خطبة الجمعة (453) 23 جمادى الثاني 1432هـ – 27 مايو 2011م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: الصفات الخاصة والعامة للإسلام
الخطبة الثانية: الدهر يومان – لكل ممكن حد – حرمة الدم.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي بِذكره يذكر الذاكرونَ، وبحمده يحيى الحامدون، وبشكره يأمن الشّاكرون، وبطاعته يفوز المطيعون، وبدينه يهتدي المهتدون، وبعبادته يَسْعَدُ العابدون، وبالاستجابة له يرشدُ المسترشدون، وينجو الناجون.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أُوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله ربِّنا وربّ كلّ شيء، والذي لا مُضادَّ له ولا مناهض، ولا خارج من ملكه ولا هارب، ولا غِنى لأحدٍ عن رِفده، ولا مفرّ من قدره، ولا قيام لشيء إلا بنعمته، ولا مصدر لخير من دون رحمته.
وكلُّ شيء خاضع لله، وكلُّ نَفْس مرغمةٌ لقدره، وما استكبر مستكبر عليه سبحانه مستقِلاً عن مشيئته، وعن نعمة له من نفسه، ولأمر فوق أمره، وما تمرَّد متمرِّدٌ إلا وناصيته بيده، ووجوده وحياته وأثره مملوك كَمَلاً إليه، وتحت أمره. فأين المفرّ من الله؟! و أيُّ عقل يُجيز معصيته؟! وأيُّ مصلحة لعبيده المقهورين لإرادته في الاستكبار عليه؟!
ألا فلنتّق الله و إلا كُنّا من الجاهلين.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربّنا زيّنا بالنُّهى، وأكرمنا بالتقوى، ووفِّقنا للعمل بما تحبّ وترضى، واجعلنا في زُمرة أوليائك، ولا تجعلنا في عِداد أعدائك، وارزقنا الثّبات على دينك، والاستقامة على صراطك، والفوزَ برضوانك، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين
أما بعد فالحديث في الصفات العامة والخاصة للإسلام:
للإسلام صفاتٌ عامة يشترك فيها مع كلِّ الأديان السماوية الصادقة المتنزّلة قبله، ولا يمكن لأيّ دين منها أن يدخله النقيض، ولو جاء أي دين فيه مناقضة مع شيء منها كان في ذلك دليلُ كذبه، وكذب مدَّعيه.
وله صفاتٌ خاصة بمقتضى كونه خاتم الأديان من جهة، واستمرار الحاجة البشرية إلى دينٍ إلهي صادق يضعها على الطريق، ويجمع كلمتها على الهدى، ويأخذ بها إلى الغاية، ويتكفّل لها باتباعه بسعادة الدنيا والآخرة. الصفات العامة:
1. التوحيد: فما من دين من الله سبحانه ولا وهو يدعو إلى توحيده ونبذ الطاغوت {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}(1).
2. العدل: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ…}(2) فما من دين يأتي من الله الذي يدعو للعدل والإحسان ليدعوَ للظّلمِ والعدوان والإساءة.
3. احترام الإنسان، والحفاظ على كرامته: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(3).
وهذا التكريم والتفصيل يُحيل على الدين الحقّ أن يمتهن كرامة الإنسان، ويسقط منزلته، ويُعامله معاملة البهائم.
4. العلمية الخالصة: {… وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ…}( ). {… ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ…}( ). وكيف يأتي من عالم الغيب والشهادة ما فيه جهل، وكيف يكون الكتاب المنزَّل بالحق فيه منافاة للعلم؟!.
فأيّما دين ثبت اشتماله على جهل، واختلاط حقِّه بالباطل لم يكن من الله سبحانه بهذه الصّورة.
5. الحفاظ على القيم الخلقية:
الضمير الخلقي الإنساني من فطرة الله سبحانه، وهو حُجّة له على عبده، وطريق العبد إلى ربه، ورادع له عن الاستسلام لحيوانية نفسه، والانحدار على طريق الشهوات عن مستوى إنسانيته {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ }(6).
وإذا كان الضمير الخلقي المرتبط بالقيم الخلقية الرفيعة رسولاً من الله عز وجل، والدين رسول الخارج لم يَجُزْ أن يكون بينهما تناقض. وإذا كان كمال الإنسان بإتمام أخلاقه وعظمتها، والوظيفة الرئيسة للدين إنما هي تكميلُ الإنسان فكيف يأتي في الدين ما يُنافي الخلق الكريم لينافي غايته؟!
6. الخلو من التمييز على أسس أرضية عصبية كالقومية واللغة والمكان والزمان:
فالدين السماوي نظرته سماوية ومقاييسه إلاهية لا بشرية، ولا أرضية، فالكلُّ عبيد الله، ولا تفاوت إلا بطاعة تقرّب إليه، وسعي يؤهّل إلى مزيد من رحمته {… إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(7).
{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}( ). {… الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً…}(9).
ومقاييس العلم والتقوى وحسن العمل مقاييس مفتوحة على بني الإنسان جميعاً تُتيح فُرَص السباق بعدل، وترتبط بإرادة الإنسان، وخاصة التقوى والإخلاص قي العمل، وتُلغي قيمة الفوارق البشرية التي لا دخل للإنسان في صناعتها واختيارها.
7. التعامل مع الإنسان بطبيعته:
للإنسان طبيعة اثنينية لا تتغير، ولا تزول {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}(10).
الإنسان خلق من طين فله حاجات طينيته، وروح فله غايةٌ من روحيّته. فلا بُدّ من الاعتراف له، والتعامل معه بلحاظ واقعيته ومثاليته.
وكلُّ تعامل آخر معه يُلغي أحد جانبيه تعامل ظالم، فاشل ولا بُدّ أن يصطدم مع طبيعته، ويتبرهن فشله. ولا يتنزّل دين من الله فيه جور على خلقه، أو يحمل بذرة فشله، ويتسبب في شقاء عبيده.
فكلُّ الديانات الإلهية الصادقة لا تُعطِّل حركة هذه الحياة، ولا تقف بمستوى الإنسان عند حدِّها، وما تغنى به من لذائذ المادة وشهواتها.
8.عدم التهافت والتعارض:
إذا كانت الديانات الصادقة كلها من عند الله سبحانه – كما هو كذلك – استحال أن تتهافت وتتناقض وهي صادرة من العلم الذي لا يضل، والحكمة التي لا تجهل، والرحمة التي لا تتغير. فالحقّ لا تختلف الديانات الإلهية عليه، ولا يتخلّف عنه إحداها، والباطل لا يدنو منها، ولا تُخطئ في معرفتها به.
أما الاستكمال لبعض الأحكام، أو نسخ شيء منها قد سبق فإنما هو لمقتضى التطوُّر الموجب، والاختلاف في الموضوع. ذلك في جانب الاستكمال، والنسخ كاشفٌ عن توقيت سابق معلوم لله سبحانه وتعالى أزلاً، ولعلمه كذلك بحصول مقتضيات موضوعية في زمن النسخ لتجدُّد الحكم، وحلول الناسخ مكان المنسوخ.
هذه صفات مشتركة بين الإسلام وغيره من الديانات الإلهية الصادقة، ويأتي الكلام إن شاء الله، في خصائص الإسلام الخاتم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم اهدنا صراطك المستقيم، وارزقنا حقَّ اليقين، وثبتنا على صادق الدين واكفنا شَّر الشيطان الرجيم، وجنده الغاوين، وإضلال المضلّين. ولا تكرثنا في دنيا أو دين يارب العالمين، وأرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(11).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أَمَرَ عباده بطاعته لِما فيها من صلاحهم وكمالهم، ونهاهم عن معصيته لما فيها من فسادهم وسقوطهم، وأثاب على الطاعة وهي من توفيقه، وعاقب على المعصية إقامة لعدله، وضاعف من ثواب المطيع إظهاراً لفضله، ولم يُقّدِم عبداً على عبدٍ إلاَّ بتقواه، ولا شفيع لأحد عنده إلا رحمتُه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتق الله، ولا يتقي الله إلا ذو بصيرة، ولا يتخلَّى عن تقواه إلا عُميُ القلوب.
من رأى من عظمة الله ما رأى حَمَلَه ذلك على الطاعة، وزجره عن المعصية. ومن عَمِي عن رؤية ربّه لم يحمل قلبه له وقاراً، ولم يشعُر بمهابة.
وليس من موت أكبر من موت قلبٍ لا يشعر بعظمة الله، ولا يخشى قدرته، ولا يستحيي من فضله، وهو الذي ملأت قدرتُه كل شيء، وأفاض بجوده على كلّ شيء، وكل شيء محكوم لقدرته، ولا يقوم شيءٌ إلا برحمته.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة. وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن القائم المنتظر المهدي.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم انصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا قائما دائما.
أما بعد فهذه بعض كلمات:br> الدهر يومان(12):
من الناس من لا صبر له على خير أو شر، ومنهم من له صبر على الخير، وَخَوٌر في الشر، ومنهم من هو أصبر على الشر من الخير. والدهر لا تخلو أيامه من غنى أو فقر، وصحة أو مرض، وفرح ومصيبة، ونصر أو هزيمة، وظهور أو انكماش.
وكلُّ ذلك يحتاج إلى صبر وتحمُّل ومواجهة وقدرة تحفظ للإنسان عقله واتزانه، ووقاره ومنزلته، وسلامة نفسيته، وتقيه من الانهيار والسقوط أمام ظرف الشِّدّة والرّخاء، والقوّة الخارجية والضعف، والفشل والنجاح.
وكلُّ القوة في الموقف الصامد أمام كلّ الظروف، وفي الموقف النفسيّ المتفوِّق على كل الضغوط، والاحتفاظ باحترام الذات، والمبدئية الحقّة رغم كلّ التحوّلات، والبقاء على خطّ الغاية الإلهية النبيلة مهما كان من أمر، ولا يبني الشخصية القوّية السليمة غيرُ هذا المستوى العالي من الصمود، ولا نجاح لأيّ تربية ما لم تُحقِّق مثل هذه النفسية المقاوِمة، ولا يمكن لأي أمة أن تنهض بمهمَّات الحياة، وأن تنتصر على كلِّ تعقيداتها، وتبرهن على وجود قويّ، وأن تثبت في مهب الرياح ما لم تتوفّر على فئة كافية من أهل هذه النّفسية القويّة والشعور. والضّعيف في الرخاء والغِنى والقوة مغرور، مفسد، مسيء للحياة والإنسان، مهلك لنفسه، تلعنه الأجيال.
والمهزوز في الشّدة والفقر وضيق الحال معينٌ على نفسه، مُغرٍ لكل طامع باستسلامه، ناسٍ لذاته، ساحقٌ لكرامته، سادٌّ لباب الفرج عنه، مُعجِّل بنهايته.
والإمام عليّ عليه السلام يريد لنا أن نكون الأقوياء في نفسيتنا، الصُّلاب في عزيمتنا، المتفوِّقين على كلِّ ظروف الشدة والرخاء، الثابتين على الخط عند كلِّ العواصف، الصّامدين أمام كلِّ محنة، الشّاكرين عند كل نعمة.
ولا تُجيد تربيةٌ صناعة النفسية القوية الصابرة الشّاكرة الرّضية، الصُّلبة المقاومة، المنتصرة، المتفوِّقة كما تُجيدها التربية الإسلامية الحقيقية، ولا يحقّقها شيء كما يحققها الإيمان بالله سبحانه، ولا يدفع في اتجاهها اقتداءٌ كما يدفع ذلك الاقتداء بأبطال الرسالة الإلهية من مثل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ومحمد وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
لكل ممكن حد:
لكل ممكن حد، والاعتزاز بالحياة أمر ممكن وإن كان من ثوابت طبيعة الإنسان، ولأنّه ممكن فله حدّ. والاعتزاز بالحياة يدفع بالإنسان لطلب البقاء، وطلب كل ما يراه صواباً أو خطأ بأنه سبب من أسبابه، ويحاول أن يجمعَ كل ما أمكنه مما يرى فيه أنه سببٌ من هذه الأسباب.
وقد تحدث للإنسان تنازلات، ويتخلى عن بعض ما يطمح إليه إذا كان ذلك سيفقده الحياة.
ومنطلق هذا التنازل إنما هو اعتزازه بالحياة وحُبّه في البقاء. ولكنّ هذا الاعتزاز قد ينتهي عند نقطة معيَّنة، وينقلب إلى تمرُّد على الحياة، واسترخاص للتضحية، أو ضيق بالحياة يسقط قيمتها، ويفرض على نفسية هذا المستضيق الرغبة بالخلاص. ولذلك ينتحر من ينتحر عند نقطة من نقاط تفجُّر النفس وعدم صبرها على ضريبة الحياة.
وأصحاب النفوس القوية لا ينتحرون، ولكنّهم يُضحّون بحياتهم مُختارين في هدوءٍ وراحة نفس من أجل مبدئهم وحريتهم وعزهم وإيمانهم بقيمتهم الإنسانية وذلك عندما تُكلِّفهم الحياة أن يدفعوا كلَّ ذلك ثمناً من أجل البقاء(13).
وهذا ما يفشل تكثيف الضغوط على الناس إذلالا لهم، ومن أجل أن يتنازلوا عن إرادتهم لإرادة الغير، وكما يهوى استغلالاً من القويّ للاعتزاز بالحياة، وتقديم البقاء من الطرف الآخر على كثير من المطالب، ولتصوُّر أنّ ذلك يجعله يُضحّي بكلِّ شيء، ويصبر على كلِّ مذلّة من أجل أن يبقيَ لنفسه لو أخسّ مستوى من الحياة.
وهو تصوُّر خطأ قاتل.
إنَّ زيادة الضغط في هذا المجال تولّد الانفجار الذي يأتي ردَّ فعل حتميٍّ في حالتين: في حالة تضيق النّفس بكُلفة الحياة بما يُثير فيها الرغبة بقوة للانتحار. ومن هانت عليه حياته، هانت عليه حياة الآخرين، ومن وصل إلى حدِّ الانتقام من حياته، لم يتوقّف عن الانتقام من حياة الآخرين.
هذه حالة، والحالة الثانية التي تُعطي النفسُ فيها ردّ فعل بالانفجار لا عن انهيار، وإنما عن وعيٍ وبصيرةٍ وقوّة وشجاعة هي الحالة التي تفرض فيها المبدئيّة والعزّة والكرامة والنّظرة الأُخروية التضحية بالحياة(14).
فمن خطأ السّياسة أن تعتبر يوماً فاصلاً تُقرِّر فيه أن لا حرية للإطلاق على الآخر بعد اليوم. أن لا اعتزاز للآخر بعقيدته بعد اليوم. لا اعتزاز للآخر بنفسه ولا كرامةَ بعد اليوم. لا خيارَ للآخر في حياته ومصيره بعد اليوم. لا لُقمةً شريفةً له بعد اليوم. لا فرصة علم له بعد اليوم. لا حقَّ له على الإطلاق بعد اليوم. لا سلامة لماله ونفسه وعِرضه بعد اليوم.
هذا خطأ فادح، وخطر كبير لأنّك بهذا تضع الناس في حالة انفجار، هو انفجار تضحية واعية أو انتحار.
حرمة الدم:
شدّد الإسلام على حرمة الدم تشديداً بالغاً، وقد ثَبَتَ عند كل علماء الإسلام أن الحدودَ تُدرأ بالشّبهات، وحكم الإعدام لا حُكم أغلظ منه، وأيُّ تساهل في القضاء به هو تساهل في حقّ الدّين والإنسان، والقاضي به بغير ما أنزل الله إنّما حسابه على الله سبحانه. وهو من أشدّ الأحكام استفزازاً للنّفوس، وتحريكاً للغَيرة. وكلُّ القوانين تتشدد في إقامة حدّ القتل على الإنسان.
وحكم الإعدام الصادر في حق اثنَين من المواطنين لا يُمكن أن يوافق عليه أي متشرّعٍ بحسب الأجواء المحيطة، والملابسات المعاشة، والمقدِّمات المنظورة، والإعلام التحريضي المنتشر، ودعوات الانتقام المثارة، وظروف السِّجن الخاصّة، والتوتّر الأمنيّ القائم، والتوعّدات الشّديدة، وغياب الطّريق الشّرعي للإثبات(15).
فالحقُّ أنَّ الاعتماد في مقام التنفيذ على حُكمٍ هذه صفته وظروفه فيه تساهل واضح بحرمة الدّم في الإسلام، وهو الشيء الذي تمنع منه الشريعة، ويحاسب عليه الله.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارحم شهداءنا وشهداء الإسلام في كل مكان وزمان، وفك قيد الأسرى، وأطلق سراح السجناء المظلومين، واشفِ المرضى والمعلولين من المؤمنين والمسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وبمنك وإحسانك يا خير المحسنين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(16).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- 25/ الأنبياء.
2- 90/ النحل.
3- 70/ الإسراء.
4- 213/ البقرة.
5-94/ التوبة.
6- 1، 2/ القيامة.
7- 13/ الحجرات.
8- 9/ الزمر.
9- 2/ الملك.
10- 71، 72/ ص.
11- سورة الإخلاص.
12- والكلمة “.. الدهر يومان يوم لك ويوم عليك” (نهج البلاغة، ج3 ص133 ط1) كلمة مذكورة عن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام.
13- إذ اكلّفتهم الحياة أن يدفعوا عزتهم ودينهم وكرامتهم ثمناً لها تفلوا على الحياة، وداسوها بأرجلهم.
14- هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة.
15- هتاف جموع المصلين بـ(كلا كلا للإعدام).
16- 90/ النحل.