة التهديد والقوّة.
أيها المسؤولون، يا أنصار هذه الاستفزازات:
فليعرض أحكم على نفسه أن لو اعتدى أحد على عرضه بكلمة ماذا سيفعل؟ بفعلٍ شائن ماذا سيفعل؟ هل سيصمُت… سيسامح الفاعل، سيمرر الأمر وكأن لم يكن من شيء؟!
راجعوا تقرير بسيوني وما ذكره من قتل وتعذيب وهتك للأعراض، واذكروا ماذا أحدثتم بالمساجد، وللقرآن الكريم، وما قيمة المال عند قوّات أمنكم.
راجعوا ذلك، وتذكّروا ذلك. ماذا أبقيتم؟!
والآن تعلنونها صرخة استنكار مقيتة وقحة في وجه الدفاع عن العرض ممن يرى الاعتداء على عرضه رأي عين؟!(28)
يا له من عدل لا يقاس به عدل في حاضر ولا ماض من حياة الناس!! ويا له من خلق رفيع لا يساويه خلق، وتقوى بالغة لا تجاريها تقوى!!
الجندي عندنا محترم الدّم كغيره، الشرطي عندنا محترم الدم كغيره، رجل الأمن عندنا محترم الدّم كغيره، ولا يَسلب أيّ من هذه العناوين عنه حرمة دمه(29)، ولكن الدّفاع عن العرض واجب؛ ومن رأى عِرضه يُفتك به فداه بنفسه، فكيف لا يواجه من يريد الفتك بعرضه لو لم يدفعه عنه إلا بمقاتلته؟!
هل للشرطي حكم خاص في الإسلام دون غيره يستثنيه مما يجري على من سواه؟!(30)
في الأصل حرصنا على دم الشرطيّ وغيره أشد من حرصكم، ولكن ما أجراه الإسلام على غيره يجري عليه، ولم يُطلق الإسلام يد أحد في مال أو عرض أو نفس، وبلا حساب.
إننا لحريصون على أن يسود البحرين كلّها الانضباط، لا أن تعمّها العشوائية والانفلات، وأول من عليه أن ينضبط هي الأجهزة الأمنية، ومنتسبو الدولة في كل مواقعهم؛ وأي انضباط لرجل الأمن الذي تتحدثون عنه في ضوء ما يعاني منه النّاس من تعدّيات؟!
والحكم الذي يريد أن يُجنّب الوطن الشرّ والدمار والخراب عليه ألا يدير بظهره للإصلاح الحقيقي، ولا يُسوّفه، ولا يستبدل عنه بما لا يغني، ولا يعتمد القوّة الباطشة التي لا تُبقي مكاناً للثقة، ولا مجالاً للتفاهم، وتقطع السبيل بينه وبين النّاس(31).
نريد للبحرين ألا تكون على ما هي عليه اليوم من سوء، ولا تريدون لها إلاّ مزيداً من السوء والدّمار، وأن تُغرقها الكوارث.
وإنكم لواجدون من طلاب الدنيا وعبيدها من لا يريد لكم إلا ذلك، ومن يُزيّن لكم ذلك، ويحثّكم عليه.
والناس قد تمّ يقينهم بأنه لابد من الإصلاح.
اللهم بصّرنا وجميع المؤمنين والمؤمنات بأمر ديننا ودنيانا، وأعذنا من مضِلات الفتن، ونوازل الزّمن، وسوء الحياة، وسوء الممات، وسوء المصير، وأطل بقاءنا في طاعتك، وأحسن منقلبنا إليك يا محسن يا متفضّل، يا كريم يا رحمان، يا رحيم.
اللهم ارحم شهداءنا وشهداء الإسلام جميعا، واشف مرضانا وجرحانا، وأطلق سراح سجناءنا ومعتقلينا، وانصرنا نصرا عزيزا مبينا، وارحم موتانا وموتى المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (32).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تقاوم أمام الشهوة الضعيفة، ولا تقاوم أمام الشهوة الشديدة.
2 – 35/ الأحزاب.
3- 29-31/ المعارج.
4 – الكافي ج2 ص79 ط4.
5 – المصدر السابق.
6 – جاء في كتاب المحاسن ج1 ص292:”.. عن أبي جعفر (ع) قال: قال له رجل: إني ضعيف العمل، قليل الصلاة، قليل الصوم، ولكن أرجو أن لا آكل إلا حلالاً ولا أنكح إلا حلالاً، فقال: وأي جهاد أفضل من عفة بطن وفرج؟!”.
7 – الكافي ج2 ص79 ط4.
8 – ميزان الحكمة ج3 ص2008 ط1.
9 – نهج البلاغة ج4 ص13 ط1.
10 – هداية العلم في تنظيم غرر الحكم ص416.
11 – هداية العلم في تنظيم غرر الحكم ص396.
12 – المصدر السابق.
13 – ويزيد ترفّعها عن مقاربتها.
14 – المصدر السابق ص397.
15 – المصدر السابق ص396.
صيانة الشخصية، صيانة الأعراض، صيانة المجتمع.
16 – المصدر السابق.
17 – المصدر السابق ص397.
18 – هتاف جموع المصلين بـ(الله أكبر، النصر للإسلام، لن نركع إلا لله).
19 – {اهدنا الصراط المستقيم} الهداية على الطريق المستقيم ليس طلباً للهداية الابتدائية فحسب، وإنما هو طلب للهداية الاستمرارية كذلك.
20 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).
21 – هل تبقى مصداقية لمثل هذا المسؤول أو العالم؟ هل تبقى قيمة لعالم يقول هذه الكلمة؟.
22 – جموع المصلين بـ(لن نركع إلا لله).
23- فعلى الدولة أن توقف عن أعراض المؤمنين كل ذلك وإلا فلتتحمل المسؤولية.
24- وكل ذلك بمبرر أنها خرجت في مسيرة أو شاركت في اعتصام؟!.
25 – إمّا أن تسكت أو حلّ قتلك وسلبك وانتهاك عرضك.
هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).
26- من هو المسترخص؟!
27 – بعد الجمعة السابقة حدث ما حدث في بيت واحد من أكابر المؤمنين وكان التعدي بالكلمات الساقطة على من هو أعزّ الناس عليه.
هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة)
28 – أرى الاعتداء على عرضي رأي عين وأصمت؟ أي منطق هذا؟! أي إنسان ينطق بهذا المنطق؟! ألا من حياء؟!.
29- هذا ثابت لا مراء فيه.
30- أعندنا أن عليك أن تواجه أي عدوان على عرضك، على مالك، في بيتك إذا هجم عليك من هجم، عليك أن تدافع عنه بمقدار ما يدفعه، ولا تزيد على مقدار ما يدفعه عن عدوانه، إلا الشرطي فتترك له أن يفعل ما يشاء بك وفي عرضك؟! أقضية يقرّها أحد في العالم؟!
31- أسلوبكم هذا في التعامل القاسي مع الناس ومع كل كلمة منكرة للمنكر شأنه أن يقطع السبيل بينكم وبين الناس نهائيا ولا يبقي أي صلة.
32- 90/ النحل.