خطبة الجمعة (412) 5 رجب 1431هـ – 18 يونيو 2010م

مواضيع الخطبة:

*متابعة حديث المعاد * سافر ولا تسافر *الغزو في وجهه الجديد

إن من يسافر أو تسافر لنشر الرذيلة، واغتيال قدسية الأماكن المطهّرة، وتلويث مناخ العبادة، وتحويل مناسبات الطاعة الإلهية إلى أجواء عربدة شيطانية، وفساد أخلاقي لهما عدوَّان حقا لدين الله، وهما من جند الشيطان في الناس.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي إنَّما يتجلّى من أسمائه الحسنى وهي غير محدودة في مخلوقاته بقدر المخلوقات وهي محدودة، ولا يسع المحدودُ لتجلّي الكمال المطلق في إطلاقه، والجلال غير المحدود على صفته، والجمال غير المتناهي في تعاليه، وتجليات الله سبحانه في خلقه إنما هي على مقدار محدودية المتجلّى فيه، وهي تذهل لها العقول، وتصعق النفوس، وتنخلع الأفئدة، وتندكّ الرّواسي، وتخضع الأعناق، وتخرّ الجبال.
إنه الله المتعال الذي لا يناله عقل و لا قلب، ولا يحوم حوله وهم ولا خيال، لا يسع شيئاً أن ينكره وهو من صنعه، ووجوده وحياته تتدفقان عليه من فيضه.
أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمَّداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله نور السماوات والأرض، والمُعطي لكلّ شيء خلقه، وأن لا نتخذ من دونه إلاهاً، ولا نشرك به ربّا، ولا نعبد معه أحدا، وأن نخلص له الطّاعة والعبادة، وأن يكون حبّنا له، ورجاؤنا فيه، وخوفنا منه، وشكرنا لانعامه، وإذا أحببنا أحدا فإنما نحب لأجله، وإذا رجونا فإنما نرجو تسبيبه، وإذا خفنا فإنما نخاف عقوبته وخذلانه، وإذا شكرنا فإنما شكرنا أوّلاً لتفضّله.
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا أنك أنت التواب الرّحيم.
اللهم اجعلنا من أذكر الذاكرين لعظمتك، وأشوق المشتاقين لجلالك وجمالك، وأشكر الشّاكرين لنعمك وأفضالك، وأخوف الخائفين من نقمتك وعقوبتك وهجرك وقلاك، اللهم وارأف بنا يا كريم يا رحيم.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الأعزاء فلا زال الحديث متواصلا عن حياتنا الأخرى.
حياة البرزخ:
البرزخ لغةً: ما بين كلِّ شيئين، والحاجز بين الشيئين. وهو في الإسلام ما بين الدنيا وبعث النفوس يوم المعاد. مبدأه من الموت ومنتهاه يوم يبعثون، فمن مات فقد دخل البرزخ.
وبالموت نودع نوع حياة، ونستقبل حياة من نوع آخر، والموت مفارقة الرُّوح للجسد، وانقطاع صلتها به، ولا تفارقه لتموت.
فالبرزخ مطلقا أو على تفصيل عالم حياة، ولكنها حياة روح لا بدن يغدو ويروح، وله آلامه الحسية ولذائدة.
وحياة البرزخ أدلتها من النصوص وافرة كتاباً وسنة. فمن الكتاب {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(1).
فموت الإنسان هو استيفاء لنفسه بتمامها من خالقها، وإمساكها بعيدا عن البدن لتنقطع صلةٌ بينهما كانت تمد البدن بالحياة، وليس الموت إعداما للنفس وإنهاء لها، فقضاء الموت عليها بقطع تلك الصلة، وإبطال تأثير الروح في البدن بإعطائه الحياة. وتبقى النفس محفوظة عند بارئها من الضياع، مصونة من التلف، في مأمن بقدرته من العدم.
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ}(2).
إنها حياةٌ ثرة تنبئ بها الآية الكريمة، ويشعر بها أصحابها وتهنئهم، ولا نملك نحن في عالمنا الحسي أن نشعر بآثارها، ونشهد مظاهرها التي يعيشونها هم.
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}(3).
إنها حياة بعد الموت الذي لم يصب أرواحهم التي صارت تتقلى رزقا كريما من الله، ويغمرها الفرح، وتعيش حالة الاستبشار، والسرور بكريم النعمة، وجميل الفضل، وتغنى بالمشاعر الطيبة، ونسائم الروح الهانئة المنعشة.
{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}(4).
بعد الموت وإلى ما قبل يوم القيامة يعرض آل فرعون على النار غدوا وعشيا وربما كان هذا تعبيرا عن الاتصال، وهذا نوع عذاب بالنار وهو فرع الحياة والشعور وإحساس الروح بالألم. أما يوم القيامة فيأتي مكان العرض على النار الإدخال فيها، والتغلغل في طبقاتها.
(5)
وبهذا نتعرف من الكتاب الكريم على حياة للإنسان بعد الموت يرفل فيها سعداء الطاعة بنوع من النعيم تعيشه الروح، ويعاني فيها أشقياء المعصية من سوء عذاب.
ومن الحديث في قضية البرزخ:
عن الإمام زين العابدين عليه السلام في قوله تعالى {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(6): هو القبر وإنَّ لهم لمعيشة ضنكا، والله إن القبر لروضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار”(7).(8)
وعن الإمام الصادق عليه السلام:”البرزخ القبر، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة”(9). فنفس المجرم تتلقى عقابا في البرزخ، ونفس المحسن تتلقى ثوابا.
وعن الإمام علي عليه السلام:”يا ابن نباته: لو كشف لكم لرأيتم أرواح المؤمنين في هذا الظهر(10) حلقا يتزاورون ويتحدثون،…..”(11).(12)
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله عند وقوفه على قتلى بدر:”يا أبا جهل، يا عتبة، يا شيبة، يا أمية(13) هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها؟ فقال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون جوابا”(14). حيل بينهم وبين الناس على الأرض.
هذه نماذج من الأحاديث في البرزخ وهي توضح أن هناك حياةً روحية يتمتع فيها المؤمن ويشقى فيها الكافر والمنافق والفاجر، ومبدأ هذه الحياة بعد الموت، وأن عالم القبر عالم إدراك وشعور ونعيم وعذاب، وشقاء وسعادة.
وعالم القبر عالم فردية لا اجتماع، وكل مشكلات هذا العالم -عالم البرزخ- تحل على رأس الفرد ولا يشاركه فيها أحد همّاً، ولا يحمل من ثقله شيئا(15)، ولا استنصار بقوم ولا بعشيرة ولا حزب ولا جماعة. وإذا كان من شفيعٍ فبسببٍ من عمل صالح، ولا شفاعة إلا لمن أذن الله أن يشفع، ولمن أذن أن يشُفع فيه.
وفي عالم البرزخ تفقد كل علوم الدنيا وخبرتها مالها من قيمة فلا ينفع العبد شيء منها، فكل نفع من نفعها منقطع بنهاية الحياة الدنيا، فكما لا ينفع مال ولا بنون لا ينفع علم زراعة ولا صناعة، ولا خبرةُ بناء و لا طيران، وحتى علم العقيدة والفقه وسائرُ علوم الدنيا لا نفع لها في نفسها في برزخ ومعاد. النفع كل النفع في عقيدة قويمة، ونية سليمة، وشعور كريم، وعمل صالح، وتوحيد خالص.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم آنسنا برحمتك في كل الشدائد، وادفع عنا كل المضائق، ونجنا من كل كربة، وآمنا من كل فزع، واجعلنا من عبادك المرحومين المكرمين يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أبدع السماوات والأرض ولا مبدع لها غيره، وأنشأ كل الخلائق ولا منشئ لها سواه، وبرأ الأنفس ولا بارئ لها من دونه، ووهب العقول وحده. وهو المدبر لكل شيء، والمالك لكل شيء، ولا معين له في تدبيره، ولا شريك له في ملكه. لا رب سواه، ولا معبود عداه، ولا رادّ لفضله، ولا منجي من أخذه.
أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم كثيرا كثيرا.
عباد الله ألا فلنتق الله؛ ومن اتقى الله فقد اهتدى، ومن طغى فقد ضلّ ضلالاً مبينا، وهوى إلى نار الجحيم. وما أرشد من اتقى وأطاع أقدر قادر، وأعدل عادل، وأحكم حاكم، وأعلم عليم، وأكرم كريم، وأرزق رازق، وأرحم راحم، ومن لا مفرّ لأحد من ملكه، ولا غنى لأحد عن رزقه، ولا مهرب لأحد من شديد عقابه! وما أسفه من استكبر وعصى مالك وجوده وحياته ورزقه وأجَله، وثوابه وعقابه، ومن إليه مرجعه، وبيده مصيره.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا و قراباتنا وجيراننا وأزواجنا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نعوذ بك من عمر ينفق في معصيتك، ومن مال يستعان به على معاندتك، ومن صحة تقود إلى سخطك، ومن كل نعمة نستوجب بها عقابك، وتسلك بنا إلى مهاوي أعدائك، وتحرمنا من مراقي أوليائك، وأهل محبتك.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبدالله الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفّه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا، واقهر بهم أعداءك.
أما بعد:
سافر ولا تسافر:
سافر إذا كان في السفر صحتك وخير دينك أو دنياك، وسلامة شرفك، ونظافة عرضك، وإذا لم تقصد سوءا، أو تتجه إلى باطل.
ولا تسافر سفرا فيه نارك وعارك، وهدم دينك، وإسقاط شرفك، وفساد عرض من أعراض المسلمين، أو تعدّ بباطل على حرمة من حرمة الناس، ونيل مما حرم الله على عباده.
سافر إذا كنت تجد القدرة على السفر من المال الحلال الذي لا أثم عليك فيه، ولا عار يلحقك بسببه، ولا مذلة تركبك في أخذه، ولا تسافر بمال تجمعه من حلال ومن حرام، ومن وجه لائق ووجه غير لائق، ومن طريق عزّ وطريق إذلال.
سافر بمال لم تشحَّ به عن حاجات أهلك، وحفظ مصالحهم، وتجنيبهم هم المهانات والمزالق، ولم تدخره من تجويع وتقتير يضر بك وبمن ولاّك الله أمره، وحمّلك مسؤوليته، ولم تبخل به على قريب أو جار هو أحوج ما يكون إليه. قدم حاجة جارك المحتاج ما استطعت على سفرك. لا تسافر وجارك جائع ، أو جارك مريض يحتاج إلى المال الذي تريد أن تسافر به.
ولا تسافر بمال وفّره البخل والتقتير، ومنعُ الحق، والزهدُ في البّر، وعدم المبالاة في حاجات الرّحِم، وضرورات القريب، وتردّي الحال من الجار.
سافر وقد أدّيت ما لحقك من ديون، وما لزمك من حقوق، ولا تسافر وأنت مثقل الذمة بما لله سبحانه، وما للخلق، ولئن رأيت أن في سفرك هذا طاعة للخالق العظيم فإن ما فيه من معصية أكبر.
أما الذين يسافرون من رجال ونساء في أي مرحلة من العمر لنشر الفساد بين المؤمنين، ولتسميم أجواء العبادة والأماكن المقدّسة برذائل الشيطان فإنّهم ينصبون من أنفسهم أعداء لله ورسوله صلى الله عليه وآله، ومحاربين للأئمة المعصومين عليهم السلام والمؤمنين، ولابد أن ينكر عليهم ويواجهوا، ويعزلوا مع هذا الإضرار، ويطردوا.
ومن احتضن من أصحاب القوافل مثل هذه العناصر المفسدة لابد من تنبيهه ونصحه، ومع إصراره يفضح ويقاطع ويُسقط. فحماية الدين، وسلامة المجتمع المؤمن وصون الشعائر من حالات الابتذال والتميّع أولى وأهم وأجدر بأهل الدّين والإيمان.
إن من يسافر أو تسافر لنشر الرذيلة، واغتيال قدسية الأماكن المطهّرة، وتلويث مناخ العبادة، وتحويل مناسبات الطاعة الإلهية إلى أجواء عربدة شيطانية، وفساد أخلاقي لهما عدوان حقا لدين الله، وهما من جند الشيطان في الناس.
إنهما ليسيئان للعبادة، ويدنسان أجواءها، ويفسدان سمعة الشعائر، ويخلقان حالة من التشكيك في نزاهة أهل الإيمان، ويبعّدان الناس عن الطاعة، ويوقعان في شراك المعصية، وكل ذلك يقدمانه خدمة للكفر والفسق والرذيلة والفجور. وهو من الإضرار الكبير بالدّين، ومن الكيد المتعمَّد به، والحرب المعلنة عليه من القلة المتقصِدة لذلك، المستهدِفة لتخريب أجوائه وبيئته.
ولا يبعد أن يكون من بين هؤلاء المفسدين من هو مجنَّد لجهات تخريبية مجهولة، ومستأجرٌ لوظيفة الإفساد والتخريب. وكان الأمر كذلك أو لم يكن فكفاهم خزيا وعارا وإثما أن يكونوا ألعوبة بيد الشيطان الرجيم بأي وجه من الوجوه، ولأي باعث من البواعث.
الغزو في وجهه الجديد:
كان الغزو العدواني الطامع من الدول الاستكبارية للدول الضعيفة مكشوفا، ولأن صبغة النفاق قد تركزت بدرجة أكبر في سيرة أهل الدنيا وطلاّبها صار الغزو اليوم في ظاهره استجابة لاستغاثة الشعوب، ومعالجة مشكلاتها، وضبط الأضطّربات فيها؛ فَلِطّغاة أيدٍ عابثة في كل البلاد التي تخلو من حكومة موالية مؤتمرة لهذا الطرف أو ذاك أو تكون موالية لطرف استكباريٍ على حساب الطرف الآخر، وعملاء ومنتفعون يثيرون الفتنة متى شاء المستأجرون لتكون حربُُ بعنوان وآخر، وتحت أي شعار براق، وفي إطار أي عصبية من العصبيات. لا يبعد أن تكون قرقيزيا مثالا من أمثلة التدخل العابث للدول الكبرى الظالمة للاستئثار بمواقع النفوذ والتحكم في مصير الشعوب الأخرى، واستخدامها آلة رخيصة في سبيل أطماعها.
إن الاستكبار العالمي لا يتورع أن يثير حروبا أهلية طاحنة في البلاد التي يطمع فيها ليدخل مستعبدا لها باسم الإغاثة، وإطفاء الحرب، وإحلال الأمن، وإقرار السلام، وإعادة الإعمار، فيكون المحسَن الذي لابد أن يشكر، وتقدّر له إنسانيته وخدماته وبذله ووفاؤه.
وإن الظلم الفاحش الذي يمارسه كثير من بعض الأنظمة العميلة لهذا الطرف أو ذاك في حق الشعوب ليفتح بابا واسعا لتدخّل الخارج.
أمّا أيّ نظام حاكم مخلص لأرضه وشعبه، يحرص على استقلالية الشعب، ويحافظ على الثروة عن سيطرة الخارج فهو نظام عدوٌ للمستكبرين لابد أن يعملوا على زعزعته، وجرّ الوضع في البلد المسئول عنه إلى فتنة مشتعلة، وحتى حرب أهلية طاحنة.
والفتنة بطبيعتها لا ترحم، والحرب الأهلية لا تبقي. ولا تكاد توجد عصمة أخلاقية في مجتمعات الدنيا اليوم تكفي لرعاية حقوق الإنسان وحرماته في حالات السلم فضلا عن حالات الحرب، وذلك بفعل التخريب الاستكباري الآثم للدين والأخلاق القِيَم.
اليوم لا تكاد ترعى حرمة لمال ولا عرض ولا نفس من الكثيرين في حال السلم ناهيك عن الحرب.
في الحروب الجاهلية لا تبقى حرمات، وكل شيء مستباح، ولا حدود ولا حواجز أمام المطامع والأحقاد والشهوات والنزوات، وحروبٌ اليوم كلها إلا ما نذر جاهلية لا حرمة فيها لإنسان ولا دين ولا قيم.
لا تكاد تقوم حرب أو فتنة داخلية ساخنة إلا وتسمع عن قتل للشيوخ والأطفال والأبرياء من نساء ورجال. وأي حرب من هذه الحروب الجاهلية، وأي فتنة من فتن العصبية العمياء اليوم لا ترافقها حوادث الاغتصاب والنهب والسلب والحرق والتشريد بلا حساب؟!
الاغتصاب مكسب من مكاسب هذه الحروب والفتن عند الطرف الأقوى، وهو فاكهة الحروب اليوم وحلواها التي لا تفارقها.
وهل تستفيد المرأة درسا من أنها مستهدفة من كل الرجال الساقطين وأهل الجاهلية الحديثة، وأن في كل مجتمع من يتربص بها الفرص، ويتحين المناسبات في السلم والحرب، والرخاء والشدة، والفقر والغنى للوصول إلى الفجور بأعراض النساء بكل الوسائل القذرة فتحتاط لعفتها وشرفها، ولا ترضى بأن تكون ألعوبة الرجال المنفتحة على مطالبهم الشيطانية الساقطة، ومقضى لشهوات العابثين؟
وهل تعرف المرأة حساسية هذا الموضوع ومدى إثارتها للرجل فلا تفتح بتميعها باب الشيطان عليه وعلى نفسها فتكون من حملة راية الفساد، والداعين بالفعل إليه فتستحق غضب الله العظيم؟
ودرس آخر في هذه الحروب الفتاكة القذرة يجب أن تستوعبهُ كل الحكومات والشعوب فلا يصل جشع الحكومات وظلمها إلى حد تفجير الأوضاع، ولا تستغفل الشعوب فتدخل في نفق الفتن البينية بين مكوناتها، فإنها حروب وفتن لا تستثنى من شرها المستطير أحدا، ولا تترك لمترف أن تلذّ له الحياة، ويحتفظ بأمن، وينام له جفن، وتستقر له نفس.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم انصر الإسلام وأهله وأذل النافق وأهله، واكبت الظالمين والمعتدين على بلاد المسلمين، والحمد لله رب العالمين
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 42/ الزمر.
2 – 154/ البقرة.
3 – 169 – 171/ آل عمران.
4 – 45، 46/ غافر.
5 – بعد لحظة من الموت نلتقي بالبرزخ فإما نلتقي بنعيم أو بشقاء ويحدث انقلاب في حياة الإنسان. كافر متهنّئ في الحياة تنقلب حياته رأسا على عقب بموته، ومؤمن يعيش شقاء الألم والأمراض والفقر والخوف، تتحول حياته تحولا هائلا جذريا بموته.
6 – 100/ المؤمنون.
7 – ميزان الحكمة ج1 ص252.
8 – قضية يقسم عليها الإمام عليه السلام كما في الخبر عنه.
9 – تفسير نور الثقلين ج3 ص553.
10 – النجف، وادي السلام.
11 – بحار الأنوار ج6 ص243.
12 – بأي لغة؟ عند الله سبحانه وتعالى، بأي لسان عند الله سبحانه وتعالى، وهو ليس اللسان الحسي، معناه ليست عندهم ألسنة حسية.
13 – قتلى قريش.
14 – كنز العمال ج 10 ص377.
15 – مريض الدنيا يحضر له أهله، أصدقاؤه، عشيرته. مآسي الدنيا يشاركنا فيها القليل أو الكثير، أمّا هناك فيتحمل الفرد كل مشكلاته، لا مشاركة فيها حبيب ولا صديق.

زر الذهاب إلى الأعلى