خطبة الجمعة (302) 21 شوال 1428هـ – 2 نوفمبر 2007م
مواضيع الخطبة:
مواصلة حديث المعاد * أولاً: عدل بالغ وأمثلة صارخة * ثانياً: الأمن الاجتماعي *ثالثاً: ينكر العالم وجريمة الاختطاف
إنه لابد من الاحتراس من الغرب، وسياساته وشعاراته، وإن جاءت برّاقة، ومؤسساته وعلاقاته وإن بدت مغرية.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي يتوفّى الأنفس عند موتها، ولا يفوته منها فائت، وهي محفوظة عنده لا يضيع منها ضائع، وقائمة بأمره لحسابها لا يشرد منها شارد، ولا يغيب مما كسبته لها أو عليها
غائب. وإنّها كما تُردّ بعد نوم تُبعث بعد موت، وكما نُردّ بعد نوم على حال كنّا عليه في يقظة نفوساً طاهرة أو قذرة، فكذلك نردّ بعد موت أحياء وعلى ما كنّا عليه في سابق حياة من طهارة نفس أو رجسها
إلاّ أن يُطهّرها في البرزخ عذابٌ لو كانت مما تطهر به، وتتخلص من رجس الذنوب التي اكتسبتها.
الحمد لله على مايحيي، ويميت، ويقضي بين العباد، ويجزي عدلاً بعذاب، وتفضّلاً بنعيم، وهو الغني الكريم، العزيز الحكيم، الرؤوف الرحيم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله وإماءه ونفسي الخطّاءة المملوكة له بتقوى الله الذي لا مفرّ من حكمه وقضائه، ولا طاقة على الشكر الحقّ لفواضله ونعمائه، ولتنظر نفس في كلّ ما عندها من نعمة
وخير لتسألَ نفسها: هل من شيء من ذلك له مردٌّ غير الله تبارك وتعالى حتّى تنصرف بشكرها عنه إلى ذلك الغير؟! وهل شيءٌ مما لا تجده من خيرها ترجو له غيره سبحانه حتى يكون تملّقُها لمن
سواه؟! وهل شيءٌ مما بها من ضُرٍّ تأمل أن يرفعه أحد عداه حتى يكون تقرُّبُها للذي دونه؟! وهل شيءٌ مما تخاف وتحذر ترتقب أن يدفعه عنها دافع إلاّ هو حتى يجوز أن يكون لها مقصود غيرُه؟
الحقُّ كل الحقّ أنّ من لم يكن جاهلاً أو غافلاً مخموراً كان لابدّ أن تجده على تقوى من الله مخلصاً له عبادته، ليس له شريك مع الله أبداً.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم ارزقنا ذكرك وشكرك، وإخلاص الطاعة لك، ودوام العبادة الصادقة التي يُنال بها رضاك، وادفع عنا شرّ الدنيا والآخرة، وأنِلنا خيرهما ياكريم.
أما بعد فالحديث في موضوع المعاد، والحديث في المعاد محبوب ومرهوب. إنّه محبوب لأنه يبعث الأمل، ويُعطي قيمة كبرى لهذه الحياة لا تكون لها بدونه، ويُنقذ من يأس الفناء،
وتلاشي الوجود، وظلمة العدم، ويُبشّر بحياة كريمة هانئة ممتدة لاتعرف الفتور ولا التوقُّف والانقطاع. نعم إنه حديث محبوب لنفس آمنت بربها ورسله واليوم الآخر وعملت صالحاً.
وإنه لمرهوب من نفس كفرت بربها، ولم تُقدِّم لنفسها إلا سوءاً، أو كثر تفريطها في هذه الحياة. وإن عقيدة الآخرة لتهتزّ الحياة كلّها باهتزازها، ولتنحرف الحياة عن خطّ غايتها
بأقصى ما يكون الانحراف حين تذوب في نفس الإنسان.
لا تنحفظ حقوق كما يجب، ولا يستقيم خطّ الحياة، ولا يقوم عدل، ولا تُعرف كرامة إلا بأن تعيش عقيدة الآخرة حيّة في نفوس النّاس، ومن دون ذلك فمُحال على هذه الحياة أن تستقيم
على خطّ غايتها، ومحالٌ على المجتمع الإنساني أن يجد راحته.
وإن خير هاد في أي حديث كلمات الكتاب الكريم، وكلمات أولياء الله الصادقين، فليكن كتاب الله وسنة المعصومين عليهم السلام دليلنا في هذا الحديث وفي كلّ حديث:
تنبيهات عامّة في المسألة:
{وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ(1) إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}(2).
فيوم الدين قضيته قضية صادقة لا يعوزها شهادة البرهان، ولا نُطق الوجدان. القضية في نفسها قضية ثابتة لا شكّ فيها، إذاً فمن أين يأتي الشك؟ إنما يأتي الشكّ في يوم المعاد من
نفسٍ معتدية آثمة، تميل عن الحقّ، وترغب في الباطل، وتتعلّق تعلّقاً جنونيّاً بهذه الحياة؛ بلذائذها الفانية، وزخارفها الموهمة، ويتمثّل عتوُّها وعدوانيتها وإثمها في ردّ ما هو جليٌّ واضح من هذه العقيدة أو
تلك، وعلى علم.
النفس التي تبحث عن الحقّ، وتملك الاستعداد لاحتضانه، والتسليم له نفسٌ لا يقف بينها وبين رؤية الآخرة حائل، وكلّما انجلت البصيرة، وشفّت النفس، وتخلّصت من شوائبها كلّما
تجلّت عندها العقيدة في كل أبعادها من بُعد التوحيد إلى بُعد النبوّة والرسالة والآخرة والإمامة.
{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}(3).
فريق في النّاس ليس بقليل {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}(4) ينكر الآخرة، وينكر أن يكون للنّفس بقاء، يرى أن فوجاً يموت، وفوجاً يحيى، وأنَّ من مات لا يعود ولا
يُبعث، ومن جدّ لا يبقى، وليس هناك مدبّرٌ حكيم، ولا فاعلٌ مريد، ولا هادفية لهذه الحياة، وأنّ الكون ليس وراءه مدبّر.
وتقادم الزمن يأتي على الأجسام ويهدّ القِوى، ويُطيح بكل عمارة حجر وطين، أو عمارة عظم ولحم ودم.
إنها العبثية البالغة، إما أن الكون يتحرّك تحرّكاً جنونيا من غير أن تملك حركَته قوّةٌ، وهذا ما يشهد على بطلانه كل شيء في الكون، أو أنّ الذي وراء الكون صنّاع أكواز من طين
يصنع ويكسر، أو بنّاءٍ بلا حكمة، يبني ويهدم، وليس له من دور ولا وظيفة إلا هذا العبث من بناء وهدم، وصناعة وتحطيم، وهذا لا يرضاه ذوق ولا عقل بالنسبة لإنسان يملك شيئاً من الرشد فضلا عن
الخالق العظيم.
أمن برهان على هذا المذهب؟! أمن وجدان شاهد؟ لا، وإنما هو الظن الباطل الفاقد للدليل، وما للقائل بذلك من علم يُقدّمه الوجدان، يقدّمه العقل، يقدمه الكون { إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}
والظن الاعتباطي والنابع من شهوات النفس وأجوائها المنحطّة هو ظنٌّ هدّام لا يصح لعاقل أن يأخذ به.
وها هم نسمع عنهم ثانية في آية أخرى {وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}(5) وهذا الظنُّ يذهب بالحياة مذهباً خطيراً؛ مذهب لعب وعبث ولهو وظلم وفحشاء
وسقوط، ويُفاجؤون بالحقيقة التي لا مفرّ منها، ويصدمون بهول عظيم {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} ماذا يملكون أن يقولوا؟ {قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ
تَكْفُرُونَ}(6) لا تأخذ أمر الآخرة باستخفاف، إنه أثقل أمر بعد الإيمان بالله ورسله، والإيمان بالله لا يكاد يكون له أثر في الحياة عند الغالبية العظمى ما لم تمتلك عقيدة الآخرة رسوخاً في النفس.
أيُّ عذاب ذاك الذي ينتظر المهمل لشأن الآخرة؟ عذاب لا تعرفه الدنيا بكل ما لها من تفنُّن في صور العذاب.
وعن عليّ عليه السلام في نهجه:”حتّى إذا تصرّمت الأمور” وهي لابد أن تتصرم، وهي تتصرم أمامنا في كلّ لحظة، الصحة تنتهي، المال يذهب، الأعمار تفنى، الدول تسقط،
كل السوامق تستوي مع الأرض، وكل الشامخات تنهدّ بقدرة الله سبحانه، وما من جبل أصمّ صلب يملك نفسه، وما من بطل من أبطال الناس يملك أن يُبقي على حياته لحظة وكل شيء إلى أفول، إلا الله
سبحانه وتعالى.
“وتقضّت الدهور” ليس لأنها فاعل وإنما لأنها ظرف الوجود الذي اختاره الله سبحانه وتعالى لهذه الحياة.
“وأزف النشور” اقترب “أخرجهم من ضرائح القبور، وأوكار الطيور، وأوجئة السباع، ومطارح المهالك سراعاً إلى أمره” لا يملكون إرادة أمام أمر الله “مهطعين” خاضعين،
أذلاء، مستكينين، منقادين، راجفين “إلى معاده”(7).
وفي كلمة أخرى له عليه السلام:”حتّى إذا بلغ الكتاب أجله، والأمر مقاديره” حكيم، عليم، خبير، قدير، حيّ قيّوم، فاعل مريد، حاشاه أن يفعل عبثاً، حاشاه أن يخلق بلا حكمة،
وهل رأيت شيئاً في الكون كبيراً كان أو صغيراً، مقيما أو عابراً، مجرّة أو ذرّة فاقداً للحكمة؟! خالياً من التصميم الدقيق؟! مفصولاً عن الغاية؟! إذا كنا نؤمن بقيمة الاستقراء فبلايين، وبلايين
وبلايين وما لا يعد ولا يحصى من الشواهد التي يعجّ بها هذا الكون شاهدة على قدرة الله وحكمته، وأنه لا يخلق عبثاً.
“حتى إذا بلغ الكتاب أجله” ولابد أن يبلغ، “والأمر مقاديره، وأُلحق آخر الحلق بأوّله” موتاً وهلاكاً “وجاء من أمر الله ما يريده من تجديد خلقه” هذا الخلق لابد أن يُجدّد
“أماد السماء وفطرها” هذه البنية كلها تسقط، تتبعثر، فلا يجد إنسان ملجأ مما كان يجده ولا سبباً من أسباب الحياة التي كان يعرفها “وأرجّ الأرض وأرجفها، وقلع جبالها ونسفها، ودكّ بعضها بعضاً
من هيبة جلالته، ومخوف سطوته، وأخرج من فيها فجدّدهم بعد إخلاقهم، وجمعهم بعد تفرّقهم، ثمّ ميّزهم لما يريده من مساءلتهم عن خفايا الأعمال وخبايا الأفعال، وجعلهم فريقين” كما أرادوا لأنفسهم ”
أنعم على هؤلاء وانتقم من هؤلاء” ففرّي أيتها النفوس من نقمة الله، فما من نفس، وما من مخلوق يقوم لنقمة الله سبحانه وتعالى، ويتحمَّل عذابه.
“كان فيما وعظ به لقمان عليه السلام ابنه أن قال: يا بنيّ إن تك في شك من الموت فارفع عن نفسك النوم” فإنه موت “ولن تستطيع ذلك”. وكل يوم نموت، ثم نبعث، ”
وإن كنت في شكّ من البعث فارفع عن نفسك الانتباه” أي الانتباه بعد نوم “ولن تستطيع ذلك” فكما كان النوم والانتباه قدرين من الله عزّ وجلّ فإن الموت والبعث قدران منه.
هذا الكلام عن الآخرة لتصنع حياتك على خطّ خاص، لتستقيم بحياتك على خط الله، لكيلا تطلق يدك، رجلك، لسانك كما تشتهي لك نفسك، إنما كما يريد لك ربك، دينك.
هذا كلام عن عالم القبور والآخرة، ولكنَّه كذلك من صميم الحديث عن الحياة. كيف تنحرف في السياسة؟ كيف يكبر الطغيان في الأرض؟ متى ينهب هذا ذاك؟ متى يؤذي القوي
الضعيف؟ حين تندثر عقيدة الآخرة.
قال النبي صلى الله عليه وآله:”يابني عبدالمطلب إن الرائد لا يكذب أهله، والذي بعثني بالحق لتموتنّ كما تنامون” ترون النوم حقّا وواقعاً ولتعلموا أن الموت حق وواقع وما هو
إلا وكأنه نوم، “ولتبعثن كما تستيقظون” والمسألة ليست مسألة موت مما تشهدون فحسب، وإنما ما هو أشد أن يكون بعث وحساب وعقاب. “وما بعد الموت دارٌ إلا جنّة أو نار، وخلق جميع الخلق
وبعثهم على الله عز وجل كخلق نفس واحدة وبعثها، قال الله تعالى:{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}(8)”.
عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا}(9) فإن القوم كانوا في القبور فلما قاموا حسبوا أنهم كانوا نياما” الفاصلة الزمنية الهائلة ملغية في
شعورهم {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}. صفوة الخلق هم المرسلون، وكلهم يقولون آخرة آخرة، فاتقوا الله عباد الله.
اللهم اجعل حياتنا بذلة في طاعتك، وأيامنا عامرة بعبادتك، ومماتنا على سنتك، وقلوبنا منصرفة إليك، مشتغلة بذكرك، مستغنية بك عمن سواك، يا كريم يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}
الخطبة الثانية
الحمد لله القادر القاهر، العليّ العظيم، العزيز الحكيم، العليم بالسرائر، الخبير بالضمائر، الذي لا تفوته مظلمة مظلوم، ولا ظلم ظالم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
علينا عباد الله بتقوى الله الذي لا ينفع ولا يضرُّ من دونه أحد. وإنّ من صان التقوى صانته، ومن تحصّن بها حصَّنته، وفيها الوقاية من العيوب، والسقوط، والنّار. فعن علي
عليه السلام:”… ألا فصونوها وتصوّنوا بها”(10)، إذا أردتم أن تحفظوا أنفسكم من السقوط، من العيوب، من النّار، من العار فتصوّنوا بها، وخذوا بها تصنكم، وعنه عليه السلام:”
التقوى حصن لمن لجأ إليها”(11)، وعن الصادق عليه السلام:”من اتقى الله وقاه”(12).
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم استرنا بالتّقوى، واجعلها زينة لنا في الدّنيا والآخرة، ووقاءً من النار، ومعراجاً لرضاك وكرامتك والجنّة، واجعلها لباسنا الدائم، وجُنّتنا التي لانخرج منها، ولا يدخل ببركتها علينا
سوء يا أرحم الراحمين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وصل وسلم على علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة
المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المهديين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن
جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، والممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً
عزيزاً قريباً مبيناً.
أما بعد فهذه بعض كلمات:
أولاً: عدل بالغ وأمثلة صارخة:
1. مثال: في الوسط عدد السابع والعشرين من أكتوبر جاء هذا الكلام:”وأشار التقرير – وهو تقرير ديوان الرقابة المالية للعام السادس بعد الألفين – إلى وجود قرارات إدارية داخلية تبيّن
الفئات المعفيّة من بعض الرسوم كإعفاء مركبات القوّات الأمريكية من رسوم التسجيل وإعفاء أفراد العائلة الحاكمة من رسوم ورخص السياقة وتسجيل المركبات الخاصة بهم”.
تعليق:
أ- اعلم أن هذه الرسوم ثابتة وبصورة لا تسامح فيها على الإطلاق على من كان مرتّبه مائة وخمسين ديناراً، ومن لا يستطيع أن يدفع جوعه وجوع عياله، وعريه وعري عياله إلا بإضافة التبرعات
والصدقات، وهذه قمّة العدل، ولا عدل مثله، وعلى هذه فقس ما سواها.
ولماذا نقيس؟ وهل نحتاج إلى القياس؟ وتوزيع الأراضي شاهد، والدوائر الانتخابية شاهد، وقائمة الأمثلة والشواهد لا تنقضي. كلها أمثلة عدل صارخ، وسياسة حكيمة، وكلّها تؤكّد على روح
الأسرة الواحدة.
ب- اعلم أن الأمريكي صاحب الأرض، وأنت الذي تسمّي نفسك مواطناً الدخيل. وهذا ما ينسجم معه الإعفاء المذكور، وينطلق من قاعدته. إعفاء الرسوم عن الأمريكي، وتثبيتها على الفقير
البحريني خطير، ودلالته أخطر، دلالته أن الأمريكي أولى بهذه الأرض وبثرواتها، وأنه مالك الأرض وأنت المواطن الدخيل عليها؛ ولذلك يأتي الأعفاء عن الأمريكي لا عنك.
ج- على الرقابة النيابية أن تسأل عن مجموع الإعفاءات والامتيازات غير القانونية لأي فرد من الأفراد، ولأي جهة من الجهات، وتحقّق في ذلك، وأن تتخذ الموقف القانوني المناسب، وإلا فما هو الدور
المسؤول عنه النائب إذا سكت على هذه الفضائح القواصم؟! وأقول أن عدداً من النواب في هذا المجال – والحق يقال – ليس فيهم تقصير.
2. في الوسط العدد الثامن والعشرين من أكتوبر “فقد أعلن ديوان الخدمة المدنية أخيراً عن وجود عدة وظائف شاغرة في مجال المحاسبة في وزارة الكهرباء والماء في إحدى الصحف الأردنية”،
و”علمت الوسط من مصادر مطلعة أن وفدا من الوزارة عاد إلى البلاد يوم أمس قادما من العاصمة الأردنية عمّان بعد أن أجرى فيها عدّة مقابلات مع المتقدّمين لتلك الوظائف”، وأضافت الصحيفة “أن
مثل هذا جرى في العاصمة التونسية”.
تعليق:
أ- هذا ومشكلة البطالة في البلاد من المشاكل المؤرّقة المقلقة للوضع الأمني وغيره، وبعض الكفاءات الوطنية الجاهزة حين تطلب التوظيف إنما تطلب المحال، والذين يطالبون وبإلحاح بالوظيفة التي هم
مهيأون لها جوابهم في بعض الحالات العقوبة والتنكيل، وهذا عدل وسياسة إصلاح وتقدير للمواطنين، وتجسيد لروح الأسرة الواحدة، وصدق مع المواطن، وحرص على حلّ المشاكل من قبل الحكومة
الساهرة على مصلحة كل نفس في هذا البلد الكريم.
ب- هذا العرض المتجوّل خارج البحرين للوظائف الشاغرة فيها والتي يتلهف لها المواطن الواجد لمؤهلها تستهدف أمرين: الأول: التضييق على المواطن، واستضعافه وإذلاله حتى لا يطالب
بحقّ، على أن هذه السياسة سياسة تأتي بنتيجة على عكس ما يُراد. الثاني: أن يكون التوظيف لمن هو من البلاد الأخرى مقدّمة للتجنيس.
ثانياً: الأمن الاجتماعي:
الأمن الاجتماعي هو أمن شخص وشخصية. يجب أن نعي أن الأمن الاجتماعي هو أمن شخص يعني سلامة بدنه، سلامة ماله، سلامة أهله إلخ، وهو كذلك أمن شخصية بحيث يعيش كريماً، محفوظ
الدين، محترم الرأي الذي ينبغي احترامه، متمتعا بحقوقه المعنوية، سالم العرض، لا تناله صحافة، ولا أقلام سوء، ولا ألسنة سوء بمكروه لا يستحقه.
والأمن مطلب أساس لا راحة في الحياة ولا هناءة ولا تقدم بدونه، وهو مطلب كل مجتمع إنساني وإن كانت كل المجتمعات الإنسانية اليوم وفي ظل الحضارة المادية الساقطة فاقدة للأمن في بُعده المادي
وفي بعده المعنوي.
أرضية الأمن عدد من الأمور لا يأتي الحديث هنا على استقصائها، ولكن من أهمها:
1) دين قويم؛ بأن يكون للفرد وللمجتمع دين قويم في نفسه، وقيم إلهية رفيعة.
2) وأن يكون هناك فهم سليم للدين، وإلا فدين قويم، وفهم سقيم النتيجة سوء؛ النتيجة قتل بلا حق، وعدوانية، وبغضاء شيطانية، وحقد أسود. لابد مع الدين القويم من فهم سليم لذلك الدين.
3) ثم العنصر الآخر تربية سويّة رشيدة خاصّة وعامّة؛ فأن يُحسن البيت تربية الولد، ويسيء المجتمع والمؤسسة الرسمية تربية الطالب والطالبة فذلك لا يكاد ينتج.
4) سياسة رشيدة وعادلة.
5) عقلية ذات تفكير علمي غير مغلوبة للخرافة والإشاعة والتهريج.
ثالثاً: منقذو العالم وجريمة الاختطاف:
يقدم الغرب – وفي مقدمته أمريكا وفرنسا وانجلترا – نفسه منقذا للعالم من كل تخلفاته، وأزماته ومصائبه ومظالمه، ويتزعم محاربة الإرهاب، ويحرك أساطيله الحربية العملاقة باسم مطاردته
وتعقّبه، ويقدم الغرب نفسه أستاذا في الحضارة والثقافة والأخلاق ومربّيا وقائدا وهاديا لكل العالم، ومن أبناء المسلمين وفيهم عمائم ممن هو مبهور بحضارة الغرب المادية الخاوية في أصولها من القيم
السماوية العالية، وكذلك ممن يقتاتون على فئات موائدهم المسروقة من عرق الشعوب ودمائهم مَنْ يقدِّم الغرب للعالم كذلك، أي على أنه قائد وهادٍ ومربٍّ حكيم أمين.
هذا المنقذ له مؤسساته المتعددة التي تتبرقع بعناوين إنسانية وخيرية، والكثير منها تشترك مع السياسة المادية القذرة التي تمارسها حكومات الغرب في حق شعوبها وشعوب العالم، وتستبيح من أجل
ترف القلة وسرفها ولهوها لقمة الإنسان ودمه وكرامته ودينه.
الكثير من تلك المؤسسات هي شريك أصيل لمؤسسات الغرب الحاكمة الظالمة في أهداف تلك السياسة وخططها الدنيئة.
حادثة اختطاف ما يزيد عن مائة طفل من دارفورد(13)، إنما هي مثال واحد من أمثلة السوء لتلك المؤسسات وممارساتها الخبيثة، ولو حدث هذا من جهة مقاتلة لكان منكرا وخسيسا، فكيف وهو يحدث
من مدّعي الإحسان، وممن يحمل شعار الإنقاذ للآخر؟!
أين ضجّة الغرب وبكاؤه على الحرية والقيمة الإنسانية؟ أين المؤسسات الرسمية والصحافة والكنيسة وكل المؤسسات الخيرية في الغرب؟ أين ضجتهم؟ كيف سيكون الموقف الغربي لو أن هذا الجرم
الفظيع حدث على يد بعض المسلمين المجهولين؟ أين ثورة الغرب على الإرهاب؟ ماذا لوكان هذا الاختطاف من منظّمة ينتسب أهلها للإسلام ولو بعض الانتساب، ولو كانت هذه المنظمة في حالة حرب مع
الآخر؟! وكم هي المؤسسات الغربية الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية والديموقراطية التي تحمل شعارات الإنسانية وهي تحتقر الإنسان، وتمكر به، وتتآمر عليه، وتختطفه جسدا أو عقلا
وروحا وإنسانية وكرامة؟! وهي مؤسسات يُبهر بها عدد من المسلمين من غير تحقيق في أدوارها الخلقية.
إنه لابد من الاحتراس من الغرب، وسياساته وشعاراته، وإن جاءت برّاقة، ومؤسساته وعلاقاته وإن بدت مغرية.
حوادث الاختطاف، الاغتصاب، القتل، النهب، امتصاص دماء الآخرين، سرقة عرقهم، هو شيء من رحم حضارة الغرب الماديَّة، ومن إفرازاتها الطبيعية، وليس من خارجها، وإذا جاء شيء هو في
مظهره على خلاف ذلك فقد يكون وراءه نفس الروح، ووراءه مكر، وقد يأتي من الغرب خير لكن لا من عطاءات حضارة المادة وإنما من بقايا دين، وبقايا فطرة، ومن قلب له بالله صلة.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم افتح علينا أبواب الخير، وأغلق عنا أبواب الشر، واقض حاجاتنا
للدنيا والآخرة، واختم لنا بخير ختام، واجعل مأوانا جنّة النعيم، واكفنا حرّ جهنّم وغمّها وكربها وكل سوئها يا رحمن يا رحيم، يا كريم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – أي يوم الدين.
2 -12/ المطففين.
3 – 24/ الجاثية.
4 – 103/ يوسف.
5 – 29/ الأنعام.
6 – 30/ الأنعام.
7 – نهج البلاغة، خطبة (83).
8 – 28/ لقمان.
9 – 52/ يس.
10 – ميزان الحكمة ج10 ص 624.
11 – المصدر نفسه.
12 – المصدر نفسه.
13 – هذا الاختطاف من أجل بيع الإنسان رقيقاً بظلم، أو المتاجرة بأعضائه من كبد وكِلىً وقلب وعين وغيرها.