خطبة الجمعة (309) 16 محرم الحرام 1429هـ – 25 يناير 2008م

مواضيع الخطبة:

*تتمة حديث الغنى والنفس *أمة واحدة *قضايا لا تحتاج إلى توضيح *تنبيهات

إنَّ الأمة بكاملها لتعيش مسؤولية مشتركة أمام الله سبحانه ثمَّ التأريخ لو بقيت متفرِّجة على الوضع المأساوي للإخوة المسلمين في فلسطين عامّة، وغزَّة خاصة.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي احتجب بكبرياء عظمته، وعزّه، وجماله، وجلاله عن معرفة العقول لكنهه، وعن مقاربة الأوهام لحقيقته، والذي ظهر بجوده وكرمه وقدرته وتدبيره لكلّ شيء من خلقه، فلا شيء يُدركُ ينكره، وكيف تُنكر الأشياءُ من وجودها من عنده، وكلّها عطاؤه، ولا قوام لها إلاَّ بقدرته؟! وما أنكرَ ذو لسان بلسانه إلا وكذّبه قلبُه، وخالفه جَنانه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله الذين أمرهم بيده، وتدبيرهم بقدرته، ومرجعهم إليه علينا بتقوى الله، والتذلل لعظمته؛ فلا يسع المخلوقَ أن يستعليَ على الخالق، ولا المرزوقَ أن يستغني عن الرازق، ولا المملوك أن يستكبر على المالك، وقد حقّ على العبيد وهم المفتقرون في كل خير، وفيما به وجودهم وحياتهم إلى الرب المجيد، أن يَذلّوا إليه، وهم ذليلون لقدره قهراً في كل شأن من شأنهم في التكوين، ومن غرور، وسخف، وبلهٍ، وجنون أن يستكبر منهم مستكبرٌ عليه في التشريع، وإنَّ عذاب الله لمن استكبر وطغى لشديد.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وأعذنا من الاستكبار على شيء من حكمك، والتعدِّي عن حدٍّ من حدودك، ومقارفة معصيتك، واجعلنا من أهل الاستكانة إليك، والتذلل بين يديك، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، الغفّار للذنب العظيم. اللهم ارزقنا الزلفى لديك، واجعلنا من أكرم خلقك عليك يا أرحم الراحمين.
أما بعد فهذه هي الحلقة الأخيرة من الحديث عن موضوع الغنى والنفس:
“وعنه(1) أيضاً قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله: انظر أرفع رجل في المسجد، فنظرت، فإذا رجل عليه حُلّة(2)، قلت: هذا، قال: قال لي: انظر أوضع رجل في المسجد، فنظرت، فإذا رجل عليه أخلاق، قال: قلت: هذا(3).
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: لَهذا(4) عند الله خير يوم القيامة من مِلءِ الأرض مثل هذا”(5).
هذا الأرفع لو كان من مثله عدد يملأ الأرض، فإن ذلك واحد وهو ذو الأخلاق أرفع من كلّ أولئك. وهكذا تختلف نظرة الإسلام وحضارته المعنوية عن نظرة مبادئ الأرض ونظرتها المادية.
وليس بين الغنى وبين الخلق الكريم مفارقة دائمة، فقد يكون المرء هو الأغنى وهو كذلك الأتقى والأورع والأقرب إلى الله. ماذا نقول عن ذي القرنين؟ ألم يكن الأشد قوة، ولكنّه كان العادل القريب المسدد من الله سبحانه وتعالى.
وماذا نقول عن قارون؟ قارون غنيٌّ ولكنه في أسفل سافلين، وهناك فقير في صفّ قارون، يكون ذلك حين يكون له من النفسيّة، ومن المطامع المادية، ومن الشره ما لقارون، ولا يغلبه على أمره إلا الفقر، وهناك أغنياء قريبون إلى الله سبحانه وتعالى بما أطاعوا ووضعوا النعمة في موضعها.
“بحقّ أقول لكم إنّ أكناف السّماء الخالية من الأغنياء، ولدخول جمل في سمّ الخياط أيسر من دخول غنيّ الجنّة”(6).
الحديث يريد أن يقول بأن ظرف الغنى قاسٍ على النفس، يحتاج إلى نفس كبيرة عملاقة، إلى نفس قادرة على الصمود، وقليل من أهل الغنى من يتحمّلون ضريبة الغنى، ومن ضريبة الغنى التواضعُ، والبذلُ في سبيل الله، وإصلاح المجتمع، ورفع حاجات الضعفاء، وهو سلوك يقلّ في الأغنياء لذلك لا يكون الأغنياء ممن يدخلون الجنّة بالكثرة الكاثرة، أما الغني الذي يؤدي ضريبة غناه فإنه سبّاق إلى الجنّة.
فدخول جمل في سمّ الخياط أيسر من دخول غنيّ الجنة إنما هو لما يحتاجه الغنى من مواجهة ومكافحة تُخضع المال للإيمان، وقليل من يتجاوز الامتحان بنجاح. وموفقٌ جداً من نجح.
“في تفسير القمّي: ذكر رجل عند أبي عبدالله عليه السّلام الأغنياء ووقع فيهم(7)، فقال أبو عبدالله عليه السّلام: أُسكت! فإنّ الغنيّ إذا كان وصولاً لرحمه بارّاً بإخوانه أضعف الله له الأجر ضعفين لأنّ الله يقول {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم….}(8) الآية”(9).
فهنا يواجه الإمام عليه السّلام يواجه وهماً في نفس المتحدِّث، يذهب به إلى أن الغنى يعني دائماً البعد عن الله عزّ وجلّ فيعني خسارة الآخرة، وليس الأمر كذلك أبداً، فإنّه كما تقدّم من الفقراء كثيرٌ من يسبقهم الأغنياء إلى الجنّة بما عملوا من صالح.
“إنّ الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلاّ بما مُتّع به غنيّ، والله تعالى سائلهم عن ذلك”(10).
لا ينحصر كون قوت الفقير في مال الغنيّ من جهة أنّه يمنع الزكاة ويمنع الصدقة حين تجب، وإنما لأنّ الأغنياء في النظام غير الإسلامي كثيرٌ من مالهم هو من جيوب الفقراء، من سرقة فرص الفقراء، أموالهم قائمة على نظام اقتصادي طبقي يمنع على الطبقة العامّة أن تجد رزقها الحلال من فرص متاحة، نظام طبقي يضيّق على الفقير، ويحابي الغني كما في النظام الاقتصادي المعاش في عالمنا هذا اليوم.
“أقلّوا الدخول على الأغنياء، فإنّه أحرى أن لا تزدروا نعم الله عزّ وجلّ”(11).
الفقير الذي يدخل على الغني يحتاج إلى نفسية كريمة فالغني يحتاج إلى نفسية كبيرة تصمد أمام إغراء المال، وزينة المال، والفقير الذي يربطه بالغني رابط فيدخل عليه يحتاج هو الآخر إلى نفسية كبيرة، بأن لا يتقزّم أمام أثاث الغني، أمام بيت الغني، أمام مظاهر البذخ في بيت الغني، أن لا تنصرف نفسه إلى الدنيا وأن لا يستصغر ذاته لأنّها لا تجد من الدنيا ما يجده من مظاهر الترف في بيت أخيه.
وفي خطاب إلى الأغنياء- ويسّر الله على المؤمنين جميعاً إن شاء الله، فإن ذلك خير، وإن كان فيه مسؤولية، والفقر أيضا فيه مسؤولية:
“مَن أعظمك لإكثارك استقلّك عند إقلالك”(12).
هناك فقراء لا يقدّرون في الغني إلا غناه، هؤلاء الفقراء يحفّون بالغني، يلتفّون به، لا يستقطبهم منهم شيء إلا المال، هؤلاء ليسوا أنصاراً، هؤلاء ليسوا أصدقاء، هؤلاء ليسوا أحباء، هؤلاء ليسوا شرفاء، إنهم طلاب دنيا وطلاب مال، هذا الغني حين يقلّ ما في يده بعد غنى ويسار ينحسر عنه كل أولئك الناس لذهاب ما به كرامته عندهم ، وما ينبغي أن يكون عليه التقدير عند المؤمنين هو تقوى الفقير وتقوى الغني، هو شرف الفقير وشرف الغني، هو إنسانية الفقير وإنسانية الغني، وكما يجب تقدير الفقير يجب تقدير الغني، ولكن ليس بما في يده وإنما لغنى نفسه وطهر قلبه، وحسن سيرته.
ما يفسّر لنا حديثاً مرّ في موضوع قلّة من يدخل الجنة من الأغنياء هذا الحديث:”قليل من الأغنياء من يواسي ويُسعف”(13).
بينما نعمة الصحة عند الإنسان لها ضريبة، والإنسان مسؤول عنها، ونعمة المال فيها ضريبة، والإنسان مسؤول عنها، ونعمة الجاه فيها ضريبة والإنسان مسؤول عنها. فالمال نعمة كبيرة، وحين لا تكون مواساة للفقير، ولا إسعاف للضعيف والمنكوب يكون الغنيّ قد عطّل ضريبة المال، وقد كفر بالنعمة، ومن كفر بالنعمة حُرم الجنّة.
“ربّ غنيّ أذلُّ من الفقير، ربّ فقير أعزّ من الأسد”(14).
غنيّ يسير لعابه على المال، ولا يمسك نفسه أمام فرصة مالية كبيرة ذليل، غني يحكمه شره النفس، وطمع الدنيا ذليل ويُشترى بثمن من أثمان الدنيا، ويحتاج إلى أن يتزلّف إلى الحكّام، ويحتاج أن يتنازل عن دينه في كثير من المناسبات، ويحتاج أن يطأطئ برأسه من أجل فرصة مالية قد تُتاح إليه عن هذا الطريق، وفقير يملأ نفسه الإيمان بالله، والثقة بالله، أعزّ من الأسد، كل مال الدنيا لا يشتريه، فلا يحتاج إلى التقرب إلى السلاطين، ولا يخاف منهم على دنياه، وكل المعروض عليه مما يثلم من عزّته الإيمانية مرفوض في نفسه.
حديث مهم جداً وعلينا أن نحفره في ذاكرتنا حفراً شديداً “الغنى والفقر بعد العرض على الله تعالى”(15).
الشهادة؛ شهادة اليسار، أو شهادة اليمين يوم القيامة هي التي تحدد الغني من الفقير، يوم أن يُزكّي الله عزّ وجلّ العبد للجنّة فهو غنيّ، ويوم أن يكتبه من أهل النار فهو فقير، وأفقر فقر هو ذلك الفقر، وصاحب الجنة غني وأغنى غنى هو ذلك الغني، فلا ينسين أحدَنا غنى الدنيا عن غنى الآخرة وفقر الآخرة، ولا ينسين أحدَنا فقر الدنيا عن غنى الآخرة وفقر الآخرة، ولنكن طلاب غنى في الآخرة قبل أن نكون طلاب غنى في الدنيا. ولنخف من فقر الآخرة أكثر من خوفنا من فقر الدنيا. ستون، سبعون، مائة، مائة وعشرون سنةً، وأيام سعادتها قليلة، لا تساوي شيئا من حياة أبدية لا تنقضي ولا يأتي عليها انتهاء.
غفر الله لي ولكم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم ارزقنا اليسار من الحلال، وأغننا بغنى النفس المطمئنة إلى رحمتك، الواثقة بك، الراضية بقسمك، المتعلّقة بك، المتلذذة بذكرك، الساعية لمرضاتك، المصدّقة بوعدك، الطامعة في جزائك، ربنا ولا تجعل لنا إلى لئيم حاجة، وارزقنا خير الدارين وسعادتهما وكرامتهما يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}

الخطبة الثانية

الحمد لله العليّ العظيم، ذي القوَّة المتين، الفعّال لما يريد، القهّار الذي لايقهر، الجبّار الذي لا يُجبر، لا شيء من عظمة لأحد أمام عظمته، ولا نصيب من قدرة لشيء من دون قدرته، ولا فاعلية لفاعل من غير مشيئته، ولا مقدّم ولا مؤخِّر ولا رافع ولا خافض إلا بإذنه، له الأمر كلُّه، ولا شريك له في أمره.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرة بتقوى الله الذي لا نجاة لأحد إلاَّ بتقواه، ولا تُكافأ نعمه، ولا تجزى آلاؤه، ولا وفاء لأحد بحقّه. يشكر القليل، ويغفر الكثير، ويثيب بالجزيل، وهو خير المحسنين. ومن لم يتق فإنما يضرّ بنفسه، وإن الله لغنيٌّ عن العباد. وأهل التقوى لا يقولون إلا بعلم، ولا يصدرون في فعل أو ترك إلاّ عن حجة وحكم، ولا يعينون على ظلم، ولا يشتركون في إثم، ولا يمنعون مظلوماً نَصْرَهم، ولا تذِل نفوسهم لغير ربّهم، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، وإذا مرّوا باللغو مرُّوا كراماً.
اللهم إنا نعوذ بك من لغو القول، وفحش اللفظ، ووضاعة الفعل، وقبح القصد، وفساد الطويَّة، وخبث السريرة، وسقم القلب، وقذارة الصدر، وظلمة الروح، وسوء المصير، وخسارة المنقلب.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، رب صلّ على عبدك وابن عبديك خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين محمد بن عبدالله، وصل وسلم على عبدك ووليك أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك يا رحيم يا كريم.
أما بعد فنأتي لحديث اليوم:
أمة واحدة:
الأمة المسلمة أمة واحدة في آلامها وجراحاتها، وكلها مسؤولة عن إقامة القسط، وإشادة العدل في داخلها، وفي العالم ما وسعها الأمر ووجدت إلى ذلك سبيلاً.
وهي مسؤولة عن حماية حدودها الفكرية والجغرافية ومصالحها، وعن رد العدوان الأجنبي عن كل شبر من أرضها، وعن كل شعب من شعوبها.
وإذا كان لكل قطر من أقطار الأمة اليوم مشكلاته ومعاناته الداخلية، وخلافات بين أبنائه والنظام الذي يحكمه فهذا لا يسقط الواجب العامّ المتعلّق بحماية الأمّة، وكل أبنائها من بطش الأجنبي وإرهابه وعدوانه. في الوقت الذي لا ينسى فيه – أي قطر من الأقطار – همومه الداخلية التي هي من هموم الأمّة ويجب على الأمة أن تشاركه فيها، ولا يتوانى عن السعي الدؤوب لحلّ مشكلاته الخاصة وتحسين أوضاعه وأوضاعه، لأنه الأولى بذلك، ولن ينيب أحد عنه في هذا الأمر ويكون السابق له. إنه لا يسع أي قطر في الأمة أن ينسى نفسه وهمومه ومشكلاته لتتفقّد بدرجة أكبر، وتتأزم كل أوضاعه بصورة أشد.
وليس طبيعيّا أبدا ولا معقولا أن يُسكت على خراب البيت الداخلي وتبعثر أوضاعه، وسيادة الظلم والفساد كل أجوائه بحجة الاشتغال بالقضايا العامة للأمة، فيما عدا ظروف استثنائية جدا يتعرض فيها الكيان العام للأمة مثلا للإلغاء والمحق.
والمسألة في مثل هذه الظروف تكون مسألة استثنائية، وينسى كل بيت صغير وكل بيت كبير همومه الخاصة، وتكون هبّة قوية لدرء الخطر العام عن كيان الأمة. وهذه ظروف خاصة واستثنائية جداً.
وليس طبيعيّاً أبداً ولا معقولاً أن تقهقه الشوارع العربية والإسلامية, وتسبت مؤسسات المجتمع الأهلي للأمة وأهل غزّة يحاصرون، وتغلق عليهم كل المنافذ، وتُمنَع عنهم إمدادات الحياة، ويكتب عليهم العدو الإسرائيلي الموت الجماعي المتسارع.
إنَّ الأمة بكاملها لتعيش مسؤولية مشتركة أمام الله سبحانه ثمَّ التأريخ لو بقيت متفرِّجة على الوضع المأساوي للإخوة المسلمين في فلسطين عامّة، وغزَّة خاصة.
فإذا كان تفجر الغضب الشعبي للأمة كلّها ضرورياً أو نافعاً في رفع الحصار وتخفيف الأزمة هناك ليتوقف الموت السريع والجماعي للإخوة في الإسلام هناك كان لابد أن يحدث ذلك وبصورة قادرة على التأثير.
قضايا لا تحتاج إلى توضيح:
هناك قضايا بحسب طبيعتها ودرجة وضوحها، وبداهتها في الإسلام لا تحتاج إلى توضيح، ولكن قد يشتبه مشتبه فيتوجّب البيان العلمي الذي يعيد الأذهان إلى بديهية تلك القضايا.
أولاً: الراد على الرسول صلى الله عليه وآله رادّ على الله هذه قضية تستوي فيها مساحة الحكم الإلهي ومساحة الحكم الولائي، فسواء كان الصادر من الرسول تبليغ لحكم إلهي أو أمر حكومي فإنّ الردّ عليه في هذا أو ذاك هو من الرد على الله سبحانه، ووحدة الرد هنا وحدة تنزيلية وليست عينية، بمعنى أنّ الرد على الرسول صلى الله عليه وآله هو في حكم الرد على الله، وبمنزلة الرد على الله، وليس هو هو، فإن ردّ أحدنا على أمر بعد ردّه الأول مثلا لا يعني أنّ الردّ الثاني هو عين الردّ الأول.ولماذا الردّ على الرسول صلى الله عليه وآله هو بمنزلة الرد على الله سبحانه وتعالى، لماذا؟ لِما قاله سبحانه {.. مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا…}(16)، وقوله سبحانه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(17)، وقوله سبحانه {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}(18).
فالرد على الرسول صلى الله عليه وآله فيه ردّ لأمر الله باتباعه وطاعته والأخذ منه والتسليم لحكمه. وهذا لا غبار عليه.
ثانياً: الرّد على من نصبهم الله أئمة للمسلمين في دينهم ودنياهم بعد الرسول صلى الله عليه وآله ردّ على الرسول صلى الله عليه وآله فيما بلّغه من إمامة هؤلاء المنصوبين، وهو ردّ لأمر الله بطاعتهم {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}(19) فالراد على الإمام راد على الله بحكم الآية الكريمة {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}.
والخلاف في أن تنصيب الله عزّ وجلّ للأئمة بعد الرسول صلى الله عليه وآله هل هو تابع لتنصيب الناس لهم عن طريق الشورى الخاصة أو الانتخاب العام أو هو تنصيب ابتدائي من الله وأن الخيرة له لا لغيره؟
وسواء أخذ المسلم بهذا الرأي أو ذاك لزمه أن لا يرد على الإمام المنصوب أو المُمضى إمامته. الله عز وجل إما أن ينصب الإمام ابتداءً أو أن ينصّبه الناس ثم يمضي الله عز وجل منصوب الناس، سواء كان عادلاً أو كان فاسقاً، كان عالماً أو كان جاهلاً، وسواء قلنا بأن شأن الله عز وجل في الأمر هو التنصيب الابتدائي، وأن لا خيرة لأحد إلا هو، أو قلنا بأن شأنه في المسألة إمضائي لإمامة أي إمام منتخب، فإن هذا الإمام حتى الممضى ستجب طاعته، بعد إمضاء الله عز وجل لإمامته، وعليه أخذنا بهذه النظرية أو تلك النظرية سيكون الرد على الإمام ردا على الله عزوجل.
ما معنى الرد على الإمام؟ الاستكبار على أمره، وتكذيب أو رفض نقله التبليغي عن الرسول(ص). ينقل الحكم عن الله اعتماداً على العلم الذي تلقّاه عن رسول الله صلى الله عليه وآله، فنقول لا نقبل منك، ويحكم بحكم، ويقضي بقضاء، ويأمر بأمر فنقول له لا نقبل منك، ونأخذ بالرأي الذي نذهب إليه، فهذا هو الرد على الامام الذي ينتهي الى الرد على الرسول(ص) والمنتهي أخيراً الى الرد على الله سبحانه، والمذهب الجعفري الذي نتحدث عنه وكان عنه الحديث في محرّم على الرأي القائل بالتعيين، بأن الله هو الذي يعيّن الإمام، ويمتلك من الأدلة على هذا الرأي ما لا يسعه رفع اليد عنه، وليس هذا مجال التفصيل.
ورأي المذهب في الأئمة الإثني عشر صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أنهم معصومون لا يدخل نطقهم باسم الدين في حكم من أحكام الشريعة المتلقّاة من رسول الله صلى الله عليه وآله أو في حكم من الأحكام الولائية خلل عن جهل أو عمد أو سهو. وهم معصومون خارج هذه الدائرة كذلك.
هذا رأينا، ولنا أدلتنا، وليس من حق أحد أن يصادر علينا الرأي وحرية الفكر والمعتقد.
ونحن لا نحمل السيف لإجبار الناس على مذهبنا، وكون هذا أو ذاك لا يرى العصمة إلا للأنبياء عليهم السلام لا يعطيه الحق بأن يلزمنا برأيه ولا يملك علينا الرأي، وأن نفارق ما دلّ عليه الدليل عندنا.
ثالثا: الراد على الفقهاء رادّ على الأئمة عليهم السلام الذين ثبت من الدليل أنهم أرجعوا شيعتهم إلى الفقهاء العدول في زمن الغيبة ونصّبوهم نوّاباً يرجعون إليهم، وأمروهم بطاعتهم، وعليه فالمستكبر على الفقهاء من المؤمنين الراد عليهم كأنه يقول للأئمة عليهم السلام لا أطيعكم في أمركم بالرجوع إلى الفقهاء، وفي تنصيبكم لهم نوّاباً لكم في غيبتكم، وهذا العصيان للأئمة عليهم السلام عصيان لرسول الله صلى الله عليه وآله الذي أمر بالتقيد بأمر الأئمة عليهم السلام ونهيهم، وعصيان لله الذي نصّب الأئمة عليهم السلام في منصب الإمامة بعد رسوله صلى الله عليه وآله، وبلّغ عنه الرسول كما في رأينا الاعتقادي العلمي الثابت.
تنبيهات:
1- لله في الناس سفينة نجاة، وسفينة النجاة في حياة الرسول صلى الله عليه وآله هو الإسلام ورسول الإسلام الذي يفهمه الفهم المعصوم ويطبقه التطبيق المعصوم، وسفينةالاسلام بعد الرسول صلى الله عليه وآله في نظرنا هو الإسلام المتنزّل على رسول الله صلى الله عليه وآله، والمتلقّى من الإمام بدقّة، مع ضميمة الإمام، يعني أن سفينة النجاة بعد النبي(ص) إنما تتم بالإسلام والإمام المعيّن من الله الذي يفهم الإسلام الفهم المعصوم, ويطبقه التطبيق المعصوم.
والعقل يقول لنا والدين يقول لنا أن الإسلام لا يبقى معصوما في فهمه النظري، وفي واقعه العملي ما لم يكن الإمام القائم على الإسلام، والناطق به والمبلّغ له والحاكم باسمه معصوماً.
الخارطة الدقيقة لا يسلم لك من دقتها في فهم مهندس قاصر إلا بقدر فهمه. والإسلام بعيد الغور، وكم اختلفت اجتهادات الكبار في شأنه، وشطت بعض الاجتهادات الشطط البعيد الذي لا يناسب أحيانا حتى مستوى ذلك المجتهد المخطئ في اجتهاده. وسفينة النجاة التامة والشاملة هي في الإسلام المعصوم فهما وتطبيقا لا في ما دونه.
2- الفقهاء العدول لا يبلغون مبلغ الأئمة المعصومين عليهم السلام، ولكنهم القمّة على مستوى المرجعية الإسلامية في زمن الغيبة، وهم الذين دلّ الدليل عندنا على مرجعيتهم، ووجوب الأخذ عنهم، وطاعتهم، وكونهم النوّاب الحقيقيين عن أئمة الهدى عليهم السلام في غيبتهم. وعند ظهور القائم عجل الله فرجه يرجع الأمر كلّه إليه، وهو المتصرّف في نصب أو عدم نصب من يشاء من الفقهاء نوّاباً خاصّين.
وحرمة الرد على الفقهاء لا تنشأ من عصمة فتواهم وعصمتهم، وإنما تنشأ من عصمة أمر الإمام عليه السلام الذي شدّد على اتباعهم والأخذ منهم والانصياع لما يحكمون به.
3- حاشا للإسلام الحق أن يقبل خلافة يزيد، أوطريقة استخلافه كذلك، وأن يقبل في مقام الكلام عن الإسلام وحقائقه الاحتجاج باسم القانون الوضعي والتهديد به، فهذا ليس من الإسلام، وهو جديد على الإسلام، وكيف لا تكون نظرية الجبر التي تبرر لمعاوية ويزيد ظلمهما، أو تبرؤهما من الظلم، وتحمله على الله سبحانه وتعالى، حيث هو الذي أجبر يزيد وأجبر معاوية على الظلم، ثم يعاقبهما على ما أجبرهما عليه، وبذلك يكون سبحانه قد ظلم مرتين.
4- مرة نتحدث عن أخطاء الواقع السياسي وعندئذ نتحمل مسؤولية هذا الكلام، ومرة يكون الحديث عن انحرافات يزيد وشناعاته فيتولى البعض إسقاط ما عن يزيد على واقع سياسي معين وذلك من مسؤوليته.
5- كيف يستقيم القول بطاعة أولي الأمر بصورة مفتوحة ومن دون شرط فقاهة ولا عدالة والتي يقول بها البعض، وينادي بها في مواجهة المطالب الوطنية، ولتكميم الأفواه، كيف يستقيم هذا مع استنكار واستهوان القول بطاعة الفقهاء العدول؟!
ونسأل: أليس القول بطاعة أولي الأمر راجعا إلى فكرة أن الراد عليهم بمنزلة الراد على الله الذي أمر بطاعتهم بغض النظر عن فقاهتهم وعدالتهم كما يرى هذا البعض؟!
فإنّه إذا كانت معصيتهم لا تعني معصية لله، وكان الرد عليهم لا يعني الرد والاستكبار على الله فكيف وجبت طاعتهم؟!
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك التواب الرحيم.
اللهم اصرفنا عما يبعد عنك إلى ما يقرب إليك، وعن ما يضرنا أو لا ينفعنا إلى ينفعنا لديك، وارفع درجتنا عندك، وأوفر حظنا من نعمتك، وهداك وكرامتك، وارزقنا سداد القول والفعل وطهرهما، وطهر القلب ونقاء السريرة، وسلامة القصد، والتوفيق لما تحب وترضى، وزدنا من فضلك يا كريم يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
____________________________
1 – المقصود بضمير الهاء هنا هو أبو ذر بناءً على رواية سابقة لهذه الرواية.
2 – والحُلّة الثوبان من جنس واحد.
3 – فعيّن من هو الأرفع وهو ذو الحُلّة ومن هو الأوضع وإن كان ذا أخلاق.
4 – لَهذا أي الأخير وهو الأوضع في نظر أبي ذر، وكان نظر أبي ذر الى الناحية السطحيّة تاركا للرسول(ص) أن يصبّ نظرته على العمق وإلا فنظرة أبي ذر من نظرة رسول الله صلى الله عليه وآله، وتقييمه من تقييمه.
5 – ميزان الحكمة ج7 ص 297. (المرجع الأصلي الترغيب والترهيب ج4 ص149).
6 – المصدر ص 298. (المرجع الأصلي بحار الأنوار ج 72 ص 55).
7 – أي ذمّهم.
8 – 37/ سبأ. {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا }.
9 – المصدر ص 299. (المرجع الأصلي تفسير نور الثقلين ج2 ص203).
10 – المصدر ص 300. (المرجع الأصلي نهج البلاغة، حكم 328).
11 – التغريب والترهيب الكتاب محمول عن موقع http://www.alalbany.net/
12 – ميزان الحكمة ج7 ص 186. (المرجع الأصلي غرر الحكم).
13 – المصدر نفسه. (المرجع الأصلي غرر الحكم).
14 – المصدر ص 301. (المرجع الأصلي غرر الحكم).
15 – المصدر نفسه. (المرجع الأصلي نهج البلاغة حكم 452).
16 – 7 الحشر.
17 – 3، 4/ النجم.
18 – 65/ النساء.
19 – 59/ النساء.

زر الذهاب إلى الأعلى